دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

والكلام من الجهة الاولى يقع من جهتين ، لأنّ اعتبار العلم الإجماليّ له مرتبتان :

الاولى : حرمة المخالفة القطعيّة.

والثانية : وجوب الموافقة القطعيّة ، والمتكفّل للتكلّم في المرتبة الثانية هي مسألة البراءة والاشتغال عند الشكّ في المكلّف به ، فالمقصود في المقام الأوّل التكلّم في المرتبة الاولى ، ولنقدّم الكلام في :

المقام الثاني : وهو كفاية العلم الإجماليّ في الامتثال.

فنقول : مقتضى القاعدة جواز الاقتصار في الامتثال بالعلم الإجماليّ بإتيان المكلّف به ،

____________________________________

ثم بعد هذه الامور يقع الكلام في أصل البحث (والكلام من الجهة الاولى يقع من جهتين) يعني : الكلام من جهة اثبات التكليف بالعلم الاجمالي يقع من جهتين ، لأنّ اعتباره من هذه الجهة (له مرتبتان) مرتبة خفيفة ، ومرتبة شديدة ، والمراد من الاولى : هي حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة الاحتمالية ، والمراد من الثانية ـ أي : المرتبة الشديدة ـ : هي وجوب الموافقة القطعية.

ثم يقول المصنّف رحمه‌الله : (والمتكفّل للتكلّم في المرتبة الثانية) يعني : المرتبة الشديدة (هي مسألة البراءة والاشتغال) والاصوليون يقولون بالبراءة ، والأخباريون يقولون بالاشتغال والاحتياط.

(فالمقصود في المقام الأول التكلّم في المرتبة الاولى) يعني : المرتبة الخفيفة ، يعني : حرمة المخالفة القطعية (ولنقدّم الكلام في المقام الثاني) يعني : مقام إسقاط التكليف به ، وهو كفاية الاحتياط في تحقّق امتثال التكليف المعلوم إجمالا.

وقدّم المقام الثاني على المقام الأول مع أن مقتضى الترتيب الطبيعي هو تقديم البحث عن المقام الأول لأجل اختصار المقام الثاني هذا أولا ، وثانيا : إذا ثبت اعتبار العلم الإجمالي في إسقاط التكليف به يثبت اعتباره في المقام الأول بطريق أولى لأن الإسقاط أصعب من الإثبات ، كما سيأتي من اعتبار قصد القربة وقصد الوجه المنافي للامتثال الإجمالي.

(فنقول : مقتضى القاعدة جواز الاقتصار في الامتثال بالعلم الإجمالي بإتيان المكلّف به).

ويتضح ما هو محل الكلام من كفاية الامتثال الإجمالي المسمّى بالاحتياط بعد بيان امور :

١٠١

أمّا فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ففي غاية الوضوح ، وأمّا فيما

____________________________________

منها : إن الواجب على قسمين :

أحدهما : هو الواجب التوصّلي ، وهو ما لا يتوقّف امتثاله على قصد القربة ، ولا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة وقد يعبّر عنه بالمعاملة بالمعنى الأعمّ.

ثانيهما : الواجب التعبّدي ، وهو ما يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ، ويعبّر عنه بالعبادة بالمعنى الأخصّ.

ومنها : إن الامتثال الإجمالي في كل منهما تارة : يكون مستلزما للتكرار ، واخرى : لا يكون كذلك.

ومنها : إن المكلّف تارة : يتمكّن من الامتثال التفصيلي ، واخرى : لا يتمكن إلّا من الامتثال الإجمالي ، ثم على الأول ؛ إمّا أن يكون متمكّنا من الامتثال العلمي أو الظني ، ثم على تقدير تمكّنه من الامتثال التفصيلي الظني يمكن أن يكون هذا الظن ظنا خاصا أو مطلقا ، وتكون المقامات الثلاثة في الامتثال التفصيلي مرتّبة بمعنى أن الكلام أولا يقع في جواز الامتثال الإجمالي للمكلّف مع تمكّنه من الامتثال العلمي التفصيلي.

ثم على تقدير عدم جواز الامتثال الإجمالي مع العلمي التفصيلي ، وعدم تمكّنه من الامتثال التفصيلي العلمي ، هل يجوز له الاحتياط والامتثال الإجمالي مع تمكّنه من الامتثال التفصيلي بالظن الخاص أم لا يجوز؟ ثم على تقدير عدم الجواز وعدم التمكّن ، هل له الامتثال الإجمالي مع تمكّنه من الامتثال التفصيلي بالظن المطلق أم لا؟

ثم محل البحث والكلام هو الاحتياط وإحراز الواقع به مع تمكّن المكلّف من إحراز الواقع بما سواه من الطرق المعتبرة ، وأمّا الاحتياط مع عدم التمكّن من إحراز الواقع بغيره فليس محلا للكلام لاتّفاقهم على الجواز.

وكذلك لا خلاف ولا إشكال في جواز الامتثال الإجمالي في الواجبات التوصّلية ، وإن كان مستلزما للتكرار لأن المقصود من الواجب التوصّلي هو مجرد الإتيان به وتحقّقه بأيّ نحو كان ، وإنّما الكلام في جواز الاحتياط في الواجبات التعبّدية سيما إذا كان الاحتياط فيها مستلزما للتكرار.

(وأمّا فيما يحتاج إلى قصد الإطاعة فالظاهر ـ أيضا ـ تحقّق الإطاعة).

١٠٢

يحتاج إلى قصد الإطاعة فالظاهر ـ أيضا ـ تحقق الإطاعة إذا قصد الإتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور به.

ودعوى : «أنّ العلم بكون المأتيّ به مقرّبا معتبر حين الإتيان به ولا يكفي العلم بعده بإتيانه» ممنوعة ، إذ لا شاهد لها بعد تحقّق الإطاعة بغير ذلك أيضا ، فيجوز لمن تمكّن

____________________________________

فللقول بعدم جواز الاحتياط وجوه يمكن أن يستدل بها على منع العمل بالاحتياط ، وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى بعضها :

أحدها : إن الاحتياط فيما يحتاج إلى تكرار العبادة لعب بأمر المولى فالمحتاط بتكرار العبادة يعدّ لاعبا بأمر المولى عند العقلاء مع وجود الطريق إليها ، ففيه :

أوّلا : إن هذا الوجه والدليل أخصّ من المدّعى لأنّه يختصّ بصورة كونه مستلزما للتكرار.

وثانيا : إن التكرار مطلقا لا يكون لعبا بأمر المولى بل التكرار الكثير يكون لعبا بأمر المولى كالصلاة إلى أكثر من أربع جهات في اشتباه القبلة.

وثالثا : ليس فيه أي إشكال بعد استقلال العقل بحصول الإطاعة بالامتثال الإجمالي.

وثانيها : ما دل على اعتبار قصد الوجه في العبادات أو معرفته فيجب على المكلّف أن يقصد الوجوب في الواجبات والندب في المندوبات ، وأن يميز الواجب عن غيره ، وفي الاكتفاء بالاحتياط إلغاء لهما حتى فيما لا يتوقّف الاحتياط على التكرار ، فلا يجوز الاحتياط لأنّه مفوّت لقصد الوجه والتمييز ، وفيه :

أوّلا : لم يدل أي دليل على اعتبار قصد الوجه.

