دروس في الرسائل - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٧

خمرا ، لا على نفس الخمر ، وكترتّب وجوب الإطاعة عقلا على معلوم الوجوب لا الواجب الواقعيّ.

____________________________________

أن يجعل القطع وسطا لهذا الحكم.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك أنّ مراده من (حكم آخر) هو هذا القسم لا القسم الأول.

والمراد من القطع هو القطع الموضوعي ، فيكون موضوع هذا الحكم مركّبا من أمرين : أي : ذات وعلم ، كما إذا فرضنا أنّ موضوع الحكم بوجوب الاجتناب هو الخمر المعلوم لا ذات الخمر ، فحينئذ يصح أن يقال : هذا معلوم الخمرية ، وكل معلوم الخمرية يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه ، أو يقال : كل معلوم الخمرية حرام فهذا ـ أي معلوم الخمرية ـ حرام.

فلا بدّ أن يكون المشار إليه كما فسّرناه هو معلوم الخمرية لثبوت الحكم للخمر المعلوم لا لذات الخمر ، وهذا بخلاف باب الظن وجعله وسطا ، حيث يكون المشار اليه ذات الخمر فيقال : هذا مظنون الخمرية ، وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه ، فهذا ـ أي الخمر ـ يجب الاجتناب عنه ، فيكون اطلاق الحجّة على الظن على نحو الحقيقة ، لأنّ الحجّة عند الاصولي ـ كما تقدم ـ هو ما يكون وسطا لإثبات الأكبر ، أي : الحكم للأصغر ، أي : الموضوع.

والظن في المثال المذكور يكون كذلك ، فإنّه مثبت لحكم متعلّقه شرعا ، ولا يكون إطلاق الحجّة على القطع الموضوعي على نحو الحقيقة لأنّه مثبت لحكم آخر لا لحكم متعلّقه ، فيكون إطلاق الحجّة عليه من باب المسامحة.

وبعبارة اخرى : إنّ كل ما يقع وسطا لا يسمّى حجّة ، بل الحجّة في باب الأدلة ما يكون وسطا لثبوت الأكبر ، أي : الحكم للأصغر ، أي : الموضوع وحده ، أي : لذات الموضوع ، لا له مع قيد آخر ، فيختص بالظن لأنّه في المثال المتقدم يكون وسطا لثبوت الحكم بوجوب الاجتناب للخمر وحده ، حيث قلنا : إن المشار إليه في قولنا : فهذا يجب الاجتناب عنه ، هو نفس الخمر لا الخمر المظنون.

وهذا بخلاف القطع حيث يقع وسطا لثبوت الحكم على الموضوع المقيّد ـ أي : الخمر

٢١

وبالجملة فالقطع قد يكون طريقا للحكم ، وقد يكون مأخوذا في موضوع الحكم.

____________________________________

المعلوم ـ لا الخمر وحده ، كما فسّرنا المشار إليه بقولنا : فهذا ـ أي : معلوم الخمرية ـ يجب الاجتناب عنه.

ومن هنا ظهر وجه ما ذكرناه من أنّ إطلاق الحجّة على الظن على نحو الحقيقة ، وعلى القطع الموضوعي على نحو المسامحة.

فظهر مما ذكرناه أنّ القطع على قسمين : أحدهما : طريقي ، وثانيهما : موضوعي ، وسمّي الثاني بالموضوعي لكونه مأخوذا في موضوع الحكم.

(وبالجملة فالقطع قد يكون طريقا للحكم ، وقد يكون مأخوذا في موضوع الحكم) والأول يسمى بالقطع الطريقي ، والثاني بالموضوعي.

فالمصنف قدس‌سره قد أشار إلى تقسيم القطع إلى الطريقي والموضوعي أولا ، وإلى الفرق بينهما ثانيا ، فلا بدّ لنا أن نبيّن أقسام القطع الموضوعي قبل بيان الفرق بينه وبين الطريقي المحض ، فنقول :

إن القطع الموضوعي يكون على أربعة أقسام ، وذلك لأنّ القطع يكون من الأوصاف ذات الإضافة ، وليس صفة محضة كالعدالة والشجاعة ، بل فيه جهتان : جهة أنّه صفة من أوصاف النفس ، وجهة أنّه كاشف عن الواقع المقطوع حكما أو موضوعا.

وحينئذ إذا اخذ في موضوع حكم من الأحكام ، فقد يؤخذ من الجهة الاولى فيسمّى بالقطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية ، وقد يؤخذ من الجهة الثانية فيسمّى بالمأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ، وعلى كلا التقديرين يمكن أن يكون تمام الموضوع أو جزءه ، فتصبح الأقسام أربعة ، ثم الفرق بينها يتلخّص في جهتين :

الاولى : الفرق بين ما يؤخذ على نحو الصفتية ، وما يؤخذ على وجه الطريقية.

والثانية : الفرق بين ما يؤخذ تمام الموضوع وما يؤخذ جزء له.

وأمّا الفرق من الجهة الاولى فواضح ، إذ معنى أخذ القطع بعنوان الصفتية أنّه اخذ في الموضوع باعتبار وجوده الخاص الذي هو من مقولة الكيف النفساني ، ومعنى أخذه بعنوان الطريقية أنّه اخذ فيه باعتبار كونه طريقا إلى ما تعلّق به وكاشفا عنه ، ولهذا سمّي بالقطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية.

