دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

المقام الثاني

وقوع التعبّد بالظن في الأحكام الشرعية

ثم إذا تبيّن عدم استحالة تعبّد الشارع بغير العلم وعدم القبح فيه ولا في تركه ، فيقع الكلام في المقام الثاني في وقوع التعبّد به في الأحكام الشرعية مطلقا أو في الجملة.

وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من تأسيس الأصل الذي يكون عليه المعوّل ، عند عدم الدليل على وقوع التعبّد بغير العلم مطلقا أو في الجملة ، فنقول :

____________________________________

(ثم إذا تبيّن عدم استحالة تعبّد الشارع بغير العلم وعدم القبح فيه) أي : في التعبّد كما يقول به ابن قبة (ولا في تركه) أي : لا قبح في ترك التعبّد كما يقول به بعض ، فإذا لم يكن التعبّد بخبر الواحد ، أو بمطلق الظن ممتنعا كما يقول به ابن قبة ، ولا واجبا كما يقول به ابن شريح لكان التعبّد ممكنا.

وبعد الإمكان يقع الكلام في المقام الثاني ، وهو الوقوع.

(فيقع الكلام في المقام الثاني في وقوع التعبّد به في الأحكام الشرعية مطلقا) أي : مطلق الأمارات.

(أو في الجملة) يعني : بعضها كخبر العادل مثلا.

(وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من تأسيس الأصل الذي يكون عليه المعوّل ، عند عدم الدليل).

يعني : من باب التسهيل يجب أولا تأسيس ما يرجع اليه عقلا ، أو شرعا في مورد عدم الدليل على حجّية الأمارات ، أو على عدم حجّيتها فيسمّى أصلا أو قاعدة كلّية.

فيقال في مورد عدم الدليل : إنّ مقتضى الأصل هو جواز التعبّد بالأمارات الّا ما خرج بالدليل ، أو حرمته الّا ما خرج بالدليل.

ثم يقول المصنّف رحمه‌الله : إنّ مقتضى الأصل في المقام هو حرمة التعبّد بالأدلة الأربعة ، فيكون العمل بما لم يدلّ دليل على حجّيته حراما.

ثم يقع الكلام في أنّ حرمة العمل بما ليس على اعتباره دليل هل يكون ذاتيا كحرمة

٢٢١

التعبّد بالظن ، الذي لم يدل دليل على التعبّد به محرّم بالأدلة الأربعة.

ويكفي من الكتاب قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) ، دلّ على أن ما ليس بإذن من الله من اسناد الحكم إلى الشارع فهو افتراء.

____________________________________

شرب الخمر أو عرضيا من جهة لزوم التشريع؟

يظهر من بعض أنّ العمل بالظن محرّم ذاتا بالآيات الناهية والروايات كذلك ، والمشهور يقولون بالحرمة التشريعية ، والظاهر من المصنّف رحمه‌الله ـ أيضا ـ هو الحرمة التشريعية.

ثم اختلف الأصحاب في تفسير التشريع المحرّم ، وعند المشهور هو : إدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين بقصد أنّه منه سواء علم بأنه ليس منه ، أو ظن بأنّه ليس منه ، أو ظن بأنّه منه ، أو شك في ذلك ، فإسناد ما لم يعلم أنّه من الشارع إليه تشريع محرّم ، وعلى هذا يكون العمل بما لم يدل دليل على اعتباره تشريعا ، إذا التزم المكلّف بأن ما دلّ عليه دليل غير معتبر من الشارع ومن الدين.

والحاصل أن التعبّد بالظن تشريع محرم بالأدلة الأربعة ، ويدل على ذلك :

من الكتاب قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) ووردت هذه الآية الشريفة في ذمّ اليهود وتوبيخهم لأنّهم حرّموا بعض ما أحل الله.

وتقريب الاستدلال بها : أنّ الافتراء ليس في الآية بمعنى الكذب عن عمد ، بل هو يكون بالمعنى الأعمّ ، وهو إسناد الفعل أو القول إلى من لم يعلم أن هذا الفعل أو القول منه ، فإسنادهم الحكم بالحرمة إلى الله تعالى من دون إذن وبيان منه تعالى مع عدم علمهم بأنّه منه تعالى تشريع محرّم ، فمعنى الآية (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) يعني : ألكم دليل على تحريم ما تقولون بتحريمه (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أي : تنسبون الحكم بالحرمة اليه تعالى من دون دليل منه تعالى عليها ، وهو تشريع.

ولا يخفى عليك أن المدّعى هو عدم حجّية الظن ، والدليل يدل على حرمة العمل به ، فلا يناسب الدليل مع المدّعى ، إذ المدّعى هو حكم وضعي ، والدليل يدل على حكم تكليفي.

__________________

(١) يونس : ٥٩.

٢٢٢

ومن السنّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في عداد القضاة من أهل النار : (ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم) (١).

ومن الإجماع : ما ادّعاه الفريد البهبهاني ، في بعض رسائله ، من كون عدم الجواز بديهيا عند العوام فضلا عن العلماء.

____________________________________

والجواب : أنّ الحكم الوضعي يكون منتزعا عن الحكم التكليفي على قول المصنّف رحمه‌الله ، فلا بدّ أولا من إثبات حكم تكليفي حتى ينتزع منه حكم وضعي فينتزع من حرمة العمل بالظن عدم حجّيته كما ينتزع من وجوب العمل بدليل حجّيته.

(ومن السنّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أي : قول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تقسيم القضاة ، حيث ورد في الرواية : (القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة :

[١ ـ] رجل قضى بجور وهو يعلم به ، فهو في النار.

[٢ ـ] ورجل قضى بجور وهو لا يعلم ، فهو في النار.

[٣ ـ] ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم ، فهو في النار.

[٤ ـ] ورجل قضى بالحق وهو يعلم ، فهو في الجنة).

وما يناسب الاستدلال به هو قضاوة الرجل الثالث حيث حكم بالحقّ ، ولكن كان حكمه من دون علم بأنه حقّ ، فيكون حكمه كذلك تشريعا محرما فلا يرد عليه ما قيل من أنّ الحديث لا يدل على حرمة العمل بغير العلم من حيث التشريع ، بل الظاهر منه هو حرمة العمل بغير علم ذاتا.

ففي المقام انّ من يحكم بحجّية الظن من دون دليل على اعتباره يكون من أهل النار ، وإن كان حكمه حقا ، بأن كان الظن في الواقع حجّة ، لأنّه حكم به من دون علم ، والحكم كذلك تشريع محرّم.

(ومن الإجماع : ما ادّعاه الفريد البهبهاني).

