دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

وبالعكس ، والخنثى شاك في دخوله في إحدى الخطابين.

والتحقيق هو الأول لأنه علم تفصيلا بتكليفه بالغضّ عن إحدى الطائفتين ، ومع العلم التفصيلي لا عبرة بإجمال الخطاب ، كما تقدم في الدخول والإدخال في المسجد لواجدي المني. مع أنّه يمكن إرجاع الخطابين إلى خطاب واحد ، وهو تحريم نظر كل انسان إلى كل بالغ لا

____________________________________

وتقريب التوهّم : أن نظر الخنثى إلى غيرها يكون من باب كون الإجمال في نفس الخطاب لا في متعلّق الخطاب ، فيكون أصل الخطاب مردّدا بين الخطابين ، فتأتي الوجوه الأربعة المتقدّمة فيه.

ومنها : هو القول بعدم وجوب الاحتياط مطلقا ، بل تجوز المخالفة العملية على قول.

(والتحقيق هو الأول) يعني : أن المقام ليس من باب الإجمال في الخطاب ، بل الخطاب معلوم تفصيلا ، وإنّما الإجمال في متعلّقه ، فيكون نظرها إلى غيرها مخالفة للخطاب المعلوم تفصيلا ، وهي قبيحة عقلا ومحرّمة شرعا.

(لأنّه علم تفصيلا بتكليفه بالغضّ عن إحدى الطائفتين ، ومع العلم التفصيلي لا عبرة بإجمال الخطاب).

وهذا القول من المصنّف ردّ لما استدل به المتوهّم على عدم وجوب الاحتياط من أن الخنثى شاكّ في دخوله في أحد الخطابين ، فيقول المصنّف رحمه‌الله : إن الخنثى يعلم تفصيلا بالتكليف ، ولا عبرة بإجمال الخطاب ، أي : مع العلم التفصيلي بالتكليف كما مرّ في مسألة الدخول والإدخال لواجدي المني ، حيث يعلم الحامل تفصيلا حرمة الحركة ، ولكن لا يعلم بأنها من جهة الدخول أو الإدخال.

وكذلك في هذا المقام ، إذ أن الخنثى تعلم بحرمة النظر ، ولكن لا تعلم أنّها من جهة ذكوريتها أو من جهة انوثيتها ، والجامع بينهما هو العلم التفصيلي بالحرمة ، فكما حكم بحرمة الحركة هناك يحكم بحرمة النظر هنا.

(مع أنّه يمكن إرجاع الخطابين إلى خطاب واحد).

يعني : إنّا نلتزم أولا بكفاية العلم التفصيلي بالتكليف في وجوب الاحتياط ، ثم نضيف إليه ثانيا إمكان أن يجعل ما نحن فيه من باب العلم التفصيلي بالخطاب أيضا.

وذلك بإرجاع الخطابين إلى خطاب واحد ، وهو وجوب غضّ بصر كل مكلّف عمّن لا

١٦١

يماثله في الذكورية والانوثية عدا من يحرم نكاحه.

ولكن يمكن أن يقال : إن الكفّ عن النظر إلى ما عدا المحارم مشقّة عظيمة فلا يجب الاحتياط فيه ، بل العسر فيه أولى من الشبهة غير المحصورة.

أو يقال : إن رجوع الخطابين إلى خطاب واحد في حرمة المخالفة القطعية ، لا في وجوب الموافقة القطعية ، فافهم.

____________________________________

يماثله في الذكورية والانوثية الّا ما خرج بالدليل كالامّ والاخت وغيرهما ، أو بتعبير آخر ـ كما في المتن ـ : (هو تحريم نظر كل إنسان إلى كل بالغ لا يماثله).

ثم هذا الخطاب الواحد المعلوم تفصيلا ينتزع من الخطابين المشتبهين ، وهما قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا)(١) الآية ، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ)(٢) الآية. فينتزع منهما وجوب غضّ البصر على كل مكلّف عمّن لا يكون مماثلا له الّا ما خرج بالدليل كالامّ والاخت وغيرهما.

ثم وجوب الاحتياط عند علم المكلّف بالخطاب تفصيلا ممّا لا إشكال فيه (بل العسر فيه أولى من الشبهة غير المحصورة).

يعني : يكون تحقّق العسر في تركها النظر إلى غير المحارم أولى وأشد من العسر اللازم من ترك الشبهة غير المحصورة. وذلك لأن ترك الشبهة غير المحصورة يوجب الاجتناب عن اللحم مثلا فيما إذا اشتبه المذكّى بالميتة ، أو الاجتناب عمّا يتصرف فيه فيما إذا كان المشتبه غير ما يؤكل مثلا ، هذا بخلاف ترك الخنثى النظر إلى غير المحارم في المقام ، فإنّه يوجب تركها المعاشرة مع الناس أصلا ، ولازم ذلك أن تكون محبوسة في البيت ما دامت الحياة ، وهذا القسم من العسر منفي في الإسلام قطعا.

(أو يقال : إن رجوع الخطابين إلى خطاب واحد في حرمة المخالفة القطعية ، لا في وجوب الموافقة القطعية).

وما حكم به المصنّف رحمه‌الله من رجوع الخطابين إلى خطاب واحد في حرمة المخالفة دون الموافقة القطعية يرجع إلى الفرق بين الخطاب الواحد التفصيلي الأصلي ، وبين

__________________

(١) النور : ٣٠.

