دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

يكن الحجّة واسطة في تبليغه لم يجب امتثاله ، بل يكون من قبيل : (اسكتوا عمّا سكت الله عنه) (١) فإنّ معنى سكوته عنه عدم أمر أوليائه بتبليغه حينئذ ، فالحكم المنكشف بغير واسطة الحجّة ملغى في نظر الشارع وإن كان مطابقا للواقع ، كما يشهد به تصريح الإمام عليه‌السلام بنفي الثواب على التصدّق بجميع المال ، مع القطع بكونه محبوبا ومرضيّا عند الله.

____________________________________

الوجه الأول أصلا.

ولعلّ تركه التعرض للوجه الأول ؛ إمّا لبعده عن ظاهر كلام الأخباريين ، فإنّ ظاهره نفي حجّية العقل وعدم تنجّز الواقع بإدراكه القطعي ، لا بيان تقيّد الواقع ببيان أهل العصمة عليهم‌السلام ، وإمّا لوضوح بطلانه لاستلزامه الدور الباطل ، وذلك لتوقّف وجود الحكم الواقعي على بيان أهل العصمة عليهم‌السلام لفرض عدم وجود انشاء الحكم من الله تعالى في الواقع قبل بيانهم.

ومن المعلوم أنّ بيانهم وتبليغهم موقوف على سبق وجود الحكم الواقعي ، لفرض كونهم مبلّغين عن الله تعالى.

فالحاصل أنّ هذا الاحتمال يكون باطلا لأحد الأمرين فلذا تركه المصنّف رحمه‌الله.

ويمكن أن يقال في تقريب الوجه الثاني : إن القطع الحاصل عن بيان أهل العصمة عليهم‌السلام قد أخذ موضوعا لوجوب امتثال وإطاعة الأحكام الواقعية ، وتقدّم في الفرق بين القطع الطريقي والموضوعي أن القطع المأخوذ في موضوع حكم تابع لدليل ذلك سعة وضيقا ، فإذا دل الدليل على أن القطع المأخوذ في الموضوع خاص من حيث السبب كان متبعا.

وفي المقام أن المستفاد من هذه الأخبار أنّ القطع المأخوذ في موضوع وجوب الإطاعة خاص من حيث السبب ، أي : القطع الحاصل عن تبليغ وبيان المعصومين عليهم‌السلام ، فإذا حصل من العقل لا يكون حجّة أصلا ، فصحّ ما ذهب إليه الأخباريون من عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية.

والجواب عن هذا التقريب أن يقال : إن العلم ليس مأخوذا في موضوع وجوب الإطاعة لأن الحاكم بوجوب الإطاعة هو العقل لا الشرع ، لاستلزامه الدور كما هو مبيّن تفصيلا في الكفاية ، فوجوب الإطاعة لا يكون من الشارع حتى يأخذ العلم في موضوعه ، بل حكم

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٣ : ١٦٦ / ٦١.

٨١

ووجه الاستشكال في تقديم الدليل النقلي على العقلي الفطري السليم ما ورد من النقل المتواتر على حجيّة العقل ، وأنّه حجّة باطنة ، وأنّه ممّا يعبد به الرحمن وتكتسب به الجنان ونحوها ، ممّا يستفاد منه كون العقل السليم ـ أيضا ـ حجّة من الحجج ، فالحكم المنكشف به حكم بلّغه الرسول الباطني ، الذي هو شرع من داخل ، كما أنّ الشرع عقل من خارج.

وممّا يشير إلى ما ذكرنا من قبل هؤلاء ، ما ذكره السيّد الصدر رحمه‌الله ، في شرح الوافية في جملة الكلام له في حكم ما يستقلّ به العقل ، ما لفظه : «إنّ المعلوم هو أنّه يجب فعل شيء أو تركه ، أو لا يجب إذا حصل الظنّ أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم عليه‌السلام ، أو فعله أو تقريره ، لا أنّه يجب فعله أو تركه أو لا يجب مع حصولهما من أيّ طريق كان» انتهى موضع الحاجة.

____________________________________

عقلي ، والعقل يحكم مطلقا بوجوب الإطاعة سواء كان حكم الشرع مستكشفا من النقل أو العقل ، فلا يختصّ وجوب الإطاعة بما إذا كان حكم الشرع ببيان أهل العصمة عليهم‌السلام.

قوله : (ووجه الاستشكال في تقديم النقلي على العقلي الفطري) دفع لما يمكن أن يقال : من أن مقتضى هذه الأخبار عدم اعتبار العقل مطلقا وإن كان فطريا ، فعلى هذا لا إشكال في تقديم النقلي على الفطري ، فكيف استشكل البحراني على تقديم النقلي عليه؟

وحاصل الدفع : أن وجه الاستشكال (ما ورد من النقل المتواتر على حجّية العقل ... إلى آخره) ومنها ما تقدّم من أن لله حجّتان ظاهرية وهو الرسول ، وباطنية وهو العقل ، وكل واحدة منهما تسمّى بالرسول ، والعقل ، والشرع.

(وممّا يشير إلى ما ذكرنا من قبل هؤلاء ما ذكره السيّد الصدر رحمه‌الله في شرح الوافية) يعني ما ذكرنا عن جانب الأخباريين ليس منّي ، بل هو مستفاد من كلامهم.

ويشير إليه السيد الصدر في شرح الوافية ، حيث قال : إن المعلوم من الأخبار هو أنّه يجب فعل شيء كالصلاة مثلا أو تركه كشرب الخمر مثلا ، أو لا يجب كالمستحبات والمكروهات والمباحات إذا حصل الظن أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، لا أنه يجب فعله أو تركه ، أو لا يجب مع حصولها من أيّ طريق كان ، أي : ولو حصل من طريق العقل ، فالمستفاد من هذا الكلام عين ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من قبلهم.

٨٢

قلت : أوّلا : نمنع مدخليّة توسّط تبليغ الحجّة في وجوب إطاعة حكم الله سبحانه ، كيف والعقل بعد ما عرف أنّ الله تعالى لا يرضى بترك الشيء الفلانيّ وعلم بوجوب إطاعة الله ، لم يحتج ذلك إلى توسّط مبلّغ؟

ودعوى استفادة ذلك من الأخبار ممنوعة فإنّ المقصود من أمثال الخبر المذكور عدم جواز الاستبداد بالأحكام الشرعيّة بالعقول الناقصة الظنيّة ، على ما كان متعارفا في ذلك الزمان من العمل بالأقيسة والاستحسانات ، من غير مراجعة حجج الله بل في مقابلهم عليهم‌السلام ،

____________________________________

(قلت : أوّلا : نمنع مدخليّة توسط تبليغ الحجّة في وجوب إطاعة حكم الله سبحانه).