حيث قال : يكون عدم الجواز بديهيا عند العوام فضلا عن العلماء ، وليس مراد

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٢ ، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به ، ب ٤ ، ح ٦.

٢٢٣

ومن العقل : تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى ولو كان عن جهل مع التقصير.

نعم ، قد يتوهّم متوهّم أنّ الاحتياط من هذا القبيل ، وهو غلط واضح ، إذ فرق بين الالتزام بشيء من قبل المولى على أنّه منه مع عدم العلم بأنّه منه ، وبين الالتزام بإتيانه

____________________________________

المصنّف رحمه‌الله من التمسك بالإجماع هو التمسك بالإجماع المنقول بخبر الواحد حتى يرد عليه بأنّه ليس بحجّة ، بل يكون مقصوده الإجماع المحصّل ، والشاهد عليه كون عدم الجواز بديهيا عند العوام فضلا عن العلماء كما في كلام البهبهاني.

(ومن العقل : تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى).

يعني : من يلتزم بتكليف من قبل مولاه من دون أن يعلم بأنّه منه فيكون التزامه كذلك قبيحا عند العقلاء لكون ذلك تشريعا لأنّه قد أسند التكليف إلى المولى مع أنّه لا يعلم بأنّه منه.

وتقييد الجهل بكونه مع تقصير في كلام المصنّف رحمه‌الله حيث قال : (ولو كان عن جهل مع التقصير) لغو ؛ وذلك لأنّ الحكم بالحرمة من حيث التشريع تابع لتحقّق موضوعه ، وهو إسناد الحكم إلى الشارع من دون علم بأنّه منه ، فلا يفرق في ذلك بين من يكون جاهلا مقصّرا أو قاصرا ، فمن اجتهد وبذل وسعه في تحصيل الدليل على اعتبار ظنّ ولم يقف على دليل يحرم عليه العمل بالظن متديّنا بمقتضاه مع أنّه جاهل قاصر.

(نعم ، قد يتوهّم متوهّم أن الاحتياط من هذا القبيل).

يعني : إن الاحتياط يكون من قبيل التشريع ، فلو كان التشريع حراما لكان الاحتياط ـ أيضا ـ حراما ، والتالي باطل بالإجماع لحسن الاحتياط فالمقدّم مثله ، والملازمة هي أنّ التشريع هو الإتيان بشيء لم يعلم أنّه من الشارع ، والاحتياط ـ أيضا ـ هو الإتيان بشيء لم يعلم أنّه منه ، والمصنّف رحمه‌الله يجيب عن هذا التوهّم بالفرق بينهما ، فيكون قياس الاحتياط بالتشريع قياسا مع الفارق ، فلا ملازمة بينهما في الحكم.

ثم الفرق بينهما كما ذكره المصنّف رحمه‌الله يكون واضحا ، إذ هما متباينان من حيث الموضوع ، لأنّ موضوع التشريع هو الالتزام بشيء من قبل المولى على أنّه منه مع عدم العلم بأنّه منه ، وموضوع الاحتياط هو الالتزام بإتيان شيء لرجاء كونه من المولى في

٢٢٤

لاحتمال كونه منه أو رجاء كونه منه. وشتّان ما بينهما ، لأنّ العقل يستقل بقبح الأول وحسن الثاني.

والحاصل أن المحرّم هو العمل بغير العلم متعبّدا به ومتديّنا به.

وأمّا العمل به من دون تعبّد بمقتضاه ، فإن كان لرجاء إدراك الواقع فهو حسن ما لم يعارضه احتياط آخر ، أو لم يثبت من دليل آخر وجوب العمل على خلافه ، كما لو ظن الوجوب واقتضى الاستصحاب الحرمة ، فإنّ الإتيان بالفعل محرّم وإن لم يكن على وجه التعبّد بوجوبه والتديّن به.

وإن لم يكن لرجاء إدراك الواقع ، فإن لزم منه طرح أصل دلّ الدليل على وجوب الأخذ به حتى يعلم خلافه كان محرّما ـ أيضا ـ لأنّ فيه طرحا للأصل الواجب العمل ، كما فيما ذكر من مثال كون الظن بالوجوب على خلاف استصحاب التحريم ، وإن لم يلزم منه ذلك جاز العمل ، كما لو ظن بوجوب ما تردّد بين الحرمة والوجوب ، فإنّ الالتزام بطرف

____________________________________

صورة الظن غير المعتبر على وجوبه ، أو لاحتمال كونه منه في صورة الشك في وجوب شيء مع احتمال الوجوب فيه.

والفرق بين الموضوعين أظهر من الشمس ، فلا يصح قياس الاحتياط بالتشريع.

والحاصل أنّ العمل بغير العلم إن كان حراما ذاتيا كما يظهر من بعض لم يفرّق في الحكم بالحرمة بين العمل به تشريعا أو احتياطا أو اشتهاء ، وإن كان حراما من حيث التشريع كما هو المشهور ، فيختصّ الحكم بالحرمة التشريعية بمورد لزوم التشريع.

(والحاصل أن المحرّم هو العمل بغير العلم متعبّدا به ومتديّنا به).

لقد قسّم المصنّف رحمه‌الله العمل بغير العلم إلى أقسام :

القسم الأول : أن يعمل المكلّف به على وجه التعبّد والتديّن به ، فيكون العمل بغير العلم كذلك محرّما مطلقا. سواء لزم منه طرح دليل معتبر ، أو أصل كذلك أم لا.

والقسم الثاني : أن يعمل به من دون تعبّد وتديّن بمقتضاه لرجاء إدراك الواقع احتياطا فيكون حسنا إذا لم يعارضه احتياط ، كما إذا كان في شيء احتمال الوجوب والتحريم معا ، فالإتيان به لاحتمال وجوبه احتياطا معارض لتركه لاحتمال حرمته احتياطا ، والّا يكون الاحتياط جائزا ، يعني : في مورد تعارض الاحتياط بالاحتياط الآخر يكون الاحتياط جائزا

٢٢٥

الوجوب لا على أنّه حكم الله المعيّن جائز ، لكن في تسمية هذا عملا بالظنّ مسامحة ، وكذا في تسمية الأخذ به من باب الاحتياط.

وبالجملة : فالعمل بالظن إذا لم يصادف الاحتياط محرّم إذا وقع على وجه التعبّد به والتديّن ، سواء استلزم طرح الأصل أو الدليل الموجود في مقابله أم لا ، وإذا وقع على غير وجه التعبّد به فهو محرّم إذا استلزم طرح ما يقابله من الاصول والأدلة المعلوم وجوب العمل بها.