٢٢

____________________________________

وأمّا الفرق من الجهة الثانية ، فلأن لازم القطع المأخوذ تمام الموضوع هو تحقق الحكم حين وجود القطع لتحقق موضوعه ، ولا فرق في ثبوت الحكم بين أن يكون القطع مطابقا للواقع أو لم يكن مطابقا له لأنّ الموضوع هو نفس القطع من دون دخالة الواقع في ثبوت الحكم أصلا ، كالقطع المأخوذ في موضوع جواز الاقتداء بالعادل فيجوز الاقتداء ، وإن لم يكن الإمام عادلا في الواقع ، فإذا انكشف الخلاف لا يجب عليه القضاء.

وهذا بخلاف القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الجزئية ، حيث يكون معناه أنّ القطع أحد جزئي الموضوع ، وجزؤه الآخر هو الواقع ، فيكون لازمه ثبوت كلا الأمرين ، أي : القطع والواقع معا ، فلا بدّ أن يكون مطابقا للواقع ، فإذا لم يكن مطابقا له انتفى الحكم ، إذ الحكم كما ينتفي بانتفاء تمام الموضوع كذلك ينتفي بانتفاء جزئه ، فإذا انتفى القطع ينتفي الحكم أيضا.

وكذلك إذا قطع المكلّف ولم يكن قطعه مطابقا للواقع ينتفي الحكم ، ومثال ذلك : هو القطع المأخوذ في موضوع جواز الطلاق عند العدلين ، فلا بدّ للمطلّق أن يقطع بالعدالة ، ويكون قطعه مطابقا للواقع.

وبالجملة : إنّ القطع قد يؤخذ تمام الموضوع ، فيدور الحكم مداره وجودا وعدما صادف الواقع أم لا ، وقد يؤخذ جزء الموضوع ، فيكون للواقع دخل في ثبوت الحكم وعلى كلا التقديرين يمكن أن يؤخذ على نحو الصفتية أو على وجه الطريقية.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ أقسام القطع خمسة :

الأول : هو القطع الطريقي المحض.

الثاني : هو ما يكون مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتية حال كونه تمام الموضوع ، كما إذا فرض ثبوت حرمة الشرب لمقطوع الخمرية وإن لم يكن خمرا في الواقع.

الثالث : هو ما يؤخذ جزء للموضوع على نحو الصفتية ، كما إذا فرضنا أنّ الشارع اعتبر صفة القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات الثنائية والثلاثية والركعتين الأوليين من الرباعية.

الرابع : هو ما يؤخذ جزء للموضوع على نحو الطريقية.

٢٣

ثم ما كان منه طريقا لا يفرّق فيه بين خصوصيّاته من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه ، إذ المفروض كونه طريقا إلى متعلّقه ، فتترتّب عليه أحكام متعلّقه ، ولا يجوز للشارع أن ينهى عن العمل به ، لأنّه مستلزم للتناقض.

____________________________________

الخامس : ما يؤخذ تمام الموضوع على وجه الطريقية.

هذا كلّه فيما إذا تعلّق القطع بموضوع خارجي.

وأمّا إذا تعلّق بحكم شرعي كوجوب الصلاة مثلا ، فيمكن أخذه موضوعا لحكم آخر غير ما تعلّق به ، كوجوب التصدق مثلا حيث يؤخذ في موضوعه القطع بوجوب الصلاة ، كما لو ورد في الشرع : إذا قطعت بوجوب الصلاة فيجب عليك التصدق ، ويأتي في هذا الفرض جميع الأقسام الجارية في تعلّق القطع بموضوع خارجي. ثم إنّ جميع الأقسام المتصوّرة في القطع الموضوعي ممكنة من دون محذور.

إلّا أنّه يظهر من بعض الإشكال في أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقية حيث قال بعدم الإمكان لأنّ أخذه في الموضوع كذلك مستلزم للجمع بين متنافيين ، وذلك لأنّ معنى أخذه في الموضوع على وجه الطريقية والكاشفية عن الواقع هو أنّ لثبوت الواقع المنكشف دخلا في تحقق الحكم ، ومعنى كونه تمام الموضوع عدم دخل الواقع في تحقق الحكم ، بل الحكم يترتّب على القطع سواء كان هناك واقع أم لم يكن ، وليس هذا الّا الجمع بين المتنافيين والمتناقضين.

وبعبارة أخرى : أخذه على وجه الطريقية يستدعي لحاظ الواقع ، ويكون النظر في الحقيقة إليه ، وكونه تمام الموضوع يقتضي عدم لحاظ الواقع أصلا ، وهذا يستلزم الجمع بين المتناقضين.

فعلى فرض قبول هذا الإشكال تكون الأقسام الممكنة في القطع الموضوعي ثلاثة ، ومع القطع الطريقي المحض تكون الاقسام أربعة ، والمصنف قدس‌سره لم يتعرض إلّا إلى قسمين منها :

أحدهما : ما يكون مأخوذا في الموضوع على وجه الطريقية.

والثاني : على نحو الصفتية.

(ثم ما كان منه طريقا لا يفرّق فيه بين خصوصيّاته من حيث القاطع والمقطوع به

٢٤

فإذا قطع كون مائع بولا ـ من أيّ سبب كان ـ فلا يجوز للشارع أن يحكم بعدم نجاسته او عدم وجوب الاجتناب عنه ، لأنّ المفروض أنّه بمجرّد القطع يحصل له صغرى وكبرى ، أعني قوله : هذا بول ، وكلّ بول يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه ، فحكم الشارع بأنّه لا يجب الاجتناب عنه مناقض له.