هذا الجواب من المصنّف رحمه‌الله ردّ وناظر إلى الوجه الثاني من الوجوه المذكورة.

ومفاد هذا الوجه هو مدخلية توسّط تبليغ الحجّة في وجوب الإطاعة.

ففيه : أولا : منع مدخلية توسّط تبليغ الحجّة في تنجّز التكليف ، ووجوب الإطاعة ، كيف يكون له مدخلية (والعقل بعد ما عرف أنّ الله تعالى لا يرضى بترك الشيء الفلاني) كردّ الوديعة مثلا ، (وعلم) بالبداهة (بوجوب إطاعة الله تعالى لم يحتج ذلك) أي : ردّ الوديعة (إلى توسّط مبلّغ؟).

(ودعوى استفادة ذلك من الأخبار ممنوعة).

يعني دعوى استفادة مدخليّة توسّط تبليغ الحجّة من الأخبار ممنوعة.

(فإنّ المقصود من أمثال الخبر المذكور) مثل قوله عليه‌السلام : (حرام عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوا منّا) (١) هو عدم جواز الاستبداد ، والاستقلال والانفراد باستنباط الأحكام الشرعية بالعقول الناقصة الظنّية كالقياس مثلا ، فالمقصود منها هو منع أبي حنيفة وأمثاله الذين يجعلون أنفسهم مستغنين عن مسألة الحجج المعصومين عليهم‌السلام ، بل كانوا يفتون على خلافهم.

وبالجملة فالمقصود من هذه الأخبار أنه لا يجوز لأحد أن يعتمد في الأحكام بالدليل العقلي الظني كما كان هذا متعارفا في ذلك الزمان ، أي : زمان الأئمة عليهم‌السلام ، حيث يعمل أئمة النفاق بالأقيسة والاستحسانات الظنيّة من دون الرجوع إلى أئمة الهدى عليهم‌السلام.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٠٢ / ١ ، وفيه : (شرّ) بدل (حرام).

٨٣

وإلّا فادراك العقل القطعيّ للحكم المخالف للدليل النقليّ ـ على وجه لا يمكن الجمع بينهما ـ في غاية الندرة ، بل لا نعرف وجوده ، فلا ينبغي الاهتمام به في الأخبار الكثيرة ، مع أنّ ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض ، وعلى ما ذكرنا يحمل ما ورد من : (إنّ دين الله لا يصاب بالعقول) (١).

وأمّا نفي الثواب على التصدّق مع عدم كون العمل به بدلالة وليّ الله ، فلو ابقي على ظاهره دلّ على عدم الاعتبار بالعقل الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام ، مع اعترافه بأنّه حجّة من حجج الملك العلّام ، فلا بدّ من حمله على التصدّقات غير المقبولة ، مثل التصدّق على المخالفين ، لأجل تديّنهم بذلك الدين الفاسد ، كما هو الغالب في تصدّق المخالف على المخالف ، كما في تصدّقنا على فقراء الشيعة ، لأجل محبّتهم لأمير المؤمنين عليه‌السلام وبغضهم

____________________________________

(وإلّا) أي : وإن لم يكن المقصود من الأخبار ما ذكر ، بل كان المقصود مدخليّة توسّط تبليغ الحجّة يرد عليه :

أوّلا : بأن إدراك العقل القطعي للحكم المخالف للدليل النقلي يعني تعارض العقل والنقل على وجه لا يمكن الجمع بينهما ، يكون في غاية الندرة بل لا يعرف وجوده ، اذ يمكن الجمع في جميع موارد تعارضهما ، فلا ينبغي الاهتمام به ، أي : التعارض في هذه الأخبار الكثيرة لأن الاهتمام بشيء نادر الوجود أو غير موجود قبيح عقلا ولغو عند العقلاء.

وثانيا : أنّ ظاهر الأخبار ينفي حكومة العقل مطلقا ، أي : ولو مع عدم المعارض ، بل ينفي حجّية العقل الفطري ، مع أنّ الأخباريين يعملون بالعقل الفطري مطلقا ، وبغيره مع عدم التعارض ، فعليهم ـ أيضا ـ الجواب عن هذه الأخبار.

قوله : (وأمّا نفي الثواب على التصدّق مع عدم كون العمل به بدلالة وليّ الله).

يمكن أن يكون دفعا لما يتوهّم من أنّ في الأخبار تصريحا بمدخليّة توسّط تبليغ الحجّة ، وعدم حجّية العقل مطلقا ، وذلك لأن حسن التصدّق بديهي يحكم به العقل الفطري. وقد نفي الثواب عنه في هذه الأخبار ، ونفي الثواب ظاهر في انتفاء الحكم العقلي

__________________

(١) كمال الدين : ٣٢٤ / ٩.

٨٤

لأعدائه ، أو على أنّ المراد حبط ثواب التصدّق ، من أجل عدم المعرفة لوليّ الله تعالى ، أو على غير ذلك.

وثانيا : سلّمنا مدخليّة تبليغ الحجّة في وجوب الإطاعة ، لكنّا إذا علمنا إجمالا بأنّ حكم الواقعة الفلانيّة لعموم الابتلاء بها قد صدر يقينا من الحجّة ـ مضافا إلى ما ورد من

____________________________________

القطعي البديهي ، فهذا صريح في عدم اعتبار العقل مطلقا ، ولا يختصّ بالعقل الناقص الظني.

وحاصل دفع التوهّم المذكور أنّ المراد من التصدّق ليس ما هو ظاهره ، بل المراد منه خلاف ظاهره لوجود القرينة على ذلك ، وهي أنّه لو ابقي على ظاهره دل على عدم اعتبار العقل مطلقا ، حتى العقل الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجّة من حجج الملك العلّام مع اعتراف الأخباريين.

فلا بدّ من حمله على خلاف الظاهر ، أي : التصدّقات غير المقبولة مثل تصدّق المخالف على المخالفين من جهة أنّهم متدينون بالدّين الفاسد ، أو من جهة بغضهم لأمير المؤمنين فلا ثواب لهذه التصدّقات لأنّها ليست لله.

(أو على أنّ المراد حبط ثواب التصدّق).