____________________________________

لا حسنا ، ثم العمل بالاحتياط يكون حسنا ما لم يثبت على خلافه دليل يجب الأخذ به ، وإلّا فيكون الاحتياط حراما كما لو قام الظن على وجوب شيء ، وكان مقتضى الاستصحاب حرمته ، فيكون العمل بالظن احتياطا حراما من حيث إنّه مستلزم لطرح ما هو حجّة شرعا.

والقسم الثالث : أن يعمل به لا لإدراك الواقع ، ولا على وجه التعبّد والتديّن به ، بل اشتهاء ، فإن كان العمل به كذلك مستلزما لطرح أصل أو دليل كان حراما لأجل كونه مستلزما لطرح ما هو حجّة عند الشارع ، وإن لم يكن كذلك يكون العمل به جائزا لعدم لزوم شيء من التشريع وطرح ما هو الحجّة.

(لكن في تسمية هذا عملا بالظنّ مسامحة) لأنّ العمل بالظن حقيقة معناه الالتزام بأنّ مؤدّاه يكون من الشارع ، وأمّا مجرّد تطبيق العمل به احتياطا أو اشتهاء لا يسمّى عملا بالظن حقيقة ، بل يسمّى العمل به مجازا ومسامحة لمشابهته بالعمل به حقيقة.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ العمل بالظن كما يظهر من كلام المصنّف على ثلاثة أقسام ، وهذه الأقسام مختلفة في الحكم.

أمّا الأول فهو محرّم مطلقا للتشريع.

وأما الثاني فيكون العمل به حسنا بشرطين :

الأول : عدم كونه معارضا للاحتياط الآخر.

والثاني : عدم كونه مخالفا لدليل أو أصل معتبر ، فبانتفاء الشرط الأول ينتفي حسن العمل بالاحتياط ، وبانتفاء الشرط الثاني ينتفي جوازه فيكون العمل به حراما.

وأمّا الثالث : فيجوز العمل به في حكم لا يعتبر فيه قصد القربة ما لم يلزم من العمل به طرح دليل معتبر أو أصل.

٢٢٦

هذا ، وقد يقرّر الأصل هنا بوجوه أخر :

منها : إن الأصل عدم الحجّية وعدم وقوع التعبّد به وإيجاب العمل به.

وفيه : إن الأصل وإن كان ذلك الّا أنّه لا يترتّب على مقتضاه شيء ، فإنّ حرمة العمل بالظن يكفي في موضوعها عدم العلم بورود التعبّد من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبّد به ، ليحتاج في ذلك إلى الأصل ثم إثبات الحرمة.

____________________________________

(وقد يقرّر الأصل هنا بوجوه أخر : منها : إن الأصل عدم الحجّية وعدم وقوع التعبّد به وإيجاب العمل به).

أي : عدم إيجاب العمل به ، والظاهر أنّ المراد من هذا الأصل هو الاستصحاب ، فلا بدّ من بيان مقدّمة ليتضح بها تقريب هذا الأصل ، وهي :

إنّ الحوادث مطلقا سواء كانت من الامور التكوينية أو الاعتبارية مسبوقة بالعدم غير الواجب تعالى لأنّه ليس منها.

إذا عرفت ذلك ، نقول : إن حجّية الأمارات من الحوادث فتكون مسبوقة بالعدم فيستصحب عدم الحجّية ، كذا وقوع التعبّد بالظن يكون مسبوقا بالعدم فيستصحب عدمه في صورة الشك في وقوعه ، فالنتيجة هي حرمة العمل بالظن.

وهذان الأصلان يكون مجراهما هو الموضوع ، والأصل الثالث يكون مجراه هو الحكم ، يعني : الأصل عدم ايجاب العمل به الملازم لعدم الحجّية المستلزم لحرمة العمل بالظن ، فتكون هذه الاصول موافقة لما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الأصل من حيث النتيجة ، إذ نتيجة الجميع هي حرمة العمل بالظن.

(وفيه : إن الأصل وإن كان ذلك الّا أنّه لا يترتّب على مقتضاه شيء).

والمصنّف رحمه‌الله قد منع عن جريان الاستصحاب في المقام ، ووجه منع المصنّف رحمه‌الله عن الأصل المذكور يتضح بعد ذكر مقدّمة ، وهي :

إنّ الاستصحاب لا يجري الّا فيما إذا ترتّب على المستصحب أثر شرعي ، أو كان نفس المستصحب حكما شرعيا ، ثم الأثر المترتّب على الشيء شرعا تارة : يترتب على وجوده أو على عدمه ، واخرى : يترتب على مجرد عدم العلم به.

الأول : كحرمة شرب الخمر فالحرمة تترتّب على الخمر الموجود ، وكجواز الدخول

٢٢٧

والحاصل : أنّ أصالة عدم الحادث إنّما يحتاج إليها في الأحكام المترتبة على عدم ذلك الحادث ، وأمّا الحكم المرتب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفي الشك فيه ، ولا يحتاج إلى إحراز عدمه بحكم الأصل.

وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ ، فإنه لا يحتاج في إجرائها إلى إجراء أصالة عدم فراغ الذمّة ، بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ ، فتأمّل.

ومنها : إن الأصل هي إباحة العمل بالظن لأنّها الأصل في الأشياء. حكاه بعض عن

____________________________________

في الصلاة يترتّب على وجود الطهارة ، وعدم جوازه يترتّب على عدمه.

والثاني : كحكم العقل باشتغال ذمّة المكلّف ، فالحكم باشتغال الذمّة أثر يترتّب على مجرد عدم العلم بالبراءة والشك بها ، فإذا شكّ المكلّف بفراغ ذمّته عن التكليف يحكم العقل بالاشتغال ، فلا حاجة فيه إلى استصحاب اشتغال الذمّة بالتكليف ، أو إلى أصالة عدم فراغ الذمّة عنه.

إذا عرفت هذا نقول : إنّ الاستصحاب يجري فيما إذا كان الأثر أثرا لوجود الشيء أو لعدمه كالقسم الأول ، لأنّ الاستصحاب يكون من الاصول المحرزة ، فإذا شك المكلّف بوجود الشيء بعد علمه به يستصحب بقاءه ، فيحرز وجوده به ثم يترتّب عليه الأثر ، وكذا في جانب العدم.

وأمّا إذا كان الأثر أثرا لعدم العلم بشيء فلا حاجة إلى الاستصحاب ، بل مجرد عدم العلم يكون كافيا في ترتّب الأثر عليه ، وما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، لأنّ الأثر ـ وهو الحكم بحرمة التعبّد بالظن ، أو حرمة العمل به ، أو عدم إيجاب العمل به ـ يترتّب على عدم العلم بحجّية الظن ، فمجرد الشك في الحجّية يكون كافيا في الحكم بالحرمة ، فلا حاجة إلى أصالة عدم الحجّية أو أصالة عدم وقوع التعبّد به ، أو أصالة عدم إيجاب العمل به.

