دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

نعم ، صرّح غير واحد من المعاصرين في تلك المسألة فيما إذا اقتضى الأصلان حكمين يعلم بمخالفة أحدهما للواقع بجواز العمل بكليهما ، وقاسه بعضهم على العمل بالأصلين المتنافيين في الموضوعات ، لكن القياس فى غير محلّه ، لما تقدم من أن الاصول في الموضوعات حاكمة على أدلة التكليف ، فإنّ البناء على عدم تحريم المرأة لأجل البناء بحكم الأصل على عدم تعلّق الحلف بترك وطئها ، فهى خارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطء من حلف على ترك وطئها ، وكذا الحكم بعدم وجوب وطئها لأجل البناء على عدم الحلف

____________________________________

وبين الثلاث والأربع ، ولكن لم يستقر رأيهم على وجوب صلاة الاحتياط بركعتين ، فالقول بالفرق بين الشكّين في الحكم قول بالفصل ولا يصدق عليه الإجماع المركّب لانتفاء الاختلاف.

وبالجملة ، من يقول بعدم جواز خرق الإجماع المركّب أو بعدم القول بالفصل لكونهما موجبين لطرح قول الإمام عليه‌السلام ، يظهر من إطلاق منعه عدم جواز المخالفة الالتزامية كالعملية.

(نعم ، صرّح غير واحد من المعاصرين في تلك المسألة فيما إذا اقتضى الأصلان حكمين يعلم بمخالفة أحدهما للواقع بجواز العمل بكليهما).

هذا من المصنف رحمه‌الله ردّ لإطلاق القول بالمنع المتقدّم ، فحاصل ما صرّح به غير واحد هو جواز المخالفة الالتزامية ، فيجوز في المثال السابق التمسك بأصالة عدم وجوب الأرش مع ردّ الجارية ، ثم الحكم بجواز الردّ مجانا مع أن هذا الحكم مستلزم للمخالفة الالتزامية ، وكذا تجري أصالة عدم وجوب دفن الكافر ، وعدم حرمة دفنه مع أن هذا الحكم مخالف للواقع ومستلزم للمخالفة الالتزامية ، بل يكون مقتضى إطلاق هذا القول هو جواز المخالفة العملية أيضا.

(وقاسه بعضهم على العمل بالأصلين المتنافيين في الموضوعات).

يعني : كما أن العمل بالأصلين في الموضوعات كان جائزا كذلك العمل بالأصلين في الاحكام يكون جائزا ، قياسا لها على الموضوعات.

(لكن القياس في غير محلّه) لأنّه قياس مع الفارق ، وذلك لأن الأصل في الموضوعات مخرج لمجراه عن موضوع الحكم ، كما تقدّم مفصّلا ، هذا بخلاف ما في الأحكام حيث

١٤١

على وطئها ، فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطء من حلف على وطئها وهذا بخلاف الشبهة الحكمية ، فإنّ الأصل فيها معارض لنفس الحكم المعلوم بالإجمال وليس مخرجا لمجراه عن موضوعه حتى لا ينافيه جعل الشارع.

لكن هذا المقدار من الفرق غير مجد ، إذ اللازم من منافاة الاصول لنفس الحكم الواقعي ، حتى مع العلم التفصيلي ومعارضتها له ، هو كون العمل بالاصول موجبا لطرح الحكم الواقعي من حيث الالتزام.

فإذا فرض جواز ذلك ، لأنّ العقل والنقل لم يدلّا الّا على حرمة المخالفة العملية ، فليس الطرح من حيث الالتزام مانعا عن إجراء الاصول المتنافية في الواقع.

ولا يبعد حمل إطلاق كلمات العلماء فى عدم جواز طرح قول الإمام عليه‌السلام في مسألة الإجماع على طرحه من حيث العمل ، إذ هو المسلم المعروف من طرح قول الحجّة ، فراجع كلماتهم

____________________________________

يكون ما فيها منافيا للحكم الواقعي ، فلا يجري إذا كان مستلزما للمخالفة العملية.

(لكن هذا المقدار من الفرق غير مجد).

يعني : الفرق بما ذكر من أن الأصل في الموضوعات مخرج لمجراه عن موضوع الحكم الواقعي ، فيكون حاكما على دليل ذلك الحكم ، والأصل في الأحكام مناف لنفس الحكم غير مفيد ، إذ لا يوجب هذا الفرق عدم جواز جريان الأصل في الشبهة الحكمية ، إذ المانع من الأصل هو لزوم المخالفة العملية فلا تنافي بين الأصل وبين الحكم الواقعي.

ولا يلزم من إعمال الاصول في الشبهة الحكمية الّا مجرد المخالفة من حيث الالتزام فقط ، وهي لا تكون مانعة ، والّا لكانت مانعة عن جريانها في الشبهة الموضوعية أيضا ، والمخالفة الالتزامية تكون جائزة حتى مع العلم التفصيلي ، فكيف بالعلم الإجمالي؟! فلا تكون مانعة عن الاصول فلا مانع من الاصول ، لا في الشبهة الموضوعية ولا في الحكمية.

(ولا يبعد حمل إطلاق كلمات العلماء في عدم جواز طرح قول الإمام عليه‌السلام في مسألة الإجماع على طرحه من حيث العمل).

فيكون مقتضى ما أفاده المصنّف رحمه‌الله من حمل إطلاق المنع على طرح قول الإمام عليه‌السلام من حيث العمل عدم جواز المخالفة من حيث العمل ، فلا يجوز خرق الإجماع المركّب أو القول بالفصل إذا كان موجبا لطرح قول الإمام عليه‌السلام عملا لا التزاما.

١٤٢

فيما إذا اختلفت الامّة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل ، فان ظاهر الشيخ رحمه‌الله الحكم بالتخيير الواقعي ، وظاهر المنقول عن بعض طرحهما والرجوع إلى الأصل ، ولا ريب أن في كليهما طرحا للحكم الواقعي ، لأنّ التخيير الواقعي كالأصل حكم ثالث.

نعم ، ظاهرهم في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم الاتّفاق على عدم الرجوع إلى الإباحة وإن اختلفوا بين قائل بالتخيير وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة.

والانصاف أنه لا يخلو عن قوّة لأن المخالفة العمليّة التي لا تلزم في المقام هي المخالفة دفعة وفي واقعة عن قصد وعمد.

____________________________________

فنحمل إطلاق كلامهم بالمنع عن طرح قول الإمام عليه‌السلام على ما يكون منعه متيقّنا ، وهو طرحه عملا لأنّه طرح للحجّة فكلامهم وإن كان مطلقا الّا أن هذا الإطلاق ليس مرادا لهم ، كما يظهر من الرجوع إلى كلماتهم (فيما اذا اختلفت الامة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل) يفي.

