دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

فإن قلت : ظاهر لفظ الإجماع اتّفاق الكلّ ، فإذا أخبر الشخص بالإجماع فقد أخبر باتّفاق الكلّ ، ومن المعلوم أنّ حصول العلم بالحكم من اتّفاق الكلّ كالضروري ، فحدس المخبر مستند إلى مبادئ محسوسة ملزومة لمطابقة قول الإمام عليه‌السلام عادة ، فإمّا أن يجعل

____________________________________

القسم الأول من الأقسام الثلاثة وبين الإجماع اللطفي ، هي كون الإجماع الحدسي أعمّ من اللطفي ، لاجتماعها فيما إذا اتفق الكل على حكم من الأحكام ، مع الملازمة العادية بين هذا الاتفاق وبين قول الإمام عليه‌السلام ، ولافتراق الإجماع الحدسي فيما إذا اتفق معظم الفقهاء مع الملازمة بين هذا الاتفاق وبين قول الإمام عليه‌السلام.

ثم النسبة بين الإجماع الحدسي والدخولي هي عموم من وجه ؛ لاجتماعهما فيما إذا اتفق الفقهاء وكان فيهم من لا يعلم نسبه ، مع الملازمة عادة بين هذا الاتفاق وبين قول الإمام عليه‌السلام ، ولافتراق الحدسي عن الدخولي فيما إذا لم يكن فيهم مجهول النسب ، ولافتراق الدخولي عن الحدسي فيما إذا لم تكن الملازمة عادة بين الاتفاق المذكور وبين قول الإمام عليه‌السلام.

ثم نفس النسبة المذكورة بين الإجماع الدخولي واللطفي ، لاجتماعهما في اتفاق الكل مع مجهول النسب فيهم ، والافتراق من جانب اللطفي مع عدم مجهول النسب ، والافتراق من جانب الدخولي فيما إذا اتفق معظم الفقهاء مع وجود مجهول النسب فيهم.

(فإن قلت : ظاهر لفظ الإجماع اتفاق الكل ، فإذا أخبر الشخص بالإجماع فقد أخبر باتفاق الكل ، ومن المعلوم أنّ حصول العلم بالحكم من اتفاق الكل كالضروري).

وهذا الإشكال ، يرجع إلى ما ذكره المصنّف قدس‌سره من عدم صحة استناد الإجماع إلى الطريق الأول ، وهو دخول الإمام عليه‌السلام في المجمعين ، لعدم تحقّقه في زمان الغيبة وبطلان قاعدة اللطف.

ثمّ الطريق الثالث وهو الحدس مردّد بين الصحيح وغير الصحيح ، فلا يمكن الاعتماد على الإجماع المبتنى عليه ، فيرجع الإشكال إلى ردّ عدم الاعتماد على الإجماع المبتني على الطريق الثالث ، بل يصح الاعتماد عليه ؛ لأنّ الإجماع كما ذكر في أول الأمر الثاني هو اتفاق الكل في الاصطلاح.

ثمّ تقدم في الطريق الثالث أنّ الناقل إذا كان حدسه وعلمه بقول الإمام عليه‌السلام من اتّفاق

٣٦١

الحجّة نفس ما استفاده من الاتفاق ، نظير الإخبار بالعدالة ، وإمّا أن يجعل الحجّة إخباره بنفس الاتفاق المستلزم عادة لقول الإمام عليه‌السلام ، ويكون نفس المخبر به حينئذ محسوسا نظير إخبار الشخص بامور تستلزم العدالة أو الشجاعة عادة.

وقد أشار إلى الوجهين بعض السادة الأجلّة في شرحه على الوافية ، فإنّه قدس‌سره لمّا

____________________________________

الكل الملازم عادة لموافقة قول المعصوم عليه‌السلام ، يكون إجماعه حجّة.

فعلى هذا ، إذا أخبر الشخص بالإجماع ، فقد أخبر باتّفاق الكلّ ، ومن المعلوم أنّ اتفاق الكلّ يكون ملازما لقول الإمام عليه‌السلام عادة ، فيكون حدس المخبر مستندا إلى مبادئ محسوسة ملزومة لمطابقة قول الإمام عليه‌السلام.

فالمتحصّل مما ذكر ، أنّه يصحّ أن يكون مستند المخبر في الإجماعات المنقولة هو الحدس الضروري.

وقد تقدّم ، أنّ الإجماع المبتني على هذا القسم من الحدس يكون حجّة ، فما ذكره المصنّف قدس‌سره من وجوب التوقف ... الخ ، لا يكون صحيحا(فإمّا أن يجعل الحجّة نفس ما استفاده من الاتّفاق) وهو قول الإمام عليه‌السلام الذي استفاده الناقل من الاتّفاق (وإمّا أن يجعل الحجّة إخباره بنفس الاتّفاق المستلزم عادة لقول الإمام عليه‌السلام) ويكون المخبر به حينئذ حسّيا ، فلا إشكال في حجّيته.

وبعبارة اخرى ؛ إنّ نقل الإجماع يكون مشتملا على الجهتين : إحداهما : هو نقل المسبب المنكشف ، والاخرى : نقل السبب ، وهو اتفاق الكل ، فيمكن أن يجعل حجّة من جهة المسبب ، وهو قول الإمام عليه‌السلام المخبر به الحدسي بالحدس الضروري ، أو يجعل حجّة من جهة السبب وحدها فيكون المخبر به حسّيا.

(وقد أشار إلى الوجهين بعض السادة ... إلى آخره) وقد أشار إلى حجّية الإجماع من جهتي السبب والمسبب السيد الكاظمي قدس‌سره.

ثم يذكر المصنّف قدس‌سره كلام السيد الكاظمي مع طوله ، فيكون كلامه بمنزلة الجملة المعترضة بين إن قلت ـ أعنى الإشكال ـ وبين قلت : إنّ الظاهر في الإجماع ... الخ ، أعني الجواب.

فنذكر أولا كلام السيد الكاظمي ، لنرى كيف يستفاد من كلامه حجّية الإجماع من جهة

٣٦٢

اعترض على نفسه ب «أنّ المعتبر من الإخبار ما استند إلى إحدى الحواسّ ، والمخبر بالإجماع إنّما رجع إلى بذل الجهد ، ومجرّد الشكّ في دخول مثل ذلك في الخبر يقتضي منعه».

أجاب عن ذلك : «بأنّ المخبر هنا ـ أيضا ـ يرجع إلى السمع فيما يخبر عن العلماء وإن جاء العلم بمقالة المعصوم من مراعاة أمر آخر ، كوجوب اللطف وغيره».

ثم أورد : «بأنّ المدار في حجّية الإجماع على مقالة المعصوم عليه‌السلام ، فالإخبار إنّما هو بها ولا يرجع إلى سمع».

____________________________________

السبب والمسبب؟ فنقول :

إنّ السيد الكاظمي (اعترض على نفسه ب «أن المعتبر من الإخبار ما استند إلى إحدى الحواس والمخبر بالإجماع إنّما رجع إلى بذل الجهد ... إلى آخره).