(فتأمّل) لعلّه اشارة إلى الفرق بين هذا الأصل وبين الأصل السابق بعد اشتراكهما في الحكم بحرمة العمل بالظن من أنّ الأصل السابق يكون قاعدة كلية مستفادة من الأدلة الأربعة ، ولكن هذا الأصل ليس كذلك ، بل لو قلنا بجريانه يكون من مصاديق الاستصحاب ، فالأصل السابق أولى منه.

(ومنها : إنّ الأصل هي إباحة العمل بالظن لأنّها الأصل في الأشياء).

٢٢٨

السيّد المحقّق الكاظمي.

وفيه ـ على تقدير صدق النسبة ـ :

أولا : إن إباحة التعبّد بالظن غير معقول ، إذ لا معنى لجواز التعبّد وتركه لا إلى بدل ، غاية الأمر التخيير بين التعبّد بالظن والتعبّد بالأصل ، أو الدليل الموجود هناك في مقابله الذي يتعيّن الرجوع إليه لو لا الظن ، فغاية الأمر وجوب التعبّد به أو بالظن تخييرا ، فلا معنى للإباحة التي هي الأصل في الأشياء.

وثانيا : إن أصالة الإباحة انما هي فيما لا يستقلّ العقل بقبحه ، وقد عرفت استقلال

____________________________________

وتقريب هذا الأصل يقتضي ذكر الخلاف الحاصل بين العلماء في أنّ الأصل في الأشياء قبل بيان أحكامها من قبل الشارع هل هو الإباحة أو الحظر؟

ذهب بعض إلى الأول ، وبعض إلى الثاني ، لأنّ أصالة إباحة العمل بالظن مبني على القول الأول ، إذ العمل بالظن يكون من الأشياء ، والأصل فيها الإباحة ، فكذلك الأصل في العمل به هو الإباحة.

وقد أجاب المصنّف رحمه‌الله عن هذا الأصل بوجهين :

حيث أشار إلى الوجه الأول بقوله : (وفيه ـ على تقدير صدق النسبة ـ أولا : إنّ إباحة التعبّد بالظن غير معقول) لأنّ معنى الإباحة هي الرخصة في الفعل وتركه لا إلى بدل ، كشرب الماء مثلا ، وهذا المعنى ـ فيما نحن فيه ـ لا يعقل ، لخصوصية فيه ليست في شرب الماء ، وهي عنوان التعبّد ، إذ لو ثبت هذا العنوان ، أي : التعبّد بالظن وحجّيته ، وجب العمل به ، ولا يجوز تركه ، وإن لم يثبت كان العمل به حراما ، فلا معنى لإباحة العمل به ، بل يكون أمره دائرا بين الوجوب والحرمة ، والقاعدة فيه هي التخيير ، ولذا يقول المصنّف رحمه‌الله :

(غاية الأمر التخيير بين التعبّد بالظن والتعبّد بالأصل ، أو الدليل الموجود هناك) ، فيكون المكلّف مخيّرا بين العمل بالظن ، وبين العمل بالأصل أو الدليل الموجود في مقابله ، وعلى كلّ فإباحة التعبّد بالظن غير معقول.

ثم أشار إلى الوجه الثاني بقوله : (وثانيا : إنّ أصالة الإباحة إنّما هي فيما لا يستقل العقل بقبحه).

يعني : وثانيا : إنّ الالتزام بالإباحة في المقام لا يمكن ، ولو قلنا بأنّ الأصل في الأشياء

٢٢٩

العقل بقبح التعبّد بالظن من دون العلم بوروده من الشارع.

ومنها : إن الأمر في المقام دائر بين الوجوب والتحريم ، ومقتضاه التخيير ، أو ترجيح جانب التحريم ، بناء على أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وفيه : منع الدوران ، لأنّ عدم العلم بالوجوب كاف في ثبوت التحريم ، لما عرفت من إطباق الأدلة الأربعة على عدم جواز التعبّد بما لا يعلم وجوب التعبّد به من الشارع.

____________________________________

هو الإباحة ، وقلنا بإمكان إباحة التعبّد بالظن ، وذلك لأنّ أصالة الإباحة يكون مختصّا فيما إذا لم يكن هناك دليل على الحكم ، وقد دل على حرمة التعبّد بالظن الأدلة الأربعة.

ومنها العقل قد يستقل بقبحه ، فلا مجال للإباحة في المقام أصلا لأنّ اختلافهم في كون الأصل في الأشياء هو الإباحة أو الحظر إنّما هو فيما إذا لم يكن هناك دليل على حكم ، وأمّا مع وجود الدليل عليه فلم يقل أحد بالإباحة.

(ومنها : إنّ الأمر في المقام دائر بين الوجوب والتحريم ، ومقتضاه التخيير).

ومن الوجوه التي ذكرت في تقرير الأصل هو دوران أمر العمل بالظن بين الوجوب والحرمة ، إذ الظن بحسب الواقع لا يخلو عن أحد أمرين : إمّا حجّة ، فيكون العمل به واجبا ، وإمّا ليس بحجّة ، فيكون العمل به حراما.

وقد ثبت في محلّه أنّ الحكم في دوران الأمر بين المحذورين هو التخيير ، (أو ترجيح جانب التحريم ، بناء على أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة) فيكون هذا الأصل ـ أيضا ـ موافقا لما ذكره المصنّف رحمه‌الله بحسب النتيجة إذا أخذ جانب التحريم على أحد الوجهين من التخيير أو ترجيح جانب المفسدة.

(وفيه : منع الدوران) إذ دوران الأمر بين الوجوب والحرمة إنّما هو فيما إذا كان احتمال أحدهما مساويا للآخر ، ولم يكن على تعيين أحدهما دليل ، وقد دلّ الدليل على حرمة العمل بالظن ، فيكون الحكم بوجوب العمل به مقطوع العدم.

بل عدم العلم بوجوب العمل به يكون كافيا في الحكم بتحريم العمل به لأنّ موضوع وجوب العمل به هو الحجّية ولم تثبت ، فعدم العلم بها كاف في التحريم لما تقدّم من دلالة الأدلة الأربعة على عدم جواز التعبّد بما لا يعلم وجوب التعبّد به من الشارع.

٢٣٠

ألا ترى أنّه إذا دار الأمر بين رجحان عبادة وحرمتها كفى عدم ثبوت الرجحان في ثبوت حرمتها؟

ومنها : إن الأمر في المقام دائر بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد بالأحكام الشرعية المعلومة اجمالا ، وبين وجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ، فيرجع إلى الشك في المكلّف به وتردّده بين التخيير والتعيين ، فيحكم بتعيين تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي تحصيلا لليقين بالبراءة خلافا لمن لم يوجب ذلك في مثل المقام.

