دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

وإن اريد حرمته إذا خالف الاصول مع عدم التمكّن من العلم فيكفي فيه ـ أيضا ـ أدلة الاصول ، بناء على ما هو التحقيق من أنّ مجاريها صور عدم العلم الشامل للظن.

وإن اريد حرمة العمل المطابق للظن من دون استناد إليه وتديّن به ، وعدم مخالفة العمل للواقع مع التمكّن منه ولا لمقتضى الاصول مع العجز عن الواقع ، فلا دلالة فيها ولا في غيرها على حرمة ذلك ، ولا وجه لحرمته أيضا.

والظاهر أنّ مضمون الآيات هو التعبّد بالظن والتديّن به ، وقد عرفت أنّه ضروري التحريم ، فلا مهمّ في إطالة الكلام في دلالة الآيات وعدمها.

إنّما المهمّ الموضوع له هذه الرسالة بيان ما خرج أو قيل بخروجه من هذا الأصل من الامور غير العلمية التي اقيم الدليل على اعتبارها ، مع قطع النظر عن انسداد باب العلم الذي جعلوه موجبا للرجوع إلى الظن مطلقا أو في الجملة ، وهي امور :

____________________________________

الأدلة العقلية والنقلية الدالّة على لزوم تحصيل العلم بالواقع ، فالعمل بالظن حرام لكونه مستلزما لترك الواجب وهو تحصيل العلم.

(وإن اريد حرمته إذا خالف الاصول مع عدم التمكّن من العلم فيكفي) في حرمة العمل بالظن أدلة الاصول لأنّ العمل مناقض لقوله عليه‌السلام : (لا تنقض اليقين أبدا بالشك) (١) إذ المراد من الشك هو عدم العلم الشامل للظن ، فيكون العمل به نقضا لليقين بالشك وهو محرّم بنفس الدليل المذكور ، فلا حاجة إلى الاستدلال بالآيات الناهية و (إنّما المهمّ الموضوع له هذه الرسالة بيان ما خرج أو قيل بخروجه).

إلى الآن أثبت المصنّف رحمه‌الله أنّ الأصل هو عدم حجّية الظن ، وعدم جواز العمل به الّا ما خرج بالدليل ، ومن هنا يبدأ ببيان ما خرج عن الأصل بالدليل ، أو قيل بخروجه ، وممّا خرج عن هذا الأصل : الأمارات المستعملة في مقام تعيين مراد المتكلم من ظاهر كلامه ، والظواهر ، وخبر الواحد في الجملة. وممّا قيل بخروجه : الشهرة ، والإجماع المنقول في الجملة ، كما سيأتي.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

٢٤١
٢٤٢

الظنون المعتبرة

منها : الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعية من ألفاظ الكتاب والسنّة ، وهي على قسمين :

القسم الأول : ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادة خلاف ذلك ، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز ، وأصالة العموم والإطلاق. ومرجع الكل إلى أصالة

____________________________________

(وهي على قسمين) أي : الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعية على قسمين : القسم الأول ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم (القسم الأول : ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم) والثاني ـ كما يأتي ـ ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ ، وتشخيص مجازاتها من حقائقها ، وظواهرها عن خلافها ، وقبل البحث لا بدّ من بيان أمرين :

الأمر الأول : إن مقتضى الترتيب الطبيعي هو تقديم القسم الثاني على القسم الأول ، وذلك لأنّ الكلام في القسم الثاني يقع في إثبات الظهور للألفاظ وفي هذا القسم في إثبات كون ظاهر الكلام مرادا للمتكلّم ، فالقسم الثاني يكون بمنزلة المقدمة ، والصغرى للقسم الأول ، فهو أولى بالتقديم ، الّا أن يقال : إن المصنّف رحمه‌الله قدّم القسم الأول على الثاني اهتماما بشأنه ، إذ هو أوضح أفراد الظنون الخاصة لعدم مخالفة أحد في اعتبار الظواهر ، بل عليه إجماع أهل اللسان في كل مكان وزمان.

والأمر الثاني : إنّ المستفاد من كلام المصنّف رحمه‌الله حيث جعل أصالة الحقيقة وأصالة العموم والإطلاق ممّا خرج عن الأصل المذكور هو ـ خبر إن ـ أنّ حجّية هذه الاصول تكون من باب الظن ، إذ مقتضى كونها خارجة عن هذا الأصل بالدليل دخولها فيه لو لا الدليل ، ثم الكلام يقع في القسم الثاني.

ولتوضيح القسم الأول نقول : إن مراد المتكلم من ظاهر كلامه تارة : يكون معلوما ، واخرى : يكون غير معلوم ، ومحل البحث إنّما هو القسم الثاني ، لأنّ إعمال الاصول لتشخيص مراد المتكلم إنّما هو فيما إذا لم يعلم مراده من ظاهر كلامه ، وأمّا إذا كان مراده من ظاهر الكلام معلوما فلا حاجة لإعمال الاصول من أجل تعيين مراده ، فتعمل لتشخيص مراده ، إذ أن طائفة من هذه الاصول تعيّن مراد المتكلم من ظاهر كلامه بإرادته الجدية.

٢٤٣

عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة ، وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع بناء على عدم وصوله إلى حدّ الوضع ،

____________________________________

ومنها ـ أي : من الاصول التي تعيّن مراد المتكلم ـ : أصالة الحقيقة حيث بها تتميز المعاني الحقيقة عن المجازية ، فتعمل أصالة الحقيقة لتعيين إرادة المعنى الحقيقي الذي يكون اللفظ ظاهرا فيه فيما إذا احتمل من اللفظ إرادة المعنى المجازي.

ومنها : أصالة العموم فتعمل لتعيين إرادة العموم فيما إذا احتمل من اللفظ إرادة الخصوص.

ومنها : أصالة الإطلاق إذ تعمل لتعيين إرادة المطلق فيما إذا احتمل من الكلام إرادة المقيّد.