هذا يكون تأويلا ثانيا للحديث يعني : إنّ التصدق على الفقير حسن بحكم العقل ، إلّا أنّ ثوابه يذهب هدرا من أجل عدم المعرفة لوليّ الله ، أو بغضه ، فإنّ بغضه سيئة لا تنفع معها حسنة.

(أو على غير ذلك) بأن يقال : إنّ الصدقة وإن كانت من جهة اشتمالها على الرقة والرأفة على العباد والاحسان إليهم موجبة للأجر والثواب إلّا أنّها من جهة كونها من العبادات لعلّها يعتبر في كيفيتها ما لا يعرفه الّا الإمام عليه‌السلام ، كما في سائر العبادات ، فإذا لم تكن بدلالة وليّ الله لم يحصل العلم بمطابقتها لما أراده الله تعالى ، فلا يمكن التقرّب بها ليترتّب عليها الثواب.

(وثانيا : سلّمنا مدخليّة تبليغ الحجّة في وجوب الإطاعة).

وحاصل هذا الجواب أنه سلّمنا مدخليّة تبليغ الحجّة ، ولكن يكون مفاد هذه الروايات مدخليّة تبليغ الحجّة في وجوب الإطاعة الذي هو حكم العقل ، يعني : أنّ العقل لا

٨٥

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في خطبة حجّة الوداع : (معاشر الناس ، ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلّا أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه) (١) ثم أدركنا ذلك الحكم ؛ إمّا بالعقل المستقلّ وإمّا بواسطة مقدّمة عقليّة ، نجزم من ذلك بأنّ ما استكشفناه بعقولنا صادر عن الحجّة ، صلوات الله عليه ، فتكون الإطاعة بواسطة الحجّة.

إلّا أن يدّعى : أنّ الأخبار المتقدّمة وأدلّة وجوب الرجوع إلى الأئمّة صلوات الله

____________________________________

يحكم بوجوب الإطاعة والامتثال الّا بعد صدور الأحكام عن الأئمّة عليهم‌السلام ، إذ قبل صدور الحكم من المولى شارعا كان أو غيره لا موضوع لحكم العقل ، وأمّا بعد صدور الحكم عن المولى يحكم العقل بوجوب الإطاعة ، سواء أدركه العقل أو وصل إلى العبد المكلّف بطريق شرعي كخبر العادل مثلا ، فيجب امتثال جميع الأحكام لأنّا نعلم اجمالا بصدورها عن الحجج عليهم‌السلام ، سيما بملاحظة ما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة حجّة الوداع :

(معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار الّا أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنّة الّا وقد نهيتكم عنه) فالمستفاد من هذا الخبر هو تحقّق الموضوع قطعا ، يعني : تحقّق صدور جميع الأحكام من المحرّمات والواجبات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قطعا.

والحاصل أنّ موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة متحقّق في مقام الثبوت والواقع ، فإذا علمنا بالأحكام من العقل أو الشرع تمّ مقام الإثبات ـ أيضا ـ فيجب امتثالها فقد تمّت مدخليّة تبليغ الحجّة في وجوب الإطاعة مع بقاء اعتبار العقل مطلقا.

(إمّا بالعقل المستقل) كحكمه بردّ الوديعة ، و (إمّا بواسطة مقدّمة عقلية) مثل استفادة تنجّس الماء القليل بالملاقات من قوله عليه‌السلام : (الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء) (٢) بانضمام مقدّمة عقلية ، وهي انتفاء المشروط بانتفاء الشرط.

(الّا أن يدّعى).

هذا ردّ للجواب الثاني ، واستدلال بالوجه الثالث الذي تقدم اجمالا.

وحاصل الرد أن الأخبار المتقدّمة تدل على مدخليّة الأمرين في وجوب إطاعة الأحكام

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٤٥ ، أبواب مقدمات التجارة ، ب ١٢ ، ح ٢ ، بتفاوت يسير.

(٢) الفقيه ١ : ٨ / ١٢ ، وسائل الشيعة ١ : ١٥٨ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٩ ، ح ١ ، ٢.

٨٦

عليهم ، تدلّ على مدخليّة تبليغ الحجّة وبيانه في طريق الحكم ، وأنّ كلّ حكم لم يعلم من طريق السماع عنهم عليهم‌السلام ولو بالواسطة ، فهو غير واجب الاطاعة ، وحينئذ فلا تجدي مطابقة الحكم المدرك لما صدر عن الحجّة عليه‌السلام.

لكن قد عرفت عدم دلالة الأخبار ، ومع تسليم ظهورها فهو ـ أيضا ـ من باب تعارض النقل الظنيّ مع العقل القطعيّ ، ولذلك لا فائدة مهمّة في هذه المسألة ، إذ بعد ما قطع العقل بحكم وقطع بعدم رضاء الله جلّ ذكره بمخالفته ، فلا يعقل ترك العمل بذلك ما دام هذا القطع باقيا ، فكلّ ما دلّ على خلاف ذلك فمؤوّل أو مطروح.

نعم ، الانصاف أنّ الركون إلى العقل فيما يتعلّق بإدراك مناطات الأحكام لينتقل منها إلى

____________________________________

ووجوب امتثالها :

الأول : صدورها عن الأئمّة عليهم‌السلام.

والثاني : وصولها إلى المكلّفين بواسطة تبليغهم ، وسماع المكلّفين عنهم ولو بالواسطة ، كالسماع عن زرارة مثلا ، فلا يكفي في تنجّز الأحكام مجرد صدورها عنهم عليهم‌السلام ، وحينئذ إذا لم تصل الأحكام بتوسّط الأئمّة إلى المكلّفين لا يجب امتثالها وإن ادركها العقل السليم ، لكن فيه :

أولا : قد عرفت عدم دلالة الأخبار على اعتبار السماع وإنّما تدل على عدم جواز الاستبداد بالعقول الظنية.

وثانيا : مع تسليم ظهورها في اعتبار السماع (فهو ـ أيضا ـ من باب تعارض النقل الظني مع العقل القطعي).

والمراد بالنقلي الظني : هو الأخبار المتقدّمة الدالة على لزوم توسّط تبليغ الحجّة في وجوب إطاعة حكم الله تعالى.

والمراد بالعقلي القطعي : هو العقل الدال على عدم توسّط تبليغ الحجّة في ذلك.