وملخّص الاعتراض : إنّ المعتبر هو الخبر الحسي الذي يكون مستندا إلى إحدى الحواس الظاهرية. والمخبر بالإجماع لم يكن إخباره عن حسّ ؛ لأنّه لم يسمع الحكم من الإمام عليه‌السلام وإنّما رجع في استكشاف قوله عليه‌السلام إلى بذل الجهد ، أعني تتبع أقوال العلماء ، فيكون إخباره ونقله بالنسبة إلى قول الإمام عليه‌السلام حدسيا ، فلا يكون حجّة ، وإن شك في دخوله في أدلة خبر الواحد يكون مقتضى الأصل عدم الدخول وعدم شمول الأدلة لهذا الخبر. هذا ملخّص الإشكال مع توضيح منّا.

وأجاب عن هذا الاشكال : (بأنّ المخبر هنا ـ أيضا ـ يرجع إلى السمع فيما يخبر عن العلماء وإن جاء العلم بمقالة المعصوم من مراعاة أمر آخر ، كوجوب اللطف وغيره) كالتقرير والحدس.

وملخّص ما يستفاد من كلامه هذا ، هو أنّ نقل الإجماع من جهة السبب ـ وهو نقل اتفاق الفقهاء ـ إخبار عن حسّ ، وإن كان من جهة نقل قول المعصوم ، أي : المسبب إخبارا عن حدس فيكون حجّة من جهة نقل السبب ؛ لكونه إخبارا عن حسّ ، فتشمله أدلة الإخبار.

(ثم أورد : بأنّ المدار في حجّية الإجماع على مقالة المعصوم عليه‌السلام) وخلاصة الإيراد هو أنّ المدار والملاك في حجّية الإجماع هو قول المعصوم ، فالإخبار بالإجماع حقيقة هو إخبار عن قول المعصوم عليه‌السلام ، فلا يكون حجّة لعدم كونه عن حسّ.

وبعبارة اخرى : إذا كان المدار والملاك في حجّية الإجماع قول المعصوم لكان المقصود

٣٦٣

فأجاب عن ذلك :

«أوّلا : بأنّ مدار الحجّيّة وإن كان ذلك ، لكن استلزام اتفاق كلمة العلماء لمقالة المعصوم عليه‌السلام معلوم لكلّ أحد ، لا يحتاج فيه إلى النقل ، وإنّما الغرض من النقل ثبوت الاتفاق ، فبعد اعتبار خبر الناقل لوثاقته ورجوعه في حكاية الاتفاق إلى الحسّ والسماع كان الاتفاق معلوما ، ومتى ثبت ذلك كشف عن مقالة المعصوم للملازمة المعلومة لكلّ أحد.

وثانيا : إنّ الرجوع في حكاية الإجماع إلى نقل مقالة المعصوم لرجوع الناقل في ذلك إلى الحسّ ، باعتبار أنّ الاتفاق من آثارها ، ولا كلام في اعتبار مثل ذلك ، كما في الإخبار

____________________________________

من الإخبار بالإجماع ونقله هو الإخبار بقول المعصوم عليه‌السلام ، وهو لا يرجع إلى الحسّ ، فلا يكون نقل الإجماع حجّة.

(فأجاب عن ذلك أولا :) وملخّص هذا الجواب الأوّل :

إنّ مدار الحجّية في الإجماع ، وان كان قول المعصوم عليه‌السلام ومع ذلك نقول : يكفي في حجّية الإجماع أن يكون نقل السبب حسّيا فتشمله الأدلة فيثبت الاتّفاق لكلّ أحد ، ثم يكشف من هذا الاتّفاق قول الإمام عليه‌السلام للملازمة بينهما ، فيثبت قول الإمام عليه‌السلام من هذا الطريق ، ولا حاجة إلى نقله حتى يقال إنّه حدسي فلا تشمله الأدلة.

فالحاصل : إنّ الثابت بالإجماع هو كلّ واحد من السبب والمسبب ، والأوّل بالأدلة لكونه حسّيا ، والثاني بالملازمة لكونه حدسيا ، فيكون الإجماع حجّة من الجهتين ، أي : السبب والمسبب.

وهذا الجواب من الكاظمي يكون إشارة إلى حجّية الإجماع من جهة السبب ، كما أن الجواب الثاني منه يكون إشارة إلى حجّية من جهة المسبب ، ولهذا قال المصنّف قدس‌سره : وقد أشار إلى الوجهين بعض السادة.

(وثانيا : إنّ الرجوع في حكاية الإجماع إلى نقل مقالة المعصوم لرجوع الناقل في ذلك إلى الحسّ ... إلى آخره) ، وخلاصة هذا الجواب الثاني : هو الالتزام بحجّية الإجماع من جهة المسبب ؛ لأنّ المسبب ـ وهو قول الإمام عليه‌السلام ـ وإن كان نقله حدسيا إلّا أنّه يكون من الحدسيات المستندة إلى الحسّ.

وقد تقدم إنّ هذا القسم من الحدس المسمّى بالحدس الضروري يكون بمنزلة

٣٦٤

بالإيمان والفسق والشجاعة والكرم ، وغيرها من الملكات. وإنّما لا يرجع إلى الإخبار في العقليّات المحضة ، فإنّه لا يعوّل عليها ، وإن جاء بها ألف من الثّقات حتى يدرك مثل ما أدركوا».

ثم أورد على ذلك : «بأنّه يلزم من ذلك الرجوع إلى المجتهد ؛ لأنّه وإن لم يرجع إلى الحسّ في نفس الأحكام ، إلّا أنّه رجع في لوازمها وآثارها إليه ، وهي أدلّتها السمعيّة ، فيكون رواية ، فلم لا يقبل إذا جاء به الثقة؟!».

وأجاب : «بأنّه إنّما يكفي الرجوع إلى الحسّ في الآثار إذا كانت الآثار مستلزمة له عادة ،

____________________________________

الحسّي ، فيكون حجّة ، فكل خبر حدسي يكون له آثار حسّية كما في الإخبار بالإيمان والفسق والشجاعة يكون حجّة ، والمقام من هذا القبيل ؛ لأنّ الاتفاق المحسوس يكون من آثار مقالة المعصوم عليه‌السلام.

(وإنّما لا يرجع إلى الإخبار في العقليّات المحضة) ، ولا يرجع إلى الإخبار في العقليات المحضة ، كالحكم باستحالة اجتماع النقيضين أو الضدين أو غيرها ، فلا يكون الإخبار بهذه الامور حجّة.

(ثمّ أورد على ذلك ... إلى آخره) ، لقد أورد على جوابه الثاني ، أعني : حجّية الإخبار عن حدس إذا كان مستندا إلى الآثار الحسّية (بأنّه يلزم من ذلك الرجوع إلى المجتهد) بأن تكون فتوى كلّ مجتهد حجّة على مجتهد آخر مع أنّه لم يقل به أحد ، إذ تختصّ حجّية فتوى كلّ مجتهد لمقلّديه.

وبيان الإشكال : إنّه لو كان نقل الإجماع حجّة من جهة المسبب لزم أن تكون فتوى كل مجتهد حجّة على مجتهد آخر ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله ، والملازمة ثابتة. وذلك ، كما أنّ ناقل الإجماع لم يسمع الحكم من الإمام عليه‌السلام ، بل يتحدّس به من المبادئ الحسّية ، وهي أقوال الفقهاء ، فكذلك المفتي لم يسمع الحكم من الإمام عليه‌السلام ، بل يحدس به من المبادئ الحسّية ؛ وهي الكتاب والسنّة ، فإذا كان الإجماع حجّة بعنوان كونه قول الإمام عليه‌السلام ، فيصدق عليه الخبر والرواية ؛ لكان فتوى المفتي أيضا حجّة ورواية ، والتالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.

