دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

الشهرة الفتوائيّة

ومن جملة الظنون التي توهّم حجّيتها بالخصوص الشهرة في الفتوى الحاصلة بفتوى جلّ الفقهاء المعروفين سواء كان في مقابلها فتوى غيرهم بخلاف ، أم لم يعرف الخلاف والوفاق من غيرهم.

ثمّ إنّ المقصود هنا ليس التعرّض لحكم الشهرة من حيث الحجّية في الجملة ، بل المقصود

____________________________________

(ومن جملة الظنون التي توهّم حجّيتها بالخصوص الشهرة).

وقبل الخوض في البحث لا بدّ من بيان وتحرير ما هو محل النزاع في المقام ، ويتّضح ما هو محل الكلام بعد تقديم مقدمة مشتملة على أمرين :

الأمر الأول : هو بيان حقيقة الشهرة.

والأمر الثاني : هو بيان كيفية الحكم بحجّيتها.

وأمّا الأمر الأول فملخّصه : إنّ الشهرة بحسب اللغة والعرف وإن كانت بمعنى البروز والظهور كما يقال : شهر فلان سيفه ، أو يقال : لا يلبس الرجل بالشهرة ، ولكنّ الشهرة بهذا المعنى لم تكن مقصودة في المقام ، بل المقصود منها في المقام هي : الشهرة في الفتوى ، لا في الرواية ، ولا بالمعنى المذكور ، ولا الشهرة العملية.

وأمّا الأمر الثاني فهو : إنّ المراد من حجّيتها هي حجّيتها بالخصوص من جهة قيام دليل خاص على اعتبارها بعنوانها الخاص ، لا من جهة دليل الانسداد بعنوان كونها من جزئيات مطلق الظن.

إذا عرفت هذه المقدمة ؛ يتّضح لك ما هو محل الكلام في المقام وهو الشهرة في الفتوى من حيث الموضوع ، وحجّيتها بالخصوص بعنوانها الخاص من حيث الحكم.

وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى كلا الأمرين ، حيث قال : (توهم حجّيتها بالخصوص) ، لا من باب دليل الانسداد(الشهرة في الفتوى) ، أي : لا في الرواية ولا بالمعنى اللغوي ، ثمّ تعبير المصنّف رحمه‌الله بتوهّم حجّيتها يشعر بعدم حجّيتها كذلك عنده.

ثمّ المستفاد من قوله : (الحاصلة بفتوى جلّ الفقهاء المعروفين ... إلى آخره) هو أنّ النسبة بين الإجماع الاصطلاحي ـ وهو اتّفاق الكلّ ـ وبين الشهرة هي التباين الكلّي.

٤٢١

إبطال توهّم كونها من الظنون الخاصّة ، وإلّا فالقول بحجّيتها من حيث إفادة المظنّة بناء على دليل الانسداد غير بعيد ، ثمّ إنّ منشأ توهّم كونها من الظنون الخاصّة أمران :

أحدهما : ما يظهر من بعض ، من أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد تدلّ على حجّيته بمفهوم الموافقة ؛ لأنّه ربّما يحصل منها الظنّ الأقوى من الحاصل من خبر العادل. وهذا خيال ضعيف تخيّله بعض في بعض رسائله ، ووقع نظيره من الشهيد الثاني في المسالك ، حيث وجّه حجّية الشياع الظنّي بكون الظنّ الحاصل منه أقوى من الحاصل من شهادة العدلين ، ووجه الضعف :

____________________________________

(ثمّ إنّ المقصود هنا ليس التعرّض لحكم الشهرة من حيث الحجّية في الجملة) ، يقول المصنّف رحمه‌الله : إنّ المقصود من البحث عن حجّية الشهرة ليس حجّيتها ولو من باب الانسداد ، أو من باب كونها جزء السبب الكاشف ، كما مرّ في الإجماع ، بل المقصود هو : (إبطال توهّم كونها من الظنون الخاصّة) ، وإلّا فليس في اعتبارها من باب الانسداد إشكال ، ولا يكون اعتبارها كذلك بعيدا.

(ثمّ إنّ منشأ توهّم كونها من الظنون الخاصّة أمران) والمصنّف رحمه‌الله ، يذكر أولا ما هو المنشأ لتوهّم كون الشهرة من الظنون الخاصّة ، ثمّ يردّ التوهّم بردّ منشئه ، والمنشأ كما ذكر المصنّف رحمه‌الله أمران :

الأمر الأول : هو مفهوم الموافقة.

والأمر الثانى ـ كما سيأتي في كلامه ـ : هو الرواية.

ثمّ تقريب الأمر الأول قد أشار إليه بقوله :

(أحدهما : ما يظهر من بعض) ، قيل : المراد به هو الشيخ أحمد النراقي رحمه‌الله ، وقيل : هو صاحب الرياض رحمه‌الله ، (أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد تدلّ على حجّيته) الشهرة (بمفهوم الموافقة) ، أي : بالأولويّة ، إذ الظن الحاصل من الشهرة يكون أقوى من الظن الحاصل من خبر العادل ، فحينئذ إذا كان خبر العادل حجّة بملاك إفادته الظن كانت الشهرة أولى بالحجّية لقوة الظّن فيها ، ثم إنّ الاستدلال بالأولويّة المذكورة مبنيّ على امور :

منها : أن يكون المناط في حجّية خبر العادل هو الظن.

ومنها : إنّ الظن بكون المناط هو الظّن لا يكفي لعدم حجّية الأولويّة الظنّية ، بل لا بدّ من

٤٢٢

إنّ الأولويّة الظنّية أوهن بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسّك بها في حجّيتها مع أن الأولويّة ممنوعة رأسا للظن ، بل العلم بأنّ المناط والعلّة في حجّية الأصل ليس مجرّد إفادة الظنّ؟!

____________________________________

العلم والقطع بكون المناط هو الظّن في حجّية خبر العادل.

ومنها : أن يكون الظّن الحاصل من الشهرة أقوى من الظّن الحاصل من خبر العادل ، هذا ما يبتني عليه الاستدلال بالأولويّة ، فإذا انتفى أحد هذه الامور لم يصحّ الاستدلال بالأولويّة كما لا يخفى.

ثمّ يردّ المصنّف رحمه‌الله هذا الاستدلال.

أولا : بمنع الأمر لإمكان عدم كون مناط الحجّية في خبر العادل هو الظّن ، بل يمكن أن يكون اعتباره من باب التعبّد فقط ، هذا أولا.

وثانيا : يمكن منع الأمر الثاني وهو العلم بكون المناط هو الظّن.

