دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

مثلا : إذا فرضنا قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مع كون الواجب في الواقع هي الظهر ، فإن كان في فعل الجمعة مصلحة يتدارك بها ما يفوت بترك صلاة الظهر ، فصلاة الظهر في حقّ هذا الشخص خالية عن المصلحة الملزمة ، فلا صفة تقتضي وجوبها الواقعي ، فهنا وجوب واحد واقعا وظاهرا متعلّق بصلاة الجمعة ، وإن لم يكن في فعل الجمعة صفة كان الأمر بالعمل بتلك الأمارة قبيحا ، لكونه مفوّتا للواجب مع التمكّن من إدراكه بالعلم.

فالوجهان مشتركان في اختصاص الحكم الواقعيّ بغير من قامت عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة. فيرجع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني ، وهو كون الأمارة سببا لجعل مؤدّاها هو الحكم الواقعي لا غير ، وانحصار الحكم في المثال بوجوب صلاة الجمعة ، وهو التصويب الباطل.

قلت : أمّا رجوع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني فهو باطل ، لأنّ مرجع جعل مدلول

____________________________________

ولكن في الحقيقة بعد النظر الدقيق لا فرق بينهما من حيث النتيجة ، إذ النتيجة في كليهما هي التصويب الباطل ، إذ في كلا الوجهين لا بدّ أن يكون هناك مصلحة راجحة على المصلحة الواقعية ليتدارك بها المصلحة الفائتة ، فيضمحل الحكم الواقعي ، وينتفي بانتفاء ملاكه فينحصر الحكم في مؤدّى الأمارة وهو التصويب الباطل ، فبعد قيام الأمارة على وجوب الجمعة مع كون الواجب في الواقع هو الظهر لا يخلو فعل الجمعة عن أحد أمرين :

الأمر الأول : أن يكون فيه مصلحة يتدارك بها ما يفوت بترك صلاة الظهر من المصلحة الواقعية ، فتكون صلاة الظهر خالية عن المصلحة الملزمة ، فينتفي وجوبها بانتفاء الملاك ، فالواجب ـ حينئذ ـ هو صلاة الجمعة ظاهرا وواقعا.

والأمر الثاني : أن لا يكون في فعل الجمعة بعد قيام الأمارة على وجوبها مصلحة يتدارك بها المصلحة الفائتة فيكون الأمر بالعمل على الأمارة ـ حينئذ ـ قبيحا لكونه مفوّتا للواقع مع تمكّن المكلّف من إدراكه بالعلم.

فينحصر الأمر في الأمر الأول من الأمرين ، فينحصر الواجب بصلاة الجمعة ، فالوجهان مشتركان في اختصاص الحكم الواقعي بغير من قامت عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة فيرجع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني في كونه تصويبا كالوجه الثاني.

(قلت : أمّا رجوع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني فهو باطل) ولا يرجع الوجه الثالث إلى

٢٠١

الأمارة في حقّه الذي هو مرجع الوجه الثاني إلى أنّ صلاة الجمعة هي واجبة عليه واقعا ، كالعالم بوجوب صلاة الجمعة ، فإذا صلّاها فقد فعل الواجب الواقعي ، فإذا انكشف مخالفة الأمارة للواقع فقد انقلب موضوع الحكم واقعا إلى موضوع آخر ، كما إذا صار المسافر بعد صلاة القصر حاضرا إذا قلنا بكفاية السفر في أول الوقت لصحّة القصر واقعا.

____________________________________

الوجه الثاني حتى يلزم التصويب كالوجه الثاني ، لأنّ مؤدّى الأمارة في الوجه الثاني يكون حكما واقعيا لمن قامت عنده الأمارة.

فوجوب صلاة الجمعة على الوجه الثاني يكون حكما واقعيا لمن قامت عنده الأمارة على وجوبها ، وهذا بخلاف الوجه الثالث حيث لا يكون وجوب الجمعة في حقّ من قامت عنده الأمارة على الوجوب حكما واقعيا ، بل يكون حكما ظاهريا ، فيكون الحكم الواقعي في حقّه محفوظا.

وممّا ذكرنا يتّضح أنّ التصويب يختصّ بالوجه الثاني ، ولا يلزم على الوجه الثالث ، لأنّ الحكم الواقعي محفوظ في حقّ من قامت عنده الأمارة على خلاف الواقع ، كما في المثال المذكور ، فيكون وجوب الجمعة حكما ظاهريا ، وهذا بخلاف الوجه الثاني حيث يكون وجوب الجمعة فيه حكما واقعيا لمن قامت عنده الأمارة على وجوبها.

وإذا انكشف الواقع بالعلم ، وعلم المكلّف بأن الواجب هو الظهر فقد انقلب موضوع الحكم بالوجوب إلى موضوع آخر واقعا ، وهو الظهر مثلا ، كما ينقلب موضوع وجوب القصر إلى موضوع آخر بعد أن صار المسافر حاضرا فيجب عليه الإتمام ، كذلك في المقام يجب على المكلّف الظهر بعد كشف الخلاف ، فيكون وجوب الظهر حكما واقعيا كما يكون وجوب الإتمام للحاضر حكما واقعيا له.

فالحاصل أنّ مرجع الوجه الثاني إلى أنّ مؤدّى الأمارة هو الحكم الواقعي في حقّ من قامت عنده الامارة على وجوب شيء كصلاة الجمعة مثلا ، فاذا انكشف الخلاف يصير الظهر واجبا واقعيا ، غاية الأمر ينقلب موضوع الحكم إلى موضوع آخر واقعا ، كما أنّ الواجب الواقعي في حق المسافر هو القصر ، فإذا صار حاضرا ينقلب الموضوع إلى موضوع آخر ، وينقلب وجوب القصر إلى وجوب الإتمام تبعا لانقلاب الموضوع.