(وأجاب : بأنّه إنّما يكفي الرجوع إلى الحسّ في الآثار إذا كانت الآثار مستلزمة له عادة)

٣٦٥

وبالجملة : إذا افادت اليقين ، كما في آثار الملكات ، وآثار مقالة الرئيس ؛ وهي مقالة رعيّته ، وهذا بخلاف ما يستنهضه المجتهد من الدليل على الحكم».

ثم قال : «على أنّ التحقيق في الجواب عن السؤال الأوّل هو الوجه الأوّل ، وعليه فلا أثر لهذا السؤال» انتهى.

قلت : إنّ الظاهر من الإجماع اتفاق أهل عصر واحد ، لا جميع الأعصار ، كما يظهر من

____________________________________

ويرجع الجواب إلى بيان الفرق بين الإجماع والفتوى ؛ لأنّ المبادئ في الإجماع ـ هي اتّفاق الكل ـ تكون مستلزمة عادة لقول الإمام عليه‌السلام وهذا بخلاف الفتوى ، فإنّ مبادئها وإن كانت حسّية ولكن لا تستلزم عادة موافقة قول الإمام عليه‌السلام ، وبهذا الفرق تنتفي الملازمة بين المقدم والتالي في القياس المتقدم ، فلا يكون منتجا.

(ثم قال : على أنّ التحقيق في الجواب عن السؤال الأول هو الوجه الأول ، وعليه فلا أثر لهذا السؤال) وقد تقدم من السيد الكاظمي على نفسه السؤالان ، السؤال الأول هو قوله : بأن المدار في حجّية الإجماع على مقالة المعصوم ؛ وهي حدسية ، السؤال الثاني هو : الإشكال بلزوم حجّية الفتوى ـ أيضا ـ على تقدير حجّية الإجماع ، ثم أجاب عن السؤال الأول بجوابين :

الأول : هو الالتزام بحجّية الإجماع من جهة نقل السبب ؛ لكونه حسّيا ، فيكون حجّة.

والجواب الثاني : هو الالتزام بالحجّية من جهة المسبب ؛ لكونه من الحدسيات المستندة إلى الحسّ.

فيرد على هذا الجواب الثاني الإشكال الثاني : وهو لزوم حجّية الفتوى ، ولا يأتي هذا الإشكال على تقدير الاكتفاء بالجواب الأوّل عن السؤال الأوّل ، فيقول الكاظمي : إنّ الحقّ في الجواب عن الإشكال الأول هو الجواب الأول ، فلا أثر ولا مجال للسؤال الثاني الناشئ عن الجواب الثاني ؛ لأنّه يكون متفرعا على الجواب الثاني ، فإذا اكتفى بالجواب الأول ينتفي السؤال الثاني بانتفاء ما يتفرع عليه.

قوله : (قلت : إنّ الظاهر من الإجماع اتفاق أهل عصر واحد) ، جواب لقول المصنّف قدس‌سره ، فإن قلت ، وملخصه : إنّ الإجماع ظاهر في اتفاق الكلّ الملازم لقول الإمام عليه‌السلام فيكون حجّة ، فيجيب المصنّف قدس‌سره ويقول : إنّ الإجماع ظاهر بحسب الاصطلاح في اتفاق أهل

٣٦٦

تعاريفهم وسائر كلماتهم. ومن المعلوم أنّ إجماع أهل عصر واحد مع قطع النظر عن موافقة أهالي الأعصار المتقدّمة ومخالفتهم ، لا يوجب عن طريق الحدس العلم الضروريّ بصدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام ولذا قد يتخلّف ؛ لاحتمال مخالفة من تقدّم عليهم أو أكثرهم.

نعم ، يفيد العلم من باب وجوب اللطف الذي لا نقول بجريانه في المقام ، كما قرّر في محلّه ، مع أن علماء العصر إذا كثروا ـ كما في الأعصار السابقة ـ يتعذّر أو يتعسّر الاطّلاع عليهم حسّا بحيث يقطع بعدم من سواهم في العصر ، إلّا إذا كان العلماء في عصر قليلين يمكن الإحاطة بآرائهم في المسألة فيدّعى الإجماع ، إلّا أنّ مثل هذا الأمر المحسوس لا يستلزم عادة لموافقة المعصوم عليه‌السلام. فالمحسوس المستلزم عادة لقول الإمام عليه‌السلام مستحيل التحقّق للناقل ، وممكن التحقّق له غير مستلزم عادة.

وكيف كان ، فإذا ادّعى الناقل الإجماع ـ خصوصا إذا كان ظاهره اتفاق جميع علماء

____________________________________

عصر واحد ، وهو لا يستلزم عادة موافقة قول المعصوم عليه‌السلام ، فلا يكون ظاهرا في معنى يلازم مقالة المعصوم عليه‌السلام ، وهو اتفاق العلماء في جميع الأعصار ، فما هو مستلزم عادة موافقة قول الإمام عليه‌السلام ليس الإجماع ظاهرا فيه ، وما هو ظاهر فيه ـ وهو اتفاق أهل عصر واحد ـ لا يلازم مقالة الإمام عليه‌السلام.

(ولذا قد يتخلّف) ، أي : لا يحصل العلم بقول الإمام عليه‌السلام من اتفاق أهل عصر واحد (لاحتمال مخالفة من تقدم عليهم) هذا أولا.

وثانيا : أشار إلى الجواب الثاني بقوله : (مع أنّ علماء العصر إذا كثروا ـ كما في الأعصار السابقة ـ يتعذّر أو يتعسّر الاطّلاع عليهم حسّا).

فلو سلّمنا الملازمة بين اتّفاق العلماء في عصر واحد وبين مقالة المعصوم عليه‌السلام ؛ لكانت ـ فيما إذا تمكن ناقل الإجماع من الاطّلاع على فتاوى جميعهم ـ حسّا ، والاطّلاع كذلك متعذّر أو متعسّر فيما إذا كانوا كثيرين لتشتتهم في الأمصار والأصقاع ، فيتعذر العلم بفتاويهم من طريق السماع ، إلّا إذا كانوا قليلين ، فيمكن لناقل الإجماع الاطّلاع على فتاويهم حسّا ، إلّا أنّ هذا المحسوس لا يستلزم عادة موافقة قول المعصوم عليه‌السلام.

فلذا يقول المصنّف قدس‌سره : (فالمحسوس المستلزم عادة لقول الإمام عليه‌السلام مستحيل التحقّق للناقل ، وممكن التحقّق له غير مستلزم عادة).

٣٦٧

الأعصار أو أكثرهم إلّا من شذّ ، كما هو الغالب في إجماعات مثل الفاضلين والشهيدين ـ انحصر محمله في وجوه :

أحدها : أن يراد به اتّفاق المعروفين بالفتوى دون كلّ قابل للفتوى من أهل عصره أو مطلقا.