فإن المستفاد ممّا هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله من الحكم بالتخيير الواقعي ، وظاهر المنقول عن بعض من طرحهما ، والرجوع إلى الأصل مطلقا هو طرح ما هو عند الإمام عليه‌السلام من الحكم الواقعي التزاما لأن الإمام عليه‌السلام يكون مع إحدى الطائفتين قطعا ، ثم القوم قد أفتوا على منع خرق الإجماع المركّب ، ومنع القول بالفصل لأن فيهما طرحا لقول الإمام عليه‌السلام ، فيعلم منه أن مرادهم من إطلاق المنع هو منع الطرح عملا لا التزاما.

(نعم ، ظاهرهم في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم الاتّفاق على عدم الرجوع إلى الإباحة).

فإن المستفاد من ظاهرهم في هذه المسألة هو حرمة طرح قول الإمام عليه‌السلام من حيث الالتزام كحرمته من حيث العمل لأنهم اتفقوا على عدم جواز الرجوع إلى الإباحة ، مع أن الإباحة لم تكن موجبة لطرح قول الإمام عليه‌السلام من حيث العمل.

(وإن اختلفوا بين قائل بالتخيير وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة) لكون دفع مفسدة الحرمة أولى من جلب المنفعة في الوجوب.

(والانصاف أنه لا يخلو عن قوّة).

يقول المصنّف رحمه‌الله : إن عدم جواز الرجوع إلى الإباحة لا يخلو عن قوّة ، ومن هنا يمكن

١٤٣

وأمّا المخالفة تدريجا وفي واقعتين فهي لازمة البتة ، والعقل كما يحكم بقبح المخالفة دفعة عن قصد وعمد كذلك يحكم بحرمة المخالفة في واقعتين تدريجا عن قصد إليها من غير تقييد بحكم ظاهريّ عند كل واقعة. وحينئذ فيجب بحكم العقل الالتزام بالفعل أو الترك ، إذ

____________________________________

أن يقال : إن ترجيح المصنّف رحمه‌الله هنا عدم جواز الرجوع إلى الإباحة ينافي ما تقدم منه من الحكم بجواز الرجوع إلى الإباحة ، وإن كان مستلزما للمخالفة الالتزامية ، فإنّه يقال : إن ترجيحه عدم الجواز هنا لا ينافي حكمه بالجواز سابقا.

وذلك لأن الرجوع إلى الإباحة المستلزم للمخالفة الالتزامية تارة : لا يؤدّي إلى المخالفة العملية ، واخرى : يؤدّي إلى ذلك ولو تدريجا.

فما تقدّم منه هو القسم الأول الذي لا يؤدّي إلى المخالفة العملية ، وما ذكره هنا من ترجيح عدم الجواز ناظر إلى القسم الثاني الذي يؤدّي إلى المخالفة العملية ولو تدريجا في واقعتين ، كالالتزام بإباحة دفن الكافر المردّد أمره بين الوجوب والحرمة ، فيدفنه المكلّف تارة ، ويتركه مرّة ثانية ، فيلزم من الفعل تارة والترك اخرى المخالفة العملية ، ثم العقل لا يفرق بين المخالفة دفعة ، وبينها تدريجا في الحكم بالقبح ، والحاصل أن عدم جواز الرجوع إلى الإباحة لا يخلو عن قوة لوجهين :

الوجه الأول : أنه يؤدّي إلى المخالفة العملية ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : (لأن المخالفة العملية ... إلى آخره).

والوجه الثاني ما سيأتي في كلامه حيث يقول : (ويمكن استفادة الحكم) يعني : وجوب الالتزام بأحدهما المخيّر ، فلازم التخيير هو عدم الرجوع إلى الإباحة ، بل يجب الالتزام بأحدهما المخيّر.

قوله : (من غير تقييد بحكم ظاهريّ عند كل واقعة) دفع لما يرد على ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من عدم جواز المخالفة العملية التدريجية.

وتقرير الإشكال أن ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من عدم جواز المخالفة العملية التدريجية مخالف لما ورد في الشرع من وقوع المخالفة التدريجية كتقليد المقلد تارة ممّن يفتي بوجوب صلاة الجمعة ، فيأتي بها مدّة طويلة ثم يقلّد ممّن يفتي بحرمتها ، فيتركها كذلك ، فيعلم بالمخالفة العملية لأنّها إن كانت واجبة فقد تركها وإن كانت محرمة ، فقد أتى بها.

١٤٤

في عدمه ارتكاب لما هو مبغوض للشارع يقينا عن قصد ، وتعدّد الواقعة إنّما يجدي مع الإذن من الشارع عند كل واقعة ، كما فى تخيير الشارع للمقلّد بين قولي مجتهدين تخييرا مستمرا يجوز معه الرجوع عن أحدهما إلى الآخر ، وأما مع عدمه فالقادم على ما هو مبغوض للشارع يستحق ـ عقلا ـ العقاب على ارتكاب ذلك المبغوض. أمّا لو التزم بأحد الاحتمالين قبح عقابه على مخالفة الواقع لو اتفقت.

ويمكن استفادة الحكم ـ أيضا ـ من فحوى أخبار التخيير عند التعارض ، لكن هذا الكلام لا يجري في الشبهة الواحدة التي لم تتعدّد فيها الواقعة ، حتى تحصل المخالفة العملية تدريجا.

____________________________________

وكذا ما ورد من الحكم بالتخيير في العمل بالخبرين اللذين دلّ أحدهما على وجوب شيء ، والآخر على حرمته ، فمقتضى التخيير أن المكلّف تارة يعمل بما دل على الوجوب فيأتي به ، واخرى يعمل بما دل على الحرمة فيتركه ، ثم يعلم بالمخالفة العملية ؛ إمّا لتركه واجبا أو لفعله حراما ، ثم هذا يتمّ على تقدير كون التخيير استمراريا لا ابتدائيا وغيرهما من الموارد.

والجواب عنه : إن المخالفة العملية التدريجية تكون محرمة إذا لم يرد إذن من الشارع فيها ، وفي هذه الموارد قد أذن الشارع بها ، فلا تكون محرمة ، وبعبارة اخرى : إنها محرّمة إذا لم يكن في موردها حكم ظاهري ، وأمّا إذا كان في موردها حكم ظاهري كوجوب عمل المقلّد بفتوى الشخصين في الزمانين ، فلا إشكال في جواز المخالفة العملية لإذن الشارع.

(وحينئذ فيجب بحكم العقل الالتزام بالفعل أو الترك).

يعني : حين حكم العقل بقبح المخالفة العملية التدريجية ، وعدم ثبوت إذن من الشارع بالأخذ بأحدهما كمورد التقليد يجب على المكلّف بحكم العقل الالتزام بالفعل أو الترك ما دام حيّا ، إذ في عدم الالتزام كذلك يقع فيما هو مبغوض عند الشارع من المخالفة العملية ، وتعدّد الواقعة لا يجدي في جواز المخالفة العملية التدريجية الّا مع إذن من الشارع ، وأمّا مع عدم الإذن فالقادم على ما هو مبغوض للشارع من المخالفة العملية التدريجية يستحقّ ـ عقلا ـ العقاب على ارتكاب ما هو المبغوض عنده.

