دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

العلم بالواقع فلا يعقل المنع عن العمل به فضلا عن امتناعه ، إذ مع فرض عدم التمكّن من العلم بالواقع ؛ إمّا أن يكون للمكلّف حكم في تلك الواقعة ، وإمّا أن لا يكون له فيها حكم ، كالبهائم والمجانين.

فعلى الأول فلا مناص عن إرجاعه إلى ما لا يفيد العلم من الاصول والأمارات الظنية التي منها خبر الواحد.

وعلى الثاني يلزم ترخيص فعل الحرام الواقعي وترك الواجب الواقعي ، وقد فرّ المستدل منهما.

فإن التزم أن مع عدم التمكّن من العلم لا وجوب ولا تحريم لأن الواجب والحرام ما علم بطلب فعله أو تركه.

قلنا : فلا يلزم من التعبّد بالخبر تحليل حرام ، أو عكسه ، وكيف كان

____________________________________

للعمل من حيث الإصابة والخطأ ، وبين عدم كونه كذلك كما يأتي مفصّلا.

فيقع الكلام في امتناع التعبّد بالظن على فرض انسداد باب العلم ، فإن أراد ابن قبة امتناع التعبّد بالخبر في فرض انسداد باب العلم ، فلا يعقل المنع فضلا عن كونه ممتنعا ، إذ مع فرض تمكّن المكلّف من العلم بالواقع لا يخلو الواقع عن أحد الاحتمالين : إما أن يبقى الحكم في الواقع ، أو لا يبقى الحكم في الواقع ، بل يكون المكلّف كالبهائم ، والمجانين ، وعلى الأول فلا بدّ للمكلّف أن يعمل بالظن ، إذ طريق امتثال التكليف منحصر بما لا يفيد العلم ، فيجب عليه الرجوع اليه.

وعلى الثاني يلزم ترخيص فعل الحرام الواقعي الموجب للإلقاء في المفسدة أو تحليل الحرام بتعبير ابن قبة ، ويلزم ترك الواجب الواقعي الموجب لتفويت المصلحة ، والحاصل يلزم ما فرّ منه ابن قبة ، فيحكم ببطلان الاحتمال الثاني بالاتفاق ، فيبقى الاحتمال الأول ، وهو بقاء الحكم الواقعي ، فيجب العمل بالظن ، فلا يعقل المنع فضلا عن الامتناع.

(فإن التزم أن مع عدم التمكن من العلم لا وجوب ولا تحريم لأن الواجب والحرام ما علم بطلب فعله أو تركه.

قلنا : فلا يلزم من التعبّد بالخبر تحليل حرام ، أو عكسه).

يعني : لو التزم ابن قبة بعدم الحكم الواقعي لمن لا يتمكّن من العلم به لا يلزم من العمل

١٨١

فلا نظن بالمستدل إرادة الامتناع في هذا الفرض ، بل الظاهر أنه يدّعي الانفتاح ، لأنّه أسبق من السيد وأتباعه الذين ادعوا انفتاح باب العلم.

وممّا ذكرنا ظهر أنه لا مجال للنقض عليه بمثل الفتوى لأن المفروض انسداد باب العلم على المستفتي ، وليس له شيء أبعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بقول المفتي ، حتى إنه لو تمكّن من الظن الاجتهادي فالأكثر على عدم جواز العمل بفتوى الغير ، وكذلك نقضه بالقطع مع احتمال كونه في الواقع جهلا مركبا ، فإن باب هذا الاحتمال منسدّ على

____________________________________

بالظن تحليل الحرام ، إذ لا تحريم في الواقع حتى يلزم تحليله ، فلا يلزم تحليل الحرام وإنّما يكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، فالحكم منحصر بمؤدّى الظن ، ولازم هذا هو التصويب الباطل ، فانحصر الاحتمال الصحيح في الاحتمال الأول وهو ثبوت الواقع فلا مناص من العمل بالخبر ، بل مطلق الظن.

فالملخّص من الجميع على تقدير الانسداد ؛ إمّا أن يقال بثبوت الأحكام الواقعية وفعليّتها ، أو يقال بعدم فعليّتها أو يقال بعدم ثبوتها أصلا.

فعلى الأول ـ كما هو الصحيح ـ لا بدّ من العمل بالخبر ، بل بمطلق الظن.

وعلى الثاني يلزم المحذور ، فيكون الالتزام به كرّا على ما فرّ منه.

وعلى الثالث لا يلزم من العمل بالخبر تحليل الحرام لعدم ثبوت الحكم بالحرمة في الواقع.

(فلا نظن بالمستدلّ إرادة الامتناع في هذا الفرض).

يعني : يقول المصنّف رحمه‌الله : إن فرض الانسداد لا يكون مراد ابن قبة قطعا وجزما ، فهذا الفرض يكون مقطوع العدم ، بل ابن قبة يقول بانفتاح باب العلم ، فيكون مراده امتناع التعبّد بالظن على تقدير الانفتاح لا الانسداد ، فلا يرد عليه النقض بمثل الفتوى وغيرها لأن هذه الامور تكون حجّة في فرض الانسداد ، وابن قبة يقول بعدم جواز العمل بها ، بل يقول بالامتناع في فرض الانفتاح ، وكذا لا يصحّ نقضه بالعمل بالقطع مع احتمال كونه جهلا مركبا ، لأن العقل يحكم بحجية القطع مطلقا لان القاطع حين القطع لا يحتمل الخلاف أصلا.