ويمكن أن يقال : إن أصالة العموم ، والإطلاق تكون من جزئيات أصالة الحقيقة ، وإفرادهما بالذكر لأجل الاهتمام بشأنهما لكثرة مواردهما.

(ومرجع الكل إلى أصالة عدم القرينة).

وخلاصة ما قيل في وجه رجوع كل واحدة من الاصول المتقدّمة إلى أصالة عدم القرينة هو أنّ الألفاظ قد وضعت لمعاني تدل عليها بأنفسها ، لأنّ الوضع بنفسه يقتضي ظهور اللفظ فيما وضع له من المعنى ، فمن أراد منه خلاف الظاهر يجب عليه نصب القرينة على ذلك.

والحاصل : أنّ الوضع مقتض للظهور ، والقرينة مانعة عنه ، ومن الواضح أنّه ما لم يحرز عدم المانع ولو بالأصل لا يمكن الحكم بالظهور الفعلي ، فتكون أصالة عدم الصارفة علّة لأصالة الحقيقة ، وأصالة العموم ، والإطلاق.

ثم هذه الثلاثة مصاديق لأصالة الظهور ، ولذا يكون مرجع الكل إلى أصالة الظهور كما قيل ، ثم لا فرق بين هذا القول حيث قال : مرجع الكل إلى أصالة الظهور ، وبين ما ذكره المصنّف من مرجعها إلى أصالة عدم القرينة بحسب النتيجة والثمرة كما هو واضح.

(وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع بناء على عدم وصوله إلى حدّ الوضع).

إذ قد يشاع استعمال اللفظ المطلق في بعض أفراده بحيث لا يتبادر منه في الذهن الّا الفرد الشائع ، مثل : استعمال لفظ الرجل في الرجل المتعارف مع أنّه مطلق ، قد وضع لمن

٢٤٤

وكالقرائن المقامية التي يعتمدها أهل اللسان في محاوراتهم ، كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر ونحو ذلك.

وبالجملة : الامور المعتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم بحيث لو أراد المتكلّم القاصد للتفهيم خلاف مقتضاها من دون نصب قرينة معتبرة عدّ ذلك منه قبيحا.

والقسم الثاني : ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ وتمييز مجازاتها عن حقائقها

____________________________________

له آلة الذكورية ، ولكن قد شاع استعماله في الرجال المتعارفة بحيث لو استعمل في الرجل الخنثى لكان محتاجا إلى قرينة مفهمة لهذا الفرد النادر ، فيكون المطلق ظاهرا في الفرد الشائع فلا بدّ من حمله عليه عند الإطلاق ، وإذا احتمل من اللفظ المطلق إرادة خلاف الظاهر يحكم بكون الظاهر مرادا للمتكلم بعد إجراء أصالة عدم القرينة الصارفة عن الظاهر.

ثم قوله : (بناء على عدم وصوله إلى حدّ الوضع) اشارة إلى مراتب المجاز المشهور لأنّ المجاز المشهور قد يخرج عن كونه مجازا مشهورا ، بل يصل إلى حدّ الوضع بحيث لا يتبادر منه الّا المعنى المجازي ، وإرادة المعنى الأول الحقيقي منه يحتاج إلى قرينة صارفة ، وعلى هذا فعند احتمال خلاف الظاهر تجري أصالة الحقيقة على تعيين مراد المتكلم.

(كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر) وقوع الأمر عقيب الحظر يكون من القرائن المقامية كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) فالأمر يكون ظاهرا في الإباحة ، فيحمل الكلام على ظاهره بعد إجراء عدم القرينة الصارفة عن الظاهر المجازي فيحكم بكونه مرادا للمتكلم.

(ونحو ذلك) مثل : عود الضمير على بعض أفراد العام يكون قرينة على أنّ المراد من العام هو الخاص ، فيحكم بكونه مرادا للمتكلم بعد إجراء أصالة عدم القرينة الصارفة عنه.

(القسم الثاني : ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ).

والقسم الثاني : هي الأمارات الظنية التي تعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ لغة وعرفا حقيقة ومجازا. ثم إنّ تشخيص الأوضاع تارة يكون من طريق العلم بها ، وهذا خارج عن

__________________

(١) المائدة : ٢.

٢٤٥

وظواهرها عن خلافها ، كتشخيص أنّ لفظ «الصعيد» موضوع لمطلق وجه الأرض أو التراب الخالص ، وتعيين أنّ وقوع الأمر عقيب توهّم الحظر هل يوجب ظهوره في الإباحة المطلقة؟ وأنّ الشهرة في المجاز المشهور هل توجب احتياج الحقيقة إلى القرينة الصارفة من الظهور العرضي المسبّب من الشهرة ، نظير احتياج المطلق المنصرف إلى بعض أفراده؟.

وبالجملة : فالمطلوب في هذا القسم أنّ اللفظ ظاهر في هذا المعنى أو غير ظاهر ، وفي القسم الأول أنّ الظاهر المفروغ عن كونه ظاهرا مراد أو لا؟

والشك في الأول مسبّب عن الأوضاع اللغوية والعرفية ، وفي الثاني عن اعتماد المتكلّم على القرينة وعدمه ، فالقسمان من قبيل الصغرى والكبرى لتشخيص المراد.

____________________________________

محل الكلام ، وتارة يكون بطريق الظن ، وهذا هو محل البحث.(كتشخيص أن لفظ «الصعيد» موضوع لمطلق وجه الأرض أو التراب الخالص).

فإذا حصل لنا الظن من قول اللغوي بأنّه لمطلق وجه الأرض مثلا نبحث عن حجّية الظن بظهور الصعيد على وجه الأرض ، فإن قلنا بالحجّية يثبت به ظهور لفظ الصعيد على مطلق وجه الأرض ، والّا فلا.