ومعلوم أن الدليل العقلي القطعي يتقدّم على الدليل النقلي الظني لدلالة الأخبار الكثيرة على حجّية العقل ، وتقدّم بعضها حيث دلّ على كونه حجّة باطنة ، أو على أنّه ممّا يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان ، فلا بدّ من تأويل هذه الأخبار بما ذكره المصنّف رحمه‌الله من أن المقصود منها هو عدم جواز الاستبداد بالأحكام الشرعية بالعقول الناقصة الظنية.

٨٧

إدراك نفس الأحكام موجب للوقوع في الخطأ كثيرا في نفس الأمر ، وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك ، كما تدل عليه الأخبار الكثيرة الواردة بمضمون : (إنّ دين الله لا يصاب بالعقول) (١) و (إنّه لا شيء أبعد عن دين الله من عقول النّاس) (٢).

وأوضح من ذلك كلّه رواية أبان بن تغلب عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة ، كم فيها من الدّية؟. قال : (عشر من الإبل) قال : قلت : قطع إصبعين؟ قال : (عشرون) قلت : قطع ثلاثا ، قال : (ثلاثون) قلت : قطع أربعا ، قال : (عشرون) قلت :

____________________________________

(نعم ، الانصاف أنّ الركون إلى العقل فيما يتعلّق بادراك مناطات الأحكام ... إلى آخره).

هذا تفصيل من المصنّف رحمه‌الله بين حكم العقل في مناطات الأحكام فليس بحجّة ، وبين حكمه في نفس الأحكام الشرعية كوجوب ردّ الوديعة فيكون حجّة ، وهذا التفصيل يكون غير التفصيل المتقدّم في كلام الأخباريين.

وحاصل هذا التفصيل أنّ الاعتماد على العقل في قبال الشرع لا يجوز فيما يتعلّق بإدراك مناط الحكم بالترديد والدوران ، مثل أن يقال : إن علّة حرمة الخمر في قول الشارع : الخمر حرام ، إمّا هو الإسكار أو الميعان أو اللون المخصوص ، ثم يقال إن العلّة هي الإسكار لا الميعان واللون المخصوص لوجودهما في الدبس والماء المباحين شرعا ، ثم يتعدّى من مورد النصّ إلى غيره ، ويقال بحرمة كل ما هو مسكر.

ثم استدل المصنّف رحمه‌الله على هذا التفصيل بالوجهين :

الوجه الأول : هو أن الركون إلى العقل فيما يتعلّق بإدراك مناط الحكم موجب للوقوع في الخطأ كثيرا.

والوجه الثاني : هو الأخبار ، حيث قال : (كما تدلّ عليه) أي : على عدم جواز الاعتماد على العقل لتنقيح المناط الأخبار الكثيرة.

وأوضح من الجميع رواية أبان بن تغلب عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت : رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها من الدية؟ قال : (عشر من الإبل) قال : قلت : اصبعين؟ قال عليه‌السلام : (عشرون) قلت : قطع ثلاثا؟ قال : (ثلاثون) قلت : قطع أربعا؟ قال : (عشرون)

__________________

(١) كمال الدين : ٣٢٤ / ٩.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٣ / ٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٠٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٧٤ ، بتفاوت.

٨٨

سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون ؛ كان يبلغنا هذا ونحن بالعراق ، فقلنا : إنّ الذي جاء به شيطان ، قال عليه‌السلام : (مهلا يا أبان! هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا بلغ الثلث رجع إلى النصف ، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس ، والسّنّة إذا قيست محق الدّين) (١).

وهي وإن كانت ظاهرة في توبيخ أبان على ردّ الرواية الظنّية التي سمعها في العراق بمجرّد استقلال عقله بخلافه ، أو على تعجّبه ممّا حكم به الإمام عليه‌السلام ، من جهة مخالفته لمقتضى القياس ، إلّا أنّ مرجع الكلّ إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الأحكام ،

____________________________________

قلت : سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون كان يبلغنا هذا ونحن بالعراق ، فقلنا : إن الذي جاء به شيطان ، قال عليه‌السلام : (مهلا يا أبان هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ المرأة تعاقل الرجل ـ أي : تساوي الرجل ـ إلى ثلث الدية ، فإذا بلغ الثلث رجع إلى النصف ، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس ، والسّنّة إذا قيست محق الدّين).

هذا تمام الرواية ، ومقتضى القياس القطعي أن يكون عليه أربعون في قطع أربع أصابع حتى يكون لكل إصبع عشر من الإبل ، ولمّا حكم الامام عليه‌السلام بالعشرين تعجّب أبان بقوله : سبحان الله ، لأنه كان مخالفا لعقله ، إذ عقله قد حكم بعشر من الإبل لكل إصبع ، وكان هذا الحكم من العقل خطأ فيكون هذا الخطأ من العقل دليلا على وقوع الخطأ في حكم العقل في مناطات الأحكام.

والحاصل من الرواية أن الدية الكاملة في قتل الرجل مائة من الإبل ، وفي المرأة نصفها وفي قطع جميع أصابع الرجل ـ أيضا ـ دية كاملة لكل إصبع عشرة ، ودية جميع أصابع المرأة تكون نصف ما في أصابع الرجل وهي الخمسون ، ولكن لا بمعنى أن يكون لكل إصبع خمسة ، بل دية أصابع المرأة تساوي دية أصابع الرجل إلى ثلث الدية الكاملة ، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف ، فعلى هذا حكم الإمام يكون على هذه القاعدة لأن الأربعين تجاوز عن ثلث الدية فتعود دية المرأة إلى النصف ، ونصف الأربعين هو العشرون.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٩٩ / ٦.

٨٩

فهو توبيخ على المقدّمات المفضية إلى مخالفة الواقع وقد أشرنا ـ هنا وفي أوّل المسألة ـ إلى عدم جواز الخوض لاستكشاف الأحكام الدينيّة في المطالب العقليّة والاستعانة بها في تحصيل مناط الحكم ، والانتقال منه إليه على طريق اللّم ، لأنّ أنس الذهن بها يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل إليه من الأحكام التوقيفيّة ، فقد يصير منشأ لطرح الأمارات النقليّة الظنيّة ، لعدم حصول الظنّ له منها بالحكم.