ولذا قال المصنّف : (فإن باب هذا الاحتمال منسدّ على القاطع) فيجب عليه أن يعمل

١٨٢

القاطع ، وإن أراد الامتناع مع انفتاح باب العلم والتمكّن منه في مورد العمل بالخبر ، فنقول : إن التعبّد بالخبر ـ حينئذ ـ يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يجب العمل به لمجرد كونه طريقا إلى الواقع وكاشفا ظنيا عنه ، بحيث لم يلاحظ فيه مصلحة سوى الكشف عن الواقع ، كما قد يتفق ذلك عند انسداد باب العلم وتعلّق الغرض بإصابة الواقع ، فإن الأمر بالعمل بالظن الخبري أو غيره لا يحتاج إلى مصلحة سوى كونه كاشفا ظنيا عن الواقع.

الثاني : أن يجب العمل به لأجل أنه يحدث فيه بسبب قيام تلك الأمارة مصلحة راجحة على المصلحة الواقعية التي تفوت عند مخالفة تلك الأمارة للواقع ، كأن يحدث في صلاة الجمعة بسبب إخبار العادل بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها ، على تقدير حرمتها واقعا.

أمّا إيجاب العمل بالخبر على الوجه الأول ، فهو وإن كان في نفسه قبيحا مع فرض

____________________________________

بقطعه ، فليس القطع كالخبر حتى يحتمل المكلّف كونه غير مطابق للواقع ، فيلزم المحذور.

(وإن أراد الامتناع مع انفتاح باب العلم والتمكّن منه في مورد العمل بالخبر).

فتارة : نفرض اعتبار الأمارات والطرق من باب الطريقية ، بمعنى أن الغرض من اعتبارها ووجوب العمل بها ليس الّا لكونها كاشفة عن الواقع ، والعمل بها يوجب وصول المكلّف إلى الواقع ، كما إذا أمر المولى عبده بالذهاب إلى بغداد ، ثم يقول له اسأل الاعرابي إذا اشتبه عليك الطريق واعمل بخبره ، فإن أمره بالعمل بالخبر عند اشتباه الطريق ليس الّا لمجرد كونه موصلا إلى بغداد.

واخرى : نفرض اعتبارها من باب السببيّة ، بمعنى وجوب العمل بها يكون لأجل حدوث المصلحة الراجحة على المصلحة الواقعية التي تفوت بسبب العمل بها عند مخالفتها للواقع ، فقيام الأمارة يكون سببا لحدوث المصلحة الراجحة بحيث تتدارك بها المصلحة الواقعية التي تفوت عند مخالفة تلك الأمارة ، أو تزول بها المفسدة الواقعية ، كما إذا قام الخبر على وجوب صلاة الجمعة وكانت محرمة في الواقع ، فقيام الخبر على وجوبها يوجب حدوث المصلحة الراجحة في فعل الصلاة بحيث تزول المفسدة الواقعية بها.

ثم يقول المصنّف رحمه‌الله : (أمّا إيجاب العمل بالخبر على الوجه الأول).

١٨٣

انفتاح باب العلم ، لما ذكره المستدل من تحريم الحلال وتحليل الحرام ، لكن لا يمتنع أن يكون الخبر أغلب مطابقة للواقع في نظر الشارع من الأدلة القطعية التي يستعملها المكلّف للوصول إلى الحرام والحلال الواقعيين ، أو يكونا متساويين في نظره من حيث الإيصال إلى الواقع ، الّا أن يقال : إن هذا رجوع إلى فرض انسداد باب العلم والعجز عن الوصول إلى الواقع ، إذ ليس المراد انسداد باب الاعتقاد ولو كان جهلا مركّبا ، كما تقدم سابقا. فالأولى الاعتراف بالقبح مع فرض التمكّن من الواقع ، وأمّا وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني ، فلا قبح فيه أصلا ، كما لا يخفى.

____________________________________

يعني : على فرض اعتباره من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع فهو قبيح مع فرض انفتاح باب العلم ، لأنه ـ حينئذ ـ موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال كما ذكره ابن قبة ، لأنّ الخبر قد يكون مطابقا للواقع ، وقد لا يكون كذلك ، فيلزم ما ذكره المستدل ، وهذا بخلاف العلم حيث يكون مطابقا للواقع ، فالعمل به يوجب وصول المكلّف إلى الواقع ، فلا يجوز له أن يترك العمل بالعلم ، ويأخذ بالظن.

نعم ، لو كان الخبر غالب المطابقة بالإضافة إلى العلم أو مساويا له في الإصابة وعدمها كان إيجاب العمل به جائزا لأنه يكون مساويا للعلم أو أقوى منه (الّا أن يقال : إن هذا رجوع إلى فرض انسداد باب العلم) فيجب العمل بالخبر كما تقدّم ، إذ لا مناص من العمل بغير العلم في فرض انسداد باب العلم.

ثم بيان رجوع هذا إلى انسداد باب العلم واضح لا يحتاج إلى البيان ، إذ المراد من العلم هو العلم المطابق للواقع لا مطلق الاعتقاد ولو كان جهلا مركّبا فيكون الجهل مطلقا داخلا في انسداد باب العلم ، فلا يعقل أن يكون الخبر أكثر مطابقة من العلم ، أو مساويا له فيها ، إذ العلم ـ حينئذ ـ يكون دائم المطابقة دون الخبر فلا يجوز العمل به مع فرض انفتاح باب العلم وتمكّن المكلّف منه.

ولذا يقول المصنّف رحمه‌الله : (فالأولى الاعتراف بالقبح مع فرض التمكّن من الواقع).