فالمقصود في هذا القسم : هو إثبات أنّ اللفظ ظاهر في المعنى المخصوص أم لا؟ والمقصود في القسم الأول إثبات أنّ الظاهر يكون مرادا للمتكلم أم لا؟

(والشك في الأول) أي : ما ذكر أولا بعد قوله : وبالجملة ، وهو القسم الثاني من القسمين المذكورين (مسبّب عن الأوضاع اللغوية والعرفية) فيرجع في رفع الشك إلى قول اللغوي ، ويتعيّن المعنى به.

(وفي الثاني عن اعتماد المتكلّم على القرينة وعدمه) والشك في القسم الثاني ويعني الثاني بالذكر بعد قوله وبالجملة ، والّا فهو يكون قسما أولا.

والحاصل : أن الشك في هذا القسم يكون مسبّبا عن اعتماد المتكلم على القرينة ، وعدم اعتماده عليها ، فيرفع الشك بالرجوع إلى أصالة عدم القرينة على إرادة خلاف الظاهر.

(فالقسمان من قبيل الصغرى والكبرى لتشخيص المراد).

فالقسمان بالنسبة إلى تشخيص مراد المتكلم يكونان من قبيل الصغرى والكبرى ، فالقسم الثاني يكون من قبيل الصغرى بمعنى أنّ البحث فيه صغروي يبحث فيه عن كون

٢٤٦

أمّا القسم الاوّل : وهو ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم فاعتباره في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف ، لأنّ المفروض كون تلك الامور معتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم.

ومن المعلوم بديهة أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم وإنّما الخلاف والاشكال وقع في موضعين :

أحدهما : جواز العمل بظواهر الكتاب.

والثاني : إنّ العمل بالظواهر مطلقا في حقّ غير المخاطب بها قام الدليل عليه بالخصوص

____________________________________

الصعيد ظاهرا في وجه الأرض ، والبحث في القسم الأول يكون كبرويا بمعنى أنّ هذا الظاهر يكون مرادا للمتكلم إذا لم ينصب قرينة على خلافه.

ويمكن جعل هيئة الصغرى والكبرى بصورة الشكل الأول من القياسات المنطقية فنقول : هذا ظاهر ، وكل ظاهر مراد للمتكلم ، فهذا مراد للمتكلم.

و (وأمّا القسم الأول ... فاعتباره في الجملة) أي : على تقدير عدم الظن بالخلاف لا إشكال فيه.

(ومن المعلوم بديهة أن طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا).

والمستفاد من عبارة المصنّف رحمه‌الله هذه هو كبرى كلّية ، وهي كل طريق لأهل اللسان لتشخيص مراد المتكلم هو طريق عند الشارع لتشخيص مراده من كلامه فنجعل ما هو طريق عند أهل اللسان صغرى للكبرى المذكورة ، فنقول : إنّ كلّ ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم من أصالة عدم القرينة ، أو أصالة الظهور طريق عند أهل اللسان ، وكل ما هو طريق عندهم طريق عند الشارع لتشخيص مراده من كلامه ، فينتج أنّ ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم طريق عند الشارع لإثبات مراده من كلامه ، فإذا ثبت ظهور كلامه في شيء ثبت كونه مرادا له إذا لم يكن هناك قرينة على خلاف الظاهر.

(وإنّما الخلاف والإشكال وقع في موضعين : أحدهما : جواز العمل بظواهر الكتاب ، والثاني : إن العمل بالظواهر مطلقا).

٢٤٧

بحيث لا يحتاج إلى إثبات انسداد باب العلم في الأحكام الشرعية أم لا.

والخلاف الأول ناظر إلى عدم كون المقصود بالخطاب استفادة المطلب منه مستقلا.

والخلاف الثاني ناظر إلى منع كون المتعارف بين أهل اللسان اعتماد غير من قصد إفهامه بالخطاب على ما يستفيده من الخطاب بواسطة أصالة عدم القرينة عند التخاطب.

فمرجع كلا الخلافين إلى منع الصغرى.

وأما الكبرى ـ أعني : كون الحكم عند الشارع في استنباط مراداته من خطاباته المقصود بها التفهيم ، ما هو المتعارف عند أهل اللسان في الاستفادة ـ فممّا لا خلاف فيه ولا إشكال.

____________________________________

يعني : الخلاف الأول يكون مختصّا بظاهر الكتاب ، حيث قيل بعدم جواز العمل به من دون ورود التفسير من أهل الذكر.

والخلاف الثاني وقع في الظواهر مطلقا ، حيث قيل بعدم حجّيتها لمن لم يكن مقصودا بالإفهام منها ، ثم النسبة بين الخلافين هي عموم من وجه لاجتماعهما في ظواهر الكتاب بالنسبة إلى غير الحاضرين في مجلس الوحي المقصودين بالإفهام.

وافتراق الأول في الحاضرين المقصودين بالإفهام حيث يجري فيه الخلاف الأول فقط ، لأنّ الحاضرين وإن كانوا مقصودين بالإفهام الّا أنّهم لا يستفيدون من الكتاب الّا بعد بيان وتفسير من خوطب به ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وافتراق الخلاف الثاني في ظواهر السنّة لاختصاص الخلاف الأول في الكتاب.

(فمرجع كلا الخلافين إلى منع الصغرى).

والمراد من هذه الصغرى الممنوعة هي الصغرى للكبرى الثانية المشار إليها ضمنا ، حيث قال المصنّف رحمه‌الله : لأنّ المفروض كون تلك الامور معتبرة عند أهل اللسان.

والكبرى المشار إليها ضمنا حيث قال رحمه‌الله : ومن المعلوم بديهة أنّ طريق محاورات أهل اللسان.