وأوجب من ذلك ترك الخوض في المطالب العقليّة النظريّة لإدراك ما يتعلّق باصول الدين فإنّه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد ، وقد اشير إلى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء والقدر ، وعند نهي بعض أصحابهم عليهم‌السلام ، عن المجادلة في المسائل الكلاميّة ، لكنّ الظاهر من بعض تلك الأخبار أنّ الوجه في النهي عن الأخير عدم الاطمئنان بمهارة الشخص المنهيّ في المجادلة ، فيصير مفحما عند المخالفين ، ويوجب ذلك

____________________________________

(الّا أنّ مرجع الكل إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الأحكام) مناطا ، يعني أن الرواية وإن كانت ظاهرة في توبيخ أبان على ردّ الرواية في العراق ، أو على تعجّبه حين سمع من الإمام عليه‌السلام حكما مخالفا لمقتضى القياس الّا أن مرجع الكل إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط مناط الحكم ، فالمستفاد منها هو عدم جواز مراجعة العقل في استنباط مناطات الأحكام.

(وأوجب من ذلك ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية لإدراك ما يتعلّق باصول الدين).

يعني : أوجب من ترك الخوض في العقليات لاستنباط الأحكام مناطا هو ترك الخوض فيها لإدراك ما يتعلّق باصول الدين ، ووجه الأوجبية أن القصور في الحكم الشرعي يوجب المعصية.

وأما القصور في اصول الدين والامور الاعتقادية ربّما يوجب الكفر ، كما أشار اليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : (فإنّه تعريض للهلاك الدائم).

و (لكن الظاهر من بعض تلك الأخبار) الناهية عن المجادلة (أنّ الوجه في النهي عن الأخير) يعني : أنّ الوجه فى نهي الصحابي عن المجادلة ليس من أجل أنّ الخوض في المقدّمات العقلية يوجب الهلاك ، بل الوجه هو عدم الاطمئنان بمهارة الشخص المنهى في

٩٠

وهن المطالب الحقّة في نظر أهل الخلاف.

____________________________________

المجادلة (فيصير مفحما) أي : ملزما (عند المخالفين ، ويوجب ذلك) أي : كونه محكوما وملزما ، (وهن المطالب الحقّة في نظر أهل الخلاف) فمن كان من الصحابة ماهرا في البحث الكلامي لم يكن منهيّا عنه ، فهذا النهي لا ربط له بما نحن فيه أصلا.

* * *

٩١

الثالث : قطع القطّاع

قد اشتهر في ألسنة المعاصرين أنّ قطع القطّاع لا اعتبار به.

ولعلّ الأصل في ذلك ما صرّح به كاشف الغطاء قدس‌سره بعد الحكم بأنّ كثير الشكّ لا اعتبار بشكّه ، قال : «وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو في ظنّه ، فيلغو اعتبارهما في حقّه» انتهى.

أقول : أمّا عدم اعتبار ظنّ من خرج عن العادة في ظنّه ، فلأنّ أدلّة اعتبار الظنّ في مقام يعتبر فيه مختصّة بالظنّ الحاصل من الأسباب التي يتعارف حصول الظنّ منها لمتعارف

____________________________________

(الثالث : قد اشتهر في ألسنة المعاصرين أنّ قطع القطّاع لا اعتبار به).

وقبل البحث لا بدّ من تحرير محل النزاع ، وتعيين ما هو المراد من القطّاع ، فنقول : إنّ للقطّاع معنيين :

أحدهما : هو المعنى المبالغي ، لأنّ القطّاع صيغة مبالغة كضرّاب مثلا ، فيكون بمعنى كثير القطع ، كما تقتضيه صيغة المبالغة.

ثانيهما : هو بمعنى سريع القطع ، يعني : من يحصل له القطع من الأسباب غير المتعارفة ، وكلمة القطّاع وإن كانت ظاهرة في المعنى الأول ، ولكن المراد منه في المقام هو المعنى الثاني بقرينة قوله : «وكذا من خرج عن العادة في قطعه» ، لأن المناط في الخروج عن متعارف الناس هو من يحصل له القطع من الأسباب التي لا يحصل منها القطع لمتعارف الناس ، فيصدق على هذا الشخص بأنّه خرج عن عادة الناس في قطعه.

فالحاصل أن المراد من القطّاع من يحصل له القطع من الأسباب غير المتعارفة.

(ولعلّ الأصل في ذلك) أي : الأصل الناشئ منه.

البحث حول قطع القطّاع هو (ما صرح به كاشف الغطاء قدس‌سره) وتبعه جماعة منهم صاحب الفصول وصاحب الجواهر.

وما صرّح به قدس‌سره (بعد الحكم بأن كثير الشكّ لا اعتبار بشكّه ، قال : وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو ظنّه).

ثم ما ذكره قدس‌سره من عدم اعتبار شك كثير الشك صحيح ، ويكون على القاعدة لأنّ المتبادر من الشك الذي ثبت له الأحكام كصلاة الاحتياط والبناء على الأكثر وغيرهما

٩٢

الناس ، لو وجدت تلك الأسباب عندهم على النحو الذي وجد عند هذا الشخص ، فالحاصل من غيرها يساوي الشكّ في الحكم.

وأمّا قطع من خرج قطعه عن العادة فإن اريد بعدم اعتباره عدم اعتباره في الأحكام التي يكون القطع موضوعا لها ، كقبول شهادته وفتواه ونحو ذلك ، فهو حق ، لأنّ أدلّة اعتبار العلم في هذه المقامات لا تشمل هذا قطعا ، لكن ظاهر كلام من ذكره في سياق كثير الشكّ إرادة غير هذا القسم.

____________________________________

إنّما هو الشك المتعارف ، وكذلك الظن ، فعدم اعتبار ظن من خرج عن العادة في ظنه يكون على القاعدة ، وذلك لأنّ أدلة اعتبار الظنّ إنّما تدل على اعتبار الظنّ المتعارف.

وبعبارة اخرى : هذه الأدلة مختصّة بحكم التبادر والانصراف بالظنّ الحاصل من الأسباب التي يتعارف حصول الظن منها لمتعارف الناس ، فالحاصل أنّ الظن الحاصل من الأسباب المتعارفة حجّة والحاصل من غيرها لا يكون حجّة ، بل يساوي الشك في الحكم.

وأمّا قطع من خرج في قطعه عن العادة ففيه وجوه ، قد بدأ بذكرها المصنّف رحمه‌الله بقوله : (فإن اريد بعدم اعتباره عدم اعتباره في الأحكام التي يكون القطع موضوعا لها) يعني : لو كان المراد من عدم اعتبار قطع القطّاع عدم اعتباره في موارد القطع الموضوعي (فهو حقّ) لأن المتبادر والمتيقّن من الأدلة هو القطع المتعارف لا مطلق القطع.