يعني : يكون التعبّد بالظن مع تمكّن المكلّف من العلم قبيحا ، والوجه في كونه قبيحا ما ذكره ابن قبة.

(وأمّا وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني) وهو اعتباره على وجه السببية ، فلا قبح

١٨٤

قال في النهاية في هذا المقام ، تبعا للشيخ قدس‌سره ، في العدة : «إن الفعل الشرعي إنّما يجب لكونه مصلحة ، ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة» ، انتهى موضع الحاجة.

فإن قلت : إن هذا إنّما يوجب التصويب ، لأن المفروض على هذا أن في صلاة الجمعة التي أخبر بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة الواقعية ، فالمفسدة الواقعية سليمة عن

____________________________________

في التعبّد بالظن والخبر أصلا لتدارك المصلحة الفائتة بالمصلحة الحادثة بسبب قيام الخبر على وجوب شيء مثلا.

ثم يذكر قول الشيخ الطوسي رحمه‌الله في العدّة مؤيّدا لذلك ، وخلاصة ما في العدّة : إن الفعل الشرعي يجب لكونه ذا مصلحة كما إنّه يحرم لكونه ذا مفسدة. ثم مصلحة الفعل يمكن أن تكون بحسب ذاته كالصلاة والإحسان ، ويمكن أن تكون باعتبار صفة من صفاتنا ، بمعنى : إذا فعل المكلّف وكان على صفة مخصوصة وفي حال من الأحوال كان الفعل عندها ذا مصلحة ، ولكن ليس كذلك عند اتصاف المكلّف بصفة اخرى وكونه في حال آخر.

أ لا ترى أن الصلاة قصرا ذات مصلحة عند اتصاف المكلّف بالسفر ، وكونه في هذا الحال ، وليست كذلك حال كونه في الحضر ، فلا يمتنع أن تكون صلاة الجمعة ذات مصلحة إذا فعلناها ونحن على صفة مخصوصة كالظن بصدق الراوي (فدخلت) صفة الظن (في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة) وباعتباره كان واجبا ، ثم بهذه المصلحة تتدارك المصلحة الواقعية الفائتة ، فيمكن التعبّد بالخبر من دون لزوم محذور تفويت المصلحة الواقعية ، غاية الأمر أنّ المصلحة الحادثة بقيام الظن اعتبارية ، فتعتبر في حال دون آخر وعند صفة دون صفة اخرى.

(فإن قلت : إن هذا إنّما يوجب التصويب).

يعني : اعتبار الظن على نحو السببية يوجب التصويب الباطل عند الإمامية ، إذ يلزم ـ حينئذ ـ أن يكون الحكم الشرعي الواقعي دائرا مدار قيام الأمارة وجودا وعدما فيكون متعدّدا في الواقع بحسب تعدّد آراء المجتهدين ، وليس هذا الّا التصويب الباطل لأنّ من معانيه هو أن يكون الحكم الواقعي تابعا لاجتهاد المجتهد.

١٨٥

المعارض الراجح ، بشرط عدم إخبار العادل بوجوبها ، وبعد الإخبار تضمحل المفسدة ، لعروض المصلحة الراجحة ، فلو ثبت مع هذا الوصف تحريم ثبت بغير مفسدة توجبه ، لأن الشرط في إيجاب المفسدة له خلوّها عن معارضة المصلحة الراجحة. فيكون إطلاق الحرام الواقعي ـ حينئذ ـ بمعنى أنه حرام لو لا الإخبار ، لا أنّه حرام بالفعل ومبغوض واقعا ، فالموجود بالفعل في هذه الواقعة عند الشارع ليس الّا المحبوبية والوجوب ، فلا يصحّ إطلاق الحرام على ما فيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليه. ولو فرض صحّته فلا يوجب

____________________________________

ولتقريبه نقول : إنّ المفسدة الواقعية في صلاة الجمعة تكون مزاحمة بالمصلحة الراجحة الحادثة بسبب قيام الخبر الدال على وجوبها ، فلا تؤثّر بالحكم التحريمي ما دامت الأمارة قائمة على خلافها ، فلا يكون في حقّ من قامت الأمارة على الوجوب حكم واقعي مجعول سوى مؤدّى الأمارة ، فينحصر حكمه بالمؤدّى وهو الوجوب ، ولا نعني بالتصويب الّا هذا ، فصلاة الجمعة محرمة في حق العالم ، وواجبة في حق الجاهل.

(وبعد الإخبار تضمحل المفسدة) يعني : تزول بعد قيام الخبر على الوجوب لأنّ الاضمحلال ظاهر في زوال المفسدة رأسا فيلزم التصويب ؛ لأنّ زوال المفسدة ملازم لارتفاع التحريم ، فلا يعقل التحريم بعد زوال المفسدة لأنّ الحكم تابع لملاكه ثبوتا ونفيا كما أنّ المعلول تابع لعلّته كذلك ، فيكون الحكم ببقاء الحرمة مع زوال المفسدة ثبوت الحكم من دون ملاك وهو محال على مذهب العدلية فينحصر الحكم بالوجوب وهو التصويب كما مر.

ولذا يقول المصنّف رحمه‌الله : (لأنّ الشرط في إيجاب) واقتضاء(المفسدة) للتحريم (خلوّها) أي : المفسدة (عن معارضة المصلحة الراجحة).

فقوله : خلوّها ، صريح في بقاء المفسدة ، ولكن لا تؤثّر في الحكم بالتحريم لانتفاء الشرط وهو عدم المانع ، وهو ـ أي المانع ـ معارضتها مع المصلحة الراجحة عليها ، ومع هذا المانع لا تؤثّر في الحكم بالتحريم فلا يصح إطلاق الحرام على ما فيه المفسدة المعارضة.