الثاني : أن يراد إجماع الكل ، ويستفيد ذلك من اتّفاق المعروفين من أهل عصره ، وهذه الاستفادة ليست ضروريّة ، وإن كانت قد تحصل ؛ لأنّ اتّفاق أهل عصره ـ فضلا عن

____________________________________

والحاصل هو عدم الاعتماد بالإجماعات المنقولة ؛ لعدم مستند صحيح لناقليها.

ثم يقول المصنّف : من يدّعي الإجماع وكان ظاهره اتفاق جميع علماء الأعصار ، فلا بدّ من حمل إجماعه بأحد وجوه ، ثم يذكر هذه الوجوه ، والوجه في الحمل المذكور هو علمنا بعدم تتبع ناقل الإجماع أقوال جميع العلماء ؛ لعدم تمكنه من ذلك.

(أحدها : أن يراد به اتّفاق المعروفين بالفتوى) وهذا الوجه يرجع إلى التصرّف في مفهوم الإجماع ؛ لأنّ مفهوم الإجماع هو اتفاق الكل ، فاريد به غير معناه الاصطلاحي ، وعلى كلّ حال يحكم بصحة نقل الإجماع ؛ لأنّ اتّفاق المعروفين يمكن تحصيله لمدّعي الإجماع.

(الثاني أن يراد إجماع الكل) ، أي : جميع العلماء في عصر أو جميع الأعصار ، (ويستفيد ذلك من اتفاق المعروفين) وهذا الوجه كالوجه الثالث الآتي ، يرجع إلى التصرف في كيفيته وطريق تحصيل الإجماع بعد كونه باقيا على المعنى المصطلح من حيث المفهوم.

وطريق تحصيل الإجماع في هذا الوجه الثاني هو حدس ناقل الإجماع من اتفاق المعروفين اتفاق جميع أهل عصره ، ويمكن أن يحصل له العلم من هذا الحدس على اتفاق جميع أهل العصر ، فلا بدّ له من حدس آخر من اتفاق أهل عصره على اتفاق جميع أهل الأعصار ؛ ليكون هذا الاتفاق ملازما لموافقة قول المعصوم عليه‌السلام ، حتى يحدس ثالثا من اتفاق أهل جميع الأعصار على قول الإمام عليه‌السلام ، فيكون نفس الاتفاق ـ أيضا ـ حدسيا ، كما يظهر من كلام المصنّف قدس‌سره.

(وهذه الاستفادة ليست ضرورية) ، أي : ليست حدسية ضرورية بأن تكون مبادئها حسّية لتكون حجّة كاستفادة شجاعة الإمام علي عليه‌السلام من غزواته (لأنّ اتفاق أهل عصره ـ

٣٦٨

المعروفين منهم ـ لا يستلزم عادة اتفاق غيرهم ، ومن قبلهم ، خصوصا بعد ملاحظة التخلّف في كثير من الموارد لا يسع هذه الرسالة لذكر معشارها ، ولو فرض حصوله للمخبر كان من باب الحدس الحاصل عمّا لا يوجب العلم عادة.

نعم ، هي أمارة ظنّية على ذلك ؛ لأنّ الغالب في الاتّفاقيّات عند أهل عصر كونه من الاتّفاقيّات عند من تقدّمهم. وقد يحصل العلم بضميمة أمارات أخر ، لكنّ الكلام في كون الاتّفاق مستندا إلى الحسّ أو إلى حدس لازم ـ عادة ـ للحسّ.

والحق بذلك ما إذا علم اتّفاق الكلّ من اتفاق جماعة لحسن ظنّه بهم ، كما ذكره

____________________________________

فضلا عن المعروفين منهم ـ لا يستلزم عادة اتفاق غيرهم) من أهل الأعصار ، فضلا عن قول الإمام عليه‌السلام.

(ولو فرض حصوله) ، أي : اتفاق الكل من اتفاق المعروفين لناقل الإجماع ، (كان من باب الحدس الحاصل عمّا لا يوجب العلم عادة) ، كالحدس بسخاوة أحد لإعطائه ألف ليرة لفقير ، فلا يحصل من هذا الحدس العلم بقول الإمام عليه‌السلام ، (نعم ، هي أمارة ظنّية على ذلك) ، أي : يكون اتفاق المعروفين أمارة ظنّية على اتفاق أهل عصره ، أو اتفاق أهل عصره أمارة ظنية على اتفاق الكل.

(وقد يحصل العلم بضميمة أمارات أخر) كدلالة دليل معتبر من آية أو رواية على ما اتفقوا عليه من الحكم ، ولكن يكون هذا خارجا عن مورد الكلام ، إذ(الكلام في كون الاتفاق مستندا إلى الحسّ أو إلى حدس لازم عادة للحسّ) والمفروض أنّ الناقل لم يتتبع أقوال الكل ، بل حدس بها عن اتفاق البعض ، فلم يكن هذا الاتفاق مستندا إلى الحسّ ، وكذلك لم يكن مستندا إلى حدس لازم عادة للحسّ بأن تكون مبادئه حسيّة ملازمة عادة لاتّفاق الكل ؛ لأنّ المفروض أنّه تحدّس اتفاق الكل من اتفاق المعروفين ، ولا ملازمة عادة بينهما ، فالحاصل هو عدم كون هذا القسم من الإجماع حجّة ؛ لكونه حدسيا من حيث السبب والمسبب.

(والحق بذلك) وألحق في الحكم بعدم الحجّية بالاتفاق المذكور(ما إذا علم اتّفاق الكل من اتفاق جماعة لحسن ظنّه بهم) إذ قد يتحدّس الشخص اتفاق الكل من اتفاق عدة من الفقهاء ؛ لحسن ظنه بهم ، بحيث يعتقد أنّ قولهم يكون موافقا لقول المعصوم عليه‌السلام مائة

٣٦٩

في أوائل المعتبر ، حيث قال : «ومن المقلّدة من لو طالبته بدليل المسألة ادّعى الإجماع ؛ لوجوده في كتب الثلاثة قدس‌سره ، وهو جهل إن لم يكن تجاهلا».

فإنّ في توصيف المدّعي بكونه مقلّدا مع أنّا ، نعلم أنّه لا يدّعي الإجماع إلّا عن علم ، إشارة إلى استناده في دعواه إلى حسن الظّن بهم ، وأنّ جزمه في غير محلّه ، فافهم.

الثالث : أن يستفيد اتّفاق الكلّ على الفتوى من اتّفاقهم على العمل بالأصل عند

____________________________________

بالمائة.

(كما ذكره في أوائل المعتبر ، حيث قال : ومن المقلّدة من لو طالبته بدليل المسألة ادّعى الإجماع ؛ لوجوده في كتب الثلاثة قدس‌سره) إذ قد يتحدّس بعض الفقهاء من اتفاق أصحاب الكتب الأربعة ـ وهم الشيخ قدس‌سره ، والصدوق قدس‌سره ، والكليني قدس‌سره ـ اتفاق الكل فيدّعي الإجماع لوجوده في كتب الثلاثة قدّست أسرارهم.