(٢) النور : ٣١.

١٦٢

وهكذا حكم لباس الخنثى ، حيث إنّه يعلم إجمالا بحرمة واحد من مختصّات الرجال كالمنطقة والعمامة ، أو مختصّات النساء عليه ، فيجتنب عنهما.

وأمّا حكم ستارته في الصلاة فيجتنب الحرير ويستر جميع بدنه ، وأمّا حكم الجهر

____________________________________

الخطاب التفصيلي الانتزاعي بعد الالتزام بعدم أثر للخطاب المردّد بين الخطابين ، وذلك أن الخطاب التفصيلي إذا كان أصليا يترتّب عليه الحكم بوجوب الموافقة القطعية كالحكم بحرمة مخالفته القطعية ؛ ولكن اذا كان انتزاعيا ـ كما في المقام ـ فلا يترتّب عليه الّا الحكم بحرمة المخالفة القطعية ، وذلك لكون الخطاب التفصيلي الانتزاعي ضعيفا بالإضافة إلى الأصل عند العقلاء ، فتكون مخالفته العملية القطعية محرّمة ولا تكون موافقته العملية القطعية واجبة ، بل تكفي موافقته الاحتمالية.

(فافهم) يمكن أن يكون إشارة إلى ردّ هذا الفرق ، لأن رجوع الخطابين إلى خطاب واحد لو كان صحيحا لكان صحيحا مطلقا ، أي : في حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة كذلك ، فلا معنى للتفكيك بينهما أصلا.

هذا مضافا إلى عدم الحاجة إلى إرجاع الخطابين إلى خطاب واحد ، لأنّ نفس الخطاب المردّد يكون كافيا في وجوب الموافقة القطعية ، مع إن ما نحن فيه يكون من باب العلم التفصيلي بالتكليف ، وهو يقتضي وجوب الموافقة القطعية ، فالأولى هو التمسك بالعسر لإثبات عدم وجوب الموافقة القطعية.

(وهكذا حكم لباس الخنثى).

يعني : يكون حكم لباسها كحكم نظرها إلى غيرها ما عدا المحارم ، فكما يجب الاحتياط عليها في مسألة النظر ، كذلك يجب عليها الاحتياط في مسألة اللباس ، فيجب عليها الاجتناب عن مختصّات الرجال والنساء بأن تلبس ما لا يختصّ بأحدهما من الألبسة المشتركة بينهما كالعباءة وغيرها.

(وأمّا حكم ستارته في الصلاة فيجتنب الحرير ويستر جميع بدنه).

وهذا الحكم من المصنّف رحمه‌الله لا ينافي ما يقول به في الشك في الأجزاء والشرائط من الرجوع إلى البراءة لوجود العلم الإجمالي في المقام بأحد الأمرين ، أي : وجوب التستر ، أو الاجتناب عن لبس الحرير ، فيكون مقتضى العلم الإجمالي هو وجوب الاحتياط ، وهذا

١٦٣

والاخفات ، فإن قلنا بكون الاخفات في العشاءين والصبح رخصة للمرأة جهر الخنثى بهما.

وإن قلنا : إنه عزيمة لها فالتخيير إن قام الإجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة في حقّها.

____________________________________

بخلاف باب الشك في الأجزاء والشرائط حيث لم يكن العلم الإجمالي موجودا ، فيكون مقتضى القاعدة الرجوع إلى البراءة.

(وأمّا حكم الجهر والاخفات ، فإن قلنا بكون الاخفات في العشاءين والصبح رخصة للمرأة) يعني : تكون مخيّرة بين الجهر والاخفات (جهر الخنثى بهما) يعني : يجب عليها الجهر.

ويمكن أن يقال : إن ما حكم به المصنّف رحمه‌الله من وجوب الجهر مبنيّ على وجوب الاحتياط عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، كما إذا ورد الأمر بعتق رقبة ، ثم دار الأمر بين رقبة مؤمنة ، وبين كفاية عتق مطلق الرقبة ، فيكون مقتضى الاحتياط الأخذ بالتعيين ، أي : عتق رقبة مؤمنة لحصول العلم ببراءة الذمّة به على كل تقدير ، وذلك لأن الحكم لو كان في الواقع هو التعيين فقد أتى المكلّف به ، وإن كان هو التخيير فقد أتى بأحد عدليه ، فيحصل العلم بإتيان الواجب ، ولو أخذ بالتخيير ثم عتق رقبة كافرة لا يحصل له العلم بالبراءة لاحتمال كون الواجب هو عتق رقبة مؤمنة ، وما نحن فيه يكون من مصاديق هذه المسألة ، فما اختاره المصنّف رحمه‌الله في المقام يمكن أن يكون من باب الأخذ بالتعيين ، ولكن المصنّف رحمه‌الله لم يقل في تلك المسألة بوجوب الاحتياط بالأخذ بالتعيين.

فلا يكون ما اختاره في المقام مبنيا على وجوب الاحتياط في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بل يكون ما حكم به من وجوب الجهر مبنيا على وجوب الاحتياط في مورد العلم الإجمالي لأن الخنثى تعلم إجمالا بوجوب الجهر أو التستر لاحتمال كونها رجلا ، فيجب عليها الجهر ولاحتمال كونها امرأة ، فيجب عليها التستر فمقتضى الاحتياط هو الأخذ بهما معا.