(ولو فرض صحته).

أي : إطلاق الحرام على ما فيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة (فلا يوجب

١٨٦

ثبوت حكم شرعي مغاير للحكم المسبّب عن المصلحة الراجحة.

والتصويب وإن لم ينحصر في هذا المعنى ، الّا أن الظاهر بطلانه أيضا ، كما اعترف به العلّامة في النهاية فى مسألة التصويب ، وأجاب به صاحب المعالم في تعريف الفقه عن قول العلّامة بأن ظنّية الطريق لا تنافي قطعية الحكم.

____________________________________

ثبوت حكم شرعي مغاير للحكم المسبّب عن المصلحة الراجحة) والمانع من ثبوته هو وجود المصلحة الراجحة ، ويمكن أن يكون الضمير في صحّته راجعا إلى المفسدة كما يرجع ضمير عليه إليها ، فيكون المعنى : أنه لو فرض صحة المفسدة بأن كانت باقية فإن ذلك لا يوجب ثبوت حكم شرعي لأنها لا تؤثّر في الحكم مع المعارضة لانتفاء الشرط وهو عدم المانع.

(وأجاب به صاحب المعالم في تعريف الفقه عن قول العلّامة بأن ظنّية الطريق لا تنافي قطعية الحكم).

والغرض من ذكر كلام صاحب المعالم هو إثبات التصويب في المقام ، حيث أجاب صاحب المعالم رحمه‌الله عن قول العلّامة في النهاية في الجواب عن الإشكال المعروف في تعريف الفقه حيث عرّفه الاصوليون بأنه علم بالأحكام ، فأورد على هذا التعريف بأنّ الفقه هو ظن بالأحكام لأنّ الدليل على ثبوت الأحكام ؛ إمّا هو الكتاب أو السنة ، فالأول يكون ظني الدلالة ، والثاني ظنّي الصدور ، فكيف يكون الفقه هو العلم بالأحكام؟ فأجاب العلّامة رحمه‌الله عن هذا الإشكال بقوله : بأن ظنّية الطريق لا تنافي قطعية الحكم ، فيصحّ تعريفه : بأنّه علم بالأحكام ، لأنّ الكتاب والسنّة وإن كانا ظنّيين الّا أنّ الحكم المستفاد منهما قطعي.

ففهم صاحب المعالم من كلامه أن مراده من «ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم» هو حدوث المصلحة الراجحة على المفسدة الواقعية بسبب ما دلّ من الكتاب أو السنّة على وجوب ما هو محرّم في الواقع ، فينتفي الحكم الواقعي التحريمي مثلا ، فينحصر الحكم بالوجوب المستفاد من الكتاب أو السنة.

فأجاب عنه صاحب المعالم بأنه تصويب قد اعترف العلّامة ببطلانه ، ولكن مراد العلّامة من الحكم ليس حكما واقعيا كما فهم صاحب المعالم ، بل المراد من الحكم هو

١٨٧

قلت : لو سلّم كون هذا تصويبا مجمعا على بطلانه وأغمضنا النظر عمّا سيجيء من عدم كون ذلك تصويبا ، كان الجواب به عن ابن قبة من جهة أنه أمر ممكن غير مستحيل وإن لم يكن واقعا ، لإجماع أو غيره ، وهذا المقدار يكفي في ردّه ، الّا أن يقال : إن كلامه قدس‌سره ، بعد الفراغ عن بطلان التصويب ، كما هو ظاهر استدلاله.

وحيث انجرّ الكلام إلى التعبّد بالأمارات غير العلمية ، فنقول في توضيح هذا المرام ، وإن كان خارجا عن محل الكلام : إن ذلك يتصوّر على وجهين :

الأول : أن يكون ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع ، فلا يلاحظ في التعبّد بها الّا الإيصال إلى الواقع ، فلا مصلحة في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع ، كما لو أمر المولى عبده عند تحيّره في طريق بغداد بسؤال الأعراب عن الطريق ، غير ملاحظ في ذلك الّا كون قول الأعراب موصلا إلى الواقع دائما أو غالبا ، والأمر بالعمل في هذا القسم ليس الّا للإرشاد.

الثاني : أن يكون ذلك لمدخليّة سلوك الأمارة في مصلحة العمل وإن خالف الواقع ، فالغرض إدراك مصلحة سلوك هذا الطريق التي هي مساوية لمصلحة الواقع أو أرجح منها.

____________________________________

الحكم الظاهري كما فهمه صاحب القوانين من كلامه ، والحكم الظاهري معلوم دائما وإن كان دليله ظنيا أو أصلا من الاصول فلا يرتبط بالتصويب أصلا.

(قلت : لو سلّم كون هذا تصويبا مجمعا على بطلانه وأغمضنا النظر عمّا سيجيء من عدم كون ذلك تصويبا ، كان الجواب به عن ابن قبة من جهة أنّه أمر ممكن غير مستحيل).

يعني : العمدة في المقام هو ردّ ما استدل به ابن قبة على امتناع التعبّد فلا بدّ من إثبات إمكان التعبّد بالظن ، وقد ثبت بما ذكر من إمكان اعتبار الأمارات من باب السببية ، ولو كان مستلزما للتصويب الباطل ، فباعتبار كونه مستلزما لم يكن واقعا ، وعدم الوقوع لا يضر بإمكانه ، فيكون ممكنا ، ولكنه غير واقع ، فيرد ما يقول به ابن قبة من الامتناع وعدم الإمكان.