قوله : (إذا قلنا بكفاية السفر في أول الوقت لصحّة القصر واقعا) اشارة إلى أن المكلّف

٢٠٢

ومعنى الأمر بالعمل على طبق الأمارة الرخصة في أحكام الواقع على مؤدّاها ، من دون أن يحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع ، كما يوهمه ظاهر عبارتي العدّة والنهاية المتقدّمتين. فإذا أدّت إلى وجوب صلاة الجمعة واقعا ، وجب ترتيب أحكام الوجوب الواقعي وتطبيق العمل على وجوبها الواقعي ، فإن كان في أول الوقت جاز الدخول فيها بقصد الوجوب وجاز تأخيرها ، فإذا فعلها جاز له فعل النافلة وإن حرمت في وقت الفريضة

____________________________________

المسافر في أول الوقت يكون حكمه الواقعي هو وجوب القصر على قول ، فعلى هذا القول لو صلّى قصرا في أول الوقت ثم صار حاضرا لا يجب عليه الإعادة ولا القضاء لأنه قد أتى بالواجب الواقعي وهو القصر ، ثم انقلب الموضوع إلى موضوع آخر فيجب عليه الإتمام بالنسبة إلى ما يصلّي بعد الحضر.

وفي المسألة قول آخر ، وهو : أنّ وجوب القصر في أول الوقت يكون حكما ظاهريا على المسافر فيكون مشروطا بعدم الحضور قبل خروج الوقت ، فإذا صلّى قصرا ثم حضر في الوقت يجب عليه الإعادة ، لأنّ الحضور في الوقت يكشف عن فساد ما أتى به في أول الوقت.

(ومعنى الأمر بالعمل على طبق الأمارة) كما هو مقتضى الوجه الثالث وجوب ترتيب (أحكام الواقع على مؤدّاها) من دون تغيير الواقع بسبب قيام الأمارة على خلافه ، فيكون الحكم الواقعي باقيا على حاله ، غاية الأمر يكون هناك حكم ظاهري أيضا(من دون أن يحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع) هذا بخلاف الوجه الثاني حيث يحدث في الفعل الذي تضمّنت الأمارة حكمه مصلحة يتدارك بها المصلحة الواقعية.

وبالجملة ، إن الفرق بين الوجه الثالث والوجه الثاني أظهر من الشمس ، فلا يصح ما قيل من أنّ الوجه الثالث يرجع إلى الوجه الثاني ، كيف يرجع إلى الوجه الثاني مع أنّ الحكم الواقعي يتغيّر في الوجه الثاني بالحكم الواقعي الآخر بعد كشف خلاف الحكم الأول؟! ففي المثال المتقدّم كان الحكم الواقعي لمن قامت عنده الأمارة على وجوب الجمعة هو وجوب الجمعة ، ثم حينما ينشكف الخلاف ينقلب حكمه الواقعي إلى وجوب الظهر ، ولا يتغير الحكم الواقعي في الوجه الثالث ، بل هو باق على حاله ، غاية الأمر ينكشف علما أو ظنا مع كشف الخلاف.

٢٠٣

المفروض كونها في الواقع هي الظهر ، لعدم وجوب الظهر عليه فعلا ورخصة في تركهما ، وإن كان في آخر وقتها حرم تأخيرها والاشتغال بغيرها.

ثم إن استمرّ هذا الحكم الظاهري ـ أعني : الترخيص في ترك الظهر إلى آخر وقتها ـ وجب كون الحكم الظاهري بكون ما فعله في أول الوقت هو الواقع المستلزم لفوت الواقع على المكلّف ، مشتملا على مصلحة يتدارك بها ما فات لأجله من مصلحة الظهر ، لئلّا يلزم تفويت الواجب الواقعي على المكلّف مع التمكّن من إتيانه بتحصيل العلم به.

وإن لم يستمر ، بل علم بوجوب الظهر في المستقبل بطل وجوب العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعا ، ووجب العمل على طبق عدم وجوبه في نفس الأمر من أول الأمر ، لأنّ المفروض عدم حدوث وجوب النفس الأمري ، وإنّما عمل على طبقه ما دامت أمارة الوجوب قائمة.

____________________________________

فائدة مشتملة على سؤال ، وجواب :

السؤال : لما ذا يكون التصويب باطلا وما هو الدليل على البطلان؟

الجواب : أن التصويب مستلزم للدور المحال عقلا ، وذلك لأنّ قيام الأمارة على حكم من الأحكام يتوقف على ثبوت هذا الحكم قبل تعلّقها به ، ومقتضى القول بالتصويب هو ثبوت الحكم بنفس الأمارة ، وبالنتيجة تكون الأمارة موقوفة على ثبوت الحكم ، وثبوت الحكم موقوف عليها ، وهذا دور واضح ، والدور باطل ، فيكون التصويب المستلزم به باطلا. هذا هو الدليل العقلي على بطلان التصويب.

والثاني : قد قام الإجماع على التخطئة ، وكون المخطئ معذورا.

والثالث : المستفاد من الأخبار هو اشتراك الأحكام الواقعية بين العالمين بها والجاهلين.

قوله : (ثم إن استمرّ هذا الحكم الظاهري ـ أعني : الترخيص في ترك الظهر ... إلى آخره) بيان لثمرة الفرق بين الوجه الثاني والوجه الثالث ، وتظهر بينهما في وجوب القضاء والإعادة ، وعدم وجوبهما فيجب القضاء والإعادة على الوجه الثالث دون الوجه الثاني ، وذلك لأنّ المفروض كون العمل على الأمارة في الوجه الثالث يكون من باب الرخصة في مخالفة الواقع ما دامت الأمارة قائمة على الخلاف فإذا انكشف خلافها بطلت هذه الرخصة ، ووجب البناء على مقتضى الحكم الواقعي المنكشف ، وترتيب آثاره من أول

٢٠٤

فإذا فقدت بانكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة وجب ـ حينئذ ـ ترتيب ما هو كبرى لهذا المعلوم ، أعني : وجوب الإتيان بالظهر ، ونقض آثار وجوب صلاة الجمعة الّا ما فات منها ، فقد تقدّم أنّ مفسدة فواته متداركة بالحكم الظاهري المتحقّق في زمان الفوت. فلو فرضنا العلم بعد خروج وقت الظهر ، فقد تقدّم أن حكم الشارع بالعمل بمؤدّى الأمارة ـ اللازم منه ترخيص ترك الظهر في الجزء الأخير ـ لا بدّ أن يكون لمصلحة يتدارك بها مفسدة ترك الظهر.

ثم إن قلنا : إنّ القضاء فرع صدق الفوت المتوقّف على فوت الواجب من حيث إن فيه مصلحة لم يجب فيما نحن فيه ؛ لأنّ الواجب وإن ترك الّا أنّ مصلحته متداركة ، فلا يصدق على هذا الترك الفوت.