وثانيا : لو فرضنا وسلّمنا دلالة الدليل على اعتباره لا يمنع من الاحتياط لأنّ المكلّف يتمكّن من قصد وجوب أحد الفعلين.

وثالثها : ثبوت الإجماع والاتّفاق على عدم جواز الاحتياط فيما إذا توقّف على التكرار ، كما يشير إليه المصنّف رحمه‌الله ، وفيه : إنه لم يثبت ولو سلّم لا يكون معتبرا ، إذ لا دليل على اعتباره في المقام.

ورابعها : إنّ للإطاعة مراتب طولية عند العقل ، ولا يجوز الاكتفاء بالمرتبة النازلة إلّا بعد عدم تمكّن المكلّف من المرتبة العالية ، فمرتبة الإطاعة بالامتثال الإجمالي متأخّرة عند

١٠٣

من تحصيل العلم التفصيليّ بأداء العبادات العمل بالاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيليّ.

لكنّ الظاهر ـ كما هو المحكيّ عن بعض ـ ثبوت الاتّفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على تكرار العبادة ، بل ظاهر المحكيّ عن الحلّي ، في مسألة الصلاة في الثوبين ، عدم جواز التكرار للاحتياط حتى مع عدم التمكّن من العلم التفصيليّ ، وإن كان ما ذكره من التعميم ممنوعا.

____________________________________

العقل من الإطاعة بالامتثال التفصيلي علميا كان أو ظنيا.

ولهذا يقال ببطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد لأن الاحتياط في العبادات لا يجوز لمن تمكّن منهما ، ففيه : إنّ العقل لا يحكم بأزيد من لزوم الإطاعة وتتحقّق بإتيان المكلّف المأمور به بجميع ما اعتبر فيه شرعا أو عقلا ، فلا يفرق بين الامتثال الإجمالي ، والامتثال التفصيلي في تحقّق الإطاعة والغرض ، فلم يبق وجه لما ذكر من المراتب الطولية للإطاعة.

ثم بعد بطلان هذه الوجوه لا مانع من الاحتياط(فيجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بأداء العبادات العمل بالاحتياط) مطلقا ، يعني : سواء كان متوقّفا على تكرار العبادة أم لم يكن كذلك ، إلّا أن يكون الاجماع ثابتا على الخلاف ، كما يظهر الاتّفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط فيما إذا توقّف على تكرار العبادة ، فلا يجوز تكرارها مع تمكّن المكلّف من الامتثال العلمي التفصيلي بالإجماع ، بل المحكي عن الحلّي عدم جواز التكرار بالاحتياط مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي ، فحكم بالصلاة عاريا إن لم يتمكّن من الصلاة في ثوب طاهر معيّن.

ويقول المصنّف رحمه‌الله : هذا التعميم ـ حيث عمّم المنع من التكرار لصورتي إمكان العلم التفصيلي وعدمه ـ ممنوع ، لأنّ الاحتياط في صورة عدم التمكّن من العلم التفصيلي جائز إجماعا ، ولا إجماع على المنع في هذه الصورة قطعا.

(لكن الظاهر من صاحب المدارك قدس‌سره التأمّل ، بل ترجيح الجواز في المسألة الأخيرة).

ويردّ الاجماع المذكور بما أفاده صاحب المدارك رحمه‌الله ، إذ معنى التأمّل منه مشعر بالخلاف لأن التأمّل هو الإشكال في الجواز وعدمه ، فلا يكون موافقا للقول بعدم جواز الاحتياط حتى يتحقّق الاتّفاق ، بل رجّح الجواز في المسألة الأخيرة ، وهي الصلاة في

١٠٤

وحينئذ فلا يجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم بالماء المطلق ، أو بجهة القبلة أو في ثوب طاهر ، أن يتوضّأ وضوءين يقطع بوقوع أحدهما بالماء المطلق أو يصلّي إلى جهتين يقطع بكون أحدهما القبلة ، أو في ثوبين يقطع بطهارة أحدهما.

لكنّ الظاهر من صاحب المدارك قدس‌سره التأمّل ، بل ترجيح الجواز في المسألة الأخيرة ، ولعلّه متأمّل في الكلّ ، إذ لا خصوصيّة للمسألة الأخيرة.

وأمّا إذا لم يتوقّف الاحتياط على التكرار ، كما إذا اتي بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزء ، فالظاهر عدم ثبوت اتّفاق على المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيليّ ، لكن لا يبعد ذهاب المشهور إلى ذلك ، بل ظاهر كلام السيّد الرضيّ رحمه‌الله ، في مسألة الجاهل بوجوب القصر ، وظاهر تقرير أخيه السيّد المرتضى رحمه‌الله ، له ثبوت الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها ، هذا كلّه في تقديم العلم التفصيليّ على الإجمالي.

____________________________________

الثوبين ، ولازم هذا الترجيح هو الترجيح في جميع المسائل المتقدمة ، كما أنّه متأمّل في الجميع اذ لا خصوصية في المسألة الأخيرة.

فالحاصل أن الاتّفاق المذكور لا يتمّ ، ولو تمّ ليس بحجّة لاحتمال أن يكون مستندهم فيه أحد الوجوه المتقدمة.

وقد عرفت عدم تماميّتها ، فالظاهر هو كفاية الامتثال الإجمالي ، وجواز العمل بالاحتياط ولو كان مستلزما للتكرار.

(وأمّا إذا لم يتوقّف الاحتياط على التكرار).

يقول المصنّف رحمه‌الله : فالظاهر عدم ثبوت اتّفاق على المنع ، وذلك لعدم مانع من الاحتياط ، إذ المانع المتوهّم هو اعتبار قصد الوجه ، والمكلّف متمكن من إتيان الواجب بقصد الوجه الخاص لأن قصد الوجه إذا كان شرطا فهو شرط في مجموع العمل لا في كل جزء جزء منه ، حتى لا يتمكّن منه.

نعم ، يظهر من كلام السيد الرضي رحمه‌الله ثبوت الإجماع على عدم جواز الامتثال الإجمالي.

وحاصل ما حدث بين السيد الرضي وبين السيد المرتضى ، أنّ السيد المرتضى كان قد أفتى وحكم بصحة صلاة من أتمّها في موضع القصر جاهلا بالحكم ، فأورد عليه أخوه السيد الرضي حيث قال : قام الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها ، فحكم السيد

١٠٥

وهل يلحق بالعلم التفصيليّ الظنّ التفصيليّ المعتبر ، فيقدّم على العلم الإجماليّ أم لا؟

التحقيق أن يقال : إنّ الظنّ المذكور إن كان ممّا لم يثبت اعتباره إلّا من جهة دليل الانسداد المعروف بين المتأخّرين لإثبات حجّية الظن المطلق ، فلا إشكال في جواز ترك تحصيله والأخذ بالاحتياط إذا لم يتوقّف على التكرار.