إلّا إذا فرض عدم كون النجاسة ووجوب الاجتناب من أحكام نفس البول ، بل من أحكام ما علم بوليّته على وجه خاصّ من حيث السبب أو الشخص أو غيرهما ، [فخرج العلم حينئذ عن كونه طريقا] ويكون مأخوذا في الموضوع ، وحكمه أنّه يتّبع في اعتباره مطلقا أو على وجه خاصّ دليل ذلك الحكم الثابت الذي اخذ العلم في موضوعه.

فقد يدلّ على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به ، بمعنى انكشافه للمكلّف من غير خصوصيّة للانكشاف ، كما في حكم العقل بحسن إتيان ما قطع العبد بكونه مطلوبا لمولاه ، وقبح ما يقطع بكونه مبغوضا ، فإنّ مدخليّة القطع بالمطلوبيّة أو المبغوضيّة في صيرورة الفعل حسنا أو قبيحا عند العقل لا يختصّ ببعض أفراده.

____________________________________

وأسباب القطع وأزمانه ... إلى آخره).

هذا الكلام من المصنف قدس‌سره إشارة إلى الفرق بين القطع الطريقي المحض والموضوعي ويمكن الفرق بينهما بوجوه :

الأول : ما تقدّم من أنّ القطع الطريقي لا يقع وسطا ، فلا يطلق عليه الحجّة بما هو عند الاصولي ، وهذا بخلاف القطع الموضوعي حيث يقع وسطا ويطلق عليه الحجّة ولو مسامحة.

والثاني : ما ذكره المصنف قدس‌سره حيث قال : لا يفرق فيه ، أي : في الطريقي بين أفراده ، وأسبابه وأزمانه ، فإنّه حجّة مطلقا ، ولا يمكن التصرف فيه أصلا ، لما عرفت من أن حجّيته كطريقيّته غير قابلة لتعلّق الجعل نفيا وإثباتا.

وهذا بخلاف القطع الموضوعي حيث تكون حجّيته تابعة لدلالة الدليل الدال على اعتباره ، وأخذه في الموضوع سعة وضيقا ، فقد يدل الدليل على أخذ خصوص القطع من جهة القاطع أو السبب ، أو غيرهما في الموضوع وقد يدل على أخذ مطلق القطع في الموضوع من دون كونه مقيّدا بشيء من الخصوصيات كما في المتن.

٢٥

وكما في حكم الشرع بحرمة ما علم أنّه خمر ، أو نجاسته بقول مطلق ، بناء على أنّ الحرمة والنجاسة الواقعيّتين إنّما تعرضان مواردهما بشرط العلم ، لا في نفس الأمر ، كما هو قول بعض.

وقد يدلّ دليل ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ أو شخص خاصّ ، مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريّين من عدم جواز العمل في الشرعيّات بالعلم غير الحاصل من الكتاب والسّنة كما سيجيء ، وما ذهب إليه بعض من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق الله تعالى.

وأمثلة ذلك بالنسبة إلى حكم غير القاطع كثيرة ، كحكم الشارع على المقلّد بوجوب الرجوع إلى الغير في الحكم الشرعي إذا علم به من الطرق الاجتهاديّة المعهودة ، لا من مثل الرمل والجفر ، فإنّ القطع الحاصل من هذه وإن وجب على القاطع الأخذ به في عمل نفسه ، إلّا أنّه لا يجوز للغير تقليده في ذلك ، وكذلك العلم الحاصل للمجتهد الفاسق أو غير الإمامي من الطرق الاجتهاديّة المتعارفة ، فإنّه لا يجوز للغير العمل بها ؛ وكحكم الشارع على الحاكم بوجوب قبول خبر العدل المعلوم له من الحسّ ، لا من الحدس ، إلى غير ذلك.

ثمّ من خواصّ القطع الذي هو طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة مقامه في العمل.

____________________________________

الثالث : ما أشار إليه بقوله : (ثم من خواصّ القطع الذي هو طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعية والاصول العمليّة مقامه في العمل) وفي بعض النسخ [وبعض الاصول العملية] والصحيح هو قيام بعض الاصول كالاستصحاب مقام القطع الطريقي لا جميعها ، وذلك لأنّ الاصول على قسمين :

أحدهما : هي الاصول المحرزة.

وثانيهما : غير المحرزة.

الاصول المحرزة : هي التي تقوم مقام القطع ، إذ فيها جهة يحرز بها الواقع فتشابه القطع ، ولهذا تقوم مقامه كالاستصحاب.

وأمّا الاصول غير المحرزة كالبراءة فلا تقوم مقام القطع أصلا.

وبالجملة : إنّ الأمارات الشرعية كخبر الواحد ـ مثلا ـ وبعض الاصول العملية

٢٦

بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة فإنّه تابع لدليل ذلك الحكم ، فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقيّة للموضوع ـ كالأمثلة المتقدّمة ـ قامت الأمارات والاصول مقامه.

وإن ظهر منه اعتبار صفة القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره ، كما إذا فرضنا أنّ الشارع اعتبر صفة القطع على هذا الوجه في

____________________________________

كالاستصحاب ـ مثلا ـ تقوم مقام القطع الطريقي.