قوله : (ويمكن استفادة الحكم) اشارة إلى الوجه الثاني الدال على عدم جواز الرجوع إلى

١٤٥

فالمانع في الحقيقة هي المخالفة العملية القطعية ولو تدريجا مع عدم التعبّد بدليل ظاهري ، فتأمّل جدا.

هذا كلّه فى المخالفة القطعية للحكم المعلوم اجمالا من حيث الالتزام ، بأن لا يلتزم به أو يلتزم بعدمه في مرحلة الظاهر إذا اقتضت الاصول ذلك.

وأمّا المخالفة العملية ، فإن كانت لخطاب تفصيلي فالظاهر عدم جوازها ، سواء كانت فى الشبهة الموضوعية ، كارتكاب الإنائين المشتبهين المخالف لقول الشارع : اجتنب عن

____________________________________

الإباحة.

فتقريب هذا الوجه هو أن الحكم بالتخيير في المقام يستفاد ممّا دلّ عليه في باب تعارض الخبرين اللذين يعلم بكذب أحدهما مع احتمال كذبهما معا ، فإذا ثبت التخيير هناك مع احتمال كذبهما ثبت في المقام بطريق أولى للقطع بكون أحدهما مطابقا للواقع.

ثم المراد بالتخيير في المقام هو التخيير الابتدائي لأنّ التخيير الاستمراري يؤدّي إلى المخالفة العملية التدريجية كالإباحة ، فلا معنى لترجيحه عليها.

(فتأمّل) لعلّه اشارة إلى عدم استفادة التخيير ممّا دلّ عليه في باب التعارض ، وذلك للفرق بين المقامين ، لأنّ التخيير في باب تعارض الخبرين يكون بين الحجّتين ، وهذا بخلاف المقام حيث يكون التخيير فيه بين الحكمين ، فيكون المقام خارجا عن باب التعارض ، فلا يدلّ ما دلّ على التخيير في باب التعارض عليه في المقام أصلا ، فضلا عن دلالته بالأولوية.

(وأمّا المخالفة العملية ، فإن كانت لخطاب تفصيلي فالظاهر عدم جوازها ... إلى آخره).

ثم المخالفة العملية لها أقسام لأن المخالفة تارة تكون لخطاب معين معلوم تفصيلا ، والاشتباه وقع في متعلّقه كما في كلام المصنّف رحمه‌الله ، واخرى تكون لخطاب مردّد بين الخطابين.

ثم الخطابان تارة يكونان من نوع واحد ككونهما تحريميين أو وجوبيين ، واخرى يكونان من نوعين كالوجوب والحرمة ، وعلى جميع الأقسام تارة تكون الشبهة حكمية واخرى موضوعية.

ثم يقول المصنّف بعدم جواز مخالفة الخطاب التفصيلي حيث قال : (فإن كانت لخطاب

١٤٦

النجس ، أو كترك القصر والإتمام في موارد اشتباه الحكم ، لأن ذلك معصية لذلك الخطاب ، لأنّ المفروض وجوب الاجتناب عن النجس الموجود بين الإنائين ، ووجوب صلاة الظهر والعصر ـ مثلا ـ قصرا أو إتماما ، وكذا لو قال : اكرم زيدا ، واشتبه بين شخصين ، فإنّ ترك إكرامهما معصية.

فإن قلت : إذا أجرينا أصالة الطهارة في كل من الإنائين وأخرجناهما عن موضوع النجس بحكم الشارع فليس في ارتكابهما ـ بناء على طهارة كل منهما ـ مخالفة لقول الشارع : اجتنب عن النجس.

____________________________________

تفصيلي فالظاهر عدم جوازها سواء كانت في الشبهة الموضوعية كارتكاب الإنائين المشتبهين المخالف لقول الشارع : اجتنب عن النجس).

فمقتضى خطاب الشارع : اجتنب عن النجس ، هو وجوب الاجتناب عنه سواء كان معلوما تفصيلا أو مردّدا بين الإنائين ومعلوما اجمالا ، فارتكاب الإنائين مخالفة للخطاب التفصيلي ، وهي محرّمة شرعا وقبيح عقلا بلا إشكال.

هذا في الشبهة الموضوعية ، وكذلك في الشبهة الحكمية كما أشار إليها(كترك القصر والإتمام في موارد اشتباه الحكم) بحيث تكون الشبهة حكمية ، كما إذا لم يعلم المكلّف أن وظيفته في السفر إلى أربعة فراسخ مع بقائه قبل الرجوع في آخر المسافة ليلا أو أكثر هل هي القصر أو الإتمام؟ فلا يجوز عليه ترك الصلاة أصلا ، بحيث لا يأتي بها لا قصرا ولا تماما لأنّه مخالفة لخطاب تفصيلي من الشارع وهو قوله : صلّ الظهر.

نعم ، الخطاب بوجوب القصر في السفر والتمام في الحضر يكون مردّدا بين الخطابين في مورد الاشتباه الّا أن مخالفتهما ترجع إلى مخالفة ما هو الجامع بينهما المعلوم تفصيلا ، فترجع المخالفة إلى مخالفة الخطاب التفصيلي.

ثم لا فرق في عدم جواز مخالفة الخطاب التفصيلي في الشبهة الموضوعية بين كونها تحريمية كمثال الإنائين. أو وجوبية كقول المولى لعبده : اكرم زيدا ، ثم اشتبه زيد بين الشخصين ، فإن ترك إكرامهما مخالفة للخطاب التفصيلي ، وهو : اكرم زيدا.

قوله : (فإن قلت : إذا أجرينا أصالة الطهارة ... إلى آخره) اشارة إلى اشكال يتوجّه عليه ممّا ذكر سابقا من أن الأصل في الشبهة الموضوعية يخرج مجراه عن موضوع التكليف ،

١٤٧

قلت : أصالة الطهارة في كل منهما بالخصوص إنّما توجب جواز ارتكابه من حيث هو ، وأمّا الإناء النجس الموجود بينهم فلا أصل يدل على طهارته ، لأنّه نجس يقينا ، فلا بدّ ؛ إمّا من اجتنابهما تحصيلا للموافقة القطعية ، وإمّا أن يجتنب أحدهما فرارا عن المخالفة القطعية ، على الاختلاف المذكور في محلّه.

هذا ، مع أن حكم الشارع بخروج مجرى الأصل عن موضوع المكلّف به الثابت بالأدلة الاجتهادية لا معنى له الّا رفع حكم ذلك الموضوع ، فمرجع أصالة الطهارة إلى عدم وجوب

____________________________________

فيكون حاكما على ما دلّ على ثبوت التكليف.