وقد تقدّم تشكيل الشكل الأول منهما ، والقرينة على كون مراده هذه الصغرى لا ما تقدّم صريحا في كلامه حيث قال : فالقسمان من قبيل الصغرى والكبرى لتشخيص المراد ، أي : إن القسم الثاني يكون بمنزلة الصغرى للقسم الأول ، وهو بمنزلة الكبرى.

قوله : (وأما الكبرى ـ أعني : كون الحكم عند الشارع في استنباط مراداته من خطاباته

٢٤٨

____________________________________

المقصود بها التفهيم ، ما هو المتعارف عند أهل اللسان في الاستفادة ـ فممّا لا خلاف فيه) :

فهذه الكبرى هي الكبرى الثانية ، فلا بدّ أن يكون مراده من الصغرى ما هي الصغرى لهذه الكبرى لا ما هي الصغرى للكبرى الاولى.

ثم إنّ القضية السالبة على قسمين :

١ ـ السالبة بانتفاء الموضوع.

٢ ـ والسالبة بانتفاء المحمول.

ومنع الصغرى وانتفاؤها يكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ؛ وذلك لأنّ إعمال أصالة عدم القرينة ـ مثلا ـ لتشخيص مراد المتكلم فرع لثبوت ظاهر للكلام ، والّا لا يبقى له موضوع أصلا ، ففي الخلاف الأول لا ظهور للكتاب الّا لمن خوطب به ، فحينئذ لا موضوع لأصالة عدم القرينة لتعيين مراد المتكلم.

وكذلك في الخلاف الثاني لا ظهور للكلام لغير من يكون مقصودا بالإفهام حتى تجري أصالة عدم القرينة لتشخيص مراد المتكلم ، فيقال : إنّ مراده هو ظاهر الكلام.

وبالجملة : إنّ اعتبار أصالة عدم القرينة لتشخيص مراد المتكلم عند أهل اللسان مشروط بشرطين :

الأول : كون الخطاب صادرا للإفهام ، ليكون له ظاهر.

والثاني : كون الشخص مقصودا بالإفهام ، والشرط الأول يكون منتفيا في الكتاب ، والشرط الثاني يكون منتفيا في غير من قصد إفهامه.

* * *

٢٤٩

التفصيل الأول

أمّا الكلام في الخلاف الأول : فتفصيله أنّه ذهب جماعة من الأخباريين إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الحجج المعصومين صلوات الله عليهم.

وأقوى ما يتمسك لهم على ذلك وجهان :

____________________________________

(أمّا الكلام في الخلاف الأول).

يعني : جواز العمل بظواهر الكتاب ، وإثبات كونها مرادة عن طريق أصالة عدم القرينة على خلافها ، كما يقول به الاصوليون ، أو عدم جواز العمل بها ، كما ذهب إليه الأخباريون ، فمعنى منعهم عن العمل بظواهر الكتاب هو عدم حجّية أصالة عدم القرينة ، لإحراز كون ظواهره مرادة.

ثم قبل تفصيل البحث لا بدّ أن نتعرف على مرادهم من عدم جواز العمل بظواهر الكتاب ، وهل مرادهم من ذلك أنّ للقرآن ظواهر ، كما يظهر من تعبيرهم بمنع العمل بظواهر القرآن ، إذ هذا التعبير ظاهر في أنّ للقرآن ظواهر ولكنهم يمنعون من التمسّك بها ، أو أنّ مرادهم من ذلك هو عدم وجود الظواهر للقرآن؟ بل يكون كلّه مجملا ، ولغزا ومعمّى بين الحبيب والمحبوب كما يظهر من دليلهم بل صرح به بعضهم ، وهو السيد الجزائري حيث قال ـ في منبع الحياة ـ

إنّ جميع آيات القرآن متشابهة بالنسبة إلينا ، فلا يجوز أخذ شيء منها ، ولا الاستدلال بها الّا ببيان أهل الذكر عليهم‌السلام.

ونقل القول بعدم جواز العمل والاستدلال بالقرآن عن المحدّث الأسترآبادي ـ في فوائده المدنية ـ محتجّا بأنّ آيات القرآن قد جاءت على وجه التعمية والألغاز ، فلا يجوز التمسك بشيء منها الّا بتفسير أهل العصمة عليهم‌السلام. فيكون الحاصل من كلامه هو عدم ظهور للقرآن ، وإنّما يحتاج العمل به إلى تفسير ، والتفسير لا يجوز الّا للمعصومين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام.

(وأقوى ما يتمسك لهم على ذلك وجهان ، أحدهما : الأخبار).

٢٥٠

أحدهما : الأخبار المتواترة المدّعى ظهورها في المنع عن ذلك :

مثل النبويّ : (من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (١).

وفي رواية اخرى : (من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار) (٢) ، وفي نبويّ ثالث :

(من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب) (٣).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : (من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ سقط أبعد من السماء) (٤).

وفي النبويّ العاميّ : (من فسّر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) (٥).

وعن مولانا الرضا عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم ، قال :

____________________________________

وملخّص ما هو المستفاد من هذه الأخبار هو منع الشارع ونهيه عن العمل بالقرآن وعن تفسيره ، وهذا المنع يكون كاشفا عن أنّ مقصود المتكلّم وهو الله تعالى ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام.

فليس القرآن من قبيل المحاورات العرفية الصادرة للإفهام إذ إرادة خلاف الظاهر فيه كثيرة لا يعلمها الّا أهل الذكر عليهم‌السلام ، ولذلك منع عن التمسّك بظواهره ، ولو كان يقصد تفهيم المكلّفين بهذه الظواهر مباشرة لما صحّ منه المنع ، ولذلك لا يجوز الاعتماد على عدم القرينة فيه ، ثم الأخذ بظواهره ، إذ أهل اللسان إنّما يعتمدون على أصالة عدم القرينة فيما إذا كان الكلام صادرا للإفهام بنفسه ، والقرآن ليس كذلك.