والعجب ممّن يعمل بالأمارات من باب الظنّ المطلق ، ثم يذهب إلى عدم صحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط! ولعلّ الشبهة من جهة اعتبار قصد

____________________________________

الرضي بمقتضى هذا الإجماع ببطلان صلاة الجاهل بالقصر ، وقال : إن القصر والإتمام من أحكام الصلاة فمن لا يعلم أحكامها تبطل صلاته بالإجماع ، ثم أخوه السيد المرتضى قرّر وأمضى ما ادّعاه أخوه من دعوى الإجماع ، إذ لم يقل في جوابه ليس في المسألة إجماع ، بل أجاب عمّا أورده أخوه بنحو آخر ، وهو أن الموردين خرجا بالنص ، المورد الأول : هو الإتمام موضع القصر ، والمورد الثاني : هو الجهر موضع الاخفات ، أو بالعكس.

فحاصل الجواب أن صلاة الجاهل وإن كانت تبطل بالإجماع إلّا أنّ مسألة الجاهل بالقصر خرجت بالدليل والنصّ ، فالمستفاد من الجميع هو تسليم السيّدين وقوع الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها ، فعلى هذا لا يكون الامتثال الإجمالي كافيا في صحة صلاة من شك في جزئية شيء لها لأنّ الجزئية وعدمها للصلاة حكم من أحكامها ، فتبطل صلاة من لا يعلم جزئية شيء لها بمقتضى الإجماع.

(وهل يلحق بالعلم التفصيلي الظن التفصيلي المعتبر ، فيقدّم على العلم الإجمالي أم لا؟).

وحاصل ما أفاده المصنّف رحمه‌الله هو عدم الإشكال في جواز الاحتياط ، وترك العمل بالظن التفصيلي إذا لم يتوقف على التكرار وكان الظن ظنا مطلقا ، وذلك لأنّ المستفاد من مقدمات دليل الانسداد إنّما هو نفي وجوب الاحتياط للزوم العسر والحرج لا نفي جواز الاحتياط ، فيجوز الاحتياط ، وترك العمل بالظن الانسدادي.

فعلى هذا ، من يقول بالانسداد لا بدّ له أن يحكم بصحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، ثم يقول :

(والعجب ممّن يعمل بالأمارات من باب الظن المطلق ، ثم يذهب إلى عدم صحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط!).

١٠٦

الوجه. ولإبطال هذه الشبهة وإثبات صحّة عبادة المحتاط محلّ آخر.

وأمّا لو توقّف الاحتياط على التكرار ، ففي جواز الأخذ به وترك تحصيل الظن بتعيين المكلّف به أو عدم الجواز ، وجهان :

من أنّ العمل بالظن المطلق لم يثبت إلّا جوازه وعدم وجوب تقديم الاحتياط عليه ، أمّا تقديمه على الاحتياط فلم يدل عليه دليل.

ومن أنّ الظاهر أنّ تكرار العبادة احتياطا في الشبهة الحكمية مع ثبوت الطريق إلى الحكم الشرعيّ ولو كان هو الظنّ المطلق خلاف السيرة المستمرة بين العلماء ، مع أنّ جواز

____________________________________

يتعجّب المصنّف رحمه‌الله من المحقّق القمي رحمه‌الله ، حيث إنّه يقول بالانسداد ، ولازم القول بالانسداد هو صحة العمل بالاحتياط ، فكيف يذهب إلى وجوب العمل بالظن تقليدا أو اجتهادا؟ إذ لازم هذا القول بطلان العمل بالاحتياط ، وعدم جوازه ينافي القول بالانسداد ، لأنّ لازمه جواز الاحتياط ، فمنشأ التعجب هو التنافي (ولعل الشبهة من جهة اعتبار قصد الوجه) وتقدّم منّا أنّه ليس لاعتباره دليل أصلا.

(وأمّا لو توقّف الاحتياط على التكرار ، ففي جواز الأخذ به وترك تحصيل الظن بتعيين المكلّف به أو عدم الجواز ، وجهان :).

قوله : (من أنّ العمل) بيان لتقديم الامتثال الإجمالي ، وجواز الاحتياط وذلك لأنّ ما ثبت بالانسداد ليس إلّا جواز العمل بالظن المطلق لا وجوب العمل به حتى يجب تقديمه على الاحتياط ، وكذلك المنفي بمقدّمات الانسداد هو وجوب الاحتياط للزوم العسر والحرج لا جواز الاحتياط.

فالحاصل أنّ العمل بالاحتياط كالعمل بالظن جائز ، فيجوز تقديم الاحتياط ، والامتثال الإجمالي على الظن المطلق.

قوله : (ومن أنّ الظاهر) بيان لتقديم العمل بالظن المطلق على الاحتياط ، وذلك لأنّ تكرار العبادة احتياطا في الشبهة الحكمية مخالف للسيرة ، وإنّما قيّد الشبهة بالحكمية تنبيها على عدم جريان الانسداد في الشبهات الموضوعية لأنّ باب العلم فيها منفتح غالبا لأجل وجود الأمارات الشرعية مثل اليد والسوق وقاعدة الطهارة والبيّنة.

قوله : (خلاف السيرة) خبر(أنّ) في قوله : (إنّ تكرار العبادة).

١٠٧

العمل بالظنّ إجماعي ، فيكفي في عدم جواز الاحتياط بالتكرار احتمال عدم جوازه واعتبار الاعتقاد التفصيليّ في الامتثال.

والحاصل أنّ الأمر دائر بين تحصيل الاعتقاد التفصيلي ولو كان ظنا ، وبين تحصيل العلم بتحقّق الإطاعة ولو إجمالا.

فمع قطع النظر عن الدليل الخارجي يكون الثاني مقدّما على الأول في مقام الإطاعة ، بحكم العقل والعقلاء ، لكن بعد العلم بجواز الأول والشك في جواز الثاني في الشرعيات ، من جهة منع جماعة من الأصحاب عن ذلك وإطلاقهم اعتبار نيّة الوجه ، فالأحوط ترك ذلك وإن لم يكن واجبا ، لأنّ نيّة الوجه لو قلنا باعتبارها فلا نسلّمه الّا مع العلم بالوجه أو الظنّ الخاص ، لا الظنّ المطلق الذي لم يثبت القائل به جوازه إلّا بعدم وجوب الاحتياط لا بعدم جوازه ، فكيف يعقل تقديمه على الاحتياط؟

____________________________________

فالحاصل أنّ تكرار العبادة بالاحتياط مخالف للسيرة المستمرة بين العلماء لأنهم لا يكرّرون العبادة مهما أمكن ، هذا مع أنّ الاحتياط في ترك العمل بالاحتياط ، أي : في العمل بالظن ، وذلك لأنّ جواز العمل بالظن عند الانسداد إجماعي ، وجواز الاحتياط بالتكرار اختلافي فيكون الاحتياط في العمل بالظن لأنّه سبيل لا منع فيه ، والاحتياط بالتكرار يكون على خلاف الاحتياط لأنّه سبيل محتمل فيه المنع ، كما قال المصنف رحمه‌الله : (فيكفي في عدم جواز الاحتياط بالتكرار احتمال عدم جوازه).