ففي المقام أصالة الطهارة في كل واحد من الإنائين تخرجهما عن موضوع ما دلّ على وجوب الاجتناب عن النجس ، فلا يكون في ارتكابهما بعد الحكم بطهارتهما بحكم من الشارع حيث قال : (كل شيء طاهر حتى تعلم أنّه نجس) (١) مخالفة عملية لقول الشارع : اجتنب عن النجس.

(قلت : أصالة الطهارة في كل منهما بالخصوص إنّما توجب جواز ارتكابه من حيث هو ... إلى آخره) وما أجاب به المصنّف يرجع إلى الجوابين :

الأول : أن الأصل في أطراف العلم الاجمالي يجري ، ولكن في كل طرف مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ، فيوجب جواز ارتكاب كل طرف مع قطع النظر عن الحكم المعلوم ، فالأصل لا يرفع ما هو النجس الموجود بينهما مع أن التكليف بوجوب الاجتناب قد تنجّز بالعلم الاجمالي ، فلا بدّ من الاجتناب عن كلا الإنائين تحصيلا للموافقة القطعية ، أو عن أحدهما فرارا من المخالفة القطعية ، فلا يجري الأصل للزوم المخالفة العملية.

ثم أشار إلى الجواب الثاني بقوله :

(هذا ، مع أن حكم الشارع بخروج مجرى الأصل ... إلى آخره).

هذا الجواب يرجع إلى الفرق بين الأصل الجاري في السابق في الشبهة الموضوعية ، مثل : أصل تعلّق الحلف بالوطء أو تركه ، وبين الأصل في المقام بعد تسليم شمول أدلة الاصول موارد العلم الإجمالي.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤. وفيه : (كل شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر ...).

١٤٨

الاجتناب المخالف لقوله : اجتنب عن النجس ، فافهم.

وإن كانت المخالفة مخالفة لخطاب مردّد بين خطابين ، كما إذا علمنا بنجاسة هذا المائع أو بحرمة هذه المرأة ، أو علمنا بوجوب الدعاء عند رؤية هلال رمضان ، أو بوجوب الصلاة عند ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي المخالفة القطعية حينئذ وجوه :

أحدها : الجواز مطلقا ، لأنّ المردد بين الخمر والأجنبية لم يقع النهي عنه في خطاب من الخطابات الشرعية حتى يحرم ارتكابه ، وكذا المردّد بين الدعاء والصلاة ، فإن الإطاعة

____________________________________

والفارق بينهما لزوم التناقض من اجراء الأصل في المقام دون السابق لأنّ مرجع الأصل في المقام هو عدم وجوب الاجتناب عن النجس المناقض لقول الشارع : اجتنب عن النجس ، فيكون هذا قرينة عقلية على تخصيص أدلة الاصول باخراج موارد العلم الإجمالي عنها.

(فافهم) لعلّه اشارة إلى دفع ما يتوهّم من أنّ المصنّف قد حكم في السابق بجواز إجراء الاصول في موارد العلم الإجمالي ، فكيف يقول في المقام بعدم جوازه؟ ثم تقريب الدفع هو الفرق بين المقام وبين ما سبق من حيث وجود المانع وعدمه ، والمانع الذي هو لزوم المخالفة العملية موجود في المقام دون السابق.

(وإن كانت المخالفة لخطاب مردّد بين خطابين ، كما إذا علمنا بنجاسة هذا المائع أو بحرمة هذه المرأة ، أو علمنا بوجوب الدعاء عند رؤية هلال رمضان ، أو بوجوب الصلاة عند ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي المخالفة القطعية حينئذ وجوه).

فالشبهة في مورد تردّد الخطاب بين الخطابين تارة تكون موضوعية ، كما أشار إليها بقوله : كما إذا علمنا بنجاسة هذا المائع أو بحرمة هذه المرأة ، واخرى حكمية كما أشار إليها بقوله : أو علمنا بوجوب الدعاء عند رؤية هلال رمضان ، أو بوجوب الصلاة عند ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي المثال الأول لا يعلم المكلّف بأنه مخاطب بخطاب : اجتنب عن النجس ، أو بخطاب : اجتنب عن الأجنبية ، وفي المثال الثاني لا يعلم بأن ما توجّه إليه من الخطاب هو خطاب : اقرأ الدعاء عند رؤية الهلال ، أو خطاب : صلّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي المخالفة القطعية ـ حينئذ ـ كما يقول المصنّف رحمه‌الله وجوه أربعة :

(أحدها : الجواز مطلقا).

١٤٩

والمعصية عبارة عن موافقة الخطابات التفصيلية ومخالفتها.

الثاني : عدم الجواز مطلقا ، لأن مخالفة الشارع قبيحة ـ عقلا ـ مستحقّة للذمّ عليها ، ولا يعذر فيها الّا الجاهل بها.

____________________________________

أي : سواء كانت الشبهة موضوعية أو حكمية وسواء كان الخطابان من نوع واحد أو من نوعين ، ثم الوجه في ذلك أن الشك في كل خطاب في أطراف العلم الإجمالي يرجع إلى الشك البدوي ، والرجوع إلى البراءة في الشك البدوي مسلّم عند الاصوليين ، وبيان كون الشك بدويا لأن المفروض هو عدم العلم بوجود أحد الخطابين بالخصوص في مورد العلم الإجمالي ، والعقل لا يحكم بوجوب الإطاعة الّا بعد علم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه مفصلا.

وببيان آخر : إن تنجّز التكليف يتوقف على أمرين :

الأمر الأول : هو ثبوت الخطاب الواقعي من الشارع حتى تتحقّق الكبرى الكلّية الشرعية كقول الشارع : اجتنب عن الخمر ، بمعنى كل خمر يجب الاجتناب عنه.

الأمر الثاني : هو ثبوت الصغرى وضمّها إلى تلك الكبرى المعلومة تفصيلا أو إجمالا ، حتى يقال في الأول : هذا المائع المعيّن خمر ، وكل خمر يجب الاجتناب عنه ، ويقال في الثاني : الخمر موجود ومعلوم إجمالا في الإنائين المشتبهين ، وكل خمر يجب الاجتناب عنه ، فالنتيجة هي وجوب الاجتناب عن الإنائين المشتبهين لوجود الخمر فيهما.

وهذا بخلاف ما إذا كان المشتبه خطابا مردّدا بين الخطابين كقول الشارع : اجتنب عن النجس ، أو اجتنب عن هذه المرأة ، فالصغرى فيه لم تكن معلومة إجمالا ، إذ لم تكن الصغرى ؛ إمّا هذا المائع نجس أو ذاك المائع ، وإمّا هذه المرأة أجنبية أو تلك المرأة حتى تكون معلومة إجمالا ، فلم تكن الصغرى معلومة إجمالا في المقام ، ثم لم يرد في الشرع خطاب كان متعلّقا بالمردّد بين النجاسة والأجنبية حتى تكون معلومة تفصيلا لأنّ العنوان المردّد يكون معلوما تفصيلا.