نعم ، يمكن حصول الظّن بأنّ المناط هو الظّن ، ولكن هذا الظّن لم يكن مفيدا في صحة الاستدلال ، بل الاستدلال بالأولويّة ضعيف ، كما أشار إلى وجه الضعف بقوله : (إنّ الأولويّة الظنّية أوهن بمراتب من الشهرة) ؛ لأنّ مرجع هذا الاستدلال هو القياس. ومعلوم أنّ القياس يكون أدنى بمراتب من الشهرة ، وذلك لأنّ الشهرة تكون مظنون الحجّية ، أو محتملها ، والقياس ليس بمظنون الحجّية ولا بمحتملها ، بل يقطع بعدم حجّيته للنهي عنه (فكيف يتمسّك بها في حجّيتها) إذ لا يعقل أن يستدل بما ليس بحجّة قطعا لإثبات حجّية ما هو مظنون الحجّية. هذا ملخّص الكلام في ردّ الأمر الثاني من الامور المتقدمة.

وقد أشار إلى ردّ الأمر الأول بقوله : (مع أن الأولويّة ممنوعة رأسا للظن ، بل العلم بأنّ المناط والعلّة في حجّية الأصل ليس مجرّد إفادة الظن) إذ يمكن أن يكون مناط الحجّية في خبر العادل هو التعبّد فقط.

فالحاصل أنّ ما تخيله هذا البعض ضعيف جدّا(ووقع نظيره من الشهيد الثاني في المسالك ، حيث وجّه حجّية الشياع الظنّي بكون الظن الحاصل منه أقوى من الحاصل من شهادة العدلين) فإذا كانت شهادتهما حجّة في الموضوعات بملاك كونها مفيدة للظن لكان الشياع أولى بالحجّية لقوة الظن فيه.

٤٢٣

وأضعف من ذلك تسمية هذه الأولويّة في كلام ذلك البعض مفهوم الموافقة ، مع أنّه ما كان استفادة حكم الفرع من الدليل اللفظيّ الدال على حكم الأصل ، مثل قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١).

____________________________________

والفرق بين الشهرة والشياع يكون من حيث المتعلّق ، حيث تكون الشهرة متعلقة بالأحكام ، والشياع بالموضوعات ، ولذا عبر المصنّف رحمه‌الله عن الشياع بكونه نظيرا للشهرة ووقع من الشهيد نظير ما وقع من البعض.

ثمّ ردّ ما وقع من الشهيد رحمه‌الله بما تقدّم من أنّ ملاك حجّية خبر العادل ليس هو الظن حتى يكون الظن الحاصل من الشهرة حجّة بالأولويّة.

وكذلك ملاك حجّية شهادة العدلين ليس هو الظن حتى يكون الظن الحاصل من الشياع حجّة بالأولويّة ، ولهذا لا يجوز للحاكم في باب القضاء أن يعمل بعلمه إذا لم يكن مستندا إلى شهادة العدلين.

(وأضعف من ذلك تسمية هذه الأولويّة في كلام ذلك البعض مفهوم الموافقة) والإشكال بكون تسمية هذه الأولويّة بمفهوم الموافقة أضعف من الاستدلال بها يتضح بعد بيان الفرق بين مفهوم الموافقة والأولويّة المذكورة وبتعبير آخر قياس الأولويّة ، وذلك إنّ استفادة حكم الفرع في قياس الأولويّة مبنية على أمرين :

الأمر الأول : هو تنقيح المناط في الأصل.

والأمر الثاني : هو إثبات كون المناط في الفرع أقوى منه في الأصل ، وهذا بخلاف مفهوم الموافقة حيث تكون استفادة الحكم في جانب المفهوم مبنية على ظاهر الدليل اللفظي من دون حاجة إلى تنقيح المناط أصلا ، كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) حيث يدلّ منطوقا على حرمة التأفيف ، ومفهوما على حرمة الشتم والضرب بطريق أولى.

فقد اتّضح من الفرق المذكور بين مفهوم الموافقة والأولويّة وجه أضعفية تسمية الأولويّة بمفهوم الموافقة ؛ لأن الحكم في مورد قياس الأولويّة لم يكن مستفادا من الدليل اللفظي لا في جانب الأصل ولا في جانب الفرع.

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

٤٢٤

الأمر الثاني : دلالة مرفوعة زرارة ومقبولة عمر بن حنظلة على ذلك ، ففي الاولى :

(قال زرارة : قلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان ، فبأيّهما نعمل؟ قال : (خذ بما أشتهر بين أصحابك ، ودع الشّاذّ النادر) ، فقلت : يا سيّدي إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم ، قال : (خذ بما يقوله أعدلهما) (١) الخبر.

بناء على أنّ المراد بالموصول مطلق المشهور ، رواية كان أو فتوى ، أو أنّ إناطة الحكم بالاشتهار تدلّ على اعتبار الشهرة في نفسها وإن لم تكن في الرواية.

____________________________________

أمّا في جانب الفرع فهو واضح ، وأمّا في جانب الأصل فيمكن أن يكون الحكم مستفادا من الإجماع أو السيرة مثلا فكيف يسمّى ما لا يكون الحكم فيه مستفادا من اللفظ بما يكون الحكم فيه مستفادا من اللفظ؟ هذا تمام الكلام في الأمر الأول الذي يكون منشأ لتوهم حجّية الشهرة.

ثمّ أشار إلى الأمر الثاني الذي يكون منشأ لتوهّم حجّيتها بقوله :

(الأمر الثاني : دلالة مرفوعة زرارة ومقبولة عمر بن حنظلة على ذلك) أي : حجّية الشهرة في الفتوى فلا بدّ من ذكر كل واحدة منهما ، ثم تقريب دلالة كل واحدة منهما على حجّية الشهرة في المقام.

ففي الاولى وهي المرفوعة (قال زرارة : قلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان ، فبأيّهما نعمل؟ قال عليه‌السلام خذ بما اشتهر بين أصحابك ... إلى آخره).

وتقريب الاستدلال يتضح بعد تقديم مقدمة وهي : أنّ المراد بالموصول وهو (ما) في قوله : (خذ بما اشتهر) هو مطلق المشهور سواء كان في الرواية كما هو مورد الرواية أو في الفتوى فلازم هذا التعميم في الموصول هو وجوب الأخذ بكل شيء مشهور.

أو نقول بالتعميم في صلة الموصول وهي كلمة (اشتهر) ، فان الحكم بوجوب الأخذ والترجيح يكون منوطا بالاشتهار مع قطع النظر عن كونه في الرواية أو الفتوى.

فإذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك أنّ الاستدلال بالمرفوعة يمكن بأحد وجهين :

الوجه الأول : من جهة تعميم الموصول ، ولازمه هو وجوب الأخذ بكل مشهور ومنه

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

٤٢٥

وفي المقبولة ، بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة ، قال عليه‌السلام : (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به ويترك الشاذّ ، الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ الشّبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم ، قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ... إلى آخر الرواية) (١).

____________________________________

الشهرة في الفتوى فتكون حجّة ، ولذا جعلت الشهرة في الرواية من المرجّحات.

والوجه الثاني : من جهة التعميم في الصلة حيث يكون الحكم منوطا بها ، فلازمه هو اعتبار الشهرة في نفسه ، وإن لم تكن في الرواية فالشهرة بما هي هي معتبرة ، وإن كانت في الفتوى ، ثمّ إنّ الوجه الثاني يمكن الاستدلال به فيما إذا سلّمنا أنّ المراد بالموصول هو خصوص الرواية ، هذا تمام الكلام في المرفوعة.

وأمّا المقبولة فقد قال المصنّف رحمه‌الله : (وفي المقبولة ، بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة ، قال عليه‌السلام : (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ... إلى آخره)).

وقد ذكرنا الرواية المقبولة تماما لتوقف الاستدلال بها على ذكرها كذلك ، والاستدلال بهذه الرواية الواردة في تعارض القضاوتين الناشئ عن تعارض الروايتين يحتاج إلى بيان امور :

منها : فرض إحدى الروايتين اللّتين استند إليهما الحاكمان المتعارضان في الحكم مشهورة ، والاخرى شاذّة.

ومنها : إثبات كون المراد من المجمع عليه المذكور في الموضعين من المقبولة هو

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٦ / ١٨. التهذيب ٦ : ٣٠٢ / ٨٤٥. الوسائل ٢٧ : ١٥٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٩.

٤٢٦

بناء على أنّ المراد بالمجمع عليه في الموضعين هو المشهور ، بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله : (ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور).

فيكون في التعليل بقوله : (فإنّ المجمع عليه ... إلى آخره) ، دلالة على أنّ المشهور مطلقا ممّا يجب العمل به ، وإن كان مورد التعليل الشهرة في الرواية.

وممّا يؤيّد إرادة الشهرة من الإجماع أنّ المراد لو كان الإجماع الحقيقي لم يكن ريب في بطلان خلافه ، مع أنّ الإمام عليه‌السلام جعل مقابله ممّا فيه الريب.

____________________________________

المشهور لا الإجماع الحقيقيّ.

ومنها : بيان ما يدل على أن المراد من المجمع عليه في الموضعين هو المشهور لا الإجماع الاصطلاحي.

ثمّ الأمر الأول يكون ثابتا حيث قال الإمام عليه‌السلام : (ينظر إلى ما كان المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ) ، أي : فيجب الأخذ بما هو المجمع عليه وترك ما هو ليس بمشهور ، ففرض الإمام عليه‌السلام إحدى الروايتين مجمعا عليها ومشهورة ، ثم حكم بوجوب الأخذ بها وترك ما ليس كذلك.

ثمّ الأمر الثاني ـ أيضا ـ ثابت ؛ لأنّ المراد من المجمع عليه في الموضعين هو المشهور لا المجمع عليه الحقيقيّ حتى لا يرتبط بالمقام ، فتصل النوبة إلى الأمر الثالث وهو بيان الدليل والشاهد على كون المراد من المجمع عليه هو المشهور لا المجمع عليه الاصطلاحي ، فنقول :

إنّ الشاهد الأول على ذلك هو إطلاق المشهور على المجمع عليه حيث قال عليه‌السلام : (ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور) ، فسلب الشهرة عمّا يكون مقابلا للمجمع عليه ـ وهو الشاذّ ـ يكون أقوى شاهد على أنّ المراد منه هو المشهور ، وإلّا كان المناسب أن يقول : ويترك الشاذّ الذي ليس بمجمع عليه.

ثمّ الشاهد الثاني هو المستفاد من مفهوم التعليل ، حيث علّل الإمام عليه‌السلام الحكم بوجوب الأخذ والترجيح بالمجمع عليه ، بقوله : فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، فيكون المفهوم هو ثبوت الريب في مقابله ، أعني : الشاذّ.

فالحاصل أنّ الشاذّ يكون ممّا فيه ريب ، ومعلوم أنّ ما فيه ريب يكون مقابلا للمشهور لا

٤٢٧

ولكن في الاستدلال بالروايتين ما لا يخفى من الوهن :

أمّا الاولى : فيرد عليها ـ مضافا إلى ضعفها ، حتى أنّه ردّها من ليس دأبه الخدشة في سند الروايات ، كالمحدّث البحرانيّ ـ أن المراد بالموصول هو خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق الحكم المشهور ، ألا ترى أنّك لو سألت عن أنّ أيّ المسجدين أحبّ إليك؟ ، فقلت ما كان الاجتماع فيه أكثر ، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر ، بيتا كان أو خانا أو سوقا ، وكذا لو أجبت عن سؤال المرجّح

____________________________________

المجمع عليه الحقيقي ؛ لأنّ مقابله ممّا لا ريب في بطلانه أصلا ، إذا الإجماع يكون مقطوع الصحة فيكون مقابله مقطوع البطلان.

ويؤيّد ذلك قوله : (وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده) كالخبر والحكم المجمع عليهما مثلا(فيتّبع) ويجب الأخذ به (وأمر بيّن غيّه فيجتنب) ويجب تركه ، كالخبر والحكم المخالفين للإجماع مثلا (وأمر مشكل) كالخبر الشاذّ مثلا (فيردّ حكمه إلى الله ورسوله) فيكون الشاذّ من الأمر المشكل لا من الأمر البيّن غيّه وبطلانه ليكون مقابلا للإجماع الحقيقيّ ، بل يكون مقابلا للمشهور ، فيجعل الشاذّ مقابلا للمجمع عليه مع أنّه أمر مشكل ، لا الباطل المعلوم يكون دليلا على أنّ المراد من المجمع عليه في الموضوعين هو المشهور.

فيكون معنى الرواية ـ حينئذ ـ مع ملاحظة التعليل هو وجوب الأخذ بالمشهور مطلقا سواء كان في الرواية أو في الفتوى ؛ لأنّ التعليل عامّ شامل للشهرة في الفتوى أيضا ، وإن كان حكم الإمام عليه‌السلام بوجوب الأخذ والترجيح في خصوص الرواية المشهورة ، إذ الحكم يكون تابعا لعلّته سعة وضيقا ، فلا بدّ من الأخذ بعموم العلّة لا بخصوص المورد.