وعلّة منع العمل بظواهر القرآن ـ على فرض الصحة ـ لا تخلو عن أحد أمرين :

الأمر الأول : يمكن أن يكون ملاك المنع سد باب الاختلاف الناشئ عن الاختلاف في فهم معاني القرآن ، فمنع الناس عن العمل به من دون التفسير الوارد عن المعصوم عليه‌السلام لئلّا يختلفوا فيه.

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٤ : ١٠٤ / ١٥٤.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٠٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٧٦.

(٣) نفس المصدر : ١٩٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٣٧.

(٤) نفس المصدر : ٢٠٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٦٦.

(٥) نفس المصدر : ٢٠٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٧٩.

٢٥١

(قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الله عزوجل قال في الحديث القدسي : ما آمن بي من فسّر كلامي برأيه ، وما عرفني من شبّهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني) (١).

وعن تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : (من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ، ومن فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر) (٢).

وعن مجمع البيان : «إنّه قد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمة القائمين مقامه : (أن تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصحيح والنصّ الصريح) (٣)».

وقوله عليه‌السلام : (ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، إنّ الآية يكون أولها في شيء ، وآخرها في شيء ، وهو كلام متصل ينصرف إلى وجوه) (٤).

وفي مرسلة شبيب بن أنس عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال لأبي حنيفة : (أنت فقيه أهل العراق؟) قال : نعم ، قال : (فبأي شيء تفتيهم؟) قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه ٦ ، قال : (يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حقّ معرفته وتعرف الناسخ من المنسوخ؟) قال : نعم ، قال عليه‌السلام : (يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علما ، ويلك ، ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذين انزل عليهم ، ويلك ، وما هو إلّا عند الخاص من ذريّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ورّثك الله من كتابه حرفا) (٥).

____________________________________

والأمر الثاني : أنّ للقرآن ناسخا ومنسوخا ولا يعلم الناسخ من المنسوخ إلّا أهل العصمة عليهم‌السلام ، فلا يجوز العمل به من دون تفسير منهم عليهم‌السلام.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ عدم جواز التمسّك والعمل بالقرآن يكون لأحد أمرين ؛ إمّا لنفي الظواهر عنه ، وإمّا للأخبار الناهية عن العمل به.

ومقتضى الوجه الأول أنّ القرآن كلّه مجمل ومتشابه ، وبطلانه أظهر من الشمس بصريح القرآن ، كما في الآيات التي قسّمت آيات القرآن إلى المحكم والمتشابه ، فلا يكون كلّه متشابها قطعا وجزما بصريح نصّ القرآن في قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُ

__________________

(١) نفس المصدر : ٤٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ح ٢٢.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٩ ـ ٣٠ / ٦.

(٣) مجمع البيان ١ : ١٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٠٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٧٨.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٢٠٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٧٤ بتفاوت يسير.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٤٧ ـ ٤٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ح ٢٧.

٢٥٢

وفي رواية زيد الشحّام ، قال : دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال له : (أنت فقيه أهل البصرة؟) فقال : هكذا يزعمون ، فقال : (بلغني أنك تفسّر القرآن) قال : نعم ، إلى أن قال : (يا قتادة إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به) (١). إلى غير ذلك ممّا ادّعى في الوسائل ـ في كتاب القضاء ـ تجاوزها عن حد التواتر.

وحاصل هذا الوجه يرجع إلى أنّ منع الشارع عن ذلك يكشف عن أنّ مقصود المتكلم ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام ، فليس من قبيل المحاورات العرفية.

والجواب عن الاستدلال بها : إنّها لا تدلّ على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها وإرادة خلاف ظاهرها في الأخبار ، إذ من المعلوم أنّ هذا لا يسمّى تفسيرا ، فإنّ أحدا من العقلاء إذا رأى في كتاب مولاه أنه أمره

____________________________________

الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(٢).

والجواب عن الأخبار : فمضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله مفصّلا فإنّ الكثيرة منها تدل على حجّية ظواهر القرآن ، حيث أفادت أنّ القرآن هو الميزان لتشخيص الحقّ من الباطل ، ففي بعض الأخبار(كلّ شرط يكون على خلاف كتاب الله فهو فاسد) (٣) ، (وكل رواية إذا كانت على خلاف القرآن فاطرحوها ، واضربوها على الجدار ، وما وافق كتاب الله فخذوه) (٤).

وهذا الجواب يأتي تفصيله عن المصنّف رحمه‌الله حيث قال : هذا كلّه مع معارضة ... ، فانتظر.

(والجواب عن الاستدلال بها : إنّها لا تدلّ على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى).

وهذه الأخبار التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله من قبل الأخباريين تكون على أربعة أقسام :

منها : ما دلّ على عدم جواز القول بغير علم ، وهو : (من قال في القرآن بغير علم ، فليتبوّأ مقعده

__________________

(١) نفس المصدر : ١٨٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٢٥.

(٢) آل عمران : ٧.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٦ ، أبواب الخيار ب ٦ ، ح ٣.

(٤) بحار الأنوار ٢ : ٢٣٥ / ٢٠ ، بتفاوت. التهذيب ٧ : ٢٧٥ / ١١١٦٩. الوسائل ٢٠ : ٤٦٣ ـ ٤٦٤ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ٢٠ ، ح ٣.

٢٥٣

بشيء بلسانه المتعارف في مخاطبته له ، عربيا أو فارسيا أو غيرهما ، فعمل به وامتثله ، لم يعد هذا تفسيرا ، إذ التفسير كشف القناع.

ثم لو سلّم كون مطلق حمل اللفظ على معناه تفسيرا ، لكن الظاهر أنّ المراد بالرأي هو

____________________________________

من النار) (١).

ومنها : ما دلّ على عدم جواز التفسير بالرأي ، فالمنهي والممنوع في أكثر هذه الروايات هو التفسير بالرأي مثل النبويّ : (من فسر القرآن برأيه ، فليتبوّأ مقعده من النار).