(الثاني : عدم الجواز مطلقا) قد علم وجه الإطلاق في الوجه الأول.

والوجه فيه أنّ العقل بعد إدراكه الإرادة الحتمية من الشارع بفعل شيء أو تركه سواء كانت معلومة بالتفصيل أو الإجمال يحكم بقبح المخالفة القطعية ، فلا تجوز مخالفة

١٥٠

الثالث : الفرق بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، فيجوز في الاولى دون الثانية ، لأنّ المخالفة القطعية في الشبهات الموضوعية فوق حدّ الإحصاء ، بخلاف الشبهات الحكمية ، كما يظهر من كلماتهم في مسائل الإجماع المركّب. وكان الوجه ما تقدّم من أن الاصول في الموضوعات تخرج مجاريها عن موضوعات أدلة التكليف ، بخلاف الاصول في الشبهات الحكمية ، فإنّها منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا.

وقد عرفت ضعف ذلك ، وأن مرجع الإخراج الموضوعي إلى رفع الحكم المترتّب على ذلك ، فيكون الأصل في الموضوع في الحقيقة منافيا لنفس الدليل الواقعي الّا أنّه حاكم عليه

____________________________________

الشارع وأمّا ما ذكر في الوجه الأول من رجوع الشك إلى الشك البدوي فمردود ، إذ العلم الإجمالي موجود وجدانا ، فكيف يعقل أن يكون الشك في مورده شكا بدويا؟!

(الثالث : الفرق بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، فيجوز في الاولى دون الثانية).

فلا بدّ من إثبات الفرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية.

ثم قال المصنّف رحمه‌الله في الفرق بينهما : (لأن المخالفة القطعية في الشبهات الموضوعية فوق حدّ الإحصاء ، بخلاف الشبهات الحكمية).

فلا بدّ من إثبات وقوع المخالفة العملية في الشبهات الموضوعية ، فيشير المصنّف إليه بقوله : (وكان الوجه ما تقدّم من أن الاصول في الموضوعات تخرج مجاريها عن موضوعات أدلة التكليف) ثم يردّه بقوله : (وقد عرفت ضعف ذلك).

حيث تقدم منه قوله : فمرجع أصالة الطهارة إلى عدم وجوب الاجتناب المخالف ، أي : المناقض لقوله : اجتنب عن النجس ، فلا يجري الأصل في الشبهة الموضوعية.

ثم لعلّ نظر الفارق يكون إلى ما تقدّم من جواز مخالفة العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي ، حيث كانت هذه الموارد من الشبهات الموضوعية ، ويردّه توجيه المصنّف هذه الموارد بالالتزام على أحد الامور على نحو منع الخلوّ.

نعم ، عدم جواز المخالفة في الشبهات الحكمية لا إشكال فيه (كما يظهر من كلماتهم في مسائل الإجماع المركّب) حيث حكموا في هذه المسائل بعدم جواز خرق الإجماع ، وعدم جواز القول بالفصل ، وذلك لعدم جواز طرح الحكم الواقعي المعلوم إجمالا بين القولين.

١٥١

لا معارض له ، فافهم.

الرابع : الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع كوجوب أحد الشيئين ، وبين اختلافه كوجوب الشيء وحرمة آخر.

والوجه في ذلك أن الخطابات في الواجبات الشرعية بأسرها في حكم خطاب واحد بفعل الكل ، فترك البعض معصية عرفا ، كما لو قال المولى : افعل كذا وكذا وكذا ، فإنّه بمنزلة : افعلها جميعا ، فلا فرق في العصيان بين ترك واحد منها معيّنا أو واحد غير معيّن عنده.

نعم ، في وجوب الموافقة القطعية بالإتيان بكل واحد من المحتملين كلام آخر مبنيّ على أن مجرد العلم بالحكم الواقعي يقتضي البراءة اليقينية العلمية عنه ، أو يكتفى بأحدهما حذرا عن المخالفة القطعية التي هي بنفسها مذمومة عند العقلاء ، وتعدّ معصية عندهم وإن لم يلتزموا الامتثال اليقيني لخطاب مجمل.

____________________________________

قوله : (إنّه) أي : الأصل (حاكم عليه) اشارة إلى بيان الفرق بين الأصل في الشبهة الموضوعية وبينه في الشبهة الحكمية ، حيث تكون الاصول في الاولى حاكمة عليه ، أي : على الدليل الدال على ثبوت التكليف ، فيكون الأصل نافيا للموضوع ، والأصل في الشبهة الحكمية يكون مناقضا للدليل الدال على ثبوت الحكم الواقعي ، فيكون معارضا له.

(فافهم) لعلّه اشارة إلى عدم الفرق بين الأصل في الشبهة الموضوعية والحكمية من جهة كونه موجبا للمخالفة العملية في كلتا الشبهتين ، فلا يجري الأصل فيهما لوجود مانع ، وهو لزوم المخالفة العملية.

(الرابع : الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع كوجوب أحد الشيئين ، وبين اختلافه كوجوب الشيء وحرمة آخر).

والوجه لهذا التفصيل أن الخطابات الشرعية فيما إذا كانت متّحدة بالنوع ترجع إلى خطاب واحد تفصيلي منتزع عنها ، ففي الواجبات قول الشارع : افعل الصلاة وافعل الصوم ، وهكذا يرجع إلى : افعلها ، وقوله في المحرمات يرجع إلى : لا تفعلها ، فتكون مخالفة أحدها مستلزمة لمخالفة الخطاب التفصيلي الجامع لها.

فتحقّق المعصية والمخالفة لأن المعصية في مذهب هذا المفصّل هي مخالفة الخطاب التفصيلي والإطاعة هي موافقته ، وهذا بخلاف ما اذا كانت الخطابات مختلفة بالنوع فيبقى

١٥٢

والأقوى من هذه الوجوه هو الوجه الثاني ، ثم الأول ، ثم الثالث ، ثم الرابع. هذا كلّه في اشتباه الحكم من حيث الفعل المكلّف به.

وأمّا الكلام في اشتباهه من حيث الشخص المكلّف بذلك الحكم فقد عرفت أنه يقع تارة في الحكم الثابت لموضوع واقعي مردّد بين شخصين ، كأحكام الجنابة المتعلّقة بالجنب المردّد بين واجدي المني ، وقد يقع في الحكم الثابت لشخص من جهة تردّده بين موضوعين ، كحكم

____________________________________

الخطاب فيها مرددا بين الخطابين لعدم الجامع بينهما.

ويمكن ردّ هذا الوجه بأن يقال : هل تكون معصية كل واحد منها فيما إذا كانت متّحدة بالنوع معصية لما هو مطلوب الشارع أم لا تكون كذلك؟

فعلى الأول نقول : إن الأمر كذلك فيما إذا كانت مختلفة بحسب النوع.