وبالجملة ، إنّ المتحصّل من الجميع هو اعتبار الشهرة من حيث هي هي ، من دون فرق بين كونها في الرواية أو الفتوى.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بالمقبولة على حجّية الشهرة في الفتوى.

(ولكن في الاستدلال بالروايتين ما لا يخفى من الوهن) أمّا الرواية الاولى فهي مردودة سندا ودلالة ، أمّا كونها مردودة سندا ؛ فلأنّها ضعيفة من حيث السند ، حتى ردّها من ليس

٤٢٨

لأحد الرمّانين ، فقلت : ما كان أكبر ، والحاصل : أنّ دعوى العموم في المقام بغير الرواية ممّا لا يظنّ بأدنى التفات ، مع أنّ الشهرة الفتوائية ممّا لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة.

فقوله : (يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران مأثوران) ، أوضح شاهد على أنّ المراد بالشهرة

____________________________________

دأبه الخدشة في سند الروايات أصلا كالمحدّث البحراني ، وأمّا أنّها مردودة دلالة ؛ فلأنّ المراد بالموصول في قول الإمام عليه‌السلام : (خذ بما اشتهر) هو خصوص الرواية دون مطلق المشهور ، فحينئذ لا ترتبط بالمقام.

ولنا على أنّ المراد بالموصول هو الرواية فقط شاهدان :

الأول : هو التبادر الناشئ عن كونه مسبوقا بالسؤال عمّا يجب الأخذ به من الرواية ، فالسؤال عن الأخذ بأي الخبرين المتعارضين يوجب الظهور في الرواية ويمنع العموم ، فيكون المراد من الجواب ما هو المشهور من الرواية ؛ ليكون الجواب مطابقا للسؤال كما هو الظاهر من قولك : ما كان الاجتماع فيه أكثر ، جوابا عن السؤال بأيّ المسجدين أحب إليك؟.

فهذا الجواب ظاهر في أنّ المراد ممّا كان الاجتماع فيه أكثر هو خصوص المسجد ، لا كلّ مكان فيه الاجتماع أكثر مثل السوق والسينما ، فكما أنّ المصداق للموصول في هذا الجواب هو خصوص المسجد ، كذلك يكون المراد بالموصول في المقام هو خصوص الرواية لا كلّ ما هو المشهور ؛ لأنّ الموصول يتعيّن بالصلة ، والصلة هي الشهرة في الرواية فقط.

ومن هنا ظهر الجواب عن الوجه الثاني ، وهو التعميم من حيث إناطة الحكم بالاشتهار ، فيكون مطلق الاشتهار معتبرا ، وذلك أنّه لم يجعل الشهرة بما هي هي مناطا للحكم بوجوب الأخذ والترجيح ، بل جعل مناط الحكم خصوص الشهرة في الرواية. هذا تمام الكلام في الشاهد الأول على كون المراد من الموصول هو الشهرة في الرواية.

ثم الشاهد الثاني على ذلك ، هو ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله :

(مع أنّ الشهرة الفتوائية ممّا لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة) والشاهد الثاني على كون المراد من الموصول هو خصوص الرواية ، هو فرض السائل الشهرة في طرفيّ

٤٢٩

الشهرة في الرواية الحاصلة بكون الرواية ممّا اتفق الكلّ على روايته أو تدوينه ، وهذا ممّا يمكن اتّصاف الروايتين المتعارضتين به.

ومن هنا يعلم الجواب عن التمسّك بالمقبولة ، وأنّه لا تنافي بين إطلاق المجمع عليه على المشهور وبالعكس ، حتّى تصرف أحدهما عن ظاهره بقرينة الآخر ، فإنّ إطلاق المشهور في مقابل الإجماع إنّما هو إطلاق حادث مختصّ بالاصوليّين ، وإلّا فالمشهور هو الواضح المعروف. ومنه : شهر فلان سيفه ، وسيف شاهر ، فالمراد أنّه يؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحد منهم ، ويترك ما لا يعرفه إلّا الشاذّ ولا يعرفها الباقي. فالشاذّ مشارك للمشهور في معرفة الرواية المشهورة ، والمشهور لا يشارك الشاذّ في معرفة الرواية الشاذّة. ولهذا كانت الرواية المشهورة من قبيل بيّن الرشد ، والشاذّ من قبيل المشكل الذي

____________________________________

المسألة ، حيث قال : (يا سيّدي إنّهما مشهوران) ، ومن المعلوم أنّ الشهرة في الفتوى لا يعقل تحقّقها في طرفيّ المسألة كما لا يخفى. ولكنّ الشهرة في الرواية ممّا يمكن اتصاف الروايتين المتعارضتين بها ؛ لأنّ المراد منها فيها هو اتّفاق المحدّثين جميعا أو أكثرا على تدوين الرواية في كتب الأحاديث ، فلا مانع من تحقّق الشهرة في كلتا الروايتين المتعارضتين بمعنى تدوينهم إيّاهما في كتب الأحاديث.

فالحاصل هو أنّ فرض السائل الشهرة في الطرفين يكون شاهدا على أنّ المراد من الموصول هو الشهرة في الحديث والرواية فقط ، فلا ترتبط بالمقام أصلا. هذا تمام الكلام في الجواب عن المرفوعة.

(ومن هنا يعلم الجواب عن التمسّك بالمقبولة) فإنّ التمسّك بالمقبولة ـ كما تقدم تفصيله ـ يكون مبتنيا على كون المراد من المجمع عليه في الموضعين هو المشهور الشامل للفتوى أيضا.

وقد علم من جواب المرفوعة أنّ المراد من المجمع عليه بأي معنى كان هو الرواية فقط ، بقرينة السؤال والجواب اللّذين يدوران مدار الرواية فقط.

فالمتبادر من قوله عليه‌السلام : (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) هو الرواية فقط ، هذا مضافا إلى أنّه لا وجه لحمل المجمع عليه في الموضعين على المشهور ؛ لأنّ هذا الحمل يصح على فرض التنافي بينهما ، ولا تنافي بين المجمع عليه والمشهور في الرواية ، لأنّ المراد منهما

٤٣٠

يردّ علمه إلى أهله ، وإلّا فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث.