(فإنّ في توصيف المدّعي بكونه مقلّدا مع أنّا نعلم أنّه لا يدّعي الإجماع إلّا عن علم ، إشارة إلى استناده في دعواه إلى حسن الظن بهم) وتوصيف المحقّق مدّعي الإجماع بالمقلّديّة مع عدم كونه مقلّدا في دعوى الإجماع ، إشارة إلى أنّ استناده في دعوى الإجماع إلى حسن الظن بأصحاب الكتب الأربعة ، وإشارة إلى (أنّ جزمه) بالاتفاق (في غير محلّه) ؛ لعدم الملازمة عادة بين اتفاق أصحاب الكتب الأربعة وبين اتفاق الكل.

(فافهم) ؛ لعلّه إشارة إلى أنّ من يدّعي الإجماع لوجوده في كتب الثلاثة لا يدّعي اتفاق الكل حتى يرد عليه الإشكال المذكور ، بل يريد اتّفاق أصحاب الكتب فقط فلا مجال للإشكال.

(الثالث : أن يستفيد اتفاق الكلّ على الفتوى من اتفاقهم على العمل بالأصل) وقبل بيان تفصيل هذا الوجه الثالث ، نذكر الفرق بينه وبين الوجهين السابقين ؛ لأنّه لا يخلو عن فائدة ، فنقول :

إنّ الفرق بين هذا الوجه والوجه الأول ؛ هو أنّ تحصيل الإجماع في الوجه الأول كان مبنيّا على الحسّ ، لأنّ المراد بالإجماع هو اتفاق المعروفين الممكن تحصيله بالتتبع ، وسماع الحكم من كل واحد منهم ، وهذا بخلاف الوجه الثالث ، حيث يكون تحصيل الإجماع فيه مبنيّا على الاجتهاد والحدس.

٣٧٠

عدم الدليل ، أو بعموم دليل عند عدم وجدان المخصّص ، أو بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض ، أو اتّفاقهم على مسألة اصوليّة ـ نقليّة أو عقليّة ـ يستلزم القول بها الحكم في المسألة المفروضة ، وغير ذلك من الامور المتّفق عليها التي يلزم باعتقاد المدّعي من القول

____________________________________

ومن هنا يعلم الفرق بين الوجه الثاني والثالث ، حيث يكون تحصيل الإجماع في الوجه الثاني مبنيّا على الحسّ مع انضمام الاجتهاد والحدس إليه ، وفي الوجه الثالث مبنيّا على الحدس من دون ضمّ مقدمة حسيّة إليه.

ثمّ الفرق بين الوجهين السابقين يكون أظهر من الشمس ، إذ الإجماع في الأول منهما مبنيّ على الحسّ فقط ، وفي الثاني عليه مع انضمام الحدس إليه.

(أن يستفيد اتفاق الكل على الفتوى من اتفاقهم على العمل بالأصل عند عدم الدليل) ، كاتفاقهم على حلّية شرب النتن الناشئ عن العمل بأصالة البراءة عند عدم الدليل الاجتهادي على الحرمة.

(أو بعموم دليل عند عدم وجدان المخصّص) ، كاتفاقهم فرضا على وجوب الوفاء بكل عقد الناشئ عن العمل بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) عند عدم المخصّص.

(أو بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض) كإجماعهم بوجوب الفور والمضايقة في قضاء الفوائت ، المبتني على عملهم بالخبر الصحيح الدال على وجوب الفور.

ثمّ الأصل في المثالين الأوليين يكون من الاصول العقلية ، وفي الثالث من الاصول النقلية ، فلا وجه لما ذكره المصنّف قدس‌سره ثانيا بعنوان الترديد ، حيث قال : (أو اتفاقهم على مسألة اصولية نقلية أو عقلية) ؛ لأن الترديد معناه : التباين بين المعطوف والمعطوف عليه ، مع أنّهما ليسا كذلك في المقام.

ولا يصحّ أن يقال : بأنّ العطف يكون تفسيريا أو يكون من قبيل عطف العام على الخاص ؛ لأنّ العطف في كلا الموردين يكون بالواو ، لا بكلمة «أو» المقتضية ؛ لتباين المعطوف والمعطوف عليه.

(من الامور المتّفق عليها) كالاتفاق على ذكر الرواية في كتبهم ، فيتحدّس منه على

__________________

(١) المائدة : ١.

٣٧١

بها ـ مع فرض عدم المعارض ـ القول بالحكم المعيّن في المسألة.

ومن المعلوم أنّ نسبة هذا الحكم إلى العلماء في مثل ذلك لم تنشأ إلّا من مقدّمتين أثبتهما المدّعي باجتهاده :

إحداهما : كون ذلك الأمر المتّفق عليه مقتضيا ودليلا للحكم لو لا المانع.

والثانية : انتفاء المانع والمعارض.

ومن المعلوم أنّ الاستناد إلى الخبر المستند إلى ذلك غير جائز عند أحد من العاملين بخبر الواحد.

____________________________________

العمل بها ، فيدّعي الإجماع في الحكم المستفاد منها ، أو يتحدّس بالاتفاق من قول الفقهاء : كلّ شيء طاهر ، ما لم يدلّ دليل على النجاسة ، فيدّعي الإجماع على طهارة عذرة الطيور الغير المأكول لحمها ، لعدم الدليل على النجاسة.

(ومن المعلوم أنّ نسبة هذا الحكم إلى العلماء في مثل ذلك لم تنشأ إلّا من مقدمتين ... إلى آخره) ، أي : جاريتين في كلّ شيء ممكن ، حكما كان أو موضوعا ، وذلك لأنّه لا بدّ في تحقّق أيّ شيء من وجود أمرين :

الأوّل : وجود المقتضي.

والثاني : عدم المانع.

فإذا كان المقتضي للشيء موجودا والمانع مفقودا ؛ لتحقّق ذلك الشيء بلا إشكال ، ومدّعي الإجماع ـ في المقام ـ يدّعي وجود هذين الأمرين باجتهاده وحدسه.

وذلك لأنّه اجتهد وتحدّس ـ أولا ـ من كون أصالة البراءة أمرا متّفقا عليه عندهم كونها مقتضيا ودليلا على الحكم ، مثل حلّيّة شرب التتن مثلا.

ثمّ اجتهد وتحدّس ـ ثانيا ـ بانتفاء المانع بعد فحصه عن دليل الحرمة ، وعدم وجدانه ذلك ثم حكم بالحلّيّة ، وادّعى الإجماع عليه ، فنسبة الحكم إلى العلماء بعنوان الإجماع نتيجة للمقدّمتين الحدسيتين.

ثمّ أشار المصنف قدس‌سره إلى عدم اعتبار هذا الإجماع بقوله :

(ومن المعلوم أنّ الاستناد إلى الخبر) ، أي : الإجماع المنقول (المستند إلى ذلك) ، أي : الاجتهاد والحدس (غير جائز عند أحد من العاملين بخبر الواحد).

٣٧٢

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الإجماعات المتعارضة من شخص واحد أو من معاصرين أو متقاربي العصرين ، ورجوع المدّعي عن الفتوى التي ادّعى الإجماع فيها ، ودعوى الإجماع في مسائل غير معنونة في كلام من تقدّم على المدّعي ، وفي مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدّعي ، بل في زمانه ، بل في ما قبله ؛ كلّ ذلك مبنيّ على استناد في نسبة القول إلى العلماء على هذا الوجه ، ولا بأس بذكر بعض موارد صرّح المدّعي بنفسه أو غيره في مقام توجيه كلامه فيها بذلك.