وعلى الثاني : يلزم الخلف عند المفصّل لأنّه يقول بأن مخالفة كل خطاب مستلزمة لمعصية ما هو المطلوب عند الشارع.

(والأقوى من هذه الوجوه هو الوجه الثاني ، ثم الأول ، ثم الثالث).

ويظهر وجه كون الثاني أقوى عند المصنّف ممّا تقدم منه من عدم تجويزه المخالفة العملية لأنها قبيحة عقلا ، ولا يعذر فيها شرعا الّا الجاهل بها جهلا بسيطا ، ثم ضعّف الوجه الأول ، والثالث ، والرابع ، وقد تقدّم مفصلا فلا يحتاج إلى التكرار.

نعم ، على تقدير بطلان الوجه الثاني ، فالأقوى هو الوجه الأول ، يعني : جواز المخالفة مطلقا لأن العقل لا يفرّق بين كون الشبهة حكمية وبين كونها موضوعية ، ولا بين المتّحد بالنوع والمختلف به.

ثم الثالث ، يعني : على تقدير بطلان الأول والثاني ، فالأقوى التفصيل بين الشبهة الموضوعية ، فيقال فيها بجواز المخالفة العملية لأن الاصول فيها تكون حاكمة على أدلة التكاليف بخلاف الشبهات الحكمية.

ثم الوجه الرابع فباطل جدّا لأن الاختلاف غير مجد ، فإنّ المختلف بالنوع ـ أيضا ـ يرجع إلى خطاب واحد تفصيلي هو (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(١) فافهم!

__________________

(١) النساء : ٥٩.

١٥٣

الخنثى المردّد بين الذكر والانثى.

أمّا الكلام في الأول فمحصّله : أن مجرد تردّد التكليف بين شخصين لا يوجب على أحدهما شيئا.

إذ العبرة في الإطاعة والمعصية بتعلّق الخطاب بالمكلّف الخاص ، فالجنب المردّد بين شخصين غير مكلّف بالغسل وإن ورد من الشارع أنه يجب الغسل على كل جنب ، فإن كلّا منهما شاكّ في توجّه هذا الخطاب إليه ، فيقبح عقاب واحد من الشخصين يكون جنبا بمجرد هذا الخطاب غير الموجّه إليه.

نعم ، لو اتّفق لأحدهما أو لثالث علم بتوجّه الخطاب إليه دخل في اشتباه متعلّق التكليف الذي تقدّم حكمه بأقسامه.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض فروع المسألة ، ليتّضح انطباقها على ما تقدّم في العلم الإجمالي بالتكليف :

____________________________________

(وأمّا الكلام في اشتباهه من حيث الشخص المكلّف بذلك الحكم ... إلى قوله : وأمّا الكلام في الأول).

فيقول المصنّف رحمه‌الله : مجرد تردّد المكلّف بين شخصين لا يوجب على أحدهما شيئا ، بمعنى أن العلم الإجمالي بجنابة أحدهما لا يوجب غسلا ، إذ العقل يحكم بقبح المؤاخذة من الشارع ما لم يعلم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه ، ومن الضروري أن كلّ واحد من واجدي المني في الثوب المشترك لا يعلم بتوجّه التكليف إليه ، بل شاكّ به ، فإذا ترك الغسل لا يعلم كل واحد منهما أنّه خالف ما دلّ على وجوب الغسل للجنابة أم لا؟

نعم ، يعلم إجمالا بأن أحدهما قد خالف ما دلّ على وجوب الغسل ، وهذا العلم لا يكون مانعا من الرجوع إلى البراءة لأنّ العلم الإجمالي يوجب تنجّز التكليف فيما لم يكن أحد الأطراف خارجا عن محل الابتلاء ، والتكليف على كل تقدير كان متوجّها إلى المكلّف.

وفي المقام يكون أحد الأطراف ، وهو جنابة غيره خارجا عن محل الابتلاء فلا يتخير التكليف ، كما اشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : (إذ العبرة في الإطاعة والمعصية بتعلّق الخطاب بالمكلّف الخاص) المعيّن ، والمفروض في المقام أن كلّا منهما شاكّ بتوجّه الخطاب إليه ،

١٥٤

فمنها : حمل أحدهما الآخر وإدخاله في المسجد للطواف أو لغيره ، بناء على تحريم إدخال الجنب أو إدخال النجاسة غير المتعدّية.

فإن قلنا : إن الدخول والإدخال متحقّقان بحركة واحدة دخل في المخالفة المعلومة تفصيلا ، وإن تردّد بين كونه من جهة الدخول أو الإدخال.

وإن جعلناهما متغايرين في الخارج كما في الذهن ، فإن جعلنا الدخول والإدخال راجعين إلى عنوان محرّم واحد ، وهو القدر المشترك بين إدخال النفس وإدخال الغير ، كان من المخالفة المعلومة للخطاب التفصيلي ، نظير ارتكاب المشتبهين بالنجس.

____________________________________

فيجري الأصل من دون معارض.

والحاصل أنّ الجنب الذي تعلّق به الخطاب غير متعيّن ، وما هو متعيّن ، أعني : الجنب المردّد ليس بمتعلّق للخطاب شرعا لأن الخطاب في الشرع لم يتعلّق بالمردّد حتى يكون الجنب المردّد بين الشخصين متعلّقا للخطاب حتى يكون الغسل واجبا على كل واحد منهما لكونه مصداقا.

(فمنها : حمل أحدهما الآخر وإدخاله في المسجد للطواف أو لغيره).

يعني : ومن الفروع التي يتفق لأحدهما فيها العلم بتوجّه الخطاب إليه هو ما إذا حمل أحدهما الآخر المذكور في كلام المصنّف رحمه‌الله ، ثم العلم بتوجّه الخطاب إلى أحدهما في هذه المسألة موقوف على امور ذكرها المصنّف رحمه‌الله :

منها : تحريم إدخال الجنب أو النجاسة غير المتعدّية في المسجد.

ومنها : كون الجنابة مانعا واقعيا لا مانعا علميا.

ومنها : بأن لا يكون الحكم الظاهري في حقّ أحدهما نافذا في حقّ الآخر.

ومنها : تحقّق الإدخال والدخول بحركة واحدة ، وهي وضع القدم في المسجد.

فبعد هذه الامور يعلم المكلّف تفصيلا بحرمة الحركة ؛ إمّا من جهة كونها دخولا أو إدخالا ، فهذا الحمل أي : حمل أحدهما الآخر(دخل في المخالفة المعلومة تفصيلا).

(وإن جعلناهما متغايرين في الخارج كما في الذهن).