وممّا يضحك الثّكلى في هذا المقام توجيه قوله : (هما معا مشهوران) بإمكان انعقاد الشهرة في عصر على فتوى ، وفي عصر آخر على خلافها ، كما قد يتّفق بين القدماء

____________________________________

هو المعنى اللغويّ ، أعني : الواضح المعروف ، فهما متّحدان معنى في زمان الأئمّة عليهم‌السلام ، فحينئذ يصح إطلاق المشهور على المجمع عليه كما اطلق في المقبولة ، وبالعكس.

نعم ، التنافي بينهما قد حدث بين الفقهاء بعد مرور السنين وابتعادها عن زمن المعصومين ، فصار الإجماع عندهم هو اتّفاق الكل ، والمشهور هو اتّفاق جلّ الفقهاء في حكم من الأحكام.

والحاصل هو أنّ اطلاق المشهور على المجمع عليه في الرواية لا يكون شاهدا على كون المجمع عليه هو المشهور المصطلح عند الفقهاء ، فمعنى الرواية أنّه يؤخذ بالرواية التي تكون معروفة بين الأصحاب ، ويترك ما لا يعرفه إلّا الشاذّ ، فكانت الرواية المشهورة من قبيل بيّن الرشد ، والشاذّة من قبيل المشكل ، فينطبق عليهما حديث التثليث فيصح الاستشهاد به في المقام.

(وإلّا فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث) ، أي : وإن لم يكن المراد من المجمع عليه هو المعروف المنطبق عليه ما هو بيّن الرشد ، والمراد من الشاذّ هو غير الواضح المنطبق عليه ما هو المشكل الذي يردّ إلى الله ورسوله ، بأن لا يؤخذ به ، بل يترك ، فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث ، إذ لو كان المراد من المجمع عليه هو الإجماع الاصطلاحي أو المشهور الاصطلاحي لكان ممّا لا ريب فيه ، وكان مقابله ممّا لا ريب في بطلانه ، فلم يكن مجال للاستشهاد بحديث التثليث ؛ لأنّ الغرض من الاستشهاد به هو ردّ ما فيه ريب إلى الله تعالى ، وما لا ريب في بطلانه لا يردّ إلى الله تعالى.

فالمتحصّل من الجميع : أن المقبولة لا تدلّ على حجّية الشهرة في الفتوى أصلا.

(ومما يضحك الثّكلى في هذا المقام توجيه قوله : (هما معا مشهوران) بإمكان انعقاد الشهرة في عصر على فتوى ، وفي عصر آخر على خلافها).

وقد تقدّم في المرفوعة (١) أنّ الراوي قد فرض الشهرة في كلا الطرفين ، وهذا الفرض

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

٤٣١

والمتأخّرين ، فتدبّر.

____________________________________

صحيح في الرواية دون الفتوى ، ولكن بعضهم وجّه ذلك في الفتوى أيضا بإمكان انعقاد الشهرة في كل عصر على طرف ، كما يتّفق بين القدماء والمتأخرين في تنجّس ماء البئر وعدمه ، حيث قال القدماء بالتنجّس ، والمتأخرون بعدمه.

ثمّ إنّ الوجه في كون هذا التوجيه بعيد هو أنّ الشهرة بهذه الكيفية لو وقعت لوقعت بعد الأئمّة عليهم‌السلام ، ولم تقع في زمانهم عليهم‌السلام ، حتى يسأل عن حكمها في صورة التعارض.

(فتدبّر) : لعلّه إشارة إلى أنّ السؤال عن حكم شيء لا يتوقف على وقوعه خارجا ، بل قد يسأل عن حكم شيء على فرض وقوعه خارجا ، فالسؤال عن حكم الشيء بعنوان فرض الوقوع صحيح.

هذا تمام الكلام في الشهرة ، ثمّ يقع الكلام في البحث عن حجّية خبر الواحد.

* * *

٤٣٢

خبر الواحد

ومن جملة الظنون الخارجة بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم : خبر الواحد في الجملة عند المشهور ، بل كاد أن يكون إجماعا.

____________________________________

(ومن جملة الظنون الخارجة بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم : خبر الواحد في الجملة عند المشهور) وقبل الدخول في البحث لا بدّ من تحرير محل النزاع ، وهو يتضح بعد تقديم امور :

منها : إنّ المراد من خبر الواحد هو ما يكون مقابلا للمتواتر ، أعني : ما لا يفيد العلم بالمخبر به ذاتا ، ولا يكون مقطوع الصدور ، ثم المتواتر ما يفيد العلم بالمخبر به ذاتا من جهة كثرة المخبرين ، فيكون مقطوع الصدور ، وخبر الواحد بهذا المعنى يشمل المستفيض ، ثم الواحد يكون وصفا للراوي يعني : خبر الواحد ، أي : ما يكون راويه الواحد ، فتعريف الخبر بالألف واللام ، بأن يقال : الخبر الواحد المشعر بكون الواحد صفة للخبر يكون غلطا ؛ لأنّ الخبر الواحد ـ حينئذ ـ يكون في مقابل الاثنين ، أو الأزيد منه ، لا في مقابل المتواتر الذي يكون راويه الكثير بحيث يحصل العلم بالمخبر به من الكثرة ، فالحاصل أنّ المراد من خبر الواحد هو مقابل المتواتر ، فخرج بقوله : (خبر الواحد) المتواتر.

ومنها : إنّ ما هو الخارج عن الأصل ـ وهو حرمة العمل بالظن ـ هو خبر الواحد في الجملة ، أعني على نحو موجبة جزئية ، لا على نحو موجبة كلّية ، كما أشار إليه بقوله : (في الجملة) ، فالخارج عن الأصل هو صنف خاص ، وهو خبر العادل على قول ، وخبر الثقة على قول آخر ، وكل خبر ظنّ بصدوره على قول ثالث ، وهكذا على اختلاف فيه.

ومنها : إنّ البحث عن حجّية خبر الواحد يكون من أهمّ المسائل الاصولية ، إذ غالب الأحكام وأجزاء العبادات وشرائطها إنّما يثبت بأخبار الآحاد ، ثمّ إنّ دخول هذا البحث ـ في المسائل الاصولية ـ على قول من لم يحصر موضوع علم الاصول بالأدلة الأربعة كصاحب الكفاية رحمه‌الله واضح ، وأمّا على القول بانحصار الموضوع في الأربعة ، كما ذهب إليه جماعة ومنهم المصنّف رحمه‌الله ، فيشكل في كون البحث عن حجّية خبر الواحد من المسائل

٤٣٣

اعلم أنّ إثبات الحكم الشرعي بالأخبار المرويّة عن الحجج عليهم‌السلام ، موقوف على مقدّمات ثلاث :

الاولى : كون الكلام صادرا عن الحجّة.