(وإن قلنا : إنّه عزيمة لها فالتخيير إن قام الإجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة في حقّها).

يعني : لو قلنا بأن الاخفات عزيمة لها ، أي : فريضة واجبة عليها كما أن الجهر عزيمة للرجل ، فالحكم في حقّها هو التخيير لأنّ حكم الجهر ـ حينئذ ـ يدور بين الوجوب

١٦٤

وقد يقال بالتخيير مطلقا ، من جهة ما ورد من أن الجاهل في الجهر والاخفات معذور. وفيه ـ مضافا إلى أن النصّ إنّما دلّ على معذورية الجاهل بالنسبة إلى لزوم الإعادة لو خالف الواقع ، وأين هذا من تخيير الجاهل من أول الأمر بينهما ، بل الجاهل لو جهر أو

____________________________________

والتحريم ، فيكون من دوران الأمر بين المحذورين الذي يكون الحكم فيه هو التخيير ؛ لكون احتمال وجوب الاخفات مساويا لاحتمال حرمة الجهر ، فالحكم بتعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فتكون مخيّرة بين الجهر والاخفات.

ثم هذا الحكم مبنيّ على ثبوت الإجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة والّا فيكون مقتضى الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي هو تكرار الصلاة بإتيانها جهرا مرّة ، واخفاتا اخرى.

(وقد يقال بالتخيير مطلقا ، من جهة ما ورد من أنّ الجاهل في الجهر والاخفات معذور فيه).

يعني : يمكن أن يقال بالتخيير مطلقا ، أي : سواء كان الاخفات رخصة أو عزيمة ، والوجه لهذا التخيير ما ورد في بعض الأخبار من أنّ الجاهل في الجهر والاخفات معذور ، ولازم ذلك هو التخيير عملا ، ثم تكون الخنثى من الجاهلين ، فتكون مخيّرة بين الجهر والاخفات.

(وفيه ـ مضافا إلى أن النصّ إنّما دلّ على معذورية الجاهل بالنسبة إلى لزوم الإعادة ... إلى آخره).

يعني : ما ورد من النصّ الدالّ على معذورية الجاهل لا يرتبط بما نحن فيه أصلا ؛ وذلك لأن النصّ دلّ على معذورية الجاهل بالنسبة إلى وجوب الإعادة ، يعني : لا يجب عليه الإعادة عند ما ينكشف كون ما أتى به على خلاف الواقع ، فبالجهل يرفع وجوب الإعادة.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، إذ لو كان الجهل عذرا في المقام ليرفع به وجوب كل واحد من الاخفات والجهر فيكون الجاهل مخيّرا بينهما من أول الأمر.

فما دلّ على رفع وجوب الإعادة بالجهل لكونه عذرا لا يدلّ على رفع وجوب الاخفات والجهر لكونه عذرا حتى يثبت الحكم بالتخيير.

ولهذا يقول المصنّف رحمه‌الله : (وأين هذا من تخيير الجاهل من أول الأمر).

١٦٥

أخفت متردّدا بطلت صلاته ، إذ يجب عليه الرجوع إلى العلم أو العالم ـ : أن الظاهر من الجهل في الأخبار غير هذا الجهل.

وأمّا تخيير قاضي الفريضة المنسيّة عن الخمس في ثلاثية ورباعية وثنائية ، فإنّما هو بعد ورود النصّ في الاكتفاء بالثلاث ، المستلزم لإلغاء الجهر والاخفات بالنسبة إليه ،

____________________________________

يعني : لا يرتبط مورد النصّ بما نحن فيه أصلا ، فكيف يدلّ ما دلّ على عدم وجوب الإعادة على الجاهل المركّب على كون الجاهل بالجهل البسيط مخيّرا من أول الأمر بين الجهر والاخفات؟ بل الجاهل البسيط لو جهر أو أخفت متردّدا بطلت صلاته ، فيجب عليه تحصيل العلم أو الرجوع إلى العالم فيقلّده.

(أن الظاهر من الجهل في الأخبار غير هذا الجهل).

هذا هو الوجه الثاني على ردّ الحكم بالتخيير مطلقا ، يعني : أن المراد بالجهل في مورد الأخبار هو الجهل بالحكم ، والجهل في المقام هو الجهل من حيث الموضوع.

فالمستفاد من الأخبار هو أن الجاهل الغافل عن الحكم لا يجب عليه الإعادة فلا يستفاد منها أن الجاهل من حيث الموضوع مخيّر.

(وأمّا تخيير قاضي الفريضة المنسيّة عن الخمس ... إلى آخره).

وهذا القول من المصنّف رحمه‌الله دفع للتوهم الناشئ من الوجه الثاني على ردّ التخيير مطلقا ، حيث قال المصنّف رحمه‌الله : إنّ المراد من الجهل في مورد الأخبار هو الجهل بالحكم ، والجهل في المقام هو الجهل بالموضوع ، فما دلّ على معذوريّة الجاهل بالحكم لا يدلّ على معذوريّة الجاهل بالموضوع حتى يثبت التخيير مطلقا.

ومن هنا يتوهّم أن الفقهاء قد حكموا بتخيير قاضي الفريضة في الرباعية بين الجهر والإخفات مع أنه جاهل بالموضوع ، لأنّه شاكّ فيما فات منه ، فيعلم من هذا الحكم أن التخيير ليس الّا بدلالة الأخبار ، فيجري في الخنثى أيضا.