وإن قلنا : إنّه متفرع على مجرّد ترك الواجب ، وجب هنا ، لفرض العلم بترك صلاة الظهر مع وجوبها عليه واقعا.

____________________________________

الأمر.

فإذا كان انكشاف الخلاف في أثناء الوقت وجب على المكلّف الإعادة ، وإذا كان في خارجه وجب القضاء على القول بأنّ القضاء متفرّع على مجرّد ترك الواجب. نعم ، لو قلنا بأنّ القضاء متفرّع على فوات الواجب مع ما فيه من المصلحة لم يكن القضاء واجبا لعدم فوت الواجب مع ما فيه من المصلحة لتداركها بالمصلحة السلوكية فلا يصدق على هذا الترك الفوت.

وعلى كل حال لا بدّ أن تكون المصلحة السلوكية بقدر ما يتدارك به ما يفوت من مصلحة الواقع. فمثلا : إذا انكشف الخلاف في آخر الوقت فلا بدّ أن تكون المصلحة السلوكية بمقدار ما فات من الواجب من مصلحة أول الوقت ، وإذا انكشف في خارج الوقت يجب أن تكون المصلحة بهذا المقدار ، وإن لم ينكشف الخلاف أصلا لا بدّ أن تكون المصلحة السلوكية بمقدار يتدارك به تمام مصلحة الواقع.

وبالجملة ، يجب أن تكون المصلحة السلوكية التي نلتزم بها فرارا عن التصويب وتفويت المصلحة الواقعية بمقدار ما يفوت من المصلحة الواقعية.

٢٠٥

إلا أن يقال : إن غاية ما يلتزم به في المقام هي المصلحة في معذوريّة الجاهل ، مع تمكّنه من العلم ولو كانت لتسهيل الأمر على المكلّفين ، ولا ينافي ذلك صدق الفوت ، فافهم.

ثم إنّ هذا كلّه على ما اخترناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء واضح ، وأمّا

____________________________________

قوله : (الّا أن يقال : إن غاية ما يلتزم به في المقام هي المصلحة في معذوريّة الجاهل) ردّ لما ذكره من التفصيل ، وتصحيح لوجوب القضاء مطلقا ، فلا بدّ من ذكر التفصيل المتقدّم أولا على نحو الإجمال والاختصار ، ثم تصحيح وجوب القضاء مطلقا ثانيا.

أما التفصيل فهو أنّ موضوع وجوب القضاء يمكن أن يكون مجرد ترك الواجب حتى يكون مفاد الأمر بوجوب القضاء : وأقض ما ترك ، ويمكن أن يكون فوت الواجب بما فيه من المصلحة ليكون مفاد الأمر : وأقض ما فات ، فعلى الأول يجب القضاء لتحقّق الموضوع ، وعلى الثاني لا يجب القضاء لعدم صدق الفوت المتوقّف على فوت الواجب مع ما فيه من المصلحة لتدارك المصلحة الواقعية بالمصلحة السلوكية.

وأمّا ردّ هذا التفصيل وتصحيح وجوب القضاء مطلقا ، أي : سواء كان موضوع وجوب القضاء ترك الواجب أو فوت الواجب ، فهو أنّ المصلحة السلوكية لم تكن موجبة لتدارك مصلحة الواجب حتى يوجب عدم صدق الفوت ، فقد فات الواجب مع ما فيه من المصلحة وغاية ما يلتزم في المقام هي المصلحة في معذوريّة الجاهل مع تمكّنه من العلم ، فتكون هذه المصلحة مصلحة التسهيل ، ويكون الجاهل معها معذورا ، والواجب قد فات مع ما فيه من المصلحة فيجب القضاء لتحقّق الموضوع ، ولا ينافي معذوريّة الجاهل صدق الفوت.

(فافهم) لعلّه اشارة إلى أن مصلحة الواجب لا يبعد أن تكون متداركة بنفس هذه المصلحة التسهيليّة ، وهذه المصلحة التسهيليّة قد كانت موجبة لورود الأحكام في صدر الإسلام على نحو التدريج مع أنّ المسلمين كانوا مكلّفين بجميع الأحكام الواقعية ، فما فات منهم من مصالح الواقع قد تدارك بالمصلحة التسهيليّة.

(ثم إن هذا كلّه على ما اخترناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء واضح).

يعني : ما ذكر من الفرق من جهة وجوب القضاء على الوجه الثالث ، وعدم وجوبه على الوجه الثاني بناء على القول بعدم الإجزاء يكون واضحا ، وأمّا البناء على القول بالإجزاء ،

٢٠٦

على القول لاقتضائه له فقد يشكل الفرق بينه وبين القول بالتصويب.

____________________________________

فيكون الفرق محلّا للإشكال ، وذلك يتضح بعد معرفة معنى الإجزاء وما هو محل النزاع والخلاف فيه.

فنقول : إن الأوامر على ثلاثة أقسام :

الأول : الأمر الواقعي.

الثاني : الأمر الاضطراري.

الثالث : الأمر الظاهري.

ثم إتيان المأمور به لكل أمر يكون مجزيا عنه من دون نزاع وخلاف ، مثلا : إتيان المأمور به بالأمر الواقعي مجزيا عن الأمر الواقعي ، فيسقط الأمر بلا إشكال ، وكذا الباقي ، وإنّما النزاع في أنّ إتيان المأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري هل يكون مجزيا عن الأمر الواقعي حتى يسقط فلا يجب القضاء ، ولا الإعادة أم ليس كذلك؟

فعلى الأول يقال : إن الأمر الظاهري يقتضي الإجزاء ، وعلى الثاني يقال : إنّه لا يقتضي الإجزاء.

ثم إن المصنّف رحمه‌الله ممّن يقول بعدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ، وبعض يقول بالإجزاء. إذا عرفت هذا يتّضح لك الفرق على القول بعدم الإجزاء ، إذ يجب القضاء على الوجه الثالث ، ولا يجب على الوجه الثاني.

وأمّا على القول بالإجزاء فيكون الفرق محلّا للإشكال ؛ لأنّ نتيجة الوجه الثالث على القول بالإجزاء هو التصويب كالوجه الثاني ، إذ العمل بالأمارة يكون في عرض الواقع ، فكما يكون الإتيان بالواقع مع العلم به مجزيا ، كذلك يكون العمل بالأمارة مع الجهل به مجزيا مطلقا.