فمن ذلك : ما وجّه به المحقّق دعوى المرتضى والمفيد : «إنّ من مذهبنا جواز إزالة النجاسة

____________________________________

فالمتحصّل من جميع ما ذكر : إنّه ليس لناقل الإجماع مستند صحيح ، إذ الطريق الصحيح الذي يمكن أن يكون مستندا للإجماع هو الحدس ، وقد تقدّم أنّ ما يستلزم منه عادة موافقة قول الإمام عليه‌السلام هو مستحيل التحقّق ، كاتّفاق علماء جميع الأعصار ، وما يمكن تحقّقه ـ كاتّفاق العلماء في عصر واحد ـ لا يستلزم عادة موافقة قول المعصوم عليه‌السلام.

(ثمّ إنّ الظاهر أنّ الإجماعات المتعارضة من شخص واحد) ، كأن يدّعي الإجماع على جواز شيء تارة وعلى حرمته اخرى ، (أو من معاصرين) بأن يدّعي أحدهما الإجماع على جواز شيء ، والآخر على حرمة ذلك الشيء(أو متقاربي العصرين) كذلك.

(ورجوع المدّعي عن الفتوى التي ادّعى الإجماع) فيها ، ودعوى الإجماع (في مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدّعي).

كلّ هذه الإجماعات مبنيّة على الوجه الثالث ، فلا يعتنى بها أصلا ، لأنّها مستندة إلى اجتهاد الناقل.

(ولا بأس بذكر بعض موارد صرّح المدّعي بنفسه أو غيره في مقام توجيه كلامه فيها بذلك).

يذكر المصنّف قدس‌سره بعض الموارد التي يكون الإجماع فيها مبنيّا على الحدس والاجتهاد بتصريح من مدّعي الإجماع ، أو بتوجيه غيره كلامه به.

(فمن ذلك : ما وجّه به المحقّق دعوى المرتضى والمفيد : إنّ من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات) ، وتقدم ـ إجمالا ـ أنّه تارة نعلم كون الإجماع مستندا إلى الاجتهاد من تصريح مدّعيه ، واخرى من تصريح غيره في مقام توجيه كلام مدّعي الإجماع.

فمن القسم الثاني : توجيه المحقّق دعوى المرتضى والمفيد للإجماع على جواز إزالة

٣٧٣

بغير الماء من المائعات» ، قال :

«وأمّا قول السائل : كيف أضاف المفيد والسيّد ذلك إلى مذهبنا ، ولا نصّ فيه؟ فالجواب : أمّا علم الهدى ، فإنّه ذكر في الخلاف : إنّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا ؛ لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات ـ ثم قال ـ وأمّا المفيد فإنّه ادّعى في مسائل الخلاف أنّ ذلك مرويّ عن الأئمّة» انتهى.

فظهر من ذلك أنّ نسبة السيد قدس‌سره ، الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الأصل.

____________________________________

النجاسة بغير الماء حيث قالا : «إنّ من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء» بأنّ ذلك منهما مبنيّ على الأصل.

وقال المحقّق هذا الكلام المشتمل على التوجيه في جواب («قول السائل : كيف أضاف) ونسب المرتضى والمفيد هذا الحكم إلى مذهبنا الظاهر في الإجماع ، مع أنّه ليس كذلك ، إذ لا نصّ فيه ، فأجاب عن هذا السؤال بقوله :

(أمّا علم الهدى ، فإنّه ذكر الشيخ قدس‌سره في الخلاف : إنّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا ؛ لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل) ، أي : نسبة الحكم إلى المذهب الظاهر في الإجماع مبنيّة على الأصل ، ومقتضاه جواز إزالة النجاسة بغير الماء ما لم يثبت المانع ، والمانع في المقام يكون منتفيا ، إذ ليس في الشرع نصّ دالّ على المنع.

فيكون هذا الإجماع من السيّد مبنيّا على الاجتهاد والحدس ، حيث تحدّس باتّفاق الفقهاء على الجواز من اتّفاقهم على العمل بالأصل عند عدم المانع ، وبعبارة اخرى : تحدّس من اتّفاقهم على مسألة اصوليّة عقليّة على اتّفاقهم بالحكم المزبور.

(ثمّ قال : وأمّا المفيد فإنّه ادّعى في مسائل الخلاف أنّ ذلك مرويّ عن الأئمة» انتهى).

أي : إنّ إجماع المفيد قدس‌سره مبنيّ على الرواية ، حيث ادّعى في كتاب مسائل الخلاف أنّ جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات مرويّ عن الأئمّة.

ولعلّه أراد بذلك ما رواه غياث بن ابراهيم عن أبي عبد الله ، عن علي عليه‌السلام حيث قال عليه‌السلام : (لا بأس بأن يغسل الدم بالبصاق) (١) ، بانضمام عدم القول بالفصل بين الدم وغيره والبصاق

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢٥ / ١٣٥٠.

٣٧٤

ومن ذلك ما عن الشيخ في الخلاف ، حيث إنّه ذكر فيما إذا بان فسق الشاهدين بما يوجب القتل بعد القتل ، بأنّه يسقط القود وتكون الدّية من بيت المال ، قال : «دليلنا إجماع الفرقة ، فإنّهم رووا : (أنّ ما أخطأت القضاة ففي بيت مال المسلمين)» انتهى.

فعلّل انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب ، وقال بعد ذلك ، فيما إذا تعدّدت الشهود في من أعتقه المريض وعيّن كلّ غير ما عيّنه الآخر ، ولم يف الثلث بالجميع : «إنّه

____________________________________

وغيره.

وكيف كان ، قال المحقّق قدس‌سره : إنّ إجماع المفيد مستند إلى الرواية كما كان إجماع السيّد مستندا إلى الأصل ، فتكون نسبة الحكم المذكور إلى مذهبنا مستندة إلى الأصل كما هو في كلام السيّد ، وإلى الرواية كما في كلام المفيد قدس‌سره.

فتصريح المحقّق في توجيه كلامهما ـ بأنّ دعوى الإجماع منهما مبنيّ على الأصل والرواية ـ مبنيّ على الاجتهاد والحدس.

(ومن ذلك ما عن الشيخ قدس‌سره في الخلاف ... إلى آخره).

ومن الإجماع الذي يبتني على الاتّفاق بما يقتضي الحكم ، والذي صرّح الناقل بأنّه مبنيّ على الدليل المتّفق عليه ما عن الشيخ قدس‌سره ، حيث قال :

(فيما إذا بان) أي : ظهر(فسق الشاهدين) الذين شهدا(بما يوجب القتل) كالارتداد مثلا بعد قتل الحاكم المشهود عليه (إنّه يسقط القود) بفتح القاف والواو أي : القصاص ، فلا يقتل الشاهدان قصاصا ، وتكون الدّية لورثة المقتول من بيت مال المسلمين ، وقيل : إنّ الدّية على من زكّى الشاهدين ، وقيل : إنّها على الحاكم ، وحكم الشيخ قدس‌سره بأنّها من بيت المال.

ثمّ (قال : دليلنا إجماع الفرقة ، فإنّهم رووا : (أنّ ما أخطأت القضاة ففي بيت مال المسلمين)).