الثانية : كون صدوره لبيان حكم الله ، لا على وجه آخر من تقيّة وغيرها.

الثالثة : ثبوت دلالتها على الحكم المدّعى.

وهذا يتوقف أوّلا : على تعيين أوضاع ألفاظ الرواية ، وثانيا : على تعيين المراد منها وأنّ المراد مقتضى وضعها أو غيره ، فهذه امور أربعة.

____________________________________

الاصولية ، وذلك لأنّ البحث عن حجّيته ـ حينئذ ـ لم يكن عن أحوال الأدلة الأربعة ، إذ لو كان لكان عن أحوال وعوارض السنّة منها ، ولم يكن كذلك ، بل يكون عن أحوال ما هو حاكي للسنّة ، وهو خبر الراوي ، كقول زرارة مثلا ، لا عن أحوال نفس السنّة وهو قول المعصوم ، أو فعله أو تقريره.

والمصنّف رحمه‌الله قد تصدّى لدفع هذا الإشكال بقوله : (اعلم أنّ إثبات الحكم الشرعي بالأخبار المروية عن الحجج عليهم‌السلام ، موقوف على مقدّمات ثلاث) وبيان هذه المقدّمات إجمالا قبل التفصيل ؛ هو أنّه لا بدّ في إثبات الحكم الشرعي بخبر الواحد أو بمطلق الخبر من اثبات المقدّمات الثلاث :

الاولى : إثبات أصل الصدور.

الثانية : إثبات جهة الصدور.

والثالثة : إثبات الدلالة والظهور.

وأنّ البحث المتكفل لأصل الصدور هو البحث عن حجّية خبر الواحد ؛ لأنّ البحث فيه هو بحث عن إثبات صدور السنّة بخبر الواحد ، فيبحث فيه عن أنّ صدور السنّة وهي قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره ، هل يثبت بخبر الواحد أم لا؟ فيكون البحث بحثا عن أحوال السنّة وبذلك يندرج في المسائل الاصولية.

فالحاصل من الجميع : أنّ محل النزاع هو البحث عن حجّية خبر الواحد الذي يكون في مقابل المتواتر على نحو الموجبة الجزئية ، ثم مرجع هذا البحث يكون إلى ثبوت السنّة به فيكون هذا البحث داخلا في المسائل الاصولية.

٤٣٤

وقد أشرنا إلى كون الجهة الثانية من المقدمة الثالثة من الظنون الخاصة وهو المعبّر عنه بالظهور اللفظي ، وإلى أنّ الجهة الاولى منها ممّا لم يثبت كون الظنّ الحاصل فيها بقول اللغوي من الظنون الخاصة وإن لم نستبعد الحجّية أخيرا.

____________________________________

ثمّ تقييد المصنّف رحمه‌الله إثبات الحكم الشرعي بالأخبار بالمقدّمات الثلاث ، ظاهر في أنّ إثبات الحكم الشرعي بالكتاب لا يتوقف على جميع المقدّمات الثلاث ، وذلك ؛ لأنّ الكتاب من حيث الصدور يكون قطعيا ، وأمّا من حيث وجه الصدور فأيضا يكون معلوما ، إذ لا يحتمل فيه التقيّة أصلا ، وإنّما هو لبيان الحكم الواقعيّ بالبداهة.

نعم ، التمسّك به يتوقف على المقدمة الثالثة فقط كما لا يخفى.

هذا إجمال الكلام في بيان ما يتوقف عليه إثبات الحكم الشرعي من المقدّمات إجمالا ، والتفصيل موجود في المتن إلّا أنّ المصنّف رحمه‌الله أخّر في مقام التفصيل المقدمة الاولى ، وقدّم المقدمة الثالثة ، وحاصل ما أفاده في المقدمة الثالثة ، هو أن هذه المقدمة تنحل إلى مقدمتين ، فيكون ما يتوقف عليه إثبات الحكم الشرعي من الأخبار امور أربعة :

الأوّل : صدور الأخبار من المعصومين عليهم‌السلام.

والثاني : أن يكون صدورها لبيان المراد الجدّي والحكم الواقعي لا لتقية.

والثالث : تعيين معاني ألفاظها وضعا.

والرابع : تعيين المراد منها ظهورا كأن يكون لفظ الصعيد في اللغة موضوعا لمطلق وجه الأرض مثلا ، وهذا الوضع يوجب ظهوره في مطلق وجه الأرض إذا ورد في الرواية ، فيتعيّن المعنى بالوضع اللغوي والمراد بالظهور اللفظي. وحينئذ ، إذا ورد في الرواية : تيمّموا بالصعيد ، لكان إثبات الحكم الشرعي ، وهو وجوب التيمّم على مطلق وجه الأرض متوقفا على الامور الأربعة المتقدمة.

ثمّ البحث عن المقدمة الثالثة بكلتا جهتيها قد تقدم تفصيله ، حيث قال المصنّف رحمه‌الله في السابق : إنّ الظنّ بمراد المتكلم الناشئ عن أصالة عدم القرينة يكون حجّة من باب الظن الخاص ، وتقدم منه البحث عن الجهة الاولى من المقدمة الثالثة ، حيث قال : إن تعيين أوضاع الألفاظ باللغة ممّا لم يثبت كون الظن فيها من الظنون الخاصة.

فالحاصل : أنّ ما ثبت اعتباره وحجّيته هو الظاهر ، وأمّا الظن بظهور اللفظ في المعنى

٤٣٥

وأمّا المقدّمة الثانية ، فهي ـ أيضا ـ ثابتة بأصالة عدم صدور الرواية لغير داعي بيان الحكم الواقعي ، وهي حجّة ، لرجوعها إلى القاعدة المجمع عليها بين العلماء والعقلاء ، من حمل كلام المتكلّم على كونه صادرا لبيان مطلوبه الواقعي ، لا لبيان خلاف مقصوده من تقيّة أو خوف ؛ ولذا لا تسمع دعواه ممّن يدّعيه إذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته.

____________________________________

فممّا لم يثبت اعتباره وحجّيته.

(وأمّا المقدمة الثانية ، فهي ـ أيضا ـ ثابتة بأصالة عدم صدور الرواية لغير داعي بيان الحكم الواقعي ...) إنّ صدور الأخبار والروايات لبيان الحكم الواقعي يكون ممّا تحقّقت عليه سيرة العقلاء على حمل الكلام الصادر من كل متكلّم على أنّه صادر لبيان المراد الجدّي ، لا لداع آخر كالسخرية والمزاح والامتحان من العقلاء ، أو كالتقية والخوف في الكلام الصادر عن المعصوم عليه‌السلام.