وهذا بخلاف القطع الموضوعي (فإنّه تابع لدليل ذلك الحكم ، فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقية للموضوع ـ كالأمثلة المتقدّمة ـ قامت الأمارات والاصول مقامه) كأن يكون لسان الدليل الدال على الحكم : اجتنب عن الخمر المنكشف بالقطع ، ثم قام الدليل على كون هذا القطع المأخوذ في موضوع وجوب الاجتناب عن الخمر طريقيا ، فتقوم الأمارات مقام هذا القسم من القطع الموضوعي.

ثم اعلم أنّ محل الكلام في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي هو قيامها مقامه بنفس الأدلة الدالة على اعتبارها ؛ لأن قيامها مقامه بالدليل الخاص لا كلام فيه ، فيقع الكلام في أنّ الأمارات بنفس الأدلة الدالة على الاعتبار ، هل تقوم مقام القطع أم لا؟

وحينئذ فلا بدّ من البحث عن مفاد أدلة الاعتبار فنقول : الأمارات كلّها فيها طريقية ناقصة ، بمعنى أنّها طريق إلى الواقع مع احتمال مخالفتها له ، فأدلة اعتبارها تلغي هذا الاحتمال ، فنزّلت الأمارات بعد إلغاء احتمال خلافها للواقع بأدلة الاعتبار بمنزلة العلم ، فمعنى كونها حجّة هو عدم الاعتناء باحتمال مخالفتها للواقع ، فيجب العمل على طبقها ، وعلى هذا تقوم مقامه بنفس أدلة الاعتبار.

فلو فرضنا أنّ الشارع حكم بحرمة نفس الخمر ، والمكلّف قطع بخمريّة شيء ، فيكون قطعه هذا طريقيا ، لوجب عليه العمل به ، فإن لم يحصل له القطع بالخمرية ولكن قامت البيّنة عنده عليها ، تقوم هذه البينة مقام القطع إذ الشارع قد جعل لها كشفا تاما ، فيقوم الكشف التام الجعلي مقام الكشف التام الذاتي ، فإن انتفت الأمارة ـ أيضا ـ كالقطع ، ولكن اقتضى الاستصحاب خمريّته فيعمل به ، لأنّ الشارع نزّل مقتضى الاستصحاب منزلة الواقع ، فيقوم ما يحرز به الواقع تعبّدا مقام ما يحرز به الواقع وجدانا.

٢٧

حفظ عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة والاوليين من الرباعيّة ، فإنّ غيره ـ كالظن بأحد الطرفين أو أصالة عدم الزائد ـ لا يقوم مقامه إلّا بدليل خاصّ خارجيّ ، غير أدلّة حجّيّة مطلق الظن في الصلاة وأصالة عدم الأكثر.

ومن هذا الباب عدم جواز أداء الشهادة استنادا إلى البيّنة أو اليد على قول ، وإن جاز تعويل الشاهد في عمل نفسه بهما إجماعا ، لأنّ العلم بالمشهود به مأخوذ في مقام العمل على وجه الطريقيّة ، بخلاف مقام أداء الشهادة ، إلّا أن يثبت من الخارج أنّ كلّ ما يجوز العمل به من الطرق الشرعيّة يجوز الاستناد إليه في الشهادة كما يظهر من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد.

____________________________________

نعم ، الاصول غير المحرزة ، وهي ما حكم الشارع بمجرد العمل على وفقها من دون تنزيل مقتضاها منزلة الواقع كأصالة البراءة والتخيير ، فلا تقوم مقام القطع لأنّ مفاد أدلتها هو مجرد الرخصة ، وعدم المنع لا تنزيلها منزلة الواقع ، بل لا يعقل التنزيل فيها.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الأمارات تقوم مقام مطلق القطع الطريقي سواء كان طريقيا محضا أو مأخوذا في الموضوع على نحو الطريقية ، ولا تقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية لأنّ أدلة اعتبارها لم تجعلها صفة القطع ، فيكون مقتضى الأدلة الدالة على اعتبارها هو قيامها مقام القطع الطريقي مطلقا.

هذا هو المستفاد من كلام المصنف قدس‌سره مقابل من قال بعدم قيام الأمارات مقام القطع مطلقا ، ومن قال بقيامها مقامه مطلقا ، وبجميع أقسامه الأربعة.

حيث قال المصنف قدس‌سره : إن الأمارة لا تقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية (الّا بدليل خاص خارجي) كما إذا دلّ الدليل على جواز قيام الظن مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية فنلتزم به.

(ومن هذا الباب عدم جواز أداء الشهادة استنادا إلى البيّنة أو اليد على قول).

أي : من باب اعتبار صفة القطع في الموضوع عدم جواز أداء الشهادة استنادا إلى البيّنة.

وتوضيح المقصود يحصل بعد تقديم مقدمة وهي : أنّ في باب الشهادة مقامين :

أحدهما : مقام أداء الشهادة.

وثانيهما : مقام عمل الشاهد بقطعه.

٢٨

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لو نذر أحد أن يتصدّق كلّ يوم بدرهم ما دام متيقّنا بحياة ولده ، فانّه

____________________________________

ثم إنّ القطع في المقام الأول قد اخذ في موضوع جواز الشهادة على نحو الصفتية وفي المقام الثاني يكون القطع طريقيا.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك أنّ القطع في المقام الأول لمّا كان مأخوذا في الموضوع على وجه الصفتية لا يجوز للشاهد الاستناد إلى البيّنة ، فلا بدّ له من الاستناد إلى القطع ، فإذا كان قاطعا جاز له أداء الشهادة وإلّا فلا.