(الّا أن يقال : إنّ كلامه قدس‌سره بعد الفراغ عن بطلان التصويب).

يعني : لا يكون مراده عدم إمكان التعبّد بالخبر الّا من طريق الالتزام بالتصويب الباطل ، فلمّا لم يكن طريق آخر لإمكان التعبّد بالظن وكان طريقه منحصرا بالتصويب حكم

١٨٨

أمّا القسم الأول فالوجه فيه لا يخلو من امور :

____________________________________

بالامتناع كما يظهر من استدلاله ، فإنه استدل على امتناع التعبّد بأنّه مستلزم لتحليل الحرام ، ومعلوم أنّه لا امتناع فيه الّا من جهة لزوم التصويب وبطلانه شرعا ، فكان ما هو الممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

(أمّا القسم الأول فالوجه فيه لا يخلو من امور :) يبلغ عددها إلى أربعة وعشرين لا كما ذكره الاعتمادي من ستّة وعشرين ثم بيان الأقسام المتصوّرة بطريقة تكون أسهل وأوضح يحتاج إلى جدول مشتمل على فروض شاملة لجميع الأقسام من حيث الصحة والبطلان.

فنفرض أولا : الأمارة دائم المطابقة ، فلا يخلو القطع من أحد الامور الأربعة :

١ ـ دائم المطابقة.

٢ ـ غالب المطابقة.

٣ ـ نادر المطابقة.

٤ ـ أغلب المطابقة.

ثم نفرض ثانيا : الأمارة أغلب المطابقة فتأتي في القطع نفس الصور الأربعة المتقدّمة.

ثم نفرض ثالثا : الأمارة غالب المطابقة وتأتي في القطع الصور الأربعة المتقدّمة أيضا.

ثم نفرض رابعا : الأمارة نادر المطابقة فتأتي في القطع نفس الصور المذكورة.

فهنا تكون أربعة فروض ، فلا بدّ أن نضع لكل فرض جدولا نتبيّن فيه الحكم ودليل الصحة أو البطلان.

١٨٩

____________________________________

جدول الفرض الأول وهو كون الأمارة دائم المطابقة

والصور الصحيحة في هذا الفرض هي ثلاثة

١٩٠

____________________________________

جدول الفرض الثاني وهو كون الأمارة أغلب المطابقة

والصحيح من الصور المتصوّرة في هذا الجدول هي الصورة الاولى ثم

تضاف إلى الثلاث المتقدّمة فالمجموع من الصور الصحيحة هي أربعة.

١٩١

____________________________________

جدول الفرض الثالث وهو كون الأمارة غالب المطابقة

وهذه الصور الأربعة كلّها صحيحة فإذا انضمّت مع الأربعة السابقة كان المجموع ثمانية

١٩٢

____________________________________

جدول الفرض الرابع وهو كون الأمارة نادر المطابقة

فإذا انضمّت هذه الأربعة إلى الثمانية المتقدّمة أصبح المجموع اثنتي عشرة صورة

١٩٣

أحدها : كون الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة هذه الأمارات للواقع وإن لم يعلم بذلك المكلّف.

الثاني : كونها في نظر الشارع غالب المطابقة.

الثالث : كونها في نظره أغلب مطابقة من العلوم الحاصلة للمكلّف بالواقع ، لكون أكثرها في نظر الشارع جهلا مركّبا ، والوجه الأول والثالث يوجبان الأمر بسلوك الأمارة ولو مع تمكّن المكلّف من الأسباب المفيدة للقطع ، والثاني لا يصحّ الّا مع تعذر باب العلم ، لأنّ تفويت الواقع على المكلّف ولو في النادر من دون تداركه بشيء قبيح.

____________________________________

ثم هذه الصور يمكن فرضها تارة مع الانسداد ، واخرى مع الانفتاح فنتيجة ضرب اثني عشر في الاثنين هي أربعة وعشرون ، فالصور المتصوّرة في حال الانسداد هي : اثنا عشر ، وحكم الجميع جواز التعبّد بالأمارة ، وحكم صور الانفتاح ذكر مفصّلا في الجداول المذكورة.

ثم المصنّف رحمه‌الله لم يذكر جميع هذه الصور ، بل ذكر ما هو المهمّ منها حيث قال : (أحدها : كون الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة هذه الأمارات للواقع وإن لم يعلم بذلك المكلّف) أي : لا يعلم المكلف بدوام موافقة الأمارات للواقع.

والحاصل أن المصنّف رحمه‌الله يذكر ثلاثة أقسام من أربعة وعشرين قسما :

الأول : أن تكون الأمارة دائم المطابقة عند الشارع العالم بالغيب ، والقطع لم يكن كذلك.

والثاني : أن تكون غالب المطابقة ، وكان القطع دائم المطابقة أو أغلب المطابقة.

والثالث : أن تكون أغلب المطابقة ، فلا بدّ أن يكون القطع غالب المطابقة لتوقّف الأغلب على الغالب بحسب المعنى التفضيلي.

ثم الحكم في الأول والثالث هو وجوب التعبّد بالأمارة ؛ إذ العمل بالقطع يوجب تفويت الواقع ، فيجب العمل بالأمارة لكونها دائم المطابقة كما هو مقتضى القسم الأول ، أو أغلب المطابقة كما هو مقتضى القسم الثالث ، ثم الحكم في القسم الثاني هو عدم التعبّد بالأمارة ؛ لأنّ العمل بها مستلزم لتفويت الواقع ، وتفويت الواقع من دون تداركه بشيء قبيح. نعم ، يجوز التعبّد بها في فرض الانسداد.