ولكن هذا الاحتمال ، وإن كان صحيحا في نفسه ، ولكنه يكون خلاف ظاهر كلام كاشف الغطاء فلا يمكن الالتزام به.

(لكن ظاهر كلام من ذكره في سياق كثير الشك إرادة غير هذا القسم).

يعني : إرادة غير القطع الموضوعي ، وغير الموضوعي هو الطريقي. وذلك لأنّ الحكم باعتبار الشك بأن يترتّب عليه الأحكام ، أو بعدم اعتباره بأن لا يترتّب عليه الأحكام ، كشك كثير الشك يختصّ بالشك في الركعتين الأخيرتين ، فظاهر عطفه القطع على الشك هو عدم اعتبار القطع في الركعتين الأخيرتين كالشك ، ومن المعلوم أنّ القطع في الركعتين الأخيرتين طريقي ، فيكون المراد من قطع القطّاع هو الطريقي.

ويبقي الكلام فيما هو المراد من عدم اعتباره على نحو الطريقية ، وفيه احتمالات وأشار المصنّف رحمه‌الله إلى الأول ، بقوله :

٩٣

وإن أريد عدم اعتباره في مقامات يعتبر القطع فيها من حيث الكاشفيّة والطريقيّة إلى الواقع ، فإن اريد بذلك أنّه حين قطعه كالشاكّ ، فلا شكّ في أنّ أحكام الشاكّ وغير العالم لا تجري في حقّه ، وكيف يحكم على القاطع بالتكليف بالرجوع إلى ما دلّ على عدم الوجوب عند عدم العلم ، والقاطع بانّه صلّى ثلاثا بالبناء على أنّه صلّى أربعا ، ونحو ذلك؟!

وإن اريد بذلك وجوب ردعه عن قطعه وتنزيله إلى الشكّ أو تنبيهه على مرضه ليرتدع بنفسه ولو بأن يقال له : إنّ الله سبحانه لا يريد منك الواقع ، لو فرض عدم تفطّنه ، بأنّ الله يريد الواقع منه ومن كل أحد ، فهو حقّ لكنّه يدخل في باب الإرشاد ، ولا يختصّ بالقطّاع بل بكلّ من قطع بما يقطع بخطئه فيه من الأحكام الشرعيّة والموضوعات الخارجيّة المتعلّقة بحفظ النفوس والأعراض ، بل الأموال في الجملة.

____________________________________

(فإن اريد بذلك أنّه حين قطعه كالشاك) يعني : يكون قطع القطّاع بمنزلة الشك ، فيجري عليه حكم الشاك كالبناء على الأكثر والرجوع إلى البراءة ، وهذا الاحتمال لا يصح كما أشار المصنّف رحمه‌الله إليه حيث قال : (فلا شكّ في أنّ أحكام الشاك وغير العالم لا تجري في حقّه) لأن القطّاع لا يحتمل الخلاف أصلا ، وليس بشاك وجدانا ، فكيف يرجع إلى البراءة؟!

ثم أشار المصنّف رحمه‌الله إلى الاحتمال الثاني بقوله : (وإن اريد بذلك وجوب ردعه عن قطعه ... إلى قوله فهو حقّ) في نفسه ، ولكنه لا يدل على عدم حجّية قطع القطّاع ، إذ هذا الردع ليس من باب عدم حجّية قطع القطّاع ، بل يكون من باب الإرشاد الذي لا يختصّ بالقطّاع ، بل يجب إرشاد كل جاهل خاطئ وإن لم يكن قطّاعا.

(بل بكلّ من قطع بما يقطع بخطئه فيه من الأحكام الشرعية) كمن قطع بحلّية الربا ، يجب ردعه عن العمل بقطعه (والموضوعات الخارجية المتعلّقة بحفظ النفوس) كمن قطع بوجوب قتل مؤمن بعقيدة أنه كافر ، يجب ردعه عن العمل بهذا القطع (والأعراض) مثل من قطع بأن المرأة التي يريد نكاحها ليست من المحارم مع أنّها كانت اخته من الرضاعة ، (بل الأموال في الجملة) المقصود من تقييد الأموال بكلمة في الجملة ، هو الاحتراز عن المحقّرات كحبة من الحنطة ، فلا يجب فيها الإرشاد ، فيجري الإرشاد في الأحكام الشرعية الكلية ، والموضوعات الخارجية سواء كانت متعلّقة بحفظ النفوس أو الأعراض ، أو الأموال.

٩٤

وأمّا في ما عدا ذلك ممّا يتعلّق بحقوق الله سبحانه ، فلا دليل على وجوب الردع في القطّاع ، كما لا دليل عليه في غيره ، ولو بني على وجوب ذلك في حقوق الله سبحانه ، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما هو ظاهر بعض النصوص والفتاوى ، لم يفرّق ـ أيضا ـ بين القطّاع وغيره.

وإن اريد بذلك أنّه بعد انكشاف الواقع لا يجزي ما أتى به على طبق قطعه ، فهو ـ أيضا ـ حقّ في الجملة ، لأنّ المكلّف إن كان تكليفه حين العمل مجرّد الواقع من دون مدخليّة

____________________________________

(وأمّا في ما عدا ذلك) يعني : فيما عدا ما ذكر من الأحكام الشرعية الكلية (ممّا يتعلّق بحقوق الله سبحانه) حكما كان ، مثل : من قطع بوجوب الدعاء مع كونه غير واجب ، أو موضوعا : كمن قطع بكون مائع ماء مع كونه خمرا ، فلا دليل على وجوب الردع في القطّاع وغيره لأن وجوب الإرشاد لا يجري الّا في الأحكام الشرعية الكليّة وحقوق الناس.

نعم ، يمكن أن يقال بوجوب الردع من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والفرق بين الإرشاد وبين الأمر بالمعروف هو أنّ الإرشاد هو إعلام الجاهل الخاطئ ولو كان جاهلا بالجهل المركّب ، ومورده هو الأحكام والموضوعات المتعلّقة بحقوق الناس ، كما تقدم ذكره ، والأمر بالمعروف هو حمل العاصي العالم على ترك العصيان ، ومورده يشمل الحقوق جميعا ، سواء كان من حقوق الناس كمن يأكل مال اليتيم مع العلم بالحرمة ، فيقال له : لا تأكل مال اليتيم تدخل النار ، أو من حقوق الله كمن يترك الصوم ، فيقال له : من ترك الصوم يدخل النار.