نعم ، يجوز له الاستناد إلى البيّنة في المقام الثاني ، وهو مقام العمل بالقطع لأنّ القطع فيه طريقي فتقوم البيّنة مقامه ، كما تقدّم.

(كما يظهر من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد).

وهي من الروايات المشهورة ، رواها حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال له رجل : إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال : (نعم) ، قال الرجل : أشهد أنّه في يده ، ولا أشهد أنّه له ، فلعلّه لغيره ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : (أ فيحلّ الشراء منه؟) قال : نعم ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : (فلعلّه لغيره ، من أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ، ثم تقول بعد الملك : هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك) ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : (ولو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق!) (١).

فالمستفاد من هذه الرواية هو ثبوت التلازم بين جواز العمل وهو الشراء وبين جواز أداء الشهادة ، فدلالة الرواية على جواز الاستناد إلى اليد في الشهادة ممّا لا تخفى ، بل تدل على جواز الاستناد في الشهادة إلى كلّ ما يجوز الاستناد إليه في مقام العمل ، كما يظهر من كلام المصنف قدس‌سره.

وظاهر قول الإمام عليه‌السلام حيث قال : (من أين جاز لك أن تشتريه) هو ثبوت التلازم بين ترتيب أحكام الملك بمقتضى الأمارات الشرعية ، وبين جواز الشهادة من غير اختصاص ذلك باليد ، وإن وقعت موردا للسؤال.

(وممّا ذكرنا يظهر) أي : وممّا ذكرنا من أنّ الأمارات لا تقوم مقام القطع المأخوذ في

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٣٨٧ / ١. الوسائل ٢٧ : ٢٩٢ ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، ب ٢٥ ، ح ٢.

٢٩

لا يجب التصدّق عند الشكّ في الحياة ، لأجل استصحاب الحياة ، بخلاف ما لو علّق النذر بنفس الحياة ، فانّه يكفي في الوجوب الاستصحاب.

ثم إنّ هذا الذي ذكرنا من كون القطع مأخوذا تارة على وجه الطريقيّة وأخرى على وجه الموضوعيّة ، جار في الظنّ أيضا ، فإنّه وإن فارق العلم في كيفيّة الطريقيّة ـ حيث إنّ العلم طريق بنفسه ، والظنّ المعتبر طريق بجعل الشارع ، بمعنى كونه وسطا في ترتّب أحكام متعلّقه ، كما أشرنا اليه سابقا ـ لكنّ الظنّ قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلّقه ، وقد يؤخذ

____________________________________

الموضوع على نحو الصفتية ، يظهر أنّه لو نذر أحد(أن يتصدّق كلّ يوم بدرهم ما دام متيقّنا بحياة ولده) بأن يقول : لله عليّ أن أتصدّق كل يوم درهما ما دمت متيقّنا بحياة ولدي ، فيجب عليه التصدق بما ذكر ، وقد اخذ اليقين في موضوع وجوب التصدّق.

والظاهر أنّ لصفة اليقين دخلا في الحكم ، فيكون القطع وصفيا فلا يجب عليه التصدق عند الشك في الحياة لأجل الاستصحاب ، وذلك لما تقدّم من عدم قيام الاستصحاب مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية.

نعم ، لو علّق الحكم المزبور بنفس الحياة لكان القطع ـ حينئذ ـ طريقيا ، فلازم ذلك أنّه يجب التصدّق ما دام كونه متيقّنا بالحياة بمقتضى القطع والتيقّن ، ويجب التصدّق عليه عند الشك بمقتضى الاستصحاب لقيامه مقام القطع الطريقي.

(ثم إنّ هذا الذي ذكرنا من كون القطع مأخوذا تارة على وجه الطريقيّة وأخرى على وجه الموضوعية) أي : الصفتية (جار في الظن أيضا).

وهذا الكلام من المصنف قدس‌سره إشارة إلى بيان أقسام الظن ، وظاهر كلامه قدس‌سره هو أن حال الظن يكون كحال القطع المأخوذ في الموضوع في كونه على أربعة أقسام ، غاية الأمر بينهما افتراق من جهتين ، وكذلك اشتراك من جهتين.

فيشترك الظن مع القطع :

أولا : في الطريقية ، إذ فيه جهة الطريقية إلى الواقع وإن كانت طريقيّته ناقصة ، وهذا بخلاف الشك حيث ليس فيه جهة الكشف أصلا.

وثانيا : في صحة أخذه موضوعا للحكم الواقعي.

ويفترق عن القطع :

٣٠

موضوعا للحكم ، [سواء كان موضوعا على وجه الطريقيّة لحكم متعلّقه أو لحكم آخر تقوم مقامه سائر الطرق الشرعيّة ، فيقال حينئذ : إنّه حجّة ؛ وقد يؤخذ موضوعا لا على وجه

____________________________________

أولا : من جهة أنّ القطع تكون حجّيته ذاتية لا تنالها يد الجعل نفيا وإثباتا ، وهذا بخلاف الظن حيث تكون حجّيته جعلية.