(فمع قطع النظر عن الدليل الخارجي) المتقدم وهو أنّ التكرار خلاف السيرة يكون الاحتياط مقدّما على تحصيل الظن المطلق.

(وإطلاقهم اعتبار نيّة الوجه).

يعني : قالوا باعتبار قصد الوجه في العبادات مطلقا ، أي : حتى في صورة عدم تمكّن المكلّف من تحصيل العلم أو الظن تفصيلا ، فعلى هذا كان الأحوط ترك العمل بالاحتياط ، وإن لم يكن واجبا لأنّ السيرة لا تدل على وجوب الاحتياط.

وقصد الوجه لا دليل لنا على اعتباره ، ثم على فرض اعتباره لا نسلّمه مطلقا ، بل يختصّ مع امكان العلم التفصيلي أو الظن الخاص كذلك (لا الظن المطلق الذي لم يثبت القائل به جوازه إلّا بعدم وجوب الاحتياط لا بعدم جوازه).

١٠٨

وأمّا لو كان الظنّ ممّا ثبت اعتباره بالخصوص فالظاهر أن تقديمه على الاحتياط إذا لم يتوقّف على التكرار مبني على اعتبار قصد الوجه ، وحيث قد رجّحنا في مقامه عدم اعتبار نيّة الوجه فالاقوى جواز ترك تحصيل الظن والأخذ بالاحتياط ، ومن هنا يترجّح القول بصحة عبادة المقلّد إذا أخذ بالاحتياط وترك التقليد ، الّا أنه خلاف الاحتياط من جهة وجود القول بالمنع من جماعة.

وإن توقف الاحتياط على التكرار فالظاهر ـ أيضا ـ جواز التكرار ، بل أولويته على الأخذ بالظنّ الخاص ، لما تقدم من أنّ تحصيل الواقع بطريق العلم ولو إجمالا أولى من تحصيل الاعتقاد الظنيّ به ولو كان تفصيلا.

وأدلة الظنون الخاصّة إنّما دلت على كفايتها عن الواقع ، لا تعيّن العمل بها في مقام

____________________________________

حاصل ما أفاده المصنف رحمه‌الله أنّ القائل بجواز العمل بالظن المطلق أثبت حجّيته بمقدّمات الانسداد ، والمستفاد منها عدم وجوب الاحتياط لا عدم جوازه ، فكيف يجب تقديم الظن المطلق على الاحتياط؟ نعم ، الاحتياط يجوز وهو خلاف الاحتياط.

(وأمّا لو كان الظن ممّا ثبت اعتباره بالخصوص).

وحاصل ما أفاده المصنف رحمه‌الله أنّ تقديم الظن الخاص على الاحتياط إذا لم يتوقف على التكرار مبني على اعتبار قصد الوجه.

وحيث رجّح المصنف رحمه‌الله عدم اعتبار قصد الوجه ، فالأقوى عنده جواز ترك تحصيل الظن ، والأخذ بالاحتياط ، ويتفرّع على جواز الاحتياط صحّة عبادة المقلّد إذا أخذ بالاحتياط وترك التقليد ، إلّا أنّ الاحتياط يكون على خلاف العمل بالاحتياط لوجود القول بالمنع من الاحتياط.

(وإن توقف الاحتياط على التكرار فالظاهر ـ أيضا ـ جواز التكرار ، بل أولويته على الأخذ بالظن الخاص).

وجه الأولوية أنّ الاحتياط موجب للعلم بإتيان الواقع بخلاف العمل بالظن ، حيث لا يوجب العلم بإتيان الواقع لاحتمال كونه مخالفا له.

قوله : (وأدلة الظنون الخاصة ... إلى آخره) دفع لما يمكن أن يقال : من أنّ أدلة الظنون الخاصة إنّما دلت على حجّيتها وتعيين العمل على طبقها ، فمع وجودها لا مجال للعمل

١٠٩

الامتثال ، إلّا أنّ شبهة اعتبار نيّة الوجه ـ كما هو قول جماعة بل المشهور بين المتأخّرين ـ جعل الاحتياط في خلاف ذلك ، مضافا إلى ما عرفت من مخالفة التكرار للسيرة المستمرة.

مع إمكان أن يقال : إنّه إذا شك بعد القطع بكون داعي الأمر هو التعبّد بالمأمور به ، لا حصوله بأي وجه اتفق ، في أنّ الداعي هو التعبّد بإيجاده ولو في ضمن أمرين أو أزيد ، أو التعبّد بخصوصه متميّزا عن غيره ، فالاصل عدم سقوط الغرض الداعي إلّا بالثاني ، وهذا

____________________________________

بالاحتياط ، فدفع المصنف رحمه‌الله هذا التوهم بقوله : وأدلة الظنون الخاصة إنّما دلت على كفايتها عن الواقع ، ولم تدل على تعيين العمل بها في مقام الامتثال ، فيجوز العمل بالاحتياط في مقام الامتثال ، ثم يبيّن أولوية العمل بالظن ، ويذكر لها وجوها :

الوجه الأول : أشار إليه بقوله : (إلّا أنّ شبهة اعتبار نية الوجه ـ كما هو قول جماعة بل المشهور بين المتأخرين ـ جعل الاحتياط في خلاف ذلك) أي : الاحتياط ، فالاحتياط بملاحظة هذه الشبهة هو العمل بالظن لأنّه سبيل لا منع فيه.

قوله : (مضافا إلى ما عرفت من مخالفة التكرار للسيرة المستمرة) اشارة إلى الوجه الثاني.

قوله : (مع إمكان أن يقال ... إلى آخره) إشارة إلى الوجه الثالث.

وحاصل هذا الوجه أنّ أمر الشارع تابع لتعلّق غرضه بما تعلّق به الأمر ، والغرض هو الداعي إلى الأمر ، ولا يسقط الأمر الّا بعد حصول الغرض ، فلا بدّ للمكلف من عمل في مقام امتثال الأمر يحصل به غرض الشارع من الأمر حتى يسقط أمره.

ومن هنا يمكن أن يقال : إنّ قصد الوجه ، وتمييز ما هو الواجب ، وإن لم يدل عليهما دليل شرعي ، ولا دليل عرفي لتحقّق الإطاعة عرفا بالاحتياط ، الّا أنّ العقل يحكم باعتبارهما للشك في حصول الغرض بدونهما ، ويحصل العلم بحصول الغرض معهما ، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير.

بمعنى أنّ الغرض لو حصل بالاحتياط يكون المكلّف مخيّرا بين العمل بالاحتياط ، والعمل بالظن ، لحصول الغرض بكل واحد منهما ، وأمّا لو لم يحصل الغرض الّا بالعمل بالظن ، فيكون العمل بالظن متعيّنا على المكلّف ، إذ العقل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير يحكم بالتعيين فيجب العمل بالظن لحصول الغرض به يقينا.

١١٠

ليس تقييدا في دليل تلك العبادة حتى يرفع بإطلاقه ، كما لا يخفى.