والحاصل أنّ الكلام ـ غالبا ـ يصدر من المتكلّم لبيان ما هو مراده الواقعي ، وقد يصدر لداع آخر كالمزاح والسخرية وغيرهما ، فما يدلّ من حال أو مقال على أن الكلام الصادر من متكلّم يكون لداع آخر لا لبيان مراده الجدي يؤخذ به ، وإلّا يحمل على كونه لبيان مراده الواقعي.

وكذلك في المقام ، إذا لم يكن هناك قرينة على كون الكلام صادرا عن المعصوم تقية يحمل على أنه صادر لبيان الحكم الواقعي ، (لا لتقية) وهو : خوف الإمام على شيعته ، (أو خوف) وهو خوفه عليه‌السلام على نفسه.

وفي بعض النسخ يكون (واو) بدل (أو) ، أي : (من تقية وخوف) ، فيكون الثاني عطفا تفسيريا للأول ، ويكون المراد من التقية والخوف ما هو الأعمّ من الخوف على نفسه وشيعته.

(ولذا لا تسمع دعواه ممّن يدّعيه) لكون مقتضى الأصل العقلائي هو صدور الكلام لبيان الواقع وما هو المراد الجدّي لا لمزاح وغيره ، ولذا لا يسمع من المتكلّم دعوى إرادة خلاف المقصود من ظاهر كلامه حينما يقول : لم يكن كلامي لبيان المراد الجدّي ، بل تكلّمت به مزاحا(إذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته) ، أي : المزاح ، ثم يقول المصنّف رحمه‌الله بعد بيان المقدمات الثلاث : إنّ محل النزاع هي المقدمة الاولى.

٤٣٦

أمّا المقدّمة الاولى ، فهي التي عقدت لها مسألة حجّية أخبار الآحاد ، فمرجع هذه المسألة إلى أنّ السنّة ، أعني : قول الحجّة أو فعله أو تقريره ، هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت إلّا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة؟.

ومن هنا يتّضح دخولها في مسائل اصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلّة ، ولا حاجة إلى تجشّم دعوى : أن البحث عن دليليّة الدليل بحث عن أحوال الدليل.

____________________________________

وقوله : (فمرجع هذه المسألة إلى أنّ السنة أعني : قول الحجّة أو فعله ، أو تقريره ، هل تثبت بخبر الواحد ... إلى آخره) دفع لما يرد على القول بانحصار موضوع علم الاصول في الأدلة الأربعة ، من خروج البحث عن حجّية خبر الواحد عن المسائل الاصولية ؛ لأنّ البحث فيه يكون عن أحوال حاكي السنّة لا عن أحوالها.

وحاصل الدفع : إنّ مرجع البحث في مسألة حجّية خبر الواحد إلى أنّ السنّة هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت إلّا بما يفيد القطع؟ فيكون البحث بحثا عن أحوال السنّة ، ويدخل هذا البحث في المسائل الاصولية.

هذا ملخّص ما إفادة المصنّف رحمه‌الله في هذا المقام دفعا للإشكال المذكور ، وأمّا ما يرد على كلامه رحمه‌الله ، فيكون خارجا عن مقتضى هذا الشرح ، إذ مقتضى هذا الشرح هو توضيح ما أفاده المصنّف رحمه‌الله لا ذكر ما يرد عليه.

(ومن هنا يتّضح دخولها في مسائل اصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة) ومن رجوع البحث في مسألة خبر الواحد إلى ثبوت السنة به يتضح دخول مسألة خبر الواحد في المسائل الاصولية الباحثة عن أحوال الأدلّة الأربعة ؛ لأنّ البحث فيها يكون عن عوارض وأحوال السنّة التي هي إحدى الأدلة الأربعة.

(ولا حاجة إلى تجشّم دعوى : أنّ البحث عن دليليّة الدليل بحث عن أحوال الدليل) ، إذ لا حاجة في إدخال مسألة خبر الواحد في المسائل الاصولية إلى تجشّم صاحب الفصول.

والمصنّف رحمه‌الله لم يذكر منشأ التجشّم الذي ارتكبه صاحب الفصول ، بل أشار إليه إجمالا ، فلا بأس بذكر منشئه ، ليتضح ما ذكره صاحب الفصول من التجشّم ، فنقول : إنّ صاحب الفصول بعد جعله موضوع علم الاصول خصوص الأدلّة الأربعة أورد على نفسه بخروج أكثر المسائل الاصولية عن كونها مسائل اصولية ، ودخولها في المبادئ التصوّرية ،

٤٣٧

ثمّ اعلم أنّ أصل وجوب العمل بالأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة ممّا اجمع عليه في هذه الأعصار ، بل لا يبعد كونه ضروريّ المذهب ، وإنّما الخلاف في مقامين :

____________________________________

فيكون هذا الإشكال منشأ للتجشّم.

وتقريب الإشكال : هو أنّ موضوع علم الاصول لو كان الأدلة بوصف كونها أدلة كان خبر الواحد بوصف كونه دليلا ، بحيث يكون هذا الوصف جزء الموضوع وكان جزؤه الآخر ذات الخبر ، لكان البحث عن حجّيته ودليليته بحثا عن وجود الموضوع ؛ لأنّ الموضوع مركّب ، والبحث عن جزئه يكون بحثا عن تحقّقه ووجوده. ومن المعلوم أنّ البحث عن وجود الموضوع يكون داخلا في المبادئ لا في المسائل ، هذا تمام الكلام في منشأ التجشّم.

وملخّص ما أجاب به عن الإشكال : هو أنّ الأدلة بذواتها من دون لحاظها مقيّدة بوصف كونها أدلة تكون موضوع علم الاصول ، ففي المثال المزبور يكون الموضوع ذات خبر الواحد من دون أن يكون وصف كونه دليلا قيدا وجزء للموضوع ، فيكون البحث عن حجّيته داخلا في المسائل الاصولية لأنّ الدليلية حينئذ تكون من العوارض ، فالبحث عنها داخل في المسائل الاصولية.

هذا ملخّص ما ارتكب صاحب الفصول من التجشّم والجواب ، ولمّا كان هذا الجواب غير مرضي عند المصنّف رحمه‌الله ردّه بقوله : ولا حاجة إلى تجشّم دعوى ... إلى آخره ، والوجه في عدم الحاجة إلى هذا التجشّم هو أنّ ظاهر الدليل ما هو المفروغ عن دليليّته لا ذات الدليل ، غاية الأمر الدليل في المقام هو السنّة التي تكون حجّيتها مسلّمة ، فيبحث في مسألة خبر الواحد عن ثبوتها به ، كما هو واضح في المتن.