____________________________________

(ألا ترى أنّه إذا دار الأمر بين رجحان عبادة وحرمتها كفى عدم ثبوت الرجحان في ثبوت حرمتها؟).

يعني : مشروعية العبادة تابعة للعلم برجحانها ، والعلم بالرجحان لا يحصل الّا بالأمر بها وجوبا أو ندبا ، فيكون مجرد الشك وعدم العلم بالرجحان كافيا في الحكم بالحرمة ، ولا حاجة فيه إلى العلم بعدم الأمر بها أو النهي عنها.

(ومنها : إنّ الأمر في المقام دائر بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد).

توضيح هذا الوجه يتوقّف على مقدّمة ، وهي : إنّا نعلم إجمالا بثبوت الأحكام الشرعية ، إذ لا يوجد شيء الّا وله حكم في الشريعة ، ونحن مكلّفون بإطاعة هذه الأحكام ، وإطاعتها تتوقف على الاعتقاد بها ، فيجب علينا تحصيل الاعتقاد بها.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، نقول : إنّا نعلم بوجوب تحصيل الاعتقاد ، ولكن لا نعلم بأن الواجب هل هو تحصيل مطلق الاعتقاد ظنيا أو علميا ، أو تحصيل الاعتقاد العلمي فقط فيرجع الشك في المقام إلى الشك في المكلّف به؟

(وتردّده) أي : المكلّف به بين (التخيير والتعيين) إذ لو كان الواجب علينا تحصيل مطلق الاعتقاد لكنّا مخيرين بين تحصيل العلم ، وبين تحصيل الظن ، ولو كان تحصيل الاعتقاد القطعي فقط لكان الواجب هو تحصيل اعتقاد معيّن.

فتكون هذه المسألة من صغريات مسألة دوران الواجب بين التخيير والتعيين ، ومقتضى الاحتياط فيها هو التعيين تحصيلا لليقين بالبراءة ، فيحكم بوجوب تحصيل العلم فقط ، ثم النتيجة هي حرمة العمل بالظن.

قوله : (خلافا لمن لم يوجب ذلك) اشارة إلى الاختلاف في مسألة دوران الشيء بين

٢٣١

وفيه : أولا : إن وجوب تحصيل الاعتقاد بالأحكام مقدّمة عقلية للعمل بها وامتثالها ، فالحاكم بوجوبه هو العقل ، ولا معنى لتردّد العقل في موضوع حكمه ، وأنّ الذي حكم هو بوجوبه تحصيل مطلق الاعتقاد أو خصوص العلم منه ، بل إمّا أن يستقل بوجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي على ما هو التحقيق ، وإمّا أن يحكم بكفاية مطلق الاعتقاد.

ولا يتصوّر الإجمال في موضوع الحكم العقلي لأنّ التردّد في الموضوع يستلزم التردّد في الحكم ، وهو لا يتصوّر من نفس الحاكم.

____________________________________

التخيير والتعيين ، حيث ذهب بعض إلى الحكم بالتعيين تحصيلا لليقين بالبراءة ، وبعض إلى الحكم بالتخيير ، وقيل في وجه هذا الحكم : إنّ خصوصية التعيين أمر زائد نشك فيها فنجري البراءة ونحكم بالتخيير ، فيجوز تحصيل الاعتقاد الظني والعمل به ، فتكون النتيجة جواز العمل بالظن ، ولكن هذا الأصل مخالف لما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله.

(وفيه : أولا : إن وجوب تحصيل الاعتقاد بالأحكام مقدّمة عقلية للعمل بها).

وقد أجاب المصنّف رحمه‌الله عن هذا الأصل بجوابين :

الأول : يرجع إلى إنكار كون المقام من صغريات مسألة التعيين والتخيير ؛ وذلك لأنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير إنّما يعقل في الأحكام الشرعية فقط ، ولا يعقل ذلك في الأحكام العقلية.

والوجه في ذلك : أنّ الحكم الشرعي عند الشارع الحاكم يكون معلوما ومعيّنا دائما ، ولكن يمكن أن يكون الحكم عندنا مردّدا ، فالترديد في الحكم الشرعي بالنسبة إلينا أمر ممكن ، ولهذا يمكن عندنا دوران شيء من حيث حكمه الشرعي بين التعيين والتخيير ، ولكن الحكم فيما نحن فيه ليس من الأحكام الشرعية ، بل يكون من الأحكام العقلية ، لأنّ امتثال الأحكام لمّا كان موقوفا على الاعتقاد بها يحكم العقل بوجوب تحصيل الاعتقاد مقدّمة للامتثال ، ثم العقل الحاكم لا يشك في موضوع حكمه ، فالموضوع إمّا هو تحصيل مطلق الاعتقاد ، أو الاعتقاد القطعي ، فلا يعقل الترديد والدوران بين التعيين والتخيير ليكون المقام من صغريات تلك المسألة فيخرج عنها.

(ولا يتصوّر الإجمال في موضوع الحكم العقلي ؛ لأنّ التردّد في الموضوع يستلزم التردّد في الحكم ، وهو لا يتصوّر من نفس الحاكم).

٢٣٢

وستجيء الإشارة إلى هذا في ردّ من زعم أن نتيجة دليل الانسداد مهملة مجملة ، مع عدّه دليل الانسداد دليلا عقليا وحكما يستقل به العقل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ العمل بالظن في مورد مخالفته للاصول والقواعد الذي هو محل الكلام مخالفة قطعية لحكم الشارع بوجوب الأخذ بتلك الاصول حتى يعلم خلافها ، فلا حاجة في ردّه إلى مخالفته لقاعدة الاشتغال الراجعة إلى قدح المخالفة الاحتمالية للتكليف المتيقّن.

مثلا : إذا فرضنا أنّ الاستصحاب يقتضي الوجوب والظن حاصل بالحرمة ، فحينئذ

____________________________________

وذلك لأنّ الحكم لا يصدر من أيّ حاكم كان الّا متعلّقا بموضوع ، فإذا تردّد الحاكم في أنّ الموضوع هو تحصيل مطلق الاعتقاد ، أو خصوص الاعتقاد القطعي ، فطبعا يتردّد في الحكم بأن الوجوب تعلّق بالأول ، أو بالثاني.