وحينئذ فلا ينبغي ، بل لا يجوز ترك الاحتياط في جميع موارد إرادة التكرار بتحصيل

____________________________________

ولهذا يقول المصنف رحمه‌الله : (فالأصل عدم سقوط الغرض الداعي إلّا بالثاني) أي : التعبّد متميزا فيجب الرجوع إلى تحصيل الاعتقاد التفصيلي لأنّه موجب للعلم بحصول الغرض وسقوط الأمر(وهذا ليس تقييدا في دليل تلك العبادة حتى يرفع بإطلاقه) يعني : قصد الوجه ، والتمييز ليس تقييدا لدليل تلك العبادة ، كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١) حتى يرفع القيد بإطلاق الدليل.

ويتضح ما أفاده المصنّف رحمه‌الله بعد بيان امور :

منها : إنّ بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، لأنّ الإطلاق هو عدم التقييد بقيد يمكن تقييده به ، فلا يتحقّق الإطلاق فيما إذا كان خاليا عن قيود لا يمكن تقييده بها.

ومنها : إنّ قصد الوجه والتمييز كقصد القربة لا يمكن أن يكون قيدا للمأمور به شرعا للزوم الدور ، وذلك لأنّ هذه الامور يجب أن تكون متأخرة عن الأمر لأنّها تعتبر ـ على القول باعتبارها ـ في مقام امتثال الأمر فيجب الإتيان بالمأمور به مع قصد الوجه والقربة متميزا عن غيره ، فهذه الامور تتوقف على أمر من الشارع ، ثم الأمر لمّا كان حكما من الشارع ، والحكم يتوقّف على ثبوت المتعلّق بجميع القيود ، ومن قيوده قصد القربة والوجه ، فالنتيجة أنّ الأمر يتوقّف على هذه الامور ، هذا ما قلناه من الدور ، فلا يمكن أخذ هذه الامور قيودا في متعلّق الأمر.

ومنها : أنّ مورد التمسك بالإطلاق هو تحقّقه مع احتمال التقييد ، لا فيما إذا كان احتمال التقييد منتفيا ، بل يكون التقييد مقطوع العدم كما في المقام.

فاتضح من هذه الامور صحة ما أفاده المصنّف رحمه‌الله من أن التمييز وقصد الوجه ليس تقييدا حتى (يرفع باطلاقه) يعني : لا إطلاق حتى يرفع القيد به ، إذ الإطلاق بمقتضى الأمر الأول هو عدم التقييد بقيد يمكن أن يكون قيدا له ، وبمقتضى الأمر الثاني ـ قصد الوجه مثلا ـ لا يمكن أن يكون قيدا للمأمور به ، فلا يتحقّق الإطلاق بالنسبة إلى هذه الامور.

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

١١١

الواقع أولا بظنه المعتبر من التقليد ، أو الاجتهاد بأعمال الظنون الخاصّة أو المطلقة وإتيان الواجب مع نيّة الوجه ، ثم الإتيان بالمحتمل الآخر بقصد القربة من جهة الاحتياط.

وتوهّم : «أنّ هذا قد يخالف الاحتياط من جهة احتمال كون الواجب ما اتي به بقصد القربة ، فيكون قد أخلّ فيه بنيّة الوجوب» مدفوع بأنّ هذا المقدار من المخالفة للاحتياط ممّا لا بدّ منه ، إذ لو اتي به بنيّة الوجوب كان فاسدا قطعا ، لعدم وجوبه ظاهرا على المكلّف بعد فرض الإتيان بما وجب عليه في ظنه المعتبر.

وإن شئت قلت : إنّ نية الوجه ساقطة فيما يؤتى به من باب الاحتياط إجماعا ، حتى من القائلين باعتبار نيّة الوجه ، لأنّ لازم قولهم باعتبار نية الوجه في مقام الاحتياط عدم مشروعية الاحتياط وكونه لغوا ، ولا أظن أحدا يلتزم بذلك ، عدا السيد أبي المكارم في ظاهر كلامه في الغنية في ردّ الاستدلال على كون الأمر للوجوب بأنّه أحوط ، وسيأتي ذكره عند الكلام على الاحتياط في طيّ مقدمات دليل الانسداد.

____________________________________

(لا يجوز ترك الاحتياط ... إلى آخره).

يقول المصنّف رحمه‌الله : في المقام ينبغي للمكلّف أن يحتاط بالاحتياط التام ، وهو أن يعمل بالظن أولا ، فيأتي بالمظنون مع نية الوجه والتمييز ، ثم يأتي بالمحتمل الآخر برجاء إدراك الواقع ، ولا يكون هذا الاحتياط على خلاف الاحتياط.

(وتوهّم «أنّ هذا).

وتقريب التوهّم : إنّ هذا الاحتياط التام ـ أيضا ـ يكون على خلاف الاحتياط لأنّ المكلّف قد أخلّ بقصد الوجه في إتيان المحتمل الآخر ، ولم يأت به بنيّة الوجوب مع احتمال كونه واجبا في الواقع.

ثم يقول : هذا التوهم (مدفوع ، بأنّ هذا المقدار من المخالفة للاحتياط ممّا لا بدّ منه ، إذ لو اتي به بنية الوجوب كان فاسدا قطعا) لأنه مستلزم للتشريع ، إذ وظيفة المكلّف هو وجوب العمل بالظن الحاصل من الاجتهاد أو التقليد.

(ولا أظن أحدا يلتزم بذلك) أي : بعدم مشروعية الاحتياط ، (عدا السيد أبي المكارم).

وحاصل الاستدلال على كون الأمر للوجوب أنه يشمل الاستحباب من حيث الطلب والثواب والمصلحة ، وغيرها مع زيادة.

١١٢

أمّا المقام الأوّل : وهو كفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف واعتباره كالتفصيليّ.

فقد عرفت أنّ الكلام في اعتباره بمعنى وجوب الموافقة القطعية وعدم كفاية الموافقة الاحتمالية راجع إلى مسألة البراءة والاحتياط. والمقصود هنا بيان اعتباره في الجملة الذي أقل مراتبه حرمة المخالفة القطعية ، فنقول : إنّ للعلم الإجمالي صورا كثيرة لأنّ الإجمال الطارئ ؛ إمّا من جهة متعلّق الحكم مع تبيّن نفس الحكم تفصيلا ، كما لو شككنا أنّ حكم الوجوب في يوم الجمعة يتعلّق بالظهر أو الجمعة ، وحكم الحرمة يتعلّق بهذا الموضوع الخارجي من المشتبهين أو بذاك.

____________________________________

ثم أجاب السيد عن هذا الاستدلال بأنّ حمل الأمر على الوجوب ضد للاحتياط ، إذ يلزم ـ حينئذ ـ على المكلّف أن يعتقد بوجوب المأمور به ويأتي به بقصد الوجوب ، ويعتقد حرمة تركه ، والالتزام بما ذكر قبيح لمن يحتمل كون الأمر للندب ، وظاهر هذا الكلام عدم مشروعية الاحتياط لأنه ضد للاحتياط ، وهذا الظاهر مدفوع بأنّ الاحتياط بنفسه حسن عقلا ومستحب شرعا ، ولم يدل دليل على عدم مشروعيته.