ثانيا : من جهة أنّ القطع لا يمكن أن يؤخذ في موضوع الحكم الظاهري لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك والقطع رافع له فكيف يمكن أن يؤخذ فيه؟

هذا بخلاف الظن حيث يصح أن يؤخذ موضوعا للحكم الظاهري لأنّ موضوعه هو عدم العلم الشامل للظن ، ثم هذا الحكم الظاهري يمكن أن يكون مطابقا للواقع بأن يكون الحكم الظاهري والواقعي من سنخ الوجوب أو الحرمة ، فحينئذ يكون الظن موضوعا لحكم متعلّقه ، ويمكن أن يكون مخالفا للواقع بأن يكون أحدهما الحرمة والآخر الحلّية ، فحينئذ يكون الظن موضوعا لحكم آخر ، أي : غير متعلّقه.

وقد أشار إلى الأول ـ أي : توافق الحكمين ـ بقوله : (موضوعا على وجه الطريقيّة لحكم متعلّقه).

وإلى الثاني ـ أي : تخالفهما ـ بقوله : (أو لحكم آخر).

اعلم أنّ ما في شرح الاعتمادي أوضح ممّا ذكرنا ، حيث قال في مثال الأول : كوجوب الصلاة إلى مظنون القبلة لو علم من القرائن أن الظن يكون طريقيا ، ثم جعل نفس هذا المثال مثالا لكون الظن وصفيا بالقرينة أو لحكم آخر ، بأن يقول الشارع : إذا ظننت بخمريّة شيء يجب عليك التصدّق ، يكون الظن طريقيا لو علم من القرائن اعتباره كذلك ، أو يكون وصفيا لو علم من الخارج اعتباره كذلك.

(تقوم مقامه سائر الطرق الشرعية).

يعني تقوم سائر الطرق الشرعية مقام الظن اذا اخذ في الموضوع على نحو الطريقية.

(وقد يؤخذ موضوعا لا على وجه الطريقية).

يعني يؤخذ على نحو الصفتية ، فتارة يؤخذ موضوعا لحكم متعلّقه كوجوب الصلاة إلى مظنون القبلة إذا علم من القرائن بأن الظن هنا وصفي ، ويظهر الفرق بين كونه وصفيا أو طريقيا فيما إذا كشف الخلاف ، فتجب الإعادة على الثاني دون الأول ، وقد يؤخذ موضوعا

٣١

الطريقيّة لحكم متعلّقه أو لحكم آخر ولا يطلق عليه الحجّة حينئذ] فلا بدّ من ملاحظة دليل ذلك ثم الحكم بقيام غيره من الطرق المعتبرة مقامه ، لكنّ الغالب فيه الأوّل.

____________________________________

لحكم آخر كوجوب التصدّق فرضا عند الظن بخمرية شيء إذا علم من القرائن أنّ الظن اعتبر على وجه الصفتية ، (ولا يطلق عليه الحجّة حينئذ) لأنّه ليس طريقا لإثبات الحكم ، بل إنّه صفة خاصة كسائر الصفات ، ولا تقوم سائر الطرق الشرعية مقامه.

(فلا بدّ من ملاحظة دليل ذلك).

أي : مطلق الظن المأخوذ في الموضوع ، فإذا استفدنا من الدليل أنّه وصفي لا يطلق عليه الحجّة ، ولا تقوم الطرق الشرعية مقامه ، (لكن الغالب فيه الأول) أي : الغالب في الظن بحكم الاستقراء هو الطريقي.

* * *

٣٢

تنبيهات

وينبغي التنبيه على امور :

الأول : هل القطع حجّة سواء صادف الواقع أم لم يصادف؟

إنّه قد عرفت أنّ القاطع لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد من الأدلّة المثبتة لأحكام مقطوعه ، فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها فيقطع بالنتيجة ، فإذا قطع بكون شيء خمرا وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة ، فيقطع بحرمة ذلك الشيء.

____________________________________

(وينبغي التنبيه على امور).

وقبل البحث عن التجرّي لا بدّ من ذكر أمرين :

الأمر الأول : أن بحث التجرّي هل هو من المسائل الاصولية أو من المسائل الكلامية ، أو من المسائل الفقهية؟

الأمر الثاني : هو بيان الفرق بين التجرّي والمعصية وكذلك بين الانقياد والإطاعة.

أمّا الأمر الأول ، فنقول : إنّ مسألة التجرّي يمكن أن تكون من المسائل الكلامية ، فيبحث فيها عن استحقاق المتجرّي للعقاب وعدم استحقاقه له ، ويمكن أن تكون من المسائل الفقهية ، فيبحث فيها عن أنّ الفعل المتجرّى به هل يكون محرّما أم لا؟

ويمكن أن تجعل من المسائل الاصولية ، فيبحث فيها عن أن التجرّي هل يوجب قبح الفعل المتجرّى به فيترتّب عليه الحكم بالحرمة ، فتقع في طريق استنباط الحكم الشرعي فتكون من المسائل الاصولية؟

أمّا الأمر الثاني ، فنقول : إنّ التجرّي لغة هو أعمّ من المعصية لأنّه عبارة عن الطغيان والتمرد الشامل للعصيان ، وكذلك يكون الانقياد أعمّ من الإطاعة ، هذا بحسب اللغة.

وأمّا بحسب الاصطلاح الاصولي يكون التجرّي مباينا للعصيان ، وهكذا يكون الانقياد مباينا للإطاعة ، وذلك أنّ التجرّي عند الاصوليين هو مخالفة القطع غير المصادف للواقع ، أو مخالفة مطلق الحجّة غير المصادف للواقع ، والمعصية تكون بالعكس ، وكذلك بالنسبة إلى الانقياد والإطاعة ، فالأول هو موافقة القطع غير المصادف للواقع. والثاني بالعكس.