وخلاصة الدفع أن التخيير بين الجهر والاخفات في الرباعية ليس مستفادا من الأخبار أصلا ، بل التخيير هنا هو حكم من العقل لا يرتبط بالأخبار أصلا.

وذلك لما ورد من النصّ الخاص في اكتفاء من فاتت منه فريضة واحدة ، وقد نسي ولا يعلم بأنها صلاة الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء بإتيانها في ضمن ثنائية

١٦٦

فلا دلالة فيه على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا.

وأمّا معاملة الغير معها ، فقد يقال بجواز نظر كل من الرجل والمرأة إليها لكونها شبهة في الموضوع ، والأصل الإباحة.

وفيه : أن عموم وجوب الغضّ على المؤمنات إلّا عن نسائهن أو الرجال المذكورين في الآية ، يدل على وجوب الغضّ عن الخنثى ، ولذا حكم في «جامع المقاصد» بتحريم نظر

____________________________________

وثلاثية ورباعية ، فلازم اكتفاء الشارع بالثلاث هو إلغاء الجهر والاخفات بالنسبة إلى الرباعية المردّدة بين العشاء ، فيجب فيها الجهر ، والظهرين فيجب فيهما الاخفات ، والحاكم بالإلغاء بعد اكتفاء الشارع بالثلاث هو العقل.

(فلا دلالة فيه) أي : في هذا التخيير في هذا المورد الخاص (على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا) حتى فيما نحن فيه لأنّ التخيير لا يكون مستفادا من الأخبار حتى يجري في المقام أيضا.

(وأمّا معاملة الغير معها ، فقد يقال بجواز نظر كل من الرجل والمرأة إليها لكونها شبهة في الموضوع والأصل الإباحة).

يعني : يجوز لكل واحد من الرجل والمرأة النظر إلى الخنثى لأنّ كل منهما يشك شكّا بدويا على وجوب غضّ البصر عنها ، فيرجع إلى البراءة ، والحكم بالإباحة كما هو مقتضى القاعدة في الشبهة الموضوعية.

(وفيه : أن عموم وجوب الغضّ ... إلى آخره).

يعني : الحكم بالإباحة بمقتضى الرجوع إلى الأصل لا يصح ، وذلك لوجود العموم المستفاد منه وجوب غضّ الرجال من أبصارهم عن النساء الّا ما خرج بالدليل ، وبالعكس ، فلا مجال للأصل إذا كان الدليل الاجتهادي موجودا ، فقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)(١) يدلّ على وجوب غضّ الرجال أبصارهم عن النساء الّا ما خرج بالدليل كالمحارم ، وقوله تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ)(٢) يدلّ على وجوب غض النساء أبصارهن عن الرجال الّا ما استثني في الآية.

__________________

(١) النور : ٣٠.

(٢) النور : ٣١.

١٦٧

الطائفتين إليه كتحريم نظرها إليهما ، بل ادّعى سبطه الاتّفاق على ذلك ، فتأمّل جدا.

ثم إنّ جميع ما ذكرنا إنّما هو في غير النكاح ، وأمّا التناكح ، فيحرم بينه وبين غيره قطعا ، فلا يجوز له تزويج امرأة لأصالة عدم ذكوريّته ـ بمعنى عدم ترتّب أثر الذكوريّة من جهة النكاح ، ووجوب حفظ الفرج الّا عن الزوجة وملك اليمين ـ ولا التزوج برجل ،

____________________________________

ثم استفادة العموم من الآية إنّما هي باعتبار حذف المتعلّق ، وحذف المتعلّق ممّا يفيد العموم كما في علم المعاني ، ومقتضى العموم هو وجوب الغضّ عن كل أحد الّا ما خرج بالدليل ، والخنثى تكون باقية تحت العام ، فلا يجوز للرجال أن ينظروا إليها ولا للنساء. نعم ، يمكن أن يقال : إن التمسك بالعموم لا يجوز في الشبهة المصداقية.

قوله : (فتأمّل جدّا) يمكن أن يكون اشارة إلى أن بقاء الخنثى تحت العام مبنيّ على كونها طبيعة ثالثة ، وأمّا لو قلنا بأنّها ليست كذلك ، بل إمّا رجل في الواقع أو امرأة ، فعلى الأول لا يجب غضّ بصر الرجال عنها ، وعلى الثاني لا يجب غضّ بصر النساء عنها لخروج المماثل عن العام فيجوز نظر المماثل إلى المماثل ، فإنّها ـ حينئذ ـ قد خرجت عن العام ، غاية الأمر لا يعلم أنّها مصداق المخصّص بالنسبة إلى الرجال أو النساء ، فالشبهة تكون مصداقية ، ولا يجوز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في محلّه.

(وأمّا التناكح ، فيحرم بينه وبين غيره قطعا ... إلى آخره).

ويمكن أن يستدل على ما ذكره المصنّف من حرمة التناكح بوجهين :

الوجه الأول : ما تقدم مرارا من أن العلم الإجمالي بالتكليف يكون منجّزا له ، فالعلم الإجمالي بحرمة التناكح بإحدى الطائفتين في المقام منجّز للتكليف لأنّ الخنثى تعلم إجمالا حرمة أحد الأمرين ، أي : التزوّج إن كانت رجلا أو التزويج إن كانت امرأة ، فيجب الاجتناب عنهما معا.