ثم لازم القول بالإجزاء هو الالتزام بوجود المصلحة التي يتدارك بها مفسدة فوت الواقع مطلقا ، فلا فرق بين هذا القول ـ أي : القول بالإجزاء ـ والقول بالتصويب.

ثم لا يخفى عليك أنّ مثل هذا الإشكال آت على القول بعدم الإجزاء ـ أيضا ـ في فرض عدم انكشاف الخلاف مع كون الأمارة على خلاف الواقع ، فلا بدّ من الالتزام بمصلحة يتدارك بها ما فات من المصلحة الواقعية ، والّا يكون الأمر بالعمل على طبق الأمارة قبيحا

٢٠٧

وظاهر شيخنا في تمهيد القواعد استلزام القول بالتخطئة لعدم الإجزاء ، قال قدس‌سره : «من فروع مسألة التصويب والتخطئة لزوم الإعادة للصلاة بظنّ القبلة وعدمه» وإن كان في تمثيله لذلك بالموضوعات محل نظر.

فعلم من ذلك أنّ ما ذكره من وجوب كون فعل الجمعة مشتملا على مصلحة يتدارك به مفسدة ترك الواجب ومعه يسقط عن الوجوب ممنوع ، لأنّ فعل الجمعة قد لا يستلزم إلّا ترك الظهر في بعض أجزاء وقته ، فالعمل على الأمارة معناه الإذن في الدخول فيها على قصد الوجوب والدخول في التطوع بعد فعلها.

____________________________________

لأنّه مفوّت للواقع.

وسيأتي جواب هذا الإشكال في كلام المصنّف رحمه‌الله فانتظر.

ثم يقول المصنّف رحمه‌الله : (وظاهر شيخنا) وهو الشهيد الثاني رحمه‌الله (في تمهيد القواعد) هو (استلزام القول بالتخطئة لعدم الإجزاء) فلا يجب الالتزام بتدارك المصلحة الواقعية بالمصلحة السلوكية.

(وإن كان في تمثيله لذلك) أي : لفروع مسألة التصويب (بالموضوعات محلّ نظر) إذ اختلاف المصوّبة والمخطّئة إنّما هو في الأحكام لا في الموضوعات كاشتباه القبلة لأنّهم متفقون على التخطئة في الموضوعات لأنّها امور تكوينية لا تتغير بقيام الأمارة عمّا هي عليه أصلا.

وهذا بخلاف الأحكام ، فإنّها تكون من الامور الاعتبارية ، ومن البديهي أنّ الأمر الاعتباري تابع لاعتبار المعتبر شارعا كان أو غيره ، فيمكن تغيّرها بسبب قيام الأمارة فيمكن تغيير وجوب الظهر بوجوب الجمعة لمن قام عنده الأمارة على وجوبها ، ولا يمكن تغيير الكعبة بقيام الأمارة على كونها في جهة معينة مثلا ، فاختلاف الظن لا يوجب اختلاف الكعبة بالضرورة.

(فعلم من ذلك أنّ ما ذكره من وجوب كون فعل الجمعة مشتملا على مصلحة ... إلى آخره).

هذا القول من المصنّف رحمه‌الله بيان لنتيجة الفرق بين الوجه الثالث والوجه الثاني ، ولمنع رجوع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني.

٢٠٨

نعم ، يجب في الحكم بجواز فعل النافلة اشتماله على مصلحة يتدارك به مفسدة فعل التطوع في وقت الفريضة لو اشتمل دليله الفريضة الواقعية المأذون في تركها ظاهرا ، وإلّا كان جواز التطوع في تلك الحال حكما واقعيا لا ظاهريا.

____________________________________

وملخّص البيان : أنه قد علم من الفرق بين الوجهين منع ما ذكره المستشكل من وجوب كون فعل الجمعة على الوجهين مشتملا على المصلحة التي يتدارك بها مصلحة الواقع ، غاية الأمر يكون ظرف هذه المصلحة في الوجه الثاني متعلّق الحكم ، وفي الوجه الثالث تطبيق العمل على الأمارة.

ثم يسقط الواجب الواقعي من الوجوب على كلا الوجهين لتدارك مصلحته ، وهذا القول من المستشكل ممنوع ، وذلك لأنّ اشتمال فعل الجمعة على مصلحة يتدارك بها الواقع مطلقا إنّما هو صحيح على الوجه الثاني لحدوث المصلحة بعد قيام الأمارة في فعل الجمعة ، ويصير وجوب الجمعة حكما واقعيا في حقّ من قامت عنده الأمارة على وجوبها ، فلا بدّ من اشتماله على المصلحة في جميع الموارد.

وأما في الوجه الثالث فلا يجب اشتماله عليها في جميع الموارد ، بل فى بعضها ؛ لأنّ العمل على طبق الأمارة ، والإتيان بصلاة الجمعة قد يكون مستلزما لترك الظهر في تمام الوقت فيما إذا لم ينكشف الخلاف الّا بعد خروج الوقت ، فيكون معنى الأمر بالأمارة ـ حينئذ ـ الإذن في ترك الظهر في تمام الوقت ، فلا بدّ من الالتزام بمصلحة في فعل الجمعة يتدارك بها مصلحة الظهر ، وقد لا يستلزم العمل بالأمارة الّا ترك الظهر في بعض الوقت فيما إذا انكشف الخلاف قبل خروج الوقت ، وحينئذ لا حاجة إلى اشتماله على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ، بل يجب أن يكون مشتملا على مقدار مصلحة يتدارك بها مصلحة فضيلة الوقت ، ومفسدة الإتيان بالجمعة بقصد الوجوب ، فيكون الواجب الواقعي باقيا على وجوبه جزما ، فلا يلزم التصويب أصلا.

(نعم ، يجب في الحكم بجواز فعل النافلة اشتماله على مصلحة يتدارك به مفسدة فعل التطوّع في وقت الفريضة لو اشتمل دليله الفريضة الواقعية المأذون في تركها ظاهرا).