ومنها : ما دلّ على عدم جواز التفسير على نحو المطلق من دون ورود النص فيه ، فعن مجمع البيان : أنّه قد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمة القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز الّا بالأثر الصحيح ، والنص الصريح.

ومنها : ما يستفاد منه منع الاستقلال في العمل بظواهر الكتاب من دون مراجعة إلى أهل العصمة عليهم‌السلام كالروايتين الأخيرتين.

إذا عرفت هذا فنقول في الجواب عن القسم الأول الذي يمنع عن القول بغير علم في القرآن : إن هذه الرواية لا تشمل المقام ؛ لأنّ ظاهر الكلام يكون علما عند العرف وإن لم يكن علما وجدانا ، فالعمل بالظاهر لا يكون من القول بغير علم ، فيكون خارجا عن المنع ، وهكذا لا يشمل المقام ما دلّ على منع تفسير القرآن ؛ لأنّ العمل بالظاهر لا يكون تفسيرا ، فلا يشمله ما دل على منع التفسير مطلقا ، أو مقيدا بالرأي ، إذ العمل بالظاهر ليس تفسيرا أصلا ؛ لأنّ التفسير هو كشف القناع أو المغطّى ، ورفع الستار ، أو كشف المراد عن اللفظ المشكل ، وشيء من هذه المعاني لا يصدق على حمل الألفاظ على ظواهرها ، فالعمل بالظواهر خارج عن هذه الأخبار.

ثم إنّ الأصل في الكلام هو أن يصدر للإفهام ، فالكتاب إنّما صدر للإفهام فيجوز الأخذ بظاهره بعد الفحص عن الناسخ والمخصّص وغيرهما ، وعدم وجدانها ، بعد أصالة عدم القرينة الصارفة عن الظواهر ، ليكون صدق التفسير مختصّا بالمجمل.

(ثم لو سلّم كون مطلق حمل اللفظ على معناه تفسيرا ، لكن الظاهر أنّ المراد بالرأي هو

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٠٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٧٦.

٢٥٤

الاعتبار العقلي الظنّي الراجع إلى الاستحسان ، فلا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغوية والعرفية.

وحينئذ فالمراد بالتفسير بالرأي :

إمّا حمل اللفظ على خلاف ظاهره أو أحد احتماليه ، لرجحان ذلك في نظره القاصر وعقله الفاتر ، ويرشد إليه المرويّ عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، قال في حديث طويل : (وإنّما هلك الناس

____________________________________

الاعتبار العقلي الظني الراجع إلى الاستحسان).

هذا جواب ثان من المصنّف رحمه‌الله يكون مبنيا على فرض تسليم إطلاق التفسير على حمل اللفظ على معناه الظاهر.

فيقول : لو سلّمنا صدق التفسير على حمل اللفظ بمعناه الظاهر لما تشمل الأخبار الدّالة على حرمة التفسير المقام ، وذلك لأنها تكون على قسمين : منها مطلق ، ومنها مقيّد بالرأي ، أي : المحرّم هو التفسير بالرأي ، ثم مقتضى القاعدة هو حمل المطلق على المقيّد ، فالمستفاد منها بعد حمل المطلق على المقيّد هو حرمة التفسير بالرأي لا مطلق التفسير.

والتفسير بالرأي لا يشمل المقام ؛ لأنّ معنى التفسير بالرأي حمل اللفظ على معناه بعد إعمال الاستحسان العقلي.

فيحكم بترجيح أحد المعاني المحتملة من اللفظ ، وحمل اللفظ على معناه الظاهر ليس كذلك ، فلا يكون تفسيرا بالرأي.

نعم ، حمل اللفظ على خلاف ظاهره بالاستحسان العقلي يعدّ تفسيرا بالرأي ، وكذا إذا كان أحد المعنيين من اللفظ مساويا لاحتمال المعنى الآخر يكون حمله على أحدهما بعد الاستحسان العقلي تفسيرا بالرأي ، فيكون التفسير بالرأي بهذا المعنى مختصّا بالمتشابه ؛ لأنّ المتشابه كما حدّه بعض المحققين : هو القدر المشترك بين المجمل والظاهر ، وهو طرف المرجوح من الظاهر ، والمحكم : هو القدر المشترك بين النصّ والظاهر ، وهو طرف الراجح من الظاهر ، كما يرشد إلى اختصاص التفسير بالرأي بالمتشابه ، وحمل اللفظ على خلاف ظاهره قول المصنّف رحمه‌الله.

(فالمراد بالتفسير بالرأي : إمّا حمل اللفظ على خلاف ظاهره أو أحد احتماليه) وهو المتشابه ، والتفسير بالرأي معنى آخر ، وهو حمل اللفظ على المعنى الظاهر في بدو النظر

٢٥٥

في المتشابه ؛ لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء عليهم‌السلام فيعرّفونهم) (١).

وإمّا الحمل على ما يظهر له في بادئ الرأي من المعاني العرفية واللغوية ، من دون تأمّل في الأدلة العقلية ومن دون تتبع في القرائن النقلية ، مثل الآيات الأخر الدالة على خلاف هذا المعنى والأخبار الواردة في بيان المراد منها ، وتعيين ناسخها من منسوخها.

____________________________________

من دون فحص عن القرينة.

وقد أشار إلى المعنى الثاني للتفسير بالرأي بقوله : (وإمّا الحمل على ما يظهر له في بادي الرأي من المعاني العرفية واللغوية من دون تأمّل في الأدلة العقلية).