١٩٤

وأما القسم الثاني : فهو على وجوه :

أحدها : أن يكون الحكم ـ مطلقا ـ تابعا لتلك الأمارة ، بحيث لا يكون في حقّ الجاهل مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة وعدمها حكم ، فتكون الأحكام الواقعية مختصّة في الواقع بالعالمين بها ، والجاهل مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على حكم العالمين لا حكم

____________________________________

(وأما القسم الثاني) بأن يكون التعبّد بالأمارة لأجل مدخليّة السلوك على طبقها في مصلحة العمل ، وبتعبير آخر : يكون اعتبار الأمارة من باب السببية (فهو على وجوه : أحدها : أن يكون الحكم ـ مطلقا ـ تابعا لتلك الأمارة ، بحيث لا يكون في حقّ الجاهل مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة وعدمها حكم).

ولمّا كان هذا الوجه ـ أي : كون الحكم الواقعي تابعا للأمارة ـ تصويبا باطلا ، فلا بدّ من بيان مراتب الحكم أولا حتى يتضح الفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني ، ثم بيان الأقوال في التصويب ثانيا ، فنقول :

أمّا مراتب الحكم فهي عند المصنّف أربعة :

١ ـ الاقتضاء : وهو عبارة عن وجود مصلحة ملزمة ، أو مفسدة كذلك في الفعل بحيث تقتضي الأمر به أو النهي عنه.

٢ ـ الانشاء : وهو جعل الشارع الحكم على طبق المصلحة ، أو المفسدة.

٣ ـ الفعلية : بمعنى أنّ الأحكام بعد بيانها وتبليغها ما لم يعلم بها المكلّف تكون فعلية.

٤ ـ التنجّز : وهو أن يعلم المكلّف بها بعد البيان الصادر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجب عليه امتثالها ، واطاعتها.

ثم نقول : القول الأول في التصويب ما أشار إليه المصنّف بقوله : أن يكون الحكم مطلقا ، أي : بجميع مراتبه المذكورة تابعا للأمارة بحيث لم يكن للجاهل حكم في الواقع ، بل حكمه الواقعي يحدث بالأمارة.

ثم إن كانت مطابقة للواقع يكون حكمه المجعول بعد قيام الأمارة مماثلا لحكم العالمين بالأحكام ، وإن كانت مخالفة له يكون حكم الجاهل مغايرا لحكم العالم.

فتكون الأحكام الواقعية مختصّة بالعالمين بها ، فلا تكون مشتركة بين العالمين والجاهلين ، مع أنّ الإجماع قد قام على اشتراك الجاهلين مع العالمين في الأحكام

١٩٥

له ، أو محكوم بما يعلم الله أنّ الأمارة تؤدّي إليه. وهذا تصويب باطل عند أهل الصواب من المخطّئة. وقد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل الأخبار والآثار.

الثاني : أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة ، بمعنى : أنّ لله في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لو لا قيام الأمارة على خلافه ، بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة مانعا عن فعليّة ذلك الحكم ، لكون مصلحة سلوك هذه الأمارة غالبة على مصلحة الواقع ،

____________________________________

الواقعيّة.

فالجاهل لا حكم له في الواقع مع قطع النظر عن قيام الأمارة (أو محكوم بما يعلم الله).

هذا الكلام من المصنّف رحمه‌الله اشارة إلى بعض الأقوال الأخر غير ما ذكره أولا في التصويب ، ويمكن استفادة ثلاثة أقوال منه :

الأول : أنّ الله تعالى يعلم من الأزل بأنّ المجتهد باسم كذا يوجد بعد قرون ويؤدّي ظنه إلى حكم كذا ، فجعل حرمة ما يؤدّي ظنه إلى تحريمه في حقّه قبل أن يوجد.

الثاني : أنّه تعالى جعل الحكم أولا ثم جعل أمارة تؤدّي إليه قهرا ، فلا بدّ أن تكون الأمارة مطابقة للواقع.

الثالث : أنّه تعالى جعل الحكم أولا ، ثم جعل أمارة تؤدّي إليه اتّفاقا لا جبرا وقهرا ، فقول المصنّف رحمه‌الله : أو الجاهل محكوم بما يعلم الله ، يشمل الجميع.

وهذا الوجه الأول المشتمل على الأقوال الأربعة من التصويب تصويب باطل عند أهل الحقّ القائلين بالتخطئة ، وهي أنّ الأحكام الواقعية تكون مشتركة بين الجاهلين والعالمين بها ، ثم المجتهد حين الاجتهاد قد يكون مصيبا وقد يكون مخطئا فينطبق عليه ما هو المعروف من أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا. والتصويب المذكور بأقسامه الأربعة لا يغيّر الواقع ، ولكن هناك قسم خامس وهو ما أشار إليه بقوله :

(الثاني : أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة ... إلى آخره).

فقيام الأمارة المخالفة للواقع يغيّر الواقع بمعنى أنّ الحكم الواقعي قبل قيام الأمارة المخالفة يكون مشتركا بين العالم والجاهل ، وبعد قيامها يصير مختصا بالعالم ، فقد غيّر الواقع من الاشتراك إلى الاختصاص ، فالحكم الواقعي المشترك بين الكلّ يكون فعليا ومنجّزا في حقّ العالم أو من قامت عنده أمارة مطابقة للواقع ويبقي على شأنيته وانشائيته

١٩٦

فالحكم الواقعي فعلي في حقّ غير الظانّ بخلافه ، وشأنيّ في حقّه ، بمعنى وجود المقتضي لذلك الحكم لو لا الظن على خلافه ، وهذا ـ أيضا ـ كالأول في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه ؛ لأن الصفة المزاحمة بصفة اخرى لا تصير منشأ لحكم ، فلا يقال للكذب النافع : إنه قبيح واقعا.