يعني : أن المسلّم هو دلالة الدليل على حرمة النافلة في وقت الفريضة ، ثم اختلف الفقهاء في أن المحرّم هل فعل التطوّع والنافلة في وقت الفريضة الواقعية ، أو الظاهرية؟

٢٠٩

وأمّا قولك : إنّه تدارك المفسدة بمصلحة الحكم الظاهري يسقط الوجوب فممنوع أيضا ، إذ قد يترتب على وجوبه واقعا حكم شرعي وإن تدارك مفسدة تركه مصلحة فعل آخر كوجوب قضائه إذا علم بعد خروج الوقت بوجوبه واقعا.

وبالجملة : فحال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على حكم شرعي حال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على الموضوع الخارجي ، كحياة زيد وموت عمرو.

____________________________________

فعلى الأول لا بدّ أن يكون في فعل الجمعة مصلحة يتدارك بها مفسدة فعل النافلة في وقت الفريضة الواقعية وهي الظهر.

وأمّا على الثاني فلا حاجة إلى المصلحة التي يتدارك بها مفسدة فعل النافلة ، إذ لا مفسدة في فعل النافلة لأنّ المكلّف لم يأت بها في وقت الفريضة ، بل أتى بها بعدها ، فيكون جوازها بعدها حكما واقعيا لا مفسدة فيه أصلا.

(وأمّا قولك : أنّه مع تدارك المفسدة بمصلحة الحكم الظاهري يسقط الوجوب فممنوع) فلا بدّ من بيان تقريب الإشكال أولا ، ثم الجواب عنه ثانيا.

وتقريب الإشكال : أنّ المستفاد من كلام المصنّف رحمه‌الله في فرض انكشاف الخلاف بعد الوقت وترك الظهر في الوقت ، هو أن يكون فعل الجمعة مشتملا على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ، فلا يجب الظهر لانتفاء الملاك فالواجب هو الجمعة ، ويكون وجوبه حكما واقعيا. وليس هذا الّا التصويب الباطل.

والجواب عنه : إنّ الحكم الواقعي ـ وهو وجوب الظهر ـ يكون باقيا حتى في هذه الصورة أيضا ، فيترتّب عليه وجوب القضاء فلا يلزم التصويب. نعم ، قد لا يترتب على بقاء الحكم الواقعي أثر شرعي فيما إذا لم ينكشف الخلاف أصلا.

(وبالجملة : فحال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على حكم شرعي حال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على الموضوع الخارجي ، كحياة زيد وموت عمرو).

يعني : حال الأمارة على الوجه الثالث إذا قامت على ثبوت حكم شرعي كحال الأمارة القائمة على الموضوع الخارجي.

فكما أنّ قيام الأمارة كالبيّنة مثلا على حياة زيد أو موت عمرو ، لا يوجب تغيير الموضوع عمّا هو عليه ، كذلك قيام الأمارة على الحكم الشرعي لا يوجب تغييره عما هو

٢١٠

فكما أنّ الأمر بالعمل بالأمارة في الموضوعات لا يوجب جعل نفس الموضوع ، وإنّما يوجب جعل أحكامه ، فيترتب عليه الحكم ما دامت الأمارة قائمة عليه ، فإذا فقدت الأمارة وحصل العلم بعدم ذلك الموضوع ترتّب عليه في المستقبل جميع أحكام عدم ذلك الموضوع من أول الأمر ، فكذلك حال الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على الحكم.

وحاصل الكلام ثبوت الفرق الواضح بين جعل مدلول الأمارة حكما واقعيا والحكم بتحقّقه واقعا عند قيام الأمارة وبين الحكم واقعا بتطبيق العمل على الحكم الواقعي المدلول عليه بالأمارة ، كالحكم واقعا بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي قامت عليه الأمارة.

وأمّا توهّم : «أن مرجع تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعي بالمصلحة الثابتة في

____________________________________

عليه ، فلا فرق بين الأمارة على الموضوع الخارجي وبين الأمارة القائمة على الحكم الشرعي ، الّا أنّ وجود الموضوعات في الواقع تكويني ووجود الأحكام الشرعية في الواقع تشريعي.

وبالجملة ، إنّ التخطئة في الموضوعات يكون اتفاقيا بمعنى أنّ قيام البينة على موت زيد لا يوجب جعل الموضوع أي : الموت إن كان حيّا ، فكذلك نقول في جانب الأحكام بأنّ قيام الأمارة على وجوب الجمعة لا يوجب وجوبها.

نعم ، إنّ الأمر بالأمارة في الموضوعات إنّما يوجب جعل أحكام الموضوع فيترتب عليه أحكامه من تقسيم أموال من قامت البينة على موته ، وتزويج زوجته وغير ذلك من الأحكام ، فإذا فقدت الأمارة وانكشف الخلاف بأن جاء زيد من السفر يترتب على العلم بعدم الموت جميع أحكام الموت فترجع اليه الأموال والزوجة.

وكذلك فيما نحن فيه قيام الأمارة على وجوب الجمعة لا يوجب جعل الجمعة واجبا في الواقع ، بل يوجب جعل آثار الوجوب الواقعي عليها فإذا انكشف الخلاف يترتب عليها آثار عدم الوجوب فيجب قضاء الظهر.

وأما قولك : (أنّ مرجع تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعي بالمصلحة الثابتة).

يعني : الفرق المذكور بين الوجه الثاني بكون المؤدّى فيه حكما واقعيا ، وبين الوجه الثالث بكون المؤدّى فيه حكما ظاهريا مع بقاء الحكم الواقعي على حاله لا يكفي في نفي

٢١١

العمل على طبق مؤدّى الأمارة إلى تصويب الباطل ، نظرا إلى خلوّ الحكم الواقعي حينئذ عن المصلحة الملزمة التي تكون في فوتها المفسدة».

ففيه : منع كون هذا تصويبا ، كيف ، والمصوّبة يمنعون حكم الله في الواقع؟ فلا يعقل عندهم ايجاب العمل بما جعل طريقا اليه والتعبّد بترتيب آثاره في الظاهر ، بل التحقيق عدّ مثل هذا من وجوه الردّ على المصوّبة ، وأما ما ذكر من : «أنّ الحكم الواقعي إذا كان مفسدة مخالفته متداركة بمصلحة العمل على طبق الأمارة ، فلو بقي في الواقع كان حكما بلا صفة ، والّا ثبت انتفاء الحكم في الواقع.