(المقام الأول ... إلى قوله : فنقول : إن للعلم الإجمالي صورا كثيرة).

وقبل بيان الصور تفصيلا لا بدّ لنا من بيانها إجمالا ليتضح به ما هو محل النزاع فنقول : إنّ الشك تارة يكون في أصل التكليف ، واخرى في نوع التكليف ، وثالثة في المكلّف به ، ورابعة في نوع التكليف والمكلّف به معا.

والقسم الأول ، وهو الشك في أصل التكليف خارج عن مورد الكلام ، لأنّ الشك فيه بدوي ، ومحل البحث هو الشك المقارن بالعلم الإجمالي ، والثلاثة الأخيرة داخلة في مورد البحث ، إذ الشك فيها مقارن للعلم الإجمالي ثم كل واحدة منها الشبهة فيها ؛ إمّا حكمية أو موضوعية ، وسيأتي الفرق بينهما من المصنّف رحمه‌الله.

ثم على جميع التقادير الست يمكن أن تكون الشبهة وجوبية أو تحريمية ، فأقسام الشبهة كلّيا هي اثنا عشر ، ثم يشير المصنّف رحمه‌الله إلى كل واحدة من الثلاثة الأخيرة الداخلة في محل النزاع.

فقوله : (إمّا من جهة متعلّق الحكم مع تبيّن نفس الحكم تفصيلا) إشارة إلى الصورة الثالثة : وهي الشك في المكلّف به ، وذلك في الشبهة الوجوبية كشكّنا في متعلّق الوجوب

١١٣

وإمّا من جهة نفس الحكم مع تبيّن موضوعه ، كما لو شك في أنّ هذا الموضوع المعلوم الكلّى أو الجزئي يتعلّق به الوجوب أو الحرمة ، وإمّا من جهة الحكم والمتعلّق جميعا ، مثل أن نعلم أنّ حكما من الوجوب والتحريم تعلّق بأحد هذين الموضوعين.

____________________________________

المعلوم تفصيلا يوم الجمعة حيث لا نعلم أنه الظهر أو الجمعة ، وفي الشبهة التحريمية كالشك في متعلّق التحريم المعلوم تفصيلا هل هو هذا الموضوع الخارجي من المشتبهين أو ذاك؟ بمعنى أيّهما يكون خمرا مع علمنا تفصيلا بحرمة الخمر ، والشبهة في المثال الأول حكمية لأنّ الاشتباه فيها ناشئ عن تعارض النصّين ، وفي المثال الثاني موضوعية لأن منشأ الاشتباه فيها هو الامور الخارجية كما هو المناط في كون الشبهة موضوعية على ما سيأتي تفصيله من المصنّف رحمه‌الله.

وقوله : (وإمّا من جهة نفس الحكم) إشارة إلى الصورة الثانية : وهي أن يكون الشك في نوع التكليف فقط ، ثم المتعلّق المعلوم تفصيلا كما هو المفروض يمكن أن يكون كلّيا ، كالجهر بالبسملة في الصلاة الإخفاتية ، ويمكن أن يكون جزئيا ، كالمرأة المعيّنة التي لا يعلم المكلّف أنّه حلف على وطئها حتى يكون واجبا ، أو على تركه حتى يكون محرّما.

فالشك في كلا الموردين يكون في نوع التكليف ، بمعنى أنّ المكلّف في المثال الأول لا يعلم أنّ الحكم المتعلّق بالجهر بالبسملة هل هو الوجوب أو الحرمة؟ وفي الثاني لا يعلم أنّ الحكم المتعلق بوطء هذه المرأة هل هو الوجوب أو الحرمة؟ ثم أنّ الشبهة في المثال الأول حكمية ، وفي الثاني موضوعية.

وقوله : (وأمّا من جهة الحكم والمتعلّق جميعا) اشارة إلى الصورة الرابعة ، مثل : ما إذا لا يعلم المكلّف بأن ما صدر عن الشارع من الحكم هل هو الوجوب أو الحرمة؟ ثم لا يعلم ـ أيضا ـ بأنه تعلّق بالدعاء عند رؤية هلال رمضان ، أو الدعاء عند رؤية هلال شوال ، هذا فيما إذا كان الموضوعان كلّيين أو كانا جزئيين.

كما إذا لا يعلم المكلّف بأنه حلف بالذبح حتى يكون واجبا أو بتركه حتى يكون محرما ، ولا يعلم ـ أيضا ـ أنّ كل واحد من الوجوب والحرمة تعلّق بذبح هذا الغنم الخارجي أو بذاك الغنم الخارجي ، ثم الشبهة في المثال الأول حكمية ، وفي المثال الثاني موضوعية.

١١٤

ثم الاشتباه في كل من الثلاثة ؛ إمّا من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر من الشارع كما في مثال الظهر والجمعة ، وإمّا من جهة اشتباه مصاديق متعلّق ذلك الخطاب كما في المثال الثاني.

____________________________________

ثم ما ذكرنا من المثالين تبعا للشارحين حيث فسّروا قوله : الموضوعين ، بقولهم : سواء كانا كلّيين أم جزئيين ، كما في الأوثق وغيره ، إلّا أن تفسيرهم لا يناسب تعبير المصنّف رحمه‌الله بأحد هذين الموضوعين لأنّ اسم الاشارة ظاهر في الجزئي ، نعم ، هذا التفسير والتعميم كان مناسبا لو كان تعبيره رحمه‌الله بأحد الموضوعين بإسقاط اسم الاشارة من البين.

(ثم الاشتباه في كل من الثلاثة) المتقدمة :

أحدها : هو الشك في المكلّف به.

ثانيها : هو الشك في نوع التكليف.

ثالثها : هو الشك فيهما معا.

والمصنّف رحمه‌الله يبيّن منشأ الاشتباه بقوله : (إمّا من جهة الاشتباه ... إلى آخره).

ويظهر من بيانه الفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية ، ثم الفرق بينهما :

تارة : يرجع إلى نفس الحكم ، لأن الحكم المشتبه يمكن أن يكون كلّيا كوجوب الظهر أو الجمعة ، أو جزئيا كحرمة هذا المائع لكونه خمرا أو ذاك المائع لاحتمال كونه خمرا مع العلم بحرمة الخمر ، فالشبهة في الأول حكمية وفي الثاني موضوعية.

واخرى : يرجع الفرق إلى ما يرفع به الاشتباه فإن كان دليلا شرعيا تكون الشبهة حكمية ، إذ المناط في الشبهة الحكمية الرجوع إلى الشارع لرفع الاشتباه وإن كان ما يرفع به الاشتباه غير الشارع تكون موضوعية ، كما في المثال الثاني يرجع لرفع الاشتباه إلى من يعرف الخمر.

وثالثة : يرجع إلى سبب الاشتباه ، فإن كان عدم النص أو اجماله أو تعارض النصّين تكون الشبهة حكمية ، وإن كان غير ما ذكر من الامور الخارجية تكون موضوعية فقوله : (إمّا من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر من الشارع) بيان للشبهة الحكمية ، لأنّ المكلّف لا يعلم يوم الجمعة أنّ الخطاب الصادر عن الشارع هل هو صلّ الظهر أو صلّ الجمعة؟ فيرجع لرفع الاشتباه إلى الشارع أو الدليل الشرعي.