ثم الوجه الثاني : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : (لأصالة عدم ذكوريّته).

قوله : (بمعنى عدم ترتّب أثر الذكوريّة من جهة النكاح ... إلى آخره) دفع لما يرد على أصالة عدم الذكورية ، وهو أنّ الأصل المذكور بمعنى استصحاب عدم الذكورية لا يجري ، وذلك لعدم الحالة السابقة المعتبرة في الاستصحاب ؛ لأنّها لم تكن سابقا متّصفة بعدم

١٦٨

لأصالة عدم كونه امرأة ، كما صرّح به الشهيد. لكن ذكر الشيخ مسألة فرض الوارث الخنثى المشكل زوجا أو زوجة ، فافهم. هذا تمام الكلام في اعتبار العلم.

____________________________________

الذكوريّة حتى يقال : الأصل عدم الذكوريّة ، مع أنه معارض بأصالة عدم الانوثيّة ، فهذا الأصل مردود ؛ إمّا لعدم الحالة السابقة ، وإمّا للمعارضة.

فدفع هذا الإيراد بقوله : إن المراد من الأصل بمعنى عدم ترتّب الأثر ، يعني : يستصحب عدم ترتّب الأثر بعد العقد عليه ، فلا تتحقّق الزوجية لرجوع الأصل إلى عدم تحقّق هذه العلقة ، فيكون العقد فاسدا ، وأيضا يستصحب وجوب حفظ الفرج (الّا عن الزوجة وملك اليمين).

ثم نشكّ في صيرورة هذه المرأة زوجة للخنثى ، ومقتضى الأصل هو عدم كونها زوجة ، وكذا لا يجوز لها التزوّج برجل لأصالة عدم كونها امرأة ، بمعنى عدم تحقّق الزوجية بينهما.

(لكن ذكر الشيخ قدس‌سره مسألة فرض الوارث الخنثى المشكل زوجا أو زوجة ، فافهم).

يعني : ذكر الشيخ قدس‌سره في المبسوط مسألة ، وفرض فيها كون الوارث خنثى حال كونها زوجا أو زوجة ، فهذا الفرض منه قدس‌سره يدلّ على كون الخنثى زوجا أو زوجة يكون أمرا مشروعا ، فيجوز لها التزويج والتزوّج فحينئذ ما تقدم من حرمة تناكحها مع غيرها غير مسلّم.

ثم قوله : (فافهم) في كلام المصنّف قدس‌سره يمكن أن يكون إشارة إلى أن ما ذكره الشيخ قدس‌سره في المبسوط لا يتجاوز عن مجرد فرض ما ، فلا يدلّ على الشرعية والوقوع.

هذا تمام الكلام في البحث عن القطع

* * *

١٦٩
١٧٠

المقصد الثاني

في الظن

١٧١
١٧٢

والكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما : في إمكان التعبّد به عقلا.

والثاني : في وقوعه عقلا أو شرعا.

____________________________________

بحث الظن

(المقصد الثاني : في الظن ، والكلام فيه يقع في مقامين).

المقام الأول : يبحث فيه عن إمكان التعبّد بالظن عقلا ، بمعنى جعل الشارع إيّاه حجّة من دون لزوم محذور عقلا.

وأما المقام الثاني : فيبحث فيه عن وقوع التعبّد به شرعا ، فيكون المقام الثاني بعد ثبوت امكان التعبّد به في المقام الأول.

فإن قلنا بعدم إمكان التعبّد به في المقام الأول ، فلا مجال للبحث عن الوقوع أصلا ، إذ وقوع الشيء فرع لإمكانه. ولذا يقدّم الكلام في المقام الأول أولا.

وقبل البدء لا بدّ من تعيين المراد من الإمكان فنقول : إن الإمكان وإن كان له معان كثيرة كما في شرح المنظومة ، الّا أن المراد منه في المقام هو الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع الوقوعي والّا فإمكان التعبّد بالظن بالإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي لا نزاع فيه أصلا ، لأن التعبّد به ليس كشريك الباري تعالى ممتنعا بالذات.

إذ المراد من الإمكان الوقوعي هو ما لا يلزم من وقوعه محال في مقابل الامتناع الوقوعي ، وهو ما يلزم من وقوعه محال خارجا ، كما يظهر من دليل ابن قبة على ما يأتي حيث يقول : إن التعبّد بالظن مستلزم لاجتماع النقيضين أو الضدين.

فالحاصل أن محل النزاع هو الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع كذلك لا الإمكان الذاتي بمعنى ما يقتضي ذاته العدم ، ويمتنع عليه الوجود كشريك الباري تعالى ، ثم الواجب بالذات ما يقتضي ذاته الوجود ، ويستحيل عليه العدم كالواجب تعالى.

والحاصل أنّ المراد من الإمكان هو الإمكان الوقوعي لا الذاتي ، ولا الإمكان بمعنى الاحتمال العقلي كما نقل عن ابن سينا حيث قال : «كلّما قرع سمعك من الامور الغريبة

١٧٣

____________________________________

فذره في بقعة الإمكان حتى يقوم عليه قاطع البرهان» ، حيث الإمكان هنا بمعنى الاحتمال.

(والثاني : في وقوعه عقلا أو شرعا).