____________________________________

التصويب عن الوجه الثالث ، بل يرجع إلى التصويب ؛ إذ الحكم الواقعي بعد تدارك مصلحته بالمصلحة السلوكية ينتفي بانتفاء ملاكه ، وإلّا يلزم الحكم من دون صفة تقتضيه ، وهو باطل عند العدلية ، فحينئذ يرجع الوجه الثالث إلى التصويب.

(ففيه : منع كون هذا تصويبا).

وملخّص ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من منع رجوع الوجه الثالث إلى التصويب : أنّ التصويب هو خلوّ الواقع من الحكم قبل قيام الأمارة ، فلا يعقل إيجاب العمل بما جعل طريقا إلى الواقع ، فجعل الأمارة طريقا إليه بإيجاب العمل على طبقها يكون أقوى دليل على وجود واقع قبل قيامها ، فيكون هذا ردّا على المصوّبة ، إذ لو لم يكن هناك واقع مشترك لم يكن معنى لجعل الأمارة طريقا اليه ، ولا يعقل جعلها طريقا على القول بالتصويب ، لأنّه مستلزم للدور ، وذلك لأنّ ثبوت الحكم في الواقع موقوف على الأمارة والأمارة من حيث كونها طريقا إلى الواقع موقوفة على الواقع ، وهذا دور واضح والدور باطل ، فجعل الأمارة طريقا يكون باطلا على القول بالتصويب.

ولذا يقول المصنّف رحمه‌الله : (بل التحقيق عدّ مثل هذا من وجوه الردّ على المصوّبة) يعني : إيجاب العمل بما جعل طريقا إلى الواقع يكون من وجوه الردّ عليهم.

(وأمّا ما ذكر من : «أن الحكم الواقعي إذا كان مفسدة مخالفته متداركة بمصلحة العمل على طبق الأمارة ، فلو بقي في الواقع كان حكما بلا صفة ، والّا ثبت انتفاء الحكم في الواقع).

يعني : هذا من المصنّف بيان للإشكال الآخر.

وملخّصه : أنّ الحكم الواقعي بعد تدارك مفسدة مخالفته بالمصلحة السلوكية لا يخلو

٢١٢

وبعبارة اخرى : إذا فرضنا الشيء في الواقع واجبا وقامت أمارة على تحريمه ، فإن لم يحرم ذلك الفعل لم يجب العمل بالأمارة ، وإن حرم فإن بقي الوجوب لزم اجتماع الحكمين المتضادين ، وإن انتفى ثبت انتفاء الحكم الواقعي».

____________________________________

عن أحد أمرين : البقاء أو الانتفاء ، فعلى الأول يلزم ثبوت الحكم من دون ملاك وصفة تقتضيه لأنّ مصلحته قد زالت بتداركها ثم الحكم من دون مصلحة باطل على مذهب العدلية ، فلا بدّ من الالتزام بالأمر الثاني ، وهو انتفاء الحكم الواقعي فيلزم التصويب.

(وبعبارة اخرى :) إذا قامت أمارة على تحريم ما هو الواجب في الواقع فلا يخلو ما دلت الأمارة على حرمته عن أحد أمرين : إمّا أن يكون حراما ، أو لا يكون كذلك ، فعلى الثاني لم يجب العمل بالأمارة ، وهو خلاف المفروض لأنّ الفرض وجوب العمل بها ، وعلى الأول ـ أيضا ـ لا يخلو عن أحد أمرين :

١ ـ بقاء الحكم الواقعي.

٢ ـ انتفاؤه.

فعلى الأول يلزم اجتماع الحكمين المتضادين وهو باطل ، كما يلزم ـ أيضا ـ الحكم بلا مصلحة وملاك لأنّ مصلحته متداركة بالمصلحة السلوكية.

وعلى الثاني يلزم التصويب فيلزم من التعبّد بالأمارات أحد المحاذير التالية على سبيل منع الخلو :

الأول : تفويت المصلحة الواقعية ، وهذا المحذور يلزم فيما إذا لم يكن ما دلّت الأمارة على تحريمه حراما ، فيكون العمل بالأمارة موجبا لفوت الواقع من دون تداركه لأنّ العمل بالأمارة ـ حينئذ ـ لم يجب حتى يكون فيه مصلحة يتدارك بها الواقع ، فيلزم تفويت المصلحة الواقعية.

والثاني : اجتماع الحكمين المتضادّين كما تقدّم.

والثالث : الحكم بلا مصلحة.

والرابع : التصويب.

وما ذكرناه يكون خاليا عن الإشكال ، وما ذكره المصطفى الاعتمادي من فرضه الحكم الظاهري مع مصلحة سلوكية تارة ، وبدونها اخرى لا يخلو من إشكال ، لأنّ المفروض عند

٢١٣

ففيه : إن المراد بالحكم الواقعي الذي يلزم بقاؤه هو الحكم المتعيّن المتعلّق بالعباد الذي تحكي عنه الأمارة ويتعلّق به العلم والظن ، وأمر السفراء بتبليغه وإن لم يلزم امتثاله

____________________________________

المصنّف ؛ هو اشتمال الحكم الظاهري على المصلحة ، ففرض كونه غير مشتمل عليها مجرد فرض لا واقع له أصلا.

(ففيه : إن المراد بالحكم الواقعي الذي يلزم بقاؤه هو الحكم المتعيّن المتعلّق بالعباد) والظاهر أنّ ما أجاب به المصنّف يكون جوابا عن تقريب الإشكال بعبارة اخرى ، ولم يظهر من كلامه رحمه‌الله الجواب عن الإشكال بالتعبير الأول ، وهو لزوم الحكم من دون صفة تقتضيه ، أو التصويب ، فلا بدّ من الجواب عن كلا التعبيرين.

فنقول في الجواب عن الإشكال بالتعبير الأول : إنّ المصلحة الواقعية باقية على حالها ، ولا تتغير ، ولا تزول بقيام الأمارة على حرمة الظهر بعد كونها واجبة في الواقع ، غاية الأمر تتدارك بالمصلحة السلوكية ، ومعلوم أنّ تداركها واستيفاءها بالمصلحة السلوكية غير زوالها واقعا ، فعلى هذا نختار الشقّ الأول ، يعني : بقاء الحكم الواقعي فرارا عن التصويب باختيار الشقّ الثاني ولا يلزم الحكم بلا صفة تقتضيه.

ونقول في الجواب عن التعبير الثاني : إنّا نختار الشقّ الأول وهو بقاء الحكم الواقعي ، ولا يلزم أيّ محذور أصلا.