يعني : إن جعلنا الدخول والإدخال فعلين متعدّدين متغايرين في الخارج كما يكونا متغايرين مفهوما في الذهن ، فيقال إنّ هذه الحركة ليست الّا الدخول ، وأمّا الإدخال فهو

١٥٥

وإن جعلنا كلّا منهما عنوانا مستقلا دخل في المخالفة للخطاب المعلوم بالإجمال ، الذي عرفت فيه الوجوه المتقدّمة ، وكذا من جهة دخول المحمول واستيجاره الحامل مع قطع النظر عن حرمة الدخول والإدخال عليه ، أو فرض عدمها ، حيث إنّه علم إجمالا بصدور أحد المحرّمين ؛ إمّا دخول المسجد جنبا أو استيجار جنب للدخول في المسجد.

الّا أن يقال بأنّ الاستيجار تابع لحكم الأجير ، فإذا لم يكن هو في تكليفه محكوما بالجنابة ، وابيح له الدخول في المسجد ، صحّ استيجار الغير له.

____________________________________

يكون من لوازمه ، فالحامل يعلم إجمالا حرمة أحدهما ، وحينئذ تارة نقول : إن الدخول والإدخال يكونان راجعين إلى عنوان محرّم واحد ، واخرى لا يكونان كذلك ، بل هما عنوانان مستقلان ، فإن جعلناهما من القسم الأول ، فيكون ما هو المحرم هو القدر المشترك بين إدخال النفس وإدخال الغير ، فيكون الفعلان من المخالفة المعلومة بالخطاب التفصيلي ، وهو قول الشارع : لا تدخل الجنب في المسجد ، فتكون معصية بلا شك.

وعلى الثاني كما أشار اليه المصنّف بقوله : (وإن جعلنا كلّا منهما عنوانا مستقلا دخل في المخالفة للخطاب المعلوم بالإجمال ، الذي عرفت فيه الوجوه) الأربعة (المتقدّمة).

يعني : إن الدخول والإدخال كما يكونان متغايرين مصداقا ومفهوما كذلك لا يرجع كلاهما إلى عنوان واحد ، بل هما عنوانان مستقلان ، كالنجاسة والأجنبية ، دخل الفعلان في المخالفة للخطاب المعلوم بالإجمال كقول الشارع فرضا : اجتنب عن الدخول ، أو اجتنب عن الإدخال ، فيحصل للحامل العلم اجمالا بمخالفة أحد الخطابين.

(وكذا من جهة المحمول واستيجاره الحامل مع قطع النظر عن حرمة الدخول والإدخال عليه أو فرض عدمها).

يعني : إن المحمول يعلم بارتكاب الحرام إمّا من جهة دخول المسجد جنبا ، أو استيجاره جنبا ، فيعلم بمخالفة الخطاب المردّد بين الخطابين ، أي : اجتنب عن الدخول جنبا في المسجد ، أو اجتنب عن استيجار الجنب للدخول في المسجد.

(الّا أن يقال بأن الاستيجار تابع لحكم الأجير).

بمعنى أنه من جاز له الدخول في المسجد في حدّ نفسه جاز للغير ـ أيضا ـ استيجاره ، ومن المعلوم أنّ الأجير في المقام يجوز له الدخول في المسجد لأنّه شاكّ في كونه جنبا ،

١٥٦

ومنها : اقتداء الغير بهما في صلاة أو صلاتين ، فإن قلنا بأن عدم جواز الاقتداء من أحكام الجنابة الواقعية كان الاقتداء بهما في صلاة واحدة موجبا للعلم التفصيلي ببطلان الصلاة ، والاقتداء بهما في صلاتين من قبيل ارتكاب الإنائين ، والاقتداء بأحدهما في صلاة واحدة كارتكاب أحد الإنائين.

وإن قلنا : إنّه يكفي في جواز الاقتداء عدم جنابة الشخص في حكم نفسه ، صحّ الاقتداء في صلاة ، فضلا عن صلاتين ، لأنّهما طاهران بالنسبة إلى حكم الاقتداء.

____________________________________

فمقتضى أصل البراءة يجوّز له الدخول فصحّ للغير استيجاره.

(ومنها : اقتداء الغير بهما في صلاة أو صلاتين).

اقتداء الغير بهما في صلاة واحدة ، كما إذا اقتدى بأحدهما فحدث له حادث في أثناء الصلاة ، فاقتدى بالآخر ، والاقتداء بالصلاتين واضح لا يحتاج إلى البيان.

(فإن قلنا بأن عدم جواز الاقتداء من أحكام الجنابة الواقعية كان الاقتداء بهما في صلاة واحدة موجبا للعلم التفصيلي ببطلان الصلاة).

يعني : بطلان الصلاة مبني على أمرين :

الأول : أن تكون الجنابة مانعا واقعيا لا علميا. بمعنى أن وجود الجنابة يمنع من الصلاة وإن لم يعلم المكلّف به.

والثاني : بأن لا يكون الحكم الظاهري في حقّ أحد نافذا في حقّ الآخر.

وبعد هذين الأمرين يعلم المكلّف تفصيلا ببطلانها لوقوعها في حال الجنابة ، فيكون من قبيل شرب المائع الذي يعلم بحرمته تفصيلا ؛ إمّا لكونه خمرا أو غصبا.

(والاقتداء بهما في صلاتين من قبيل ارتكاب الإنائين).

يعني : يعلم المكلّف ببطلان إحداهما لوقوعهما حال الجنابة ، فيكون من قبيل ارتكاب الإناءين لعلمه بحرمة أحدهما.

(والاقتداء بأحدهما في صلاة واحدة كارتكاب أحد الإنائين).

يعني : يكون كارتكاب أحد الإنائين ، فيشك في صحتها فيحكم بالاشتغال ، والإتيان بها ثانيا.

(وإن قلنا : إنّه يكفي في جواز الاقتداء عدم جنابة الشخص في حكم نفسه ، صحّ

١٥٧

والاقوى هو الأول ، لأن الحدث مانع واقعي لا علمي.

نعم ، لا إشكال في استيجارهما لكنس المسجد ، فضلا عن استيجار أحدهما ، لأن صحّة الاستيجار تابعة لإباحة الدخول لهما لا للطهارة الواقعية ، والمفروض إباحته لهما ، وقس على ما ذكرنا جميع ما يرد عليك مميّزا بين الأحكام المتعلّقة بالجنب من حيث الحدث الواقعي ، وبين الأحكام المتعلّقة بالجنب من حيث إنّه مانع ظاهري للشخص المتّصف به.

وأما الكلام في الخنثى :

____________________________________

الاقتداء).

يعني : لو قلنا بأن الحكم الظاهري في حقّ كلّ أحد نافذ في حقّ الآخر ، بمعنى أن الجنابة مانع علمي لا واقعي صحّ الاقتداء بهما في صلاة واحدة ، فضلا عن صلاتين.

(والأقوى هو الأول) أي : عدم جواز الاقتداء لأن الحدث مانع واقعي لا علمي (نعم ، لا إشكال في استيجارهما لكنس المسجد ، فضلا عن استيجار أحدهما) لأن الحدث في باب الاستيجار مانع علمي ، فيجوز استيجارهما معا لعدم علمهما بالحدث الأكبر ، بل كلّ منهما شاكّ في جنابته فتجري أصالة عدم الحدث.