أي : يقع الكلام في المقام الثاني في وقوع التعبّد بالظن عقلا ، كحجّية الظن المطلق بعد

* * *

١٧٤

المقام الأوّل

إمكان التعبّد بالظنّ عقلا

أمّا الأول ، فاعلم أن المعروف هو إمكانه ، ويظهر من الدليل المحكي عن ابن قبة في استحالة العمل بخبر الواحد عموم المنع لمطلق الظن ، فإنّه استدل على مذهبه بوجهين :

«الأول : أنه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لجاز التعبّد به في الإخبار عن الله تعالى ، والتالي باطل إجماعا.

____________________________________

تمامية مقدّمات الانسداد على القول بأن الحاكم باعتبار الظن عند الانسداد هو العقل ، أو شرعا كحجّية خبر الواحد بالأدلة الشرعية ، ثم يقول المصنّف قدس‌سره : إن المعروف في المقام الأول هو إمكان التعبّد بالظن.

(ويظهر من الدليل المحكي عن ابن قبة في استحالة العمل بخبر الواحد عموم المنع لمطلق الظن ، فإنّه استدل على مذهبه بوجهين :).

الوجه الأول : هو القياس الاستثنائي ، والاستدلال به يكون مبتنيا على اثبات الأمرين معا ، أي : الملازمة بين المقدم والتالي ، ثم بطلان التالي ، فنذكر القياس أولا ثم نتكلم في ثبوت الأمرين.

والقياس كما ذكره المصنّف رحمه‌الله (أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لجاز التعبّد به في الإخبار عن الله تعالى ، والتالي باطل إجماعا).

وأمّا الملازمة فهي ثابتة ظاهرا ، وذلك لأن الإخبار عن النبي كقول الراوي : قال النبي كذا ، يكون مساويا ومثلا للإخبار عن الله كقول مدّعي النبوة : قال الله : كذا ، فنقول : إن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد ، فلو جاز وأمكن التعبّد بالخبر المنقول عن المعصوم عليه‌السلام لجاز وأمكن التعبّد بالخبر المنقول عن الله تعالى.

وأما بطلان التالي ، فبإجماع من العقلاء ، فإنّهم يحكمون بامتناع التعبّد بالإخبار عن الله تعالى ، بل يطالبون بالمعجزة ممّن يدّعي النبوّة ، وهذا الدليل من ابن قبة لا يثبت امتناع التعبّد بالظن ، بمعنى أن يكون التعبّد به مستلزما لاجتماع النقيضين أو الضدين.

١٧٥

الثاني : أن العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيته حراما ، وبالعكس».

____________________________________

(الثاني : أن العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيته حراما ، وبالعكس).

يعني : الوجه الثاني الذي استدلّ به ابن قبة على عدم جواز التعبّد بالظن هو أن التعبّد به بمعنى كونه حجّة شرعا موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، فيكون العمل بالظن مستلزما للمحال ، وهو اجتماع النقيضين أو الضدين ، ويلزم اجتماع النقيضين فيما إذا قام الظن على عدم الحرمة أو عدم الوجوب ، وكان الحكم في الواقع حراما أو واجبا.

ويلزم الثاني وهو اجتماع الضدين فيما إذا قام الظن على الحرمة وكان في الواقع واجبا.

هذا هو لزوم اجتماع الضدين الناشئ من خطاب الشارع. بمعنى أن يكون مضمون الخطاب المتوجّه إلى المكلّف هو الحرمة ، وكان الحكم في الواقع هو الوجوب ، وقد يكون محذور اجتماع الضدين أو النقيضين راجعا إلى ملاك الحكم ، وذلك فيما إذا قام الظن على عدم الوجوب وكان الحكم في الواقع هو الوجوب فيكون مقتضى الظن عدم ثبوت المصلحة الملزمة ، ومقتضى الوجوب الواقعي هو ثبوت المصلحة الملزمة ، وليس هذا إلّا اجتماع النقيضين ، وقس عليه ما إذا قام الظن على عدم الحرمة وكان الحكم في الواقع حراما.

ويلزم اجتماع الضدين فيما إذا قام الظن على الحرمة وكان الحكم في الواقع واجبا فيلزم اجتماع المفسدة والمصلحة ، وهو واضح ، وقد يلزم اجتماع المثلين ، وهو فيما إذا كان الظن مطابقا للواقع.

فالمتحصّل من الجميع هو عدم إمكان التعبّد بالظن ، لأنّه مستلزم لهذه المحاذير ، وعبّر ابن قبة عنها بتحليل الحرام ، وتحريم الحلال.

ثم المحاذير الناشئة عن الخطاب مبنيّة على جعل المؤدّى في باب جعل الطرق والأمارات ، وسيأتي الكلام فيه مفصلا.

وأمّا المحاذير الراجعة إلى الملاك فهي مبنية على تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد ، كتبعية المعلول للعلّة كما يقول به العدلية.

١٧٦

وهذا الوجه ـ كما ترى ـ جار في مطلق الظن ، بل في مطلق الأمارة غير العلمية وإن لم يفد الظن.

واستدل المشهور على الإمكان : بأنّا نقطع بأنه لا يلزم من التعبّد به محال.

وفي هذا التقرير نظر ، إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وعلمه بانتفائها ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه.

____________________________________

(وهذا الوجه ـ كما ترى ـ جار في مطلق الظن ، بل في مطلق الأمارة غير العلمية).