أما عدم لزوم محذور الحكم من دون ملاك ومصلحة ، فقد تقدّم في الجواب عن التعبير الأول ، وأمّا عدم لزوم محذور اجتماع الحكمين المتضادين فلعدم الوحدة ، ثم إنّ عدم الوحدة تارة يمكن أن يكون المراد منه عدم وحدة الموضوع ، واخرى عدم وحدة الحكمين مرتبة ، وعلى كلا التقديرين ينتفي شرط التضاد بين الأمرين ، فلا يلزم اجتماع الضدين.

أمّا انتفاء وحدة الموضوع فواضح ، لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي ، وموضوع الحكم الواقعي هو الظهر على نحو لا بشرط أي : لا يشترط فيه العلم ولا الجهل ، فالحكم الظاهري يعني : حرمة الظهر ، يكون موضوعه هو الظهر المشكوك حكمه الواقعي ، وموضوع الحكم الواقعي أعني : الوجوب ، هو الظهر على نحو لا بشرط.

وأما انتفاء الوحدة من حيث المرتبة فظاهر ، وذلك لأنّ الحكم الواقعي المشترك بين

٢١٤

فعلا في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه ، الّا أنه يكفي في كونه حكمه الواقعي أنّه لا يعذر فيه إذا كان عالما به أو جاهلا مقصّرا ، والرخصة في تركه عقلا ، كما في الجاهل القاصر ، أو شرعا ، كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه ، وممّا ذكرنا يظهر حال الأمارة على الموضوعات الخارجية ، فإنّها من القسم الثالث.

والحاصل : أن المراد بالحكم الواقعي هي مدلولات الخطابات الواقعية غير المقيدة بعلم المكلّفين ولا بعدم قيام الأمارة على خلافها ، لها آثار عقلية وشرعية تترتّب عليها عند العلم بها ، أو قيام أمارة حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع. نعم ، هذه ليست أحكاما فعلية بمجرد وجودها الواقعي.

____________________________________

العباد لا يكون فعليا في حقّ هذا الشخص ، والحكم الظاهري يكون فعليا فيرتفع التضاد بين الحكمين ، إذ لا تضاد بين الحكم الفعلي وغير الفعلي ، وإنّما التضاد يكون بين حكمين فعليين ، والظاهر من المصنّف رحمه‌الله هو انتفاء الوحدة على الوجه الثاني.

(الّا أنه يكفي في كونه حكمه الواقعي أنّه لا يعذر فيه إذا كان عالما به أو جاهلا مقصّرا).

يعني : يكفي في كون وجوب الظهر مثلا مع قيام الأمارة حكما واقعيا أنّ المكلّف لا يكون معذورا في تركه إذا كان عالما به ، فيجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، أو جاهلا مقصّرا كالعامل بالأمارة من دون فحص عن الواقع مع تمكّنه عنه ، فلا يشترط في كون الحكم كوجوب الظهر مثلا واقعيا امتثال المكلّف به فعلا.

(ولها آثار عقلية وشرعية).

أي : للأحكام الواقعية آثار عقلية كحكم العقل بوجوب إطاعتها ، وحرمة معصيتها ، وآثار شرعية كوجوب القضاء ، والإعادة إذا انكشف الخلاف ، وحرمة النافلة في وقتها ويترتّب على هذه الأحكام الواقعية عند العلم بها ، أو عند قيام الأمارة المطابقة البناء على كون مؤدّاها هو الواقع لحكم الشرع والعقل بوجوب العمل على طبقها.

(نعم ، هذه ليست أحكاما فعلية بمجرد وجودها الواقعي).

ومن هذا الكلام يظهر عدم محذور من الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، لاختلافهما من حيث المرتبة ، إذ الحكم الواقعي يكون بمرتبة الاقتضاء والانشاء ، والحكم الظاهري يكون بمرتبة الفعلية فلا محذور في اجتماعهما ؛ لأن المحذور في اجتماعهما

٢١٥

فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ ما ذكره ابن قبة ـ من استحالة التعبّد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة غير العلمية ـ ممنوع على إطلاقه ، وإنّما يصح إذا ورد التعبّد على بعض الوجوه كما تقدّم تفصيل ذلك.

ثم إنّه ربّما ينسب إلى بعض : «إيجاب التعبّد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة على الله تعالى ، بمعنى قبح تركه منه» في مقابل قول ابن قبة.

____________________________________

إنّما هو فيما إذا كانا بمرتبة واحدة.

(فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ ما ذكره ابن قبة ـ من استحالة التعبّد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة غير العلمية ـ ممنوع على اطلاقه).

نعم ، يصح ما ذكره من قبح التعبّد بالظن على بعض الوجوه المتقدمة وهو التعبّد به على نحو الطريقية ، يعني : جعل الشارع ايّاه طريقا إلى الواقع مع تمكّن المكلّف من العلم به ، فيكون التعبّد به قبيحا لأنّه موجب لتفويت الواقع.

هذا تمام الكلام في الجواب عن ابن قبة حيث قال باستحالة التعبّد بخبر الواحد ، وهنا قول في قبال ابن قبة حيث قيل بوجوب التعبّد بالظن ، وقد أشار المصنّف إلى هذا القول بقوله :

(ثم إنّه ربّما ينسب إلى بعض : «إيجاب التعبّد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة على الله تعالى).

والقائل بهذا القول هو ابن شريح ، وأبو الحسن البصري ، واستدلّا على وجوب التعبّد ببعض ما استدلّ به ابن قبة على امتناعه حيث قال : إن التعبّد بالأمارة مستلزم لتفويت المصلحة ، أو الإلقاء في المفسدة ، وهما استدلّا بنفس هذا الوجه حيث قالا : وجب على الله تعالى أن يتعبّدنا بالأمارات بمعنى : قبيح تركه منه تعالى ، لأنّه مستلزم لتفويت المصلحة ، أو الإلقاء في المفسدة.

والأول : فيما إذا قامت الأمارة على وجوب شيء وكانت مطابقة للواقع فيكون ترك التعبّد بها موجبا لتفويت المصلحة بترك الواجب.