والفرق بينه وبين الوجه الأول ـ بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظان بخلافه ـ : أنّ العامل بالأمارة المطابقة حكمه حكم العالم ولم يحدث في حقّه بسبب ظنه حكم ،

____________________________________

في حقّ من قام عنده أمارة مخالفة له ، فيكون حكمه الواقعي الفعلي مؤدّى الأمارة.

ولذا يقول المصنّف رحمه‌الله :

(فالحكم الواقعي) المشترك (فعلي في حقّ غير الظان بخلافه) يعني : في حقّ العالم ، والظان بالوفاق (وشأني) في حقّ الظان بالخلاف ثم يقول : (وهذا ـ أيضا ـ كالأول) يكون تصويبا ومشتركا في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظان بخلاف الواقع (لأنّ الصفة المزاحمة بصفة اخرى لا تصير منشأ لحكم) فإذا فرضنا كون صلاة الجمعة محرّمة في الواقع لكان في تركها مصلحة وهذه المصلحة أصبحت سببا لحرمتها ثم إذا قامت الأمارة على وجوبها يحدث في فعلها مصلحة ملزمة ، فتكون المصلحة الذاتية في الترك مزاحمة بالمصلحة الحادثة في الفعل ، فلا تؤثر في الحرمة.

والفرق بين الوجه الأول والوجه الثاني ـ بعد كون كليهما تصويبا ، إذ الحكم الواقعي للجاهل الذي قامت عنده أمارة مخالفة للواقع في كلا الوجهين غير الحكم الواقعي الأوّلي ـ : إنّما هو في كون حكم الجاهل الذي قامت عنده أمارة مطابقة للواقع هو حكم العالم على الوجه الثاني ، وغير حكم العالم على الوجه الأول ؛ لأن الحكم الواقعي على الوجه الأول مختصّ بالعالم ، ولا يشترك معه الجاهل أصلا سواء كان من قامت عنده أمارة مطابقة أو مخالفة.

وأما في الوجه الثاني فالحكم الواقعي الشأني مشترك بين الكل ، والحكم الفعلي مشترك بين العالم وبين من قامت عنده أمارة مطابقة للواقع. نعم ، من قامت عنده أمارة مخالفة فحكمه الواقعي هو مؤدّى الأمارة ، فلا يشترك مع العالم في الحكم الفعلي الأوّلي ، بل هو مختصّ بالعالم. هذا هو الفرق الأول.

١٩٧

نعم ، كان ظنّه مانعا عن المانع ، وهو الظن بالخلاف.

الثالث : أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمّنت

____________________________________

والفرق الثاني : أن قيام الأمارة في القسم الأول لا يكون مانعا عن اقتضاء المقتضي لعدم المقتضي في الواقع بالنسبة إلى الجاهل أصلا ، وقيامها في القسم الثاني يكون مانعا عن اقتضاء المقتضي في صورة مخالفتها للواقع ، فيمنع عن فعلية الحكم الواقعي المشترك بين الكل.

ولهذا يقول المصنّف رحمه‌الله : إنّ الظن الموافق للواقع يكون مانعا عن المانع ، أي : عن حصول الظن بالخلاف المانع عن فعلية الحكم الواقعي ، فتحصّل من كلام المصنّف رحمه‌الله بالصراحة أو بالاشارة خمسة احتمالات للتصويب :

الأول : ما ذهب إليه الأشاعرة من أن الأحكام الواقعية في حقّ الجاهلين بها تكون دائرة مدار الأمارة وجودا وعدما.

والثاني : ما ذهب إليه بعض ، من أنّ الله تعالى جعل في حقّ كل مجتهد حكما موافقا لما يؤدّي إليه ظنّه لعلمه تعالى من الأزل بما يؤدّي إليه ظنّ كل مجتهد ، فجعله قبل حصول الظن حكما له في الواقع.

والثالث : أنّ الله جعل لكل مجتهد حكما في الواقع ، ثم يؤدّي ظنّ كلّ إلى ما جعله الله في حقّه قهرا.

والرابع : أنّ الله تعالى قد جعل في حقّ كلّ مجتهد حكما في الواقع ، ثم يؤدّي إليه ظنه اتّفاقا.

ثم هذه الأقسام الأربعة قد أشار إلى الأول منها بالصراحة حيث قال : أحدها : أن يكون الحكم مطلقا تابعا لتلك الأمارة ، وإلى ثلاثة منها بالاشارة حيث قال : أو محكوم بما يعلم الله تعالى.

والخامس : ما ذهب اليه المعتزلة ، فقد أشار اليه المصنّف بقوله الثاني : أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة ، وقد ذكرناه تفصيلا فلا يحتاج إلى البيان والتوضيح ثانيا.

(الثالث : أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل).