أي : أن هذا الوجه الثاني يجري في مطلق الظن من أيّ سبب نشأ الظن ، إذ تحليل الحرام وبالعكس بالمعنى المذكور لا يختص بالخبر ، بل يجري في مطلق الأمارة غير العلمية ، سواء كان مفيدا للظن الشخصي أو الظن النوعي أم لم يكن مفيدا له ، ثم يذكر المصنّف رحمه‌الله استدلال المشهور على الجواز قبل الجواب عن استدلال ابن قبة على عدم الجواز فيقول : (واستدلّ المشهور على الإمكان : بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال).

وحاصل ما ذكره المشهور من عدم لزوم أي محذور من التعبّد بالظن أنّا نقطع بالوجدان بعدم لزوم محال أصلا من العمل بالظن ، مع وقوع العمل به كثيرا في الشرع ، ووقوع الشيء يكون أقوى دليل على إمكانه الوقوعي.

ثم يرد المصنّف رحمه‌الله هذا الاستدلال من المشهور بقوله : (وفي هذا التقرير نظر).

وحاصل ما ذكره المصنّف رحمه‌الله ردّا لهذا التقرير أن هذا التقرير لا يوافق ما هو المدّعى إذ المدّعى هو إثبات الإمكان الوقوعي مطلقا. أي : واقعا وظاهرا ، والدليل المذكور يدل على ثبوته ظاهرا ، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى ، وذلك لأن عقل الإنسان لا يمكن أن يحيط بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة حتى يدرك عدم القبح في التعبّد بالظن أصلا ثم يحكم بإمكانه ، بل إحاطة العقل كذلك غير ممكنة ، فكيف يحكم بالقطع والوجدان بعدم استحالة التعبّد بالظن مطلقا مع أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود في الواقع؟! نعم ، عدم الوجدان في الظاهر يدل على الإمكان الظاهري ، وهذا ليس المدّعى ، بل المدعى هو الإمكان مطلقا.

فالحاصل أن القطع بعدم لزوم المحال حتى في الواقع موقوف على إحاطة العقل بالجهات المقبّحة وعلمه بانتفائها ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه.

١٧٧

فالأولى أن يقرّر هكذا : إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان.

والجواب عن دليله الأول : إن الإجماع إنّما قام على عدم الوقوع لا على الامتناع ،

____________________________________

ثم يقول المصنّف رحمه‌الله : (فالأولى أن يقرّر هكذا).

يعني : يبين تقرير الإمكان على وجه لا يرد عليه ما ورد على تقرير المشهور ، وهو : إنّا لم نجد دليلا على استحالة التعبّد بالظن ، فنحكم بالإمكان ، والحكم بالامكان بعد عدم وجدان ما يوجب الاستحالة طريق معروف يسلكه العقلاء في كل زمان ومكان.

ثم الفرق بين هذا التقرير وبين التقرير المنسوب إلى المشهور هو أن الثاني موقوف على القطع بانتفاء جهة القبح فيه بخلاف الأول لأنّه أصل عقلائي يكفي فيه عدم وجدان القبح والاستحالة ، ولكن هذا الفرق لا يكون كافيا ، فيرد على تقرير المصنّف رحمه‌الله نفس ما ورد على تقرير المشهور.

(والجواب عن دليله الأول : إن الإجماع إنّما قام على عدم الوقوع لا على الامتناع).

وتقريب ما أجاب به المصنّف رحمه‌الله عن دليل ابن قبة : إن دليله الأول كان قياسا استثنائيا ، فردّه تارة يكون من جهة عدم بطلان التالي ، واخرى من جهة عدم الملازمة بينه وبين المقدّم ، والمصنّف قد أشار إلى عدم بطلان التالي بقوله : إن الإجماع إنّما قام على عدم الوقوع لا على الامتناع ، فلا يمكن إثبات بطلان التالي بهذا الإجماع ، لأنّه قام على عدم وقوع التعبّد بالخبر ، وهذا ليس المدّعى في المقام ، بل المدّعى هو عدم الإمكان والامتناع ، فما قام به الإجماع ليس محلّا للكلام في المقام ، وما هو المدّعى ومحلّ للكلام لم يقم عليه الإجماع أصلا ، فإثبات بطلان التالي بهذا الإجماع مردود جزما.

ثم يشير إلى ردّ هذا الوجه ثانيا من جهة بطلان الملازمة ، فيقول : (بعد تسليم صحة الملازمة).

أي : لا نسلّم الملازمة بين المقدّم والتالي لأنّ قياس المقدم بالتالي قياس مع الفارق ، إذ احتمال الكذب في الإخبار عن الله أقوى وأشد من احتماله في الإخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن النبوة رئاسة عامة يشتهي إليها كل انسان ، فلا بدّ من المعجزة ، هذا بخلاف الإخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ الداعي للكذب فيه ضعيف ، فيقبل الخبر فيه دون الإخبار عن الله تعالى ، ومع

١٧٨

مع أن عدم الجواز قياسا على الإخبار عن الله تعالى بعد تسليم صحّة الملازمة إنّما هو فيما إذا بني تأسيس الشريعة اصولا وفروعا على العمل بخبر الواحد ، لا مثل ما نحن فيه ، ممّا ثبت أصل الدين وجميع فروعه بالأدلة القطعية لكن عرض اختفاؤها في الجملة من جهة العوارض واخفاء الظالمين للحقّ.