والتردّد لا يتصوّر من الحاكم لأنّ الحاكم لا يكون حاكما الّا بعد الحكم ، والحكم لا يعقل الّا بعد إحراز الموضوع بجميع قيوده ، وبعد إحراز الموضوع كذلك لا يبقى التردّد في الموضوع ، ولا في الحكم ، فاتّضح من جميع ما ذكرنا أنّ الترديد في المقام لا يعقل ، فلا يكون المقام من صغريات مسألة التعيين والتخيير.

(وستجيء الإشارة إلى هذا في ردّ من زعم أنّ نتيجة دليل الانسداد مهملة مجملة).

يعني : من زعم أنّ دليل الانسداد يكون عقليا يحكم العقل بعد تمامية الانسداد على حجّية الظن ، ثم قال : إنّ حكم العقل بحجّية الظن مجمل ومهمل ، أي : لا يعلم بأن الظن حجّة مطلقا أو في الجملة ، وردّ هذا الزعم واضح ، إذ لو كان العقل حاكما بحجّية الظن لما كان متردّدا في موضوع حكمه أصلا ، بل إمّا يحكم بحجّية مطلق الظن أو بعضه ، إذ التردّد في موضوع حكم الحاكم لا يعقل.

(وأمّا ثانيا : فلأنّ العمل بالظن في مورد مخالفته للاصول والقواعد الذي هو محل الكلام مخالفة قطعية).

وحاصل هذا الجواب الثاني من المصنّف رحمه‌الله هو إثبات حرمة العمل بالظن من جهة أنّ العمل به في فرض مخالفته للاصول والقواعد مخالفة قطعية أسهل من إثباتها من جهة أنّ العمل به مخالفة احتمالية ، وذلك أن المستدل قد استدل على حرمة العمل بالظن بوجوب الأخذ بالتعيين في دوران الأمر بين التعيين والتخيير تحصيلا لليقين بالبراءة ، وعدم جواز

٢٣٣

يكون العمل بالظن مخالفة قطعية لحكم الشارع بعدم نقض اليقين بغير اليقين ، فلا يحتاج إلى تكلّف أنّ التكليف بالواجبات والمحرّمات يقيني ، ولا نعلم كفاية تحصيل مطلق الاعتقاد الراجح فيها أو وجوب تحصيل الاعتقاد القطعي ، وأنّ في تحصيل الاعتقاد الراجح مخالفة احتمالية للتكليف المتيقّن فلا يجوز ، فهذا أشبه شيء بالأكل من القفا.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا أن ما ذكرنا في بيان الأصل هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ، وحاصله : أن التعبّد بالظن مع الشك في رضاء الشارع بالعمل به في الشريعة تعبّد بالشك ، وهو باطل عقلا ونقلا.

وأمّا مجرّد العمل على طبقه فهو محرّم إذا خالف أصلا من الاصول اللفظية أو العملية الدالّة على وجوب الأخذ بمضمونها حتى يعلم الرافع.

فالعمل بالظن قد تجتمع فيه جهتان للحرمة ، كما إذا عمل به ملتزما أنه حكم الله وكان

____________________________________

الأخذ بالتخيير إذ فيه احتمال مخالفة حكم الشارع على فرض وجوب تحصيل الاعتقاد القطعي بالأحكام ، فحكم بحرمة تحصيل الظن لأنّ فيه مخالفة احتمالية.

فيقول المصنّف رحمه‌الله : إن العمل بالظن على وجه التعبّد محرّم بالأدلة الأربعة من جهة كونه تشريعا وإن لم يكن مخالفا للاصول والقواعد ، والعمل به من دون التعبّد به يكون محرّما في موارد مخالفته للاصول والقواعد من جهة كونه مخالفة قطعية لحكم الشارع بوجوب العمل بتلك الاصول.

فلا حاجة في إثبات حرمة العمل به إلى لزوم مخالفة احتمالية منه ، فإثبات الحرمة من طريق لزوم المخالفة الاحتمالية ، وترك إثباتها من طريق لزوم المخالفة القطعية يكون أشبه شيء بالأكل من القفا.

إذ ردّ جواز العمل بالظن من طريق لزوم المخالفة القطعية أسهل وأقرب من ردّه من طريق لزوم المخالفة الاحتمالية المتوقّف على جعل المقام من صغريات مسألة التعيين والتخيير.

(فقد تبيّن ممّا ذكرنا أن ما ذكرنا في بيان الأصل هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه) لأنّ بقية الاصول لا تخلو عن إشكال بخلاف ما ذكرنا ، فإنّه مصون عن الإشكال ، فينبغي الأخذ به.

(فالعمل بالظن قد تجتمع فيه جهتان للحرمة).

٢٣٤

العمل به مخالفا لمقتضى الاصول.

وقد تتحقّق فيه جهة واحدة ، كما إذا خالف الأصل ولم يلتزم بكونه حكم الله ، أو التزم ولم يخالف مقتضى الاصول ، وقد لا يكون فيه عقاب أصلا ، كما إذا لم يلتزم بكونه حكم الله ولم يخالف أصلا ، وحينئذ قد يستحق عليه الثواب ، كما إذا عمل به على وجه الاحتياط.

هذا ولكن حقيقة العمل بالظن هو الاستناد اليه في العمل والالتزام بكون مؤدّاه

____________________________________

اشارة إلى أقسام العمل بالظن ، ثم الأقسام المتصوّرة هي ستة ، وذلك أن العمل بالظن مع قطع النظر عن كونه مخالفا للاصول يكون على ثلاثة أقسام :

١ ـ العمل به تعبّدا.

٢ ـ العمل به اشتهاء.

٣ ـ العمل به احتياطا.

وعلى جميع التقادير ؛ إمّا أن يكون مخالفا للأصل أو دليل معتبر ، أو لا يكون كذلك ، فالحاصل هو الستة.

ثم إنّه قد يجتمع فيه جهتان من الحرمة ، كما إذا كان العمل به على وجه التعبّد وكان مخالفا للأصل أو الدليل ، ففيه قد اجتمعت الحرمة التشريعية ، والحرمة من جهة طرح ما يجب العمل به من الاصول والأدلة.

وقد تكون الحرمة من جهة واحدة ، وهي تشريعية فيما إذا لم يكن مخالفا للأصل أو الدليل ، وكان العمل به على وجه التعبّد.

وغير تشريعية فيما إذا كان العمل به اشتهاء ، أو احتياطا ، وكان مخالفا لأصل أو دليل معتبر.

وقد لا يكون العمل به محرّما أصلا كالعمل به اشتهاء ، أو احتياطا إذا لم يكن مخالفا للأصل أو الدليل ، بل يكون العمل به موجبا للثواب كالعمل به احتياطا.