والشاهد من كلامه هو تعليله انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب ، فيكون هذا التعليل تصريحا منه على كون هذا الإجماع مبنيّا على الحدس والاجتهاد دون تتبّع الأقوال.

ثمّ ذكر مسألة اخرى نظير هذه المسألة ، حيث قال :

٣٧٥

يخرج السابق بالقرعة ، ـ قال ـ : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، فإنّهم أجمعوا على أنّ كلّ أمر مجهول فيه القرعة» انتهى.

ومن هذا القبيل ما عن المفيد في فصوله ، حيث إنّه سئل عن الدليل على أنّ المطلّقة ثلاثا في مجلس واحد يقع منها واحدة؟ فقال : «الدلالة على ذلك من كتاب الله عزوجل وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإجماع المسلمين» ، ثم استدلّ من الكتاب بظاهر قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)(١) ، ثمّ بيّن وجه الدلالة ؛ ومن السنّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (كلّ ما لم يكن على أمرنا هذا فهو ردّ) ،

____________________________________

(فيما إذا تعدّدت الشهود في من أعتقه المريض وعيّن كل غير ما عيّنه الآخر ، ولم يف الثلث بالجميع : «إنّه يخرج السابق بالقرعة ، ـ قال ـ : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، فإنّهم أجمعوا على أنّ كل أمر مجهول فيه القرعة»).

والملخّص : إذا كان للمريض عبدان ثمّ أعتقهما ، ولم يف الثلث بكليهما ، ولم يعلم أيهما كان سابقا على الآخر ، واختلفت الشهود ، فقال بعضهم : إنّ السابق هو زيد ، وقال بعضهم الآخر : السابق هو عمرو ، فقال الشيخ قدس‌سره يخرج السابق بالقرعة ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة.

ثمّ صرّح بأنّ الإجماع مبنيّ على الرواية الدالّة على أنّ القرعة لكل أمر مجهول فيكون هذا الإجماع منه ـ كالإجماع السابق ـ مبنيّا على الحدس والاجتهاد لا على تتبّع الأقوال.

(ومن هذا القبيل ما عن المفيد في فصوله ... إلى أخره).

والمراد هو استفادة اتّفاق الكلّ من اتّفاقهم على المسألة ـ اصوليّة نقليّة أو عقليّة ـ في مقابل الأوّل وهو استفادته من اتّفاقهم على العمل بالأصل عند عدم الدليل على الحكم ، وتقدّم الإشكال فيه.

وكيف كان ، قال المفيد قدس‌سره في فصوله ، في جواب السؤال عن الدليل على أنّ المطلّقة ثلاثا ، سواء كان الطلاق بلفظ واحد مرّة ك أنت طالق ثلاثا ، أو مكررا في مجلس واحد ك أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، يقع واحدة. والدليل على ذلك هو الكتاب والسنّة والإجماع.

(ثمّ استدل من الكتاب بظاهر قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ثم بيّن وجه الدلالة).

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

٣٧٦

وقال : (ما وافق الكتاب فخذوه ، وما لم يوافقه فاطرحوه) (١) ، وقد بيّنا أنّ المرّة لا تكون المرّتين أبدا وأنّ الواحدة لا تكون ثلاثا ، فأوجبت السنّة أبطال طلاق الثلاث.

____________________________________

وتوضيح ما هو المقصود في المقام يتوقّف على البحث في قوله تعالى المذكور في المتن من جهتين :

الاولى : البحث في ما هو المقصود منه.

والثانية : ما هو المستفاد منه.

وأمّا البحث في قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) من الجهة الاولى ، وإن لم يكن مرتبطا بالمقام ، فهو أنّ المقصود من الآية : إنّ الطّلاق الذي لا يوجب حرمة التزويج هو مرّتان ، فبالطلاق الثالث يحرم تزويج المطلّقة على المطلّق ، ولا يجوز تزويجه إيّاها إلّا بعد المحلّل ، كما هو مشروح في الفقه.

فالحاصل أنّ الطلاق الذي يجوز التزويج بعده مرّتان ، وهذا لا يكون مرتبطا بالمقام.

وأمّا البحث فيها من الجهة الثانية التي تكون مرتبطة بالمقام فهو أنّ قوله تعالى (مَرَّتانِ) ظاهر في تعدّد الطلاق ، إذ المتبادر منه هو الطلاق ، ثمّ تحقّق الزوجيّة بالرجوع ، ثمّ الطلاق ثانيا.

ولا يمكن وقوعه متعدّدا في مجلس واحد ، بأن يقال : أنت طالق ثلاثا ، وذلك فإنّ الطلاق عبارة عن إزالة الزوجيّة ، فلا بدّ من تحقّق الزوجيّة لتزول بالطلاق ، فحينئذ لو طلّق في مجلس واحد ثلاث مرات تقع واحدة منها ، فتزول الزوجيّة بها فلا يبقى للثاني والثالث موضوع أصلا.

فصحّ ما أفاده المفيد قدس‌سره من أنّه يقع منها واحدة لا اثنان ولا ثلاثة ، وأمّا وقوع الأوّل ؛ فلأنّ المطلّق قد قصد الكلّ ، وقصد الكلّ قصد لأجزائه فالطلاق الواحد كان مقصودا ، ولو في ضمن الثلاث ، فقد صدر من أهله ووقع في محلّه ، فيكون صحيحا.

وأمّا عدم وقوع الأخيرين فهو إنّ طلاق المطلّقة غير معقول ، إذ الطلاق ـ كما ذكرنا ـ هو إزالة لقيد النكاح ، والنكاح يكون منتفيا في المقام بوقوع الطلاق الواحد.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٩ / ١. التهذيب ٧ : ٢٧٥ / ١١٦٩ ، الوسائل ٢٠ : ٤٦٤ أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٠ ، ح ٣ ، ٤.

٣٧٧

وأمّا إجماع الامّة ، فهم مطبقون على أنّ ما خالف الكتاب والسنّة فهو باطل. وقد تقدّم وصف خلاف الطلاق بالكتاب والسنّة ، فحصل الإجماع على إبطاله» ، انتهى.

وحكي عن الحلّي في السرائر الاستدلال بمثل هذا.

ومن ذلك الاجماع الذي ادّعاه الحلّي على المضايقة في قضاء الفوائت في رسالته المسمّاة ب (خلاصة الاستدلال) حيث قال : «أطبقت عليه الإماميّة خلفا عن سلف ، وعصرا بعد عصر ، وأجمعت على العمل به.

ولا يعتدّ بخلاف نفر يسير من الخراسانيّين ، فإنّ ابني بابويه ، والأشعريّين ، كسعد بن عبد الله صاحب كتاب الرحمة ، وسعد بن سعد ، ومحمّد بن عليّ بن محبوب صاحب كتاب نوادر الحكمة ، والقمّيين أجمع ، كعلي بن إبراهيم بن هاشم ، ومحمد بن الحسن بن الوليد ، عاملون بأخبار المضايقة ؛ لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته ، وحفظتهم

____________________________________

ثمّ إنّ المستفاد من السنّة هو وجوب الأخذ بما يوافق الكتاب ، وطرح ما لم يوافقه ، حيث ورد في الرواية : (ما وافق الكتاب فخذوه ، وما لم يوافقه فاطرحوه) ، ويكون وقوع الطلقات الثلاث بقول الزوج : أنت طالق ـ ثلاثا ـ ، مخالفا للكتاب.