١١٥

والاشتباه في هذا القسم إمّا في المكلّف به كما في الشبهة المحصورة ، وإمّا في المكلّف ، وطرفا الشبهة في المكلّف ؛ إمّا أن يكونا احتمالين في مخاطب واحد كما فى الخنثى ، وإمّا أن يكونا احتمالين في مخاطبين كما في واجدي المني في الثوب المشترك.

____________________________________

وقوله : (وإمّا من جهة اشتباه مصاديق متعلّق ذلك الخطاب) بيان للشبهة الموضوعية كاشتباه متعلّق خطاب الشارع باجتنب عن الخمر بين المائعين في الإنائين ، فالخطاب هو : اجتنب عن الخمر معلوم تفصيلا ، ومتعلقه وهو الخمر ـ أيضا ـ معلوم تفصيلا إلّا أنّ مصداقه قد اشتبه بين المائعين في الإنائين ، فلا يعلم المكلّف أنّ مصداق الخمر هل هو هذا الإناء أو ذاك الإناء؟

ثم يبين المصنف أقسام الشبهة الموضوعية بقوله : (والاشتباه في هذا القسم إمّا في المكلّف به كما في الشبهة المحصورة) كالخمر المشتبه بين الإنائين أو الأكثر ، هذا هو القسم الاول.

(وإمّا في المكلف).

هذا ينقسم إلى قسمين لأن طرفي الشبهة في المكلّف :

تارة : يكونا بالنسبة إلى مخاطب واحد كالخنثى المردّد بين المرأة والرجل ، حيث لا يعلم أنه محكوم بأحكام الرجل أو المرأة مع علمه بتوجّه أصل التكليف إليه ، فيرجع شكّه في الحقيقة إلى الشك في المكلّف به مثلا : إنه لا يعلم أن الواجب عليه ما هو وظيفة الرجل ، أو الواجب عليه ما هو وظيفة المرأة.

واخرى : احتمالان بالنسبة إلى مخاطبين كواجدي المني في الثوب المشترك فيحتمل كل واحد أن يكون جنبا حتى يجب عليه الغسل ، فالشك فيه كالأول يمكن أن يرجع إلى الشك في المكلّف به ، إذ التكليف هو وجوب الغسل معلوم تفصيلا ، والمكلّف به مردّد بين غسل زيد ، وبين غسل عمرو ، فلا يخفى عليك أن الشك في المكلّف ليس قسما آخر ، بل هو داخل في الشك في المكلّف به.

ويمكن أن يقال : إن الشك في القسم الثاني يعني : ما إذا كان طرفا الشبهة احتمالين في مخاطبين يرجع إلى التكليف لأنّ كل واحد منهما شاك في توجّه التكليف ، وهو وجوب الغسل إليه.

١١٦

ولا بدّ قبل التعرض لبيان حكم الأقسام من التعرض لأمرين :

أحدهما : أنك قد عرفت في أول مسألة اعتبار العلم أن اعتباره قد يكون من باب محض الكشف والطريقيّة ، وقد يكون من باب الموضوعيّة بجعل الشارع.

والكلام هنا في الأول ، إذ اعتبار العلم الإجمالي وعدمه في الثاني تابع لدلالة ما دلّ على جعله موضوعا ، فإن دلّ على كون العلم التفصيلي داخلا في الموضوع ، كما لو فرضنا أنّ الشارع لم يحكم بوجوب الاجتناب إلّا عمّا علم تفصيلا نجاسته ، فلا إشكال في عدم اعتبار العلم الإجمالي بالنجاسة.

الثاني : أنه إذا تولّد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي بالحكم الشرعي في مورد ، وجب اتّباعه وحرم مخالفته ، لما تقدّم من اعتبار العلم التفصيلي من غير تقييد بحصوله من منشأ خاص. فلا فرق بين من علم تفصيلا ببطلان صلاته بالحدث أو بواحد مردّد بين الحدث والاستدبار ، أو بين ترك ركن وفعل مبطل ، أو بين فقد شرط من شرائط صلاة نفسه وفقد شرط من شرائط صلاة إمامه بناء على اعتبار وجود شرائط الإمام في علم المأموم ، إلى غير ذلك.

وبالجملة ، فلا فرق بين هذا العلم التفصيلي وبين غيره من العلوم التفصيلية.

____________________________________

وبالجملة ، فالشك في المكلّف ؛ إمّا يرجع إلى الشك في المكلّف به أو في التكليف.

(ولا بدّ قبل التعرض لبيان حكم الأقسام من التعرض لأمرين :)

يعني : يتّضح حكم الأقسام المذكورة للعلم الإجمالي بعد بيان أمرين :

(أحدهما : أنك قد عرفت) في بحث القطع أنه ينقسم إلى الطريقي والموضوعي ، والبحث في المقام يقع في اعتبار العلم الإجمالي من جهة كونه طريقا وكاشفا ، لا من جهة كونه موضوعا ، إذ اعتباره من حيث الموضوعية أو عدم اعتباره كذلك تابع لدليل الحكم ، كما تقدّم تفصيله في الفرق بين القطع الطريقي والموضوعي.

(الثاني :) في العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي ، فإذا تولّد العلم التفصيلي بحكم من الأحكام الشرعية من العلم الإجمالي فهل وجب اتباعه حتى يكون حجّة أم لا حتى لا يكون حجّة؟ ويتضح من هذين الأمرين أن العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي حجّة ، وذلك لما تقدم في الفرق بين القطع الطريقي والموضوعي من اعتبار

١١٧

إلّا أنه قد ورد في الشرع موارد توهم خلاف ذلك :

منها : ما حكم به بعض فيما إذا اختلفت الامة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل ، من أنّه يطرح القولان ويرجع إلى مقتضى الأصل ، فإنّ إطلاقه يشمل ما لو علمنا بمخالفة مقتضى الأصل للحكم الواقعي المعلوم وجوده بين القولين ، بل ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله ،

____________________________________

القطع الطريقي مطلقا من دون فرق بين أسبابه ، فلا فرق بين العلم الحاصل من العلم الإجمالي وبين غيره ، فوجب اتباع العلم التفصيلي بالحكم الشرعي وإن كان متولّدا عن العلم الإجمالي.

(الّا أنه قد ورد في الشرع موارد توهم خلاف ذلك).

يعني : يتوهّم من هذه الموارد عدم اعتباره إذا كان متولّدا عن العلم الإجمالي ، ثم يذكر المصنّف رحمه‌الله هذه الموارد واحدا بعد واحد ، والمراد من الورود في الشرع هو الورود في الجملة ولو باعتقاد بعض الفقهاء ، كما يظهر من بيان هذه الموارد :

(منها : ما حكم به بعض فيما إذا اختلفت الامة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل ، من أنّه يطرح القولان ويرجع إلى مقتضى الأصل ، فإنّ إطلاقه يشمل ما لو علمنا بمخالفة مقتضى الأصل للحكم الواقعي).