قوله : (وقد تتحقّق فيه جهة واحدة) مسامحة في التعبير. إذ لازم الاجتماع هو التعدّد ، فلا يصح إطلاقه على

واحد ، فكان الأولى أن يقول المصنّف رحمه‌الله : وقد يحرم العمل به من جهة واحدة.

(ولكن حقيقة العمل بالظن هو الاستناد إليه في العمل).

٢٣٥

حكم الله في حقه ، فالعمل على ما يطابقه بلا استناد إليه ليس عملا به ، فصحّ أن يقال : إنّ العمل بالظن والتعبّد به حرام مطلقا ، وافق الاصول أو خالفها. غاية الأمر أنّه إذا خالف الاصول يستحق العقاب من جهتين : من جهة الالتزام والتشريع ، ومن جهة طرح الأصل المأمور بالعمل به حتى يعلم بخلافه ، وقد اشير في الكتاب والسنّة إلى الجهتين.

فممّا اشير فيه إلى الاولى قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) ، بالتقريب المتقدّم ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم) (٢).

وممّا اشير فيه إلى الثانية قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٣) ،

____________________________________

يقول المصنّف رحمه‌الله : إنّ العمل به على وجه الاحتياط ، أو الاشتهاء لا يسمّى عملا بالظن ، بل يقال عليه العمل به من باب التسامح ، فالعمل به حقيقة هو أن يكون على وجه التعبّد والاستناد إليه ، وعلى هذا يصح أن يقال : (إنّ العمل بالظن والتعبّد به حرام مطلقا) إذ إطلاق العمل به يختصّ فيما إذا كان العمل به على وجه التعبّد به ، وهو حرام مطلقا ، سواء كان موافقا للاصول ، أو مخالفا لها. غاية الأمر إذا كان مخالفا لها يكون المكلّف مستحقا للعقاب من جهتين : جهة التشريع ، وجهة طرح الاصول والأدلة.

(وقد اشير في الكتاب والسنّة إلى الجهتين).

وما اشير به إلى الجهة الاولى ، أي : الحرمة التشريعية قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٤).

وقد تقدّم تقريب هذه الآية على الحرمة التشريعية ، وكذا تقدّم تقريب الحديث الراجع إلى القضاة.

وممّا اشير فيه إلى الثانية قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).

أي : إنّ ما يكون في الحق هو العلم والاصول والأدلة المعتبرة شرعا ، بينما الظن لا يقوم مقام ما هو حق ، فإذا كان العمل به موجبا لطرح الحق كان محرّما قطعا ، فالآية تدل

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٢ ، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به ، ب ٤ ، ح ٦.

(٣) يونس : ٣٦.

(٤) يونس : ٥٩.

٢٣٦

وقوله عليه‌السلام : (من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه) (١) ونفس أدلة الاصول.

ثم إنّ ما ذكرنا من الحرمة من الجهتين مبنيّ على ما هو التحقيق من أنّ اعتبار الاصول لفظية كانت أو عملية غير مقيّد بصورة عدم الظن على خلافها.

____________________________________

على حرمة العمل بالظن ، لكونه موجبا لطرح الواقع الحقّ.

(وقوله عليه‌السلام : (من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه).

يدل على حرمة العمل بالظن من جهة كونه مستلزما لطرح الاصول ، إذ العمل به غالبا يكون موجبا لتفويت الواقع ، فيكون ما يفسده من تفويت الواقع أكثر ممّا يصلحه من أدراك الواقع ، إذ قد يكون الظن موافقا للواقع.

فالحرمة تكون من جهة تفويت الواقع وعدم المصلحة لا من جهة التشريع ، ولأنّ العمل بالظن على وجه التعبّد الذي هو تشريع يستلزم الفساد المحض ، ففرض الصلاح يكون قرينة على أنّ المراد هو حرمة العمل به ، لكونه موجبا لتفويت الواقع غالبا.

(ونفس أدلة الاصول).

يعني : يدل على حرمة العمل بالظن نفس أدلة الاصول لأنّ العمل بالظن نقض لليقين بالشك ، فمقتضى دليل الاستصحاب كقوله عليه‌السلام : (لا تنقض اليقين أبدا بالشك) (٢) هو حرمة نقض اليقين بالشك ، ثم المراد بالشك هو عدم العلم الشامل للظن ، والشك بالمعنى الأخص ، فالعمل بالظن وطرح الاستصحاب يكون نقض اليقين ، وهو حرام ، فالعمل به يكون حراما.

وقس عليه دليل الحلّية كقوله عليه‌السلام : (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام) (٣) فالمستفاد من هذا الدليل هو الحكم بالحلّية الظاهرية إلى حين العلم بالحرمة ، فإذا قام الظن الحاصل من خبر الفاسق بحرمة شيء كان العمل به طرحا لهذا الدليل فيكون حراما.

(ثم إنّ ما ذكرنا من الحرمة من الجهتين مبنيّ على ما هو التحقيق من أنّ اعتبار

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٥ ، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به ، ب ٤ ، ح ١٣ ، وفيه : (من عمل على غير علم ...).

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

(٣) الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتب به ، ب ٤ ، ح ٤.

٢٣٧

وأمّا إذا قلنا باشتراط عدم كون الظن على خلافها ، فلقائل أن يمنع أصالة حرمة العمل بالظن مطلقا ، لا على وجه الالتزام ولا على غيره.

أما مع عدم تيسّر العلم في المسألة ، فلدوران الأمر فيها بين العمل بالظن وبين الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة على خلاف الظن.

وكما لا دليل على التعبّد بالظن ، كذلك لا دليل على التعبّد بذلك الأصل ، لأنّه المفروض ، فغاية الأمر التخيير بينهما ، أو تقديم الظن لكونه أقرب إلى الواقع ، فيتعيّن بحكم العقل.

وأمّا مع التمكّن من العلم في المسألة فلأنّ عدم جواز الاكتفاء فيها بتحصيل الظن

____________________________________

الاصول لفظية كانت أو عملية غير مقيّد بصورة عدم الظن على خلافها).

اختلف الاصوليون في اعتبار الاصول ، فذهب بعضهم إلى أنّ اعتبارها يكون مشروطا بعدم الظن على خلافها ، وقال جماعة ـ والمصنّف رحمه‌الله منهم ـ : بأن اعتبارها غير مشروط بذلك ، فتكون حجّة مطلقا ، فحرمة العمل بالظن من الجهتين مبنيّ على حجّيتها مطلقا ، بمعنى أن يكون العمل بالظن حراما من جهة التشريع ، والطرح على القول بحجّية الاصول مطلقا.

(وأمّا إذا قلنا باشتراط عدم كون الظن على خلافها) فلا يكون العمل بالظن حراما مطلقا ، سواء كان العمل به تعبّدا أو اشتهاء ، وسواء كان موجبا لطرح الأصل أم لم يكن كذلك ، وسواء كان المكلّف متمكّنا من العلم أم لا.