والحاصل لو قلنا بوجوب ردع القطّاع من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا يفرّق ـ أيضا ـ بين القطّاع وغيره ، فكما يجب ردعه يجب ردع غيره ـ أيضا ـ من باب الأمر بالمعروف.

ثم أشار المصنّف رحمه‌الله إلى الاحتمال الثالث ، حيث قال :

(وإن اريد بذلك أنّه بعد انكشاف الواقع لا يجزي ما أتى به على طبق قطعه ، فهو ـ أيضا ـ حق في الجملة) أي : فيما إذا كان القطع مأخوذا في الموضوع ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

وبيان ذلك : إن هذا القطع الذي انكشف خلافه ولا يجزي ما أتى على طبقه عن الواقع يمكن أن يكون طريقيا ، ويمكن أن يكون موضوعيا.

٩٥

للاعتقاد ، فالمأتي به المخالف للواقع لا يجزي عن الواقع ، سواء القطّاع وغيره ، وإن كان للاعتقاد مدخل فيه ، كما في أمر الشارع بالصلاة إلى ما يعتقد كونه قبلة ، فإنّ قضيّة هذا كفاية القطع المتعارف ، لا قطع القطّاع فتجب عليه الإعادة وإن لم تجب على غيره.

ثم إنّ بعض المعاصرين وجّه الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع ـ بعد تقييده بما إذا علم

____________________________________

فعلى الأول أصل عدم الإجزاء صحيح ، إذ المكلّف لم يأت بالواقع فيجب عليه الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه ، ولكن الحكم بعدم الإجزاء لا يختصّ بالقطّاع ، بل يجري في غيره أيضا.

وعلى الثاني ، أي : على تقدير أن يكون القطع مأخوذا في الموضوع ، وإن كان الحكم بعدم الإجزاء مختصّا بالقطّاع لأن المأخوذ في الموضوع هو القطع المتعارف لا قطع القطّاع ، فإذا كان القطع متعارفا لا يجب القضاء والإعادة لأن موضوع الحكم كان متحقّقا ، والحكم يكون ثابتا بعد تحقّق الموضوع فيجزي ما أتى به لأنه قد أتى بالواقع.

هذا بخلاف القطّاع ، فإنّه لم يأت بالواقع فيبقى التكليف الواقعي على حاله ، فيجب القضاء أو الإعادة ، فثبت الفرق بين القطّاع وغيره ، الّا أنّ هذا الفرق لا يفيد لأنّ القطع الموضوعي يكون على خلاف ما هو المفروض ، إذ المفروض هو القطع الطريقي.

وبالجملة ، فالحكم بعدم الإجزاء ووجوب الإعادة في فرض القطع الطريقي لا يختصّ بالقطّاع ، وفي فرض القطع الموضوعي وإن كان مختصّا به الّا أنّه يكون على خلاف الفرض ، فالمتحصّل من أول البحث إلى هنا هو عدم صحّة ما أفاده كاشف الغطاء رحمه‌الله.

(ثم إنّ بعض المعاصرين وجّه الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع).

وقد وجّه وصحّح صاحب الفصول ما أفاده كاشف الغطاء رحمه‌الله ، حيث اعتبر قيدا زائدا في حجّية القطع ، وهو عدم منع الشارع من العمل به ، فإذا علم القطّاع أو احتمل منع الشارع عن العمل بهذا القسم من القطع لا يجوز له أن يعمل بقطعه.

ثم القطّاع يتصوّر بأربع صور :

أحدها : أن يكون عالما بحجّية قطعه ، ولا يحتمل المنع شرعا.

ثانيها : أن يكون غافلا محضا.

ثالثها : أن يعلم بعدم الحجّية للمنع شرعا.

٩٦

القطّاع أو احتمل أن يكون حجّيّة قطعه مشروطة بعدم كونه قطّاعا ـ بأنّه يشترط في حجّيّة القطع عدم منع الشارع عنه وإن كان العقل ـ أيضا ـ قد يقطع بعدم المنع ، إلّا أنّه إذا احتمل المنع يحكم بحجيّة القطع ظاهرا ، ما لم يثبت المنع.

وأنت خبير بأنّه يكفي في فساد ذلك عدم تصوّر القطع بشيء وعدم ترتيب آثار ذلك الشيء عليه ، مع فرض كون الآثار آثارا له.

____________________________________

رابعها : أن يحتمل المنع شرعا.

ففي الصورتين الاولتين يحكم العقل بحجّية القطع ، وفي الأخيرتين لا يحكم بالحجّية ، فلا يكون حجّة. ووجه عدم الحجّية فيهما أنّه يشترط في حجّية القطع عدم المنع شرعا ، والمفروض أنّه يعلم المنع أو يحتمله.

وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى الصورتين الأخيرتين بقوله :

(بعد تقييده بما إذا علم القطّاع أو احتمل أن يكون حجّية قطعه مشروطة بعدم كونه قطّاعا ... إلى آخره).

فإذا احتمل المنع لا يجوز العمل بالقطع ، وأمّا قطع غير القطّاع فالعقل يحكم بالحجّية لأنّه يقطع بعدم المنع شرعا ، الّا أنه إذا احتمل المنع يحكم بحجّية القطع ظاهرا ما لم يثبت المنع.

(وأنت خبير) بالفساد فيما اختاره صاحب الفصول من أنّ حجّية القطع مشروطة بعدم منع الشارع ، ووجه الفساد أنّ المراد بالقطع المبحوث عنه هو الطريقي لا القطع الموضوعي ، وقد تقدّم في أول القطع أنّ حجّية القطع الطريقي ذاتية لا تقبل الجعل إثباتا أو نفيا ، فلا يمكن أن يمنع الشارع عن العمل به حتى تجعل حجّيته مشروطة بمنع من الشارع.

فما ذكره صاحب الفصول من التوجيه لا يرجع إلى محصّل صحيح ، والعجب منه أنّه شبّه مسألة القطّاع بما إذا قال المولى لعبده : لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك ، أو يؤدي إليه حدسك ، بل اقتصر على ما يصل إليك منّي بطريق المشافهة ، والمراسلة وهذا التشبيه والاستشهاد بالمثال المذكور باطل ، وبطلانه أوضح من الشمس ، لأن الكلام في المقام إنّما هو في القطع الطريقي.

٩٧

والعجب أنّ المعاصر مثّل لذلك بما إذا قال المولى لعبده : «لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك أو يؤدي إليه حدسك ، بل اقتصر على ما يصل إليك منّي بطريق المشافهة والمراسلة». وفساده يظهر ممّا سبق من أوّل المسألة إلى هنا.