٣٣

لكنّ الكلام في أنّ قطعه هذا هل هو حجّة عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع في علم الله فيعاقب على مخالفته ، أو أنّه حجّة عليه إذا صادف الواقع؟ بمعنى أنّه لو شرب الخمر الواقعيّ عالما عوقب عليه ، في مقابل من شربها جاهلا ، لا أنّه يعاقب على شرب ما قطع بكونه خمرا وإن لم يكن خمرا في الواقع.

ظاهر كلماتهم في بعض المقامات الاتّفاق على الأوّل ، كما يظهر من دعوى جماعة

____________________________________

هذا تمام الكلام في الأمرين.

فيقع الكلام في تحرير ما هو محل النزاع في المقام.

والظاهر هو عدم الخلاف في حجّية القطع ، بمعنى صحة الاحتجاج من المكلّف على الشارع في مورد الإطاعة والانقياد ، ومن الشارع على المكلّف في مورد المعصية ، وإنّما النزاع في حجّية القطع للشارع على المكلّف فيما إذا خالفه وكان مخالفا للواقع ، هل يكون قطعه هذا حجّة حتى يعاقب على المخالفة أم ليس بحجّة؟ فيكون معنى الحجّة في قوله رحمه‌الله (في أنّ قطعه هذا هل هو حجّة عليه من الشارع؟) أنّه كان للشارع أن يحتج به عليه ، ويعاقبه عند مخالفته لقطعه وإن كان جهلا مركبا. وفيه وجوه وأقوال :

قال المصنّف رحمه‌الله : إنّ التجرّي لا يقتضي شيئا سوى الكشف عن سوء سريرة الفاعل وخبث باطنه الذي لا يترتب عليه سوى اللوم ، كالبخل والحسد ونحوهما من الأوصاف المذمومة التي لا يترتب عليها استحقاق العقوبة ما لم تظهر في الخارج ، مع بقاء العمل المتجرّى به على ما هو عليه من الحكم قبل تعلّق القطع به.

وقيل : باقتضاء التجرّي لاستحقاق العقوبة على مجرد العزم على العصيان محضا ، لا على الفعل المتجرّى به نظرا إلى أنّ التجرّي من المحرمات الجنانية لا الجوارحية كما في الكفاية.

وقيل : باقتضائه لاستحقاق العقوبة على نفس التجرّي ، أعني : الفعل المتجرّى به لا على العزم من جهة انطباق عنوان الطغيان عليه.

والمحصّل في محل النزاع أن التجرّي هل يوجب استحقاق العقوبة أم لا؟

اختار المصنف رحمه‌الله الاحتمال الثاني ، واختار كثير من الأصحاب الاحتمال الأول ، كما أشار إليه بقوله :

٣٤

الإجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت ، فإنّ تعبيرهم بظنّ الضيق لبيان أدنى فردي الرجحان ، فيشمل القطع بالضيق.

نعم ، حكي عن النهاية وشيخنا البهائي التوقف في العصيان ، بل في التذكرة : «لو ظنّ ضيق الوقت عصى لو أخّر إن استمرّ الظنّ ، وإن انكشف خلافه فالوجه عدم العصيان» انتهى.

واستقرب العدم سيّد مشايخنا في المفاتيح ، وكذا لا خلاف بينهم ظاهرا في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم

____________________________________

(ظاهر كلماتهم في بعض المقامات الاتّفاق على الأول) أي : حجّية القطع مطلقا وإن كان مخالفا للواقع ، وذكروا في توجيه ذلك وجوها :

منها : إنّ مناط استحقاق العقوبة هو إظهار التمرد والطغيان على المولى وهتك حرمته ، فمن قطع بخمرية مائع فشربه عدّ عاصيا لانطباق تلك العناوين عليه ، فاستحقاق العقاب ليس لأجل المصادفة في مورد المعصية بل لأجل انطباق العناوين المذكورة.

ومنها : ما ذكره المصنّف رحمه‌الله حيث قال : (الاتّفاق على الأول) وهذا الاتفاق الذي ذكره الاصوليون في مقام آخر يكون دليلا على المقام بالأولوية ، وذلك من اعتقد ظنا بأنّه لم يبق من الوقت الّا مقدار أداء الصلاة الواجبة يجب عليه العمل بالظن ، فلو خالفه وأخّرها عدّ عاصيا بالإجماع ، صادف اعتقاده الواقع أو لم يصادف بأن انكشف بقاء الوقت ، وليس هذا الّا لكونه حجّة مطلقا ، فإذا ثبت بهذا الإجماع حجّية الظن مطلقا تثبت حجّية القطع كذلك بطريق أولى ، لأنّه يكون أقوى من الظن ، فإذا كانت مخالفة الظن مطلقا موجبة للعقاب كانت مخالفة القطع توجب استحقاق العقوبة بطريق أولى.

(نعم ، حكي عن النهاية) هذا من المصنّف رحمه‌الله ردّ للإجماع لوجود المخالف في المسألة.

ومنها : ما ذكره رحمه‌الله بقوله : (وكذا لا خلاف بينهم ظاهرا ... إلى آخره).

هذا هو الاتفاق الثاني الذي يدل على المقام بطريق أولى.