أمّا وجه عدم حرمة العمل بالظن مع عدم تمكّن المكلّف من العلم ، فلدوران الأمر بين العمل بالظن ، وبين الرجوع إلى الأصل القائم على خلافه ، ولا بدّ من العمل بأحدهما لعدم سقوط التكليف عنه ، فلا بدّ من امتثاله ؛ إمّا عن طريق الظن أو الأصل.

وكما لا دليل على التعبّد بالظن كذلك لا دليل على التعبّد بذلك الأصل ، إذ أدلة اعتباره مختصّة بصورة عدم الظن بالخلاف.

(فغاية الأمر التخيير بينهما) والظاهر من التخيير هو التخيير في المسألة الاصولية بأن يكون المكلّف مخيّرا بين العمل بالظن ، وبين العمل بالأصل (أو تقديم الظن لكونه أقرب إلى الواقع) إذ فيه جهة كشف عن الواقع بخلاف الأصل.

(وأمّا مع التمكّن من العلم في المسألة فلأنّ عدم جواز الاكتفاء فيها بتحصيل الظن

٢٣٨

ووجوب تحصيل اليقين مبنيّ على القول بوجوب تحصيل الواقع علما.

أمّا إذا ادّعي أن العقل لا يحكم بأزيد من وجوب تحصيل الظن ، وأن الضرر الموهوم لا يجب دفعه فلا دليل على لزوم تحصيل العلم مع التمكّن.

ثم إنّه ربّما يستدل على أصالة حرمة العمل بالظن بالآيات الناهية عن العمل بالظن.

وقد أطالوا الكلام في النقض والإبرام في هذا المقام بما لا ثمرة مهمة في ذكره بعد ما عرفت ، لأنّه إن اريد الاستدلال بها على حرمة التعبّد والالتزام والتديّن بمؤدّى الظن فقد

____________________________________

ووجوب تحصيل اليقين مبنيّ على القول بوجوب تحصيل الواقع علما).

فلو قلنا بأنّ العقل يحكم بوجوب تحصيل الاعتقاد القطعي بالأحكام ، لكان العمل بالظن حراما من جهة التشريع ، وترك تحصيل العلم.

و (أمّا إذا ادّعي أنّ العقل لا يحكم بأزيد من وجوب تحصيل الظن ، وأن الضرر الموهوم لا يجب دفعه) فلا يكون العمل بالظن حراما لعدم الدليل على لزوم تحصيل العلم ، واستقلال العقل على كفاية تحصيل مطلق الاعتقاد.

نعم ، قوله : (إنّ الضرر الموهوم لا يجب دفعه) مبنيّ على غير ما هو التحقيق ، بل الحقّ كما ذهب إليه كثير من المحقّقين ـ والمصنّف رحمه‌الله منهم ـ هو وجوب دفع الضرر المحتمل إذا كان اخرويا.

(ثم إنّه ربّما يستدل على أصالة حرمة العمل بالظن بالآيات الناهية عن العمل بالظن) كقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١) ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٢) وغيرها من الآيات الناهية عن اتباع الظن فلا يجوز العمل به بمقتضى هذه الآيات.

(وقد أطالوا الكلام في النقض والإبرام في هذا المقام).

ولا مجال في هذا المختصر لذكر ما أطالوا الكلام به من النقض والإبرام تفصيلا ، بل نكتفي بذكر بعض ما ذكروه من النقض حيث قالوا :

تارة : إنّ الاستدلال بهذه الآيات على عدم حجّية الظن يكون موجبا لعدم حجّية

__________________

(١) النجم : ٢٨.

(٢) الإسراء : ٣٦.

٢٣٩

عرفت أنه من ضروريات العقل ، فضلا عن تطابق الأدلة الثلاثة النقلية عليه.

وإن اريد دلالتها على حرمة العمل المطابق للظن وإن لم يكن عن استناد إليه ، فإنّ اريد حرمته إذا خالف الواقع مع التمكّن من العلم به ، فيكفي في ذلك الأدلة الواقعية.

____________________________________

نفس هذه الآيات ، وذلك لأنّ ظواهرها لا تفيد أكثر من الظن ، فكيف يمكن الاستدلال بالظن على عدم حجّيته؟! فإذا دلّت فرضا على عدم حجّية الظن لدلّت على عدم حجّية أنفسها أيضا ، فيلزم من حجّيتها عدم حجّيتها ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو محال.

واخرى : النقض بأنّها لا تشمل المقام ، لأنّها ناهية عن العمل بالظن في اصول الدين ، أو أنّها واردة في مقام الظن السوء ، والتهمة بالمسلمين ، أو غير ذلك ممّا قيل فيها ، ولكن المصنّف رحمه‌الله يقول : إنّ حرمة التعبّد بالظن قد عرفت أنّها من ضروريات حكم العقل ، فضلا عن تطابق الأدلة على التحريم ، إذ التعبّد به تشريع محرّم بالأدلة الأربعة ، فلا يحتاج إثبات الحرمة إلى الآيات الناهية.

نعم ، الاستدلال بها من باب التأكيد يكون صحيحا. نعم ، يمكن أن تكون هذه الآيات مرشدة إلى حكم العقل بالحرمة التشريعية.

(وإن اريد دلالتها على حرمة العمل المطابق للظن وإن لم يكن عن استناد إليه).

أي : إنّ الآيات تدل على تحريم مجرّد العمل المطابق للظن مطلقا ، سواء كان العمل به اشتهاء أو احتياطا ، فضلا عن كون العمل استنادا إلى الظن ، فيكون العمل به استناد إليه حراما بطريق أولى ، فإن كان المراد حرمة العمل بالظن إذا خالف الواقع مع تمكّن المكلّف من العلم به ، فيكفي في تحريم العمل بالظن نفس الأدلة الواقعية.

مثلا : إذا قام الظن على وجوب الدعاء ، وكان مقتضى الدليل الواقعي حرمته فيكفي في حرمة العمل بالظن وقراءة الدعاء نفس الدليل الواقعي المستفاد منه (لا تقرأ الدعاء) ، فقراءة الدعاء معصية ومخالفة للخطاب الواقعي ، فتكون محرّمة من دون حاجة إلى الاستدلال بالآيات.

فإن قيل : إنّ الأدلة الواقعية لا نظر لها إلى جواز العمل بالظن أو عدم جوازه فكيف تقتضي حرمة العمل به؟

فإنه يقال : إنّها لا تدلّ على حرمة العمل بالظن وحدها ، ولكن تدل على ذلك بضميمة

٢٤٠