هذا يصحّ أن يكون جوابا عن الرواية الدالة على توبيخ أبي حنيفة ، مع أنّه يعمل بظاهر القرآن من دون تأويل بالرأي لعدم الاعتبار بالرأي عنده مع الكتاب والسنّة وظاهرهما ، فيقال : إن أبا حنيفة كان يعمل بظواهر الكتاب من دون الرجوع إلى أهل العصمة عليهم‌السلام وأخبارهم ، فيكون عمله بالظواهر تفسيرا بالرأي بالمعنى الثاني ، ولذا ورد عليه التوبيخ من الإمام عليه‌السلام ، هذا مضافا إلى أن الرواية مرسلة غير ناهضة لإثبات شيء فلا حاجة إلى الجواب عنها.

والحاصل أن الجواب عن القسم الأول والثاني والثالث قد تقدّم مفصّلا ، ولا يبقى أيّ خفاء فيها أصلا.

وبقي الجواب التفصيلي عن القسم الرابع الذي دلّ على حرمة العمل بالقرآن على نحو الاستقلال من دون الرجوع إلى الأئمة عليهم‌السلام وما ورد عنهم عليهم‌السلام ، فنقول في الجواب عنه :

إنّ محل الكلام هو العمل بالظواهر بعد الرجوع إلى الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام ، والفحص عن تخصيصها ونسخها ، فنعمل بالظواهر بعد الفحص عن تخصيص عمومات الكتاب ونسخ بعض الآيات.

فما دلّ على عدم جواز الاستقلال لا يشمل المقام ؛ لعدم الاستقلال بالرأي في العمل بالكتاب ، وعدم الاستغناء عن الرجوع إلى أهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٦٢.

٢٥٦

وممّا يقرّب هذا المعنى الثاني ـ وإن كان الأول أقرب عرفا ـ أنّ المنهي في تلك الأخبار المخالفون الذين يستغنون بكتاب الله عن أهل البيت : ، بل يخطّئونهم به.

ومن المعلوم ضرورة من مذهبنا تقديم نصّ الإمام عليه‌السلام على ظاهر القرآن ، كما أنّ المعلوم ضرورة من مذهبهم العكس.

ويرشدك إلى هذا ما تقدم في ردّ الإمام عليه‌السلام ، على أبي حنيفة حيث إنّه يعمل بكتاب الله ، ومن المعلوم أنه إنّما كان يعمل بظواهره ، لا أنه كان يؤوّله بالرأي إذ لا عبرة بالرأي عندهم مع الكتاب والسنّة.

ويرشد إلى هذا قول أبي عبد الله عليه‌السلام ، في ذم المخالفين : (إنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ ، واحتجّوا بالخاص وهم يظنون أنه العام ، واحتجّوا بالآية وتركوا السنّة في تأويلها ، ولم ينظروا إلى ما يفتح به الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره ، إذ لم يأخذوه عن أهله فضلّوا وأضلّوا) (١).

____________________________________

(وممّا يقرّب هذا المعنى الثاني ـ وإن كان الأول أقرب عرفا ـ).

أي : وممّا يؤيّد المعنى الثاني للتفسير بالرأي ، وهو حمل اللفظ على الظاهر من دون فحص وإن كان المعنى الأول ، وهو ترجيح أحد المعاني المحتملة بالاستحسان العقلي أقرب عرفا ؛ لأنّ المتبادر من التفسير بالرأي هو هذا المعنى عند العرف ، ولكن يؤيّد المعنى الثاني ، بأنّ المنهي في تلك الأخبار يكون مخالفي الأئمة.

ومن المعلوم أنّهم يعملون بظواهر القرآن من دون فحص عن إرادة خلافها ، ولم يراجعوا أهل العصمة عليهم‌السلام (بل يخطّئونهم به) يعني : يردّون قول الأئمة بكتاب الله حينما كان مخالفا له في نظرهم ، فيصدق في عمل هؤلاء التفسير بالرأي بالمعنى الثاني.

(ويرشد إلى هذا) أي : كون المنهي ـ في تلك الأخبار ـ المخالفين ما تقدّم في ردّ أبي حنيفة ، مع أنّه يعمل بكتاب الله من دون التفسير بالرأي بالمعنى الأول ، بل كان يعمل بظواهر الكتاب من دون فحص عن الأخبار الواردة في بيان الآيات فينطبق على عمله بظواهر التفسير بالرأي بالمعنى الثاني ، فهذا المعنى الثاني يكون أنسب بالمقام.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٠١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٦٢.

٢٥٧

وبالجملة : فالإنصاف يقتضي عدم الحكم بظهور الأخبار المذكورة في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبع في سائر الأدلة ، خصوصا الآثار الواردة عن المعصومين : ، كيف ، ولو دلّت على المنع من العمل على هذا الوجه ، دلّت على عدم جواز العمل بأحاديث أهل البيت :.

ففي رواية سليم بن قيس الهلالي ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : (إن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل القرآن ، منه ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ... وقد كان يكون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الكلام ، يكون له وجهان : كلام عام وكلام خاص ، مثل القرآن) (١).

وفي رواية أسلم بن مسلم : (إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن) (٢).

____________________________________

والإنصاف أنّ المراد من التفسير بالرأي هو المعنى الثاني ، فالعمل بالظواهر بعد الفحص لا يكون تفسيرا أوّلا ، ولو سلّم لا يكون تفسيرا بالرأي ثانيا. هذا تمام الكلام في الجواب الأول عن هذه الأخبار.

والجواب الثاني ما أشار اليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : (كيف ولو دلّت على المنع من العمل على هذا الوجه).

يعني : لو سلّمنا دلالة الأخبار على منع العمل بظواهر الكتاب ـ بعد الفحص ـ لدلّت على منع العمل بظواهر الأحاديث الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام ؛ لأنّ الأحاديث فيها عامّ وخاصّ ، مطلق ومقيد ، ناسخ ومنسوخ ، محكم ومتشابه ، كالقرآن كما هو المستفاد من عدّة من الروايات التي ذكر المصنّف رحمه‌الله بعضها ، فهنا يتشكّل قياس استثنائي ، وهو أنّ هذه الأخبار لو دلّت على المنع من العمل على ظواهر القرآن لدلّت على المنع من العمل على ظواهر الأحاديث أيضا ، والملازمة بينهما ثابتة بأن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد ، وملاك المنع وهو احتمال إرادة خلاف الظواهر موجود فيهما.