ولا يقال : إنّ البحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد يرجع إلى البحث عن وجود السنّة ، فيدخل في المبادئ كما اعترف.

فإنّه يقال : إنّ الخبر لم يكن واسطة في الثبوت للسنة ، بل يكون واسطة في الإثبات في مرحلة الظاهر ، فلا يكون البحث بحثا عن وجود الموضوع ليكون داخلا في المبادئ.

(ثمّ اعلم أنّ أصل وجوب العمل بالأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة ... إلى آخره) ، هذا الكلام من المصنّف رحمه‌الله راجع إلى تحرير محل النزاع في المسألة ، وحاصله : إنّه لا نزاع ولا

٤٣٨

أحدهما : كونها مقطوعة الصدور أو غير مقطوعة ، فقد ذهب شرذمة من متأخّري الأخباريّين ، فيما نسب إليهم إلى كونها قطعيّة الصدور ، وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه إلّا التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم ، وإلّا فمدّعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه ، وقد كتبنا في سالف الزمان في ردّ هذا القول رسالة تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه وبيان ضعفها بحسب ما أدّى إليه فهمي القاصر.

____________________________________

خلاف في أصل وجوب العمل بالأخبار الموجودة في الكتب المعروفة ، فإنّ وجوب العمل بها يكون موردا للاتفاق مع قطع النظر عن كونها قطعية الصدور ، وعدم كونها كذلك ، وكونها ظنونا خاصة ، أو مطلقة ، وكونها أخبار آحاد أو متواترة ، أو آحادا مقرونة بالقرائن.

وبالجملة ـ مع قطع النظر عن هذه الاختلافات ـ يكون ما في الكتب المعروفة مرجعا للعلماء في الأحكام مع اختلاف مذاهبهم في العمل فيها ، فأصل وجوب العمل بها في الجملة يكون ممّا لا خلاف فيه (بل لا يبعد كونه) ، أي : وجوب العمل بها(ضروريّ المذهب) ، أي : شعار المذهب ، فلم تكن الضرورة هنا بمعناها الحقيقي ، حتى لا يكون غير العامل بها كافرا.

(وإنّما الخلاف في مقامين : أحدهما : كونها مقطوعة الصدور ، أو غير مقطوعة ... إلى آخره) ؛ لأنّ بعض الأخباريين كالمحدّث الأسترآبادي ، والشيخ الحر العاملي قدس‌سرهما ذهبا إلى كونها قطعية الصدور على ما نسب إليهما وهو باطل ، إذ لو كانت الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة مقطوعة الصدور لما كانت متعارضة ، ولم يبق مجال لبيان المرجّحات ، وأخبار العرض على الكتاب ، وغيرها من التوالي الفاسدة ، ومن يريد التفصيل فعليه بالمطولات.

ثمّ يقول المصنّف رحمه‌الله : (لا فائدة في بيانه والجواب عنه إلّا التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم) وفائدة ذكر هذا القول يكون منحصرا في أن لا يحصل هذا الوهم للآخرين كما حصل لهم (وإلّا فمدّعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه ... إلى آخره).

ولو قطعنا النظر عن الفائدة المذكورة ، وهي تنبيه الآخرين على بطلان هذا الوهم لئلّا يحصل لهم ، فلا فائدة اخرى لتعرض هذا القول ، إذ لا يؤثر لمن قطع بصدور هذه الأخبار

٤٣٩

الثاني : أنّها مع عدم قطعيّة صدورها معتبرة بالخصوص أم لا؟

فالمحكيّ عن السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسيّ وابن إدريس ، قدّس الله اسرارهم ، المنع وربّما نسب إلى المفيد قدس‌سره ، حيث حكي عنه في المعارج أنّه قال : «إنّ خبر الواحد القاطع للعذر ، هو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم وربّما يكون ذلك إجماعا أو شاهدا من عقل». وربّما ينسب إلى الشيخ ، كما سيجيء عند نقل كلامه ، وكذا إلى المحقق ، بل إلى ابن بابويه ، بل في الوافية : «إنّه لم يجد القول بالحجّيّة صريحا ممّن تقدّم على العلّامة» وهو عجيب.

وأمّا القائلون بالاعتبار فهم مختلفون ، من جهة أنّ المعتبر منها كلّ ما في الكتب الأربعة كما يحكى عن بعض الأخباريّين أيضا ، وتبعهم بعض المعاصرين من الاصوليّين بعد استثناء ما كان مخالفا للمشهور ؛ أو أنّ المعتبر بعضها وأنّ المناط في الاعتبار عمل الأصحاب كما يظهر من كلام المحقّق ، أو عدالة الراوي أو وثاقته أو مجرّد الظن بصدور الرواية من غير

____________________________________

بيان ضعف مبنى قطعه.

(الثاني : أنّها مع عدم قطعيّة صدورها معتبره بالخصوص أم لا؟ ... إلى آخره) ونسب إلى جماعة من العلماء عدم حجّية أخبار الآحاد كما هو المذكور في المتن.

وقد حكي عن المفيد رحمه‌الله (أنّه قال : إنّ خبر الواحد القاطع للعذر) ، أي : الحجّة (هو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم) ، يعني : إنّ خبر الواحد لا يكون حجّة إلّا أن يكون مفيدا للعلم بأن يكون مقرونا بقرينة يؤدّي التأمّل والنظر إليها إلى العلم ، ومعلوم أنّ الخبر المفيد للعلم ولو بالقرينة يكون خارجا عن محل النزاع لكونه حجّة بالاتّفاق (بل في الوافية : «إنّه لم يجد القول بالحجّية صريحا ممّن تقدّم على العلّامة» وهو عجيب) ، إذ قال صاحب الوافية : إنّه لم يجد التصريح بحجّية خبر الواحد ممّن تقدم على العلّامة ، فيكون هذا دليلا ولا أقل مؤيّدا على عدم الحجّية.

ثمّ يقول المصنّف رحمه‌الله : إنّ هذا القول من صاحب الوافية عجيب ، وكيف لا يكون عجيبا وكلمات من تقدّم على العلّامة مشحونة على التصريح بحجّية أخبار الآحاد؟!

(وأمّا القائلون بالاعتبار فهم مختلفون) ، بين القائل باعتبار كلّ ما في الكتب الأربعة ، وبين القائل باعتبار البعض ، ثمّ القائلون باعتبار البعض اختلفوا في مناط الاعتبار بأنّه هل

٤٤٠