ثمّ الفقهاء قد اتّفقوا على أنّ ما خالف الكتاب والسنّة فهو باطل ، فحصل الإجماع على إبطال هذا القسم من الطلاق.

والمتحصّل من جميع ما ذكر هو أنّ المفيد تحدّس بإجماع المسلمين على بطلان الطلقات الثلاث من اتّفاقهم على بطلان ما خالف الكتاب والسنّة ، فيكون هذا الإجماع مبنيّا على الحدس والاجتهاد لا على تتّبع الأقوال.

(ومن ذلك الإجماع الذي ادّعاه الحلّي على المضايقة في قضاء الفوائت ... إلى آخره).

والمشار إليه بذلك في قول المصنّف قدس‌سره يمكن أن يكون الوجه الثالث ، وهو استفادة اتّفاق الكلّ من اتّفاقهم على العمل بالأصل عند عدم الدليل. ويمكن أن يكون القسم الثاني من الوجه الثالث ، وهو استفادة اتّفاق الكلّ من اتّفاقهم على المسألة اصوليّة نقليّة أو عقليّة.

وكيف كان ، ادّعى الحلّي قدس‌سره الإجماع على المضايقة في قضاء الفوائت ، فنذكر من كلامه ما يرتبط بالمقام بما حاصله : إنّ الإماميّة قد أطبقوا على الفور ، وأجمعوا على العمل بالفور ، والعلماء أكثرهم عاملون بأخبار المضايقة (لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر

٣٧٨

الصدوق ذكر ذلك في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وخرّيت هذه الصّناعة ورئيس الأعاجم الشيخ أبو جعفر الطوسي مودع أخبار المضايقة في كتبه مفت بها. والمخالف إذا علم باسمه ونسبه لم يضر خلافه» انتهى.

ولا يخفى أنّ إخباره بإجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة مبنيّ على الحدس والاجتهاد ، من وجوه :

أحدها : دلالة ذكر الخبر على عمل الذاكر به ، وهذا وإن كان غالبيّا إلّا أنّه لا يوجب القطع ، لمشاهدة التخلّف كثيرا.

الثاني : تماميّة دلالة تلك الأخبار عند أولئك على الوجوب ، إذ لعلّهم فهموا منها بالقرائن الخارجيّة تأكّد الاستحباب.

____________________________________

الموثوق برواته ، وحفظتهم) ، أي : الإماميّة ، بمعنى كثير الحفظ.(الصدوق ذكر) عدم جواز ردّ الخبر الموثوق برواته (في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وخرّيت هذه الصناعة) ، أي : حاذق صناعة الفقه الشيخ الطوسي قدس‌سره قد ذكر أخبار المضايقة في كتبه ، وأفتى بها. وهذا ملخّص كلام الحلّي قدس‌سره في مقام دعوى الإجماع على وجوب المضايقة.

ثم يقول المصنّف قدس‌سره : (إن إخباره بإجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة مبنيّ على الحدس والاجتهاد ، من وجوه : أحدها : دلالة ذكر الخبر على عمل الذاكر به) وهذا الوجه مبنيّ على ثبوت الملازمة بين ذكر الخبر والعمل به ، وهي غير ثابتة ، والشاهد على ذلك أنّه من ذكر أخبار المضايقة قد ذكر أخبار المواسعة أيضا ، مع أنه لا يكون عاملا بهما معا ، بل لا يمكن العمل بهما معا ، فذكرهما لم يكن للعمل ، بل لملاحظة ترجيح إحداهما على الاخرى ، فيكون حدس الحلّي من ذكر العلماء أخبار المضايقة على عملهم بها مردودا وفاسدا جدا.

(الثاني : تماميّة دلالة تلك الأخبار عند اولئك على الوجوب) ، وهذا الوجه مبنيّ على أن يكون عملهم بهذه الأخبار كاشفا عن دلالتها على الوجوب واستفادتهم منها الوجوب ، وهو غير ثابت ، إذ لعل عملهم بها كان لأجل فهمهم منها تأكّد الاستحباب بالقرائن الخارجية ، فيكون حدس الحلّي من نقلهم هذه الأخبار وعملهم بها على تمامية دلالتها على الوجوب عند اولئك ، فاسدا قطعا.

٣٧٩

الثالث : كون رواة تلك الروايات موثوقا بهم عند اولئك ؛ لأنّ وثوق الحلّي بالرواة لا يدلّ على وثوق اولئك ، مع أنّ الحلّي لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد وإن كانوا ثقات.

والمفتي إذا استند في فتواه إلى خبر واحد لا يوجب اجتماع أمثاله القطع بالواقع ، خصوصا

____________________________________

(الثالث : كون رواة تلك الروايات موثوقا بهم عند اولئك) ، وهذا الوجه مبنيّ على أن يدلّ كون الراوي ثقة عند أحد أو جماعة على كونه كذلك عند الآخر أو الكل ، والأمر ليس كذلك بالبداهة والضرورة ، فلا يجوز الحدس من كون الراوي موثوقا به عند البعض على كونه كذلك عند الجميع ، فيكون حدس الحلّي من كون رواة تلك الروايات موثوقا بهم عنده على كونهم كذلك عند اولئك ، فاسدا وباطلا قطعا.

فالمتحصّل من الجميع : إنّ إجماع الحلّي على المضايقة مبنيّ على الحدس والاجتهاد من الجهات مع فسادها ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(مع وضوح فساد بعضها) ، هذا تمام الكلام في كون إخبار الحلّي بإجماع العلماء على المضايقة مبنيّا على الحدس والاجتهاد من وجوه تقدم الكلام في عدم تماميتها ، مضافا إلى أنّها لو تمّت لما نفعت لدعوى إجماع الحلّي ، وذلك لأنّ الحلّي لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد وإن كانوا ثقات ، ومعلوم أنّ الروايات الدالة على المضايقة أخبار آحاد ، فلا تنفع للحلّي وإن سلّمنا المقدمات الثلاث المذكورة في المتن الأول ، أعني : دلالة ذكر الخبر على عمل الذاكر به ، والثاني : تمامية دلالة الأخبار عند اولئك على الوجوب ، الثالث : كون الرواة ثقات عندهم ، إذ لا يصح له أن يدّعي الإجماع اعتمادا بهذه المقدمات مع عدم تجويزه العمل بأخبار الآحاد ، فكيف يدّعي الإجماع بوجوب المضايقة المستفاد من أخبار الآحاد؟.

قوله : (والمفتي إذا استند في فتواه إلى خبر واحد لا يوجب اجتماع أمثاله القطع بالواقع) ، دفع لما يتوهّم في المقام من أنّ الحلّي وإن كان لا يرى العمل بخبر الواحد جائزا ، إلّا أنّه حصل له القطع بوجوب المضايقة من عمل العلماء بهذه الأخبار ، ثمّ ادّعى الإجماع على الوجوب.

وحاصل دفع هذا التوهّم : إنّه إذا علم بأنّ مدرك العلماء في الحكم بوجوب الفور هو خبر الواحد لا يحصل القطع بالحكم لمن لا يرى العمل بخبر الواحد جائزا ، وإن كان العاملون

٣٨٠