والثاني : فيما إذا دلّت أمارة على حرمة شيء ، فيكون الترك موجبا للإلقاء في المفسدة بفعل ما هو محرّم في الواقع ، فيكون دليل من يقول بوجوب التعبّد هو نفس دليل ابن قبة

٢١٦

فإن أراد به وجوب امضاء حكم العقل بالعمل به عند عدم التمكّن من العلم ببقاء التكليف ، فحسن ؛ وإن أراد وجوب الجعل بالخصوص في حال الانسداد ، فممنوع ؛ إذ جعل الطريق بعد انسداد باب العلم إنّما يجب عليه إذا لم يكن هناك طريق عقلي وهو الظن ، الّا أن يكون لبعض الظنون في نظره خصوصية.

____________________________________

القائل بالامتناع ، فالأقوال في هذه المسألة ثلاثة :

١ ـ امتناع التعبّد.

٢ ـ وجوب التعبّد.

٣ ـ إمكان التعبّد ، ويقول به المشهور.

والمصنّف رحمه‌الله قد اختار هذا القول المشهور فيردّ القول بوجوب التعبّد كما ردّ قول ابن قبة حيث يقول في مقام ردّ هذا القول : (فإن أراد به) أي : إيجاب التعبّد بالظن وجوب إمضاء الشارع ما حكم به العقل من العمل بالظن عند عدم تمكّن المكلّف من العلم ، وبقاء التكليف ، (فحسن) إذ العقل يحكم بحجّية الظن عند انسداد باب العلم ، فيجب على الله تعالى إمضاء ذلك فيكون مطلق الظن حجّة.

(وإن أراد وجوب الجعل بالخصوص في حال الانسداد فممنوع).

ففي قوله : بالخصوص ، احتمالان :

الاحتمال الأول : كونه قيدا للجعل بمعنى : إن الجعل لم يكن إمضاء لحكم العقل ، بل يكون جعل الظن حجّة مع قطع النظر عن حكم العقل ، فلا يرتبط جعل الشارع بحكم العقل أصلا ، فيكون خاصّا له.

الاحتمال الثاني : كونه قيدا للمجعول بمعنى : إن الله يجعل بعض الأمارات حجّة ، فيكون المجعول حجّية بعض الأمارات الخاصة كخبر العادل مثلا.

وما يظهر من كلامه رحمه‌الله هو الاحتمال الثاني حيث قال : (الّا أن يكون لبعض الظنون في نظره خصوصية).

وعلى كلا التقديرين يكون جعل الشارع ممنوعا وباطلا ، وذلك لأنّ احتمال الأول مستلزم لأن يكون الجعل جعل ما هو حاصل ، إذ الشارع جعل اعتبار الظن الحاصل عقلا فيلزم تحصيل ما هو حاصل ، وقد ثبت في محله استحالة تحصيل ما هو حاصل ، ولا يلزم

٢١٧

وإن أراد حكم صورة الانفتاح ، فإن أراد وجوب التعبّد العيني فهو غلط ، لجواز تحصيل العلم معه قطعا ، وإن أراد وجوب التعبّد به تخييرا ، فهو ممّا لا يدركه العقل ، إذ لا يعلم العقل بوجود مصلحة في الأمارة يتدارك بها مصلحة الواقع التي تفوت بالعمل بالأمارة ، اللهم الّا أن يكون في تحصيل العلم حرج يلزم في العقل رفع إيجابه بنصب أمارة هي أقرب من غيرها إلى الواقع ، أو أصحّ في نظر الشارع من غيره في مقام البدلية عن الواقع ، والّا فيكفي

____________________________________

هذا المحذور من فرض الإمضاء لأنّ الإمضاء يكون تأكيدا لما حكم به العقل.

ثم وجه المنع على الاحتمال الثاني هو لزوم الترجيح من دون مرجّح ، وقد ثبت في محلّه بطلان ذلك ، فيكون جعل بعض الظن ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل ، الّا أن يكون لبعض الظنون في نظر الشارع خصوصية ومزية ، فيصح له أن يجعل ما له المزية حجّة ، فلا يلزم حينئذ محذور الترجيح بلا مرجّح.

فالاحتمال الثاني يكون أقل محذورا من الاحتمال الأول ، فالأولى ـ حينئذ ـ أن يؤخذ به دون الأول.

(وإن أراد حكم صورة الانفتاح ، فإن أراد وجوب التعبّد العيني فهو غلط).

إذ يكون معناه عدم جواز تحصيل العلم وهذا باطل ، لأنّ التعبّد بالأمارة لا يوجب حرمة تحصيل العلم قطعا ، فيجوز تحصيله والعمل به ، وهو ينافي وجوب العمل بها معيّنا بمقتضى وجوب التعبّد بها تعيينا فيكون باطلا.

(وإن أراد وجوب التعبّد به تخييرا ، فهو ممّا لا يدركه العقل).

أي : إن أراد كون وجوب التعبّد بالظن وجوبا تخييريا بأن يجعل الشارع العمل بالأمارة عدلا لتحصيل العلم والعمل به حتى يكون المكلّف مخيّرا بين العمل بها ، وبين تحصيل العلم والعمل به فهو ممّا لا يدركه العقل ، أي : لا يحكم العقل بالوجوب التخييري.

كيف يحكم به مع كون تحصيل العلم أرجح من العمل بالأمارة؟ فحينئذ يحكم العقل بالعمل بما هو الأرجح فرارا من تقديم المرجوح على الراجح.

الّا أن يقال : بأن تحصيل العلم موجب للعسر والحرج فيجب عقلا رفعه ، ويكون رفعه بجعل بدل عنه وهو الأمارة ، غاية الأمر يجب على الشارع أن ينصب أمارة (هي أقرب من غيرها إلى الواقع) على فرض حجّيتها من باب الطريقيّة (أو أصحّ في نظر الشارع من غيره)

٢١٨

امضاؤه للعمل بمطلق الظن ، كصورة الانسداد.

____________________________________

على فرض حجّية الأمارات من باب السببية ، ولكن هذا في الحقيقة يكون نفيا للتخيير ، إذ تحصيل العلم إذا كان حرجيا لم يكن جائزا أصلا فضلا عن كونه واجبا.

(والّا فيكفي إمضاؤه للعمل بمطلق الظن) أي : وإن لم يكن بين الأمارات تفاوت بأقربية بعضها على بعض فيكفي في رفع حرج تحصيل العلم إمضاؤه مطلق الظن كصورة الانسداد.

* * *

٢١٩
٢٢٠