ثم يقول المصنّف رحمه‌الله : (وقس على ما ذكرنا جميع ما يرد عليك مميّزا بين الأحكام المتعلّقة بالجنب من حيث الحدث الواقعي) كمسألة الاقتداء(وبين الأحكام المتعلّقة بالجنب من حيث إنه مانع ظاهري) وعلمي كما في مسألة الاستيجار.

فالمتحصّل من الجميع هو جواز استيجار أحدهما الآخر لإدخاله في المسجد ، أو استيجار ثالث لهما لكنس المسجد ، لأن المانع في هذه الموارد هو الحدث المعلوم تفصيلا ، وعدم جواز اقتداء أحدهما بالآخر ، وكذا عدم اقتداء ثالث بهما لأن المانع في هذه الموارد هو الحدث الواقعي لا العلمي.

(وأمّا الكلام في الخنثى ... إلى آخره) وقبل الخوض في البحث لا بدّ من تحرير محل النزاع ، ويتضح ذلك بعد بيان أمرين :

الأمر الأول : أن الخنثى التي تكون واجدة لآلتي الذكورية والانوثية تكون على قسمين : إحداهما مشكلة ، وثانيتهما غير مشكلة. ثم الثانية ، وهي التي يمكن تمييزها بسبب خروج البول من أحد المخرجين ، أو سبقه عنه ، أو تأخّر انقطاع البول من أحدهما ، أو بعدّ

١٥٨

فيقع تارة : في معاملتها مع غيرها من معلوم الذكورية والانوثية أو مجهولهما ، وحكمها بالنسبة إلى التكاليف المختصّة بكل من الفريقين.

وتارة : في معاملة الغير معها ، وحكم الكل يرجع إلى ما ذكرنا في الاشتباه المتعلّق بالمكلّف به.

____________________________________

الاضلاع تكون خارجة عن محل النزاع.

والاولى : وهي التي لا يمكن تمييزه أصلا تكون محل الكلام والبحث.

والأمر الثاني : وهو أن لا تكون طبيعة ثالثة والّا تكون خارجة عن محل الكلام ، لعدم شمول الخطابات المختصة بالرجال أو النساء لها حتى يبحث عن كونها داخلة في الرجال أو النساء ، فاتضح أن محل النزاع هو الخنثى المشكلة إذا لم تكن طبيعة ثالثة.

(فيقع تارة : في معاملتها مع غيرها من معلوم الذكورية والانوثية أو مجهولهما).

والحاصل أن البحث في الخنثى يقع في ثلاثة موارد :

المورد الأول : معاملتها مع غيرها ، بمعنى جواز نظرها إلى غيرها والتناكح معه ، وغيرهما ، أو عدم الجواز.

المورد الثاني : في (حكمها بالنسبة إلى التكاليف المختصّة بكل من الفريقين).

أي : الرجال ، والنساء ، وأمّا مختصّات الرجال ، فهي : كوجوب الجهر في الصلاة الجهرية ، وحضور صلاة الجمعة ، والجهاد وغيرها ، وأما مختصّات النساء فهي : كالاخفات في الصلاة الجهرية ، وستر ما يجب ستره للنساء ، ولبس الحرير وغيرها.

المورد الثالث : هو معاملة الغير معها.

(وحكم الكل يرجع إلى ما ذكرنا في الاشتباه المتعلّق بالمكلّف به).

يعني : حكم جميع الموارد المذكورة يرجع إلى اشتباه الحكم من حيث المكلّف به ، فيكون مقتضى القاعدة هو الاحتياط كما تقدم في الاشتباه المتعلّق بالمكلّف به ، وذلك لأن نفس التكاليف في المقام معلومة تفصيلا ، ولكنّها لا تعلم بما هو وظيفتها ، هل هي وظائف الرجال أو وظائف النساء؟ لكونها مردّدة بين الرجال والنساء ، فإن كانت رجلا يكون المكلّف به في حقّها هو المكلّف به في حقّه ، وإن كانت امرأة يكون المكلّف به في حقّها هو ما للنساء.

١٥٩

أمّا معاملتها مع الغير ، فمقتضى القاعدة احترازها عن غيرها مطلقا للعلم الإجمالي بحرمة نظرها إلى إحدى الطائفتين ، فتجتنب عنهما مقدمة.

وقد يتوهّم : أن ذلك من باب الخطاب الإجمالي ، لأن الذكور مخاطبون بالغضّ عن الإناث

____________________________________

(أمّا معاملتها مع الغير ، فمقتضى القاعدة احترازها عن غيرها مطلقا ... إلى آخره).

وفي هذه المسألة احتمالات ، بل أقوال لا يخلو ذكرها عن فائدة :

منها : تعيين ذكوريتها وانوثيتها بالقرعة.

ومنها : وجوب الاحتياط في جميع الموارد التي يعلم إجمالا بتوجّه خطاب أحد الفريقين إليها ، فيجب عليها الاجتناب عن لبس الحرير ، وعن النظر إلى المرأة وغيرهما ممّا يكون حراما على الرجال والنساء ، وكذا يجب عليها تكرار الصلاة الجهرية بإتيانها تارة عن جهر ، واخرى عن اخفات ، ويجب عليها حضور صلاة الجمعة والجهاد وغيرهما ممّا يكون واجبا على الرجال والنساء.

ومنها : العمل بأصالة البراءة في جميع الموارد ، وهذا مبني على عدم تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي.

ومنها : الفرق بين معاملتها مع غيرها ، وبين معاملة الغير معها ، فيقال :

إن مقتضى القاعدة في المسألة الاولى هو الاحتياط ، بمعنى وجوب الاجتناب عن النظر إلى الغير ، وغيره ممّا يكون محرّما على الرجال والنساء.

وفي الثانية هو البراءة ، بمعنى جواز نظر الغير إليها ، والتخيير بين الجهر والاخفات في الصلاة الجهرية ، وأصالة عدم ذكوريتها في باب النكاح ، كما يأتي من المصنّف رحمه‌الله.

وهذا الاحتمال الأخير هو ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله حيث قال : (فمقتضى القاعدة) في مورد الشك في المكلّف به ، وهي وجوب الاحتياط ، احترازها عن النظر إلى غيرها لأنّها تعلم تفصيلا بتوجّه خطاب غضّ البصر إليها ، ولكن لا تعلم بمتعلّق ذلك ، هل هو غضّ البصر عن النظر إلى الذكور أو الإناث؟ فتعلم إجمالا بحرمة النظر إلى إحدى الطائفتين ، فيجب الاجتناب عنهما مقدمة ، فيكون أصل الخطاب معلوما بالتفصيل ومتعلّقه معلوما بالإجمال.

(وقد يتوهّم : أن ذلك من باب الخطاب الإجمالي).

١٦٠