بمعنى : إن في الوجه الثالث لم تكن الأمارة موجبة لحدوث المصلحة في الفعل الذي

١٩٨

الأمارة حكمه ولا تحدث فيه مصلحة ، الّا أنّ [الأمر ب] العمل على طبق تلك الأمارة والالتزام به في مقام العمل على أنّه هو الواقع ، وترتيب الآثار الشرعية المترتبة عليه واقعا يشتمل على مصلحة ، فأوجبه الشارع ، ومعنى إيجاب العمل على الأمارة وجوب تطبيق

____________________________________

تضمّنت الأمارة حكمه حتى يجعل مؤدّاها حكما واقعيا في حقّ من قامت عنده الأمارة ، فلا أثر لها أصلا سواء كانت مطابقة للواقع ، أو مخالفة له.

فيبقى الحكم الواقعي المشترك بين الكل على حاله ، ويكون فعليا في حقّ الجميع ، غاية الأمر يجب العمل على طبق الأمارة ، ففي وجوب تطبيق العمل عليها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، ويقال لها : المصلحة السلوكية.

فالوجوه الثلاثة يختلف بعضها عن البعض من حيث المقتضى ـ بالفتح ـ لأن مقتضى الوجه الأول هو جعل مؤدّى الأمارة حكما واقعيا لمن قامت عنده الأمارة سواء كانت مطابقة للواقع ، أو مخالفة له ، فيكون لازمه التصويب.

ومقتضى الوجه الثاني هو جعل مؤدّاها حكما واقعيا لمن قامت عنده الأمارة مع مخالفتها للواقع فقط ، فيلزم التصويب ـ أيضا ـ كما تقدم تفصيله.

ومقتضى الوجه الثالث هو بقاء الحكم الواقعي المشترك بين الكلّ على حاله ، سواء كانت الأمارة مخالفة له أو مطابقة فلا يلزم التصويب أصلا.

ثم المصلحة السلوكية الموجبة لوجوب تطبيق العمل على الأمارة يمكن أن تكون في نفس العمل بالأمارة ، يعني : يجب العمل عليها تسهيلا ، إذ تحصيل العلم في كل واقعة يكون موجبا للعسر والمشقّة ، ويمكن أن تكون في أمر الشارع بالعمل بالأمارة كما في بعض النسخ حيث كان فيه لفظ الأمر قبل العمل.

(الّا أن الأمر [الأمر ب] العمل على طبق تلك الأمارة).

فهذه المصلحة تكون سببا للحكم الظاهري ، وهو ايجاب العمل بها ، والفرق بينهما أنه لو كانت المصلحة في الأمر لكانت تحصل بمجرد وقوع العمل على الأمارة ، أمّا إذا كانت في العمل والعمل يتوقف على تصديق الراوي أولا ، ثم الالتزام بأن المؤدّى هو الواقع فلا تحصل بدون الالتفات والالتزام ، والثاني أرجح من الأول لأنّ المستفاد من الأدلة الدالة على حجّية الأمارة هو صدق العادل كما يأتي في بحث أخبار الآحاد.

١٩٩

العمل عليها ، لا وجوب إيجاد عمل على طبقها ، إذ قد لا تتضمن الأمارة إلزاما على المكلّف. فاذا تضمّنت استحباب شيء أو وجوبه تخييرا أو إباحته وجب عليه إذا أراد الفعل أن يوقعه على وجه الاستحباب أو الإباحة ، بمعنى حرمة قصد غيرهما كما لو قطع بهما ، وتلك المصلحة لا بدّ أن تكون ممّا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع لو كان الأمر بالعمل به مع التمكن من العلم ، والّا كان تفويتا لمصلحة الواقع ، وهو قبيح ، كما عرفت في كلام ابن قبة.

فإن قلت : ما الفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه إلى المصلحة في العمل بالأمارة وترتيب أحكام الواقع على مؤدّاها ، وبين الوجه السابق الراجع إلى كون قيام الأمارة سببا لجعل مؤدّاها على المكلف؟

____________________________________

(ومعنى إيجاب العمل على الأمارة وجوب تطبيق العمل عليها ، لا وجوب إيجاد عمل على طبقها).

ومعنى تطبيق العمل عليها : هو وجوب الالتزام بما تتضمن الأمارة عليه من الوجوب والتحريم ونحوهما ، يعني : يأتي بالفعل الواجب على وجه الوجوب ، ويترك الفعل الحرام بعد الالتزام بالتحريم ، وهكذا.

ومعنى إيجاد العمل على طبقها : وجوب إيجاد الفعل وان كان مستحبا ، ووجوب ترك الفعل وإن كان مكروها ، مع أنّ الفعل المستحبّ لا يجب الإتيان به كما أنّ المكروه لا يجب تركه ، ولذا يقول المصنّف رحمه‌الله : (إذ قد لا تتضمّن الأمارة الزاما) أي : حكما إلزاميا(على المكلّف) كالوجوب حتى يجب إيجاد الفعل على طبقها ، بل تتضمّن حكما غير الزامي كالاستحباب ، فلا يجب إيجاد الفعل على طبقها ، فلا بدّ أن يقال : إن معنى إيجاب العمل على الأمارة هو وجوب تطبيق العمل عليها لا إيجاد عمل على طبقها.

(فإن قلت : ما الفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه إلى المصلحة في العمل بالأمارة وترتيب أحكام الواقع على مؤدّاها ، وبين الوجه السابق؟).

وحاصل الإشكال أن الفرق بين هذا الوجه والوجه السابق وإن كان ظاهرا في بدو النظر وذلك لاختلافهما من حيث ظرف المصلحة ، إذ يكون ظرفها في الوجه السابق هو متعلّق الحكم المستفاد من الأمارة كصلاة الجمعة مثلا ، ويكون ظرفها في هذا الوجه هو الأمر بالعمل بالأمارة أو العمل على طبقها.

٢٠٠