وتوضيح ما هو المراد من عدم اعتبار العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي المستفاد من إطلاق طرح القولين والرجوع إلى الأصل يحتاج إلى بيان امور :

منها : القولان في مسألة اختلاف الامة إلى القولين ، قد يكون كلاهما مخالفا للأصل ، وذلك فيما إذا اختلفوا في وجوب شيء وحرمته كما ذهب بعضهم إلى وجوب صلاة الجمعة وبعضهم إلى حرمتها ، فالرجوع إلى أصالة البراءة مخالف لكلا القولين ، وقد يكون أحد القولين مخالفا للأصل ، والآخر موافقا له كما إذا ذهب بعضهم إلى حرمة شرب التتن وبعضهم إلى حلّيته ، فالقول بالحلّية يكون موافقا للأصل والقول بالحرمة يكون مخالفا له.

ومنها : إنّ الامة إذا انحصرت في قولين كان الإمام عليه‌السلام مخالفة لحكم الله الواقعي.

ومنها : إنّ العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي يتحقّق ويحصل من طرح كلا القولين ، والرجوع إلى الأصل فيما إذا كان كلاهما مخالفا للأصل ، فإذا شمل إطلاق القول

١١٨

القائل بالتخيير هو التخيير الواقعي المعلوم تفصيلا مخالفته لحكم الله الواقعي في الواقعة.

____________________________________

بطرح القولين ما إذا كان كلاهما مخالفا له حصل وتحقّق العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي ، فتصل النوبة إلى عدم اعتباره بعد حصوله.

ويتضح لك من هذه الامور أن طرح القولين فيما إذا كان كلاهما مخالفا للأصل والرجوع إلى الأصل المخالف لهما مستلزم لمخالفة العلم التفصيلي ، لأنّا نعلم تفصيلا بمخالفة البراءة للواقع لأن الحكم الواقعي هو إمّا الوجوب أو الحرمة وإن كان علمنا هذا متولّدا من العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة.

ومقتضى هذا العلم التفصيلي هو ترك البراءة ، والأخذ بالوجوب أو الحرمة حتى لا تلزم المخالفة القطعية ، فطرح القولين والرجوع إلى البراءة ليس الّا من جهة عدم اعتبار هذا العلم وعدم اعتباره لا يعقل الّا من أجل كونه متولّدا عن العلم الإجمالي ، وما ذكر يتمّ فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة ، وكان مقتضى الأصل هو الإباحة كما ذكرناه من المثال.

(بل ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله ، القائل بالتخيير هو التخيير الواقعي المعلوم تفصيلا مخالفته لحكم الله الواقعي).

ويظهر من كلام المصنّف رحمه‌الله حيث نسب التخيير الواقعي في مسألة اختلاف الامة على قولين إلى ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله أن عدم اعتبار العلم التفصيلي المتولّد عن العلم الإجمالي مبنيّ على القول بالتخيير الواقعي ، فلا بدّ من إثبات الفرق بين التخيير الواقعي وبين التخيير الظاهري ، فنقول : إن معنى التخيير الواقعي هو تساوي الفعل والترك واقعا في نظر الشارع ، ولم يتعلّق حبّ الشارع وغرضه الداعي إلى الأمر أو النهي بأحدهما معيّنا ، والتخيير بهذا المعنى مخالف للواقع جزما فيما إذا دار الحكم في الواقع بين الوجوب والحرمة.

ومعنى التخيير الظاهري : هو تساوي الفعل والترك في نظر الشارع في الظاهر حينما لم يتمكّن المكلّف من العلم بالوجوب أو الحرمة فيتخيّر بين الفعل والترك ، بمعنى معذوريّته فيهما من دون تغيير مصلحة الفعل لو كان واجبا في الواقع ، أو مفسدته لو كان حراما ، ومعلوم أن التخيير بهذا المعنى لا يكون مخالفا للواقع أصلا ، فظهر من هذا الفرق بين التخييرين أن القول بالتخيير الواقعي في مسألة اختلاف الامة على القولين مخالف للعلم

١١٩

ومنها : حكم بعض بجواز ارتكاب كلا المشتبهين فى الشبهة المحصورة دفعة أو تدريجا ، فإنه قد يؤدّي إلى العلم التفصيلي بالحرمة أو النجاسة ، كما لو اشترى بالمشتبهين بالميتة جارية ، فإنّا نعلم تفصيلا بطلان البيع في تمام الجارية لكون بعض ثمنها ميتة ، فنعلم

____________________________________

التفصيلي بعدم التخيير واقعا ، وكان هذا العلم التفصيلي متولّدا من العلم الإجمالي بأن الحكم في الواقع إمّا الوجوب أو الحرمة ، فلازم القول بالتخيير الواقعي هو عدم اعتبار هذا العلم المتولّد من العلم الإجمالي ، فيقع الكلام فيما يستفاد من كلام الشيخ رحمه‌الله القائل بالتخيير ، قال المصنف رحمه‌الله : إن كلامه ظاهر في التخيير الواقعي ، وذلك لوجهين :

الوجه الأول : كما في الأوثق هو عدم معهودية انقسام الحكم إلى الواقعي والظاهري في كلمات القدماء ، بل هذا الانقسام حدث عند المتأخرين. فعلى هذا إذا ذكر الحكم مطلقا ولو كان هو التخيير يكون المراد منه حكما واقعيا.

الوجه الثاني : إن الشيخ قال بعد الحكم بالتخيير : إنه لا يجوز اتفاقهم بعد اختلافهم لأنّهم مخيّرون ، فلو كان مراده من التخيير ظاهريا لم يكن هناك مانع من الاتفاق بعد الاختلاف ، إذ الاختلاف يمكن أن يرفع بكشف الواقع عند الجميع فيحصل الاتّفاق.

والحاصل أن لازم ظهور كلام الشيخ رحمه‌الله في التخيير الواقعي هو عدم اعتبار العلم التفصيلي المتولّد عن العلم الإجمالي.

ثم إن الفرق بين التخيير الواقعي والأصل المتقدم ذكره مع كون كلاهما مخالفا للقولين ومخالفا للواقع هو أن في الرجوع إلى الأصل مخالفة قطعية من حيث الالتزام ، وهذا بخلاف التخيير فيلزم من الأخذ به مخالفة احتمالية من حيث العمل والالتزام إن كان التخيير ابتدائيا ، ومخالفة قطعية من حيث العمل والالتزام إن كان استمراريا. بمعنى أن المكلّف يكون مخيّرا بين الفعل والترك دائما ، فيحصل له العلم بارتكاب ما هو محرم أو بترك ما هو واجب.

(ومنها : حكم بعض بجواز ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة دفعة أو تدريجا ، فإنه قد يؤدّي إلى العلم التفصيلي بالحرمة أو النجاسة ... إلى آخره).

ويتضح ما ذكره المصنف رحمه‌الله من تأدّي ارتكاب أطراف الشبهة المحصورة إلى العلم التفصيلي بالحرمة أو النجاسة بذكر أمثلة ، فمثال ما يؤدي إلى العلم بالحرمة : فيما إذا

١٢٠