ثم التالي باطل إجماعا ؛ لأن الأخباريين لم يمنعوا من العمل بظواهر الأخبار ، فالمقدّم ـ أيضا ـ باطل ، فتكون النتيجة هي عدم دلالة الأخبار على المنع من العمل بظواهر الكتاب ،

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٠٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٤ ، ح ١.

(٢) نفس المصدر : ٢٠٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٤ ، ح ٢ ، الكافي ١ : ٦٤ / ٢ ، وفهما : عن محمّد بن مسلم بدل أسلم بن مسلم.

٢٥٨

هذا كلّه مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها ، ممّا يدل على جواز التمسك بظاهر القرآن ، مثل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين ، وغيرها ، ممّا دل على الأمر بالتمسّك بالقرآن والعمل بما فيه ، وعرض الأخبار المتعارضة بل ومطلق الأخبار عليه ، وردّ الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود ، والأخبار الدالّة قولا وفعلا وتقريرا على جواز التمسّك بالكتاب.

مثل قوله عليه‌السلام ، لمّا قال زرارة : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس؟ فقال عليه‌السلام : (لمكان الباء) (١) ، فعرّفه مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب.

____________________________________

وإنّما يكون الممنوع هو العمل بظواهر القرآن قبل الفحص لا بعد الفحص ، وبالجملة : عدم جواز العمل بظواهر الآيات بعد الفحص كما هو محل الكلام لا دليل عليه.

ثم أشار إلى الجواب الثالث بقوله : (هذا كلّه مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها ، ممّا يدل على جواز التمسّك بظاهر القرآن).

ونستكشف من الأخبار الدالّة على جواز التمسّك بظاهر القرآن أنّه صدر للإفهام ، فيكون حجّة مستقلا من دون الحاجة إلى تعيين ما هو الظاهر منه بالأخبار الواردة عن أهل العصمة عليهم‌السلام.

منها : حديث الثقلين المشهور بين الفريقين ؛ فإنّ هذا الحديث ممّا يدل على الأمر بالتمسّك بالقرآن والعمل بما فيه ، فإذا لم يكن حجّة لم يكن معنى لأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتمسّك به.

ومنها : ما دلّ على عرض الأخبار المتعارضة ، بل مطلق الأخبار على القرآن ، ثم الأخذ بما وافقه وردّ ما خالفه ، فالمستفاد من هذه الأخبار حجّية ظواهر القرآن والّا لا معنى لعرض الأخبار عليه ، بل عرضها عليه كعرضها على الجدار.

(والأخبار الدالّة قولا وفعلا وتقريرا على جواز التمسّك بالكتاب).

ومن المعلوم حجّية كل واحد من قول المعصوم عليه‌السلام وتقريره وفعله ، فهنا طائفة من الأخبار تدلّ على حجّية ظواهر القرآن بحسب قول المعصوم ، وطائفة منها تدلّ على حجّيتها بحسب تقريره أو فعله.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٥٦ / ١ ، الوسائل ١ : ٤١٣ ، أبواب الوضوء ، ب ٢٣ ، ح ١.

٢٥٩

وقول الصادق عليه‌السلام في مقام نهي الدوانيقي عن قبول خبر النمّام : إنه فاسق ، وقال الله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية (١) (٢).

وقوله عليه‌السلام لابنه إسماعيل : إن الله عزوجل يقول : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٣) فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم (٤).

____________________________________

ثم ما دلّ على جواز التمسّك بالقرآن قولا عدّة من الروايات يذكرها المصنّف رحمه‌الله واحدة بعد اخرى :

منها : مثل قول الإمام عليه‌السلام جوابا عن سؤال زرارة حيث سأل منه عليه‌السلام بقوله : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس؟ فقال الإمام عليه‌السلام : (لمكان الباء) ولم يقل عليه‌السلام : لأنّ الباء للتبعيض حتى يكون تفسيرا ، بل قال : (لمكان الباء) أي : برءوسكم.

فيكون هذا القول منه عليه‌السلام بيانا لمورد استفادة الحكم بكفاية المسح على بعض الرأس من جهة أنّ الباء يكون مفادها هو التبعيض سواء كان بمعنى التبعيض كما قيل ، أو كان بمعنى الإلصاق ، وأمّا على الأول ، فيكون الحكم بكفاية المسح على بعض الرأس واضحا ، وأمّا على الثاني حيث يكون معنى الباء هو الارتباط والإلصاق بين اليد والرأس ، ثم كلمة (وَامْسَحُوا) تدلّ على وجوب إمرار اليد على الرأس ، فالمستفاد من مجموع الجملة ـ أي : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)(٥) ـ هو وجوب الارتباط والإلصاق بين اليد والرأس على نحو الإمرار ليتحقّق المسح ، وهو يتحقق بإمرار اليد على بعض الرأس ، فلازم ذلك هو التبعيض وهو المطلوب ، فهذا البيان من الإمام يدلّ على حجّية ظاهر القرآن.

ومنها : قول الإمام الصادق عليه‌السلام : (في مقام نهي الدوانيقي عن قبول خبر النّمام : إنه فاسق ، وقال الله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا). والمستفاد من هذا الخبر حجّية ظاهر القرآن لكلّ أحد ، وكان جواز التمسّك به معروفا عند المسلمين.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٠٩ ، أبواب أحكام العشرة ، ب ١٦٤ ، ح ١٠.

(٣) التوبة : ٦١.

(٤) الوسائل ١٩ : ٨٣ ، كتاب الوديعة ، ب ٦ ، ح ١.

(٥) المائدة : ٦.

٢٦٠