____________________________________

والمراد من القطع في المثال المذكور هو القطع الموضوعي ، حيث جعل المولى القطع الحاصل من سبب خاص موضوعا لأحكامه ، ومن المعلوم أنّ القطع الموضوعي يكون على خلاف الفرض ، وخلاف ظاهر كلام كاشف الغطاء رحمه‌الله ، فما ذكره صاحب الفصول من التوجيه فاسد جزما ، كما أشار اليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : (وفساده يظهر ممّا سبق من أول المسألة إلى هنا).

* * *

٩٨

الرابع : إنّ المعلوم إجمالا هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار أم لا؟

والكلام فيه يقع تارة : في اعتباره من حيث إثبات التكليف به ، وأنّ الحكم المعلوم بالإجمال هل هو كالمعلوم بالتفصيل في التنجّز على المكلّف أم هو كالمجهول رأسا؟

واخرى : في أنّه بعد ما ثبت التكليف بالعلم التفصيلي أو الاجماليّ المعتبر فهل يكتفى في امتثاله بالموافقة الإجماليّة ولو مع تيسّر العلم التفصيلي ، أم لا يكتفى به إلّا مع تعذّر العلم

____________________________________

(الرابع : إنّ المعلوم إجمالا هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار أم لا؟ ... إلى آخره) وقبل الدخول في البحث تفصيلا لا بدّ من بيان امور :

الأمر الأول : بيان ما هو المراد من العلم الإجمالي في المقام ، فنقول : إنّ المراد منه ليس العلم بالأفراد من العلم بالكلّي كما يقول به المنطقيون ، وكذا ليس المراد من العلم الإجمالي العلم بالمعلول من العلم بالعلّة كما يقول به الفلاسفة ، بل المراد به ما هو المصطلح عند الاصوليين وذلك يتّضح بعد مقدّمة وهي :

إن التكليف يتوقّف على أمرين :

أحدهما : ما يتعلّق به التكليف الوجوبي كالصلاة ، أو التحريمي كالخمر مثلا.

وثانيهما : من يتوجّه إليه التكليف ، وهو المكلّف ، ثم أضف إلى هذين الأمرين نفس التكليف فهنا ثلاثة امور : المتعلّق ، المكلّف ، التكليف. ثم المكلّف تارة يعلم بالجميع ، وهذا العلم منه يسمّى بالعلم التفصيلي ، واخرى لا يعلم بشيء منها ، وهذا الجهل منه يسمّى بالجهل البسيط ، وثالثة يعلم ببعضها دون بعض.

فتارة : يعلم بالتكليف فقط ، مثل : من يرى المني في ثوب مشترك بين زيد وعمرو فإنّه يعلم بوجوب الغسل فقط دون المكلّف والمتعلّق ، لأنّ المكلّف مردّد بين زيد وعمرو والمتعلّق ـ أيضا ـ مردّد بين غسل زيد ، وغسل عمرو.

واخرى : يعلم بالتكليف والمكلّف ، ولا يعلم بمتعلّق التكليف ، كمن يعلم بوجوب صلاة يوم الجمعة ، ولكن لا يعلم بأنها هل هي صلاة الظهر أو الجمعة؟

وثالثة : يعلم بالمكلّف والمتعلّق ، ولا يعلم بالتكليف ، كمن لا يعلم بأن حكم صلاة الجمعة هل هو الوجوب ، أو الحرمة؟

٩٩

التفصيليّ ، فلا يجوز إكرام شخصين أحدهما زيد مع التمكّن من معرفة زيد بالتفصيل ، ولا فعل الصلاتين في ثوبين مشتبهين مع إمكان الصلاة في ثوب طاهر؟

____________________________________

فاتّضح من هذه المقدمة أنّ المراد من العلم الإجمالي هو أن يكون المعلوم مردّدا بين أمرين أو أكثر فيكون المعلوم مجملا.

ومن هنا يظهر أن اتصاف العلم بالإجمال يكون من قبيل وصف الشيء بحال متعلّقه لأنّ الإجمال في الحقيقة هو صفة للمعلوم لا العلم ، إذ العلم هو الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل ، وهي لا تتصف بالإجمال الّا باعتبار متعلّقه ، ولهذا عبّر المصنّف رحمه‌الله بالمعلوم إجمالا فجعل الإجمال قيدا للمعلوم.

الأمر الثاني : إن العلم الإجمالي هل هو كالعلم التفصيلي في الحجّية والاعتبار ، أم ليس كذلك؟ بمعنى أن التكليف يثبت بالعلم التفصيلي ويتنجّز به بلا خلاف ، فهل يكون العلم الإجمالي ، كالتفصيلي في إثبات التكليف به وتنجّزه به أم هو كالجهل؟

ثم إذا قلنا : بأنه كالتفصيلي في الحجّية من حيث إثبات التكليف به ، يقع الكلام في اعتباره في مقام اسقاط التكليف ، بمعنى أن العلم التفصيلي حجّة ، ومبرئ للذمّة في مقام اسقاط التكليف ، يعني : إذا علم المكلف بالتكليف ثم امتثل ذلك التكليف امتثالا تفصيليا يسقط ذلك التكليف عنه بلا شك ، فهل العلم الإجمالي يكون كذلك؟ يعني : يكون حجّة ومبرءا للذمّة في مقام اسقاط التكليف ، فإذا امتثل المكلّف امتثالا اجماليا يسقط التكليف به أم ليس كذلك؟ فلا يكفي الامتثال الإجمالي بل لا بدّ من الامتثال التفصيلي ، ولو كان ظنيا.

ثم المراد من إثبات التكليف بالعلم ليس جعل العلم واسطة في الإثبات حتى يوهّم أن القطع الطريقي لا يصح أن يجعل وسطا كما تقدم ، بل المراد ترتيب الآثار على المعلوم عند العلم والالتزام به ولزوم إطاعته عقلا وشرعا.

الأمر الثالث : بيان الثمرة بين القولين ، وأما الثمرة فواضحة ، إذ من يقول باعتبار العلم الإجمالي في المقامين ، أي : مقام اثبات التكليف ، ومقام اسقاطه يجوز له العمل بالاحتياط ، ولا يجب عليه الرجوع إلى الاجتهاد أو التقليد ، ومن يقول بعدم اعتباره في المقامين فلا يجوز له العمل بالاحتياط ، ويجب عليه الاجتهاد أو التقليد.

١٠٠