وأمّا دليله الثاني ، فقد اجيب عنه :

تارة بالنقض بالامور الكثيرة غير المفيدة للعلم ، كالفتوى والبيّنة واليد ، بل القطع أيضا ، لأنه قد يكون جهلا مركبا.

____________________________________

الفرق المذكور تكون الملازمة مردودة.

ثم أشار المصنّف رحمه‌الله إلى الجواب الثالث بقوله : (مع أنّ عدم الجواز قياسا على الإخبار عن الله تعالى بعد تسليم صحّة الملازمة إنّما هو فيما إذا بني تأسيس الشريعة اصولا وفروعا على العمل بخبر الواحد ، لا مثل ما نحن فيه).

يعني : لو أغمضنا النظر عن الفارق وقلنا بصحة الملازمة لما كان الاستدلال بالقياس مفيدا ومثبتا لما هو المطلوب من عدم جواز العمل بالخبر وامتناعه ، نعم ، إنّما يكون امتناع التعبّد بالخبر مبنيا على أن يكون تأسيس الشريعة الاسلامية فروعا واصولا بالخبر لأن الدين لو كان كذلك ينهدم من أصله بعد مرور الزمان في أيدي الجعّالين للأديان الباطلة ، والمقام ليس كذلك ، فلا يكون التعبّد بالخبر ممتنعا ، إذ الدين قد ثبت اصولا وفروعا بالأدلة القطعية.

(لكن عرض اختفاؤها) أي : الفروع من جهة العوارض كوجود الكذّابين ، وكثرة الوسائط مع اخفاء الظالمين ، فلا محذور في العمل بالخبر في بعض المسائل الفرعية.

(وأما دليله الثاني ، فقد أجيب عنه : تارة بالنقض).

ثم النقض يرجع في الحقيقة إلى تكثير الإشكال ، وحاصل الجواب بالنقض في المقام هو أن الفتوى حجّة مع أنها مستلزمة لتحليل الحرام ، فيما إذا أفتى المجتهد بحلّية شيء ، وكان حكمه في الواقع حراما ، وكذا في مورد البينة واليد ، بل في مورد القطع ـ أيضا ـ لأنه قد يكون جهلا مركبا ، مثل ما إذا قطع بحلّية شيء وكان في الواقع حراما ، وهو حجّة مطلقا كما تقدم في باب القطع ، فكل جواب أجاب به ابن قبة عن هذه الموارد نجعله جوابا عن

١٧٩

واخرى : بالحلّ بأنه إن اريد تحريم الحلال الظاهري أو عكسه فلا نسلّم لزومه وإن اريد تحريم الحلال الواقعي ظاهرا فلا نسلّم امتناعه.

والأولى أن يقال : إنّه إن أراد امتناع التعبّد بالخبر في المسألة التي انسد فيها باب

____________________________________

الإشكال في المقام.

(واخرى : بالحلّ بأنه إن اريد تحريم الحلال الظاهري أو عكسه فلا نسلّم لزومه).

وهذا الجواب الحلّي وهو أنّ الحكم ينقسم إلى قسمين : هما الحكم الظاهري والحكم الواقعي ، كما يأتي بيانه في كلام المصنّف رحمه‌الله.

فإن كان مراد ابن قبة من تحريم الحلال وتحريم ما هو الحلال في الظاهر أو بالعكس ، فلا نسلّم لزومه لأن الحلال الظاهري يأتي من قبل قيام الظن على حلّية شيء ، فلم يكن مع قطع النظر عن قيامه.

والمفروض أنه لم يدل على حلّيته ظاهرا حتى يلزم مع قيام الظن على تحريمه محذور اجتماع الضدين.

(وإن اريد تحريم الحلال الواقعي ظاهرا فلا نسلّم امتناعه).

يعني : لو أراد من تحريم الحلال تحريم ما هو الحلال في الواقع ظاهرا ، يعني : يحكم بحرمة شيء ظاهرا بمقتضى قيام الظن مع أنه يكون حلالا في الواقع ، فنسلّم تحريم الحلال ، ولكن لا نسلّم امتناع تحريم الحلال كذلك ، إذ لا مانع من أن يكون الشيء في الواقع حلالا وفي الظاهر حراما أو بالعكس ، إذ ملاك امتناع اجتماع الضدين هو وحدة الموضوع والزمان ، وهذا الملاك غير موجود في المقام لأنّ موضوع الحكم الواقعي هو المطلق ، وموضوع الحكم الظاهري هو المقيّد بالجهل بالحكم الواقعي ، وتغاير الشيء المطلق والشيء المقيد بديهي ، فلا يلزم اجتماع الضدين لتعدّد الموضوع.

ثم لمّا كان هذا الجواب غير خال عن الإشكال لأنّ تحريم الحلال يتصوّر على وجوه كما يأتي تفصيله ، ويكون بعضها قبيحا عدل المصنّف رحمه‌الله عن هذا الجواب حيث قال : (والأولى أن يقال : إنه إن أراد امتناع التعبّد بالخبر).

يعني : فالأولى هو التفصيل بين صورة الانسداد وبين صورة انفتاح باب العلم. ثم على الثاني بين كون الظن مشتملا على مصلحة ، وبين عدم كونه كذلك. ثم بين كونه مساويا

١٨٠