وبيان ذلك : إنّ الفقهاء حكموا بأنّ من سلك طريقا مظنون الضرر يجب عليه إتمام الصلاة لكون سفره سفر معصية ولو انكشف عدم الضرر ، وهذا لا يتمّ إلّا بناء على حرمة

٣٥

الضرر فيه ، فتأمّل ، ويؤيّده بناء العقلاء على الاستحقاق وحكم العقل بقبح التجرّي.

وقد يقرّر دلالة العقل على ذلك : بأنّا إذا فرضنا شخصين قاطعين بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا ، وقطع الآخر بكون مائع آخر خمرا فشرباهما ، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر ، فأمّا أن يستحقّا العقاب ، أو لا يستحقّه أحدهما ، أو يستحقّه من

____________________________________

التجرّي ، كمسألة ظن ضيق الوقت ، فتكون حرمة التجرّي في مورد القطع بطريق أولى.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى خروج هذا الظن عمّا نحن فيه لأنّ الظن في هذا المورد موضوعي وبحثنا في القطع الطريقي.

ومنها : (ويؤيّده بناء العقلاء).

يعني : يؤيّد الإجماع بناء العقلاء على استحقاق المتجرّي للعقاب والمذمّة ، فحكم العقلاء باستحقاق العقاب لمن خالف قطعه دليل على حجّية هذا القطع.

(وحكم العقل بقبح التجرّي).

يعني ومنها : حكم العقل بقبح التجرّي ، فإذا كان التجرّي قبيحا كان المتجرّي مستحقا للعقاب ، وليس هذا إلّا لأجل حجّية القطع المخالف للواقع ، إذ العقاب على مخالفة ما ليس بحجّة قبيح جزما.

الفرق بين بناء العقلاء ، وحكم العقل هو أنّ الأول حكم اجتماعي ، والثاني حكم انفرادي ، بمعنى : إنّ كل عاقل يحكم بمقتضى عقله مع قطع النظر عن حكم سائر العقلاء ، ويمكن الفرق بينهما بالإجمال والتفصيل حيث إنّ في حكم العقل لا بدّ أن يكون عنوان حكمه ومنشؤه معلوما ، إذ من المحال أن يحكم حاكم ـ عقلا أو شرعا ـ بشيء لا يعلم مدركه وعنوانه ، هذا بخلاف بناء العقلاء فإنّه فيه الكشف من حكم العقل إجمالا ، وأمّا ملاكه ما ذا؟ فليس بمعلوم.

(وقد يقرّر دلالة العقل على ذلك ... إلى آخره).

قال رحمه‌الله : إذا فرضنا شخصين قاطعين ، بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا ، وقطع الآخر بكون مائع آخر خمرا ، فشرباهما ، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع ، ومخالفة الآخر له ، فأمّا أن يستحقّا العقاب أو لا يستحقّاه كلاهما ، أو يستحقّه من صادف قطعه الواقع وهو شارب الخمر دون الآخر الذي هو شارب الخل مثلا.

٣٦

صادف قطعه الواقع دون الآخر ، أو العكس. لا سبيل إلى الثاني والرابع ، والثالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، وهو مناف لما يقتضيه العدل ، فتعيّن الأوّل.

ويمكن الخدشة في الكلّ :

____________________________________

(أو العكس) أي : يستحقه من لم يصادف قطعه الواقع ، ولا يستحقه من يصادف قطعه الواقع.

(لا سبيل إلى الثاني) عقلا وهو عدم استحقاقهما ، لأنّ معناه أنّ العاصي لا يعاقب ، وعدم استحقاق من يشرب الخمر للعقاب مخالف لضرورة من ضروريات الدين ، بل هو تشجيع للعاصي على عصيانه فينفتح باب المعاصي لكل المكلّفين.

وكذا لا سبيل إلى (الرابع) وهو عدم استحقاق العقاب لمن شرب الخمر ، واستحقاقه لمن شرب المائع باعتقاد أنّه خمر لأنّه مستلزم لعقاب غير العاصي وعدم عقاب العاصي ، وهذا مضافا إلى كونه مخالفا لضروريات الدين وتشجيعا للعاصي ومنافيا لمقتضى العدل والحكمة يكون ترجيحا للمرجوح ـ وهو عدم المصادفة ـ على الراجح وهو المصادفة.

(والثالث) هو استحقاق من صادف قطعه الواقع للعقاب دون من لم يصادف قطعه الواقع ، وهذا باطل أيضا ، لاستلزامه العقاب بما هو خارج عن القدرة والاختيار وهو المصادفة ، والعقاب بأمر غير اختياري قبيح ومناف لمقتضى العدل ، وهو لا يصدر من عاقل فضلا عن الشارع الحكيم ، فالمتعيّن هو الأول وهو أنّ كليهما يستحق العقاب ، فثبت أنّ التجرّي يوجب العقاب ، فيكون القطع المخالف للواقع حجّة.

(ويمكن الخدشة في الكل).

نقول : أمّا الاشكال في مسألة ظن ضيق الوقت ، ومسألة سلوك الطريق المظنون الخطر اللتين أدّعي عليهما الاجماع ، فهما ليستا من موارد التجرّي.

أمّا الاولى : فلأنّ خوف الضيق يكون تمام الموضوع لوجوب الاتيان بالواجب فورا فلا يتصوّر الخلاف ليكون من باب التجرّي ، فيخرج عن مبحث التجرّي.

وأمّا الثانية : فلأن حكمهم بوجوب الاتمام لمن ظن الخطر في الطريق مبنيّ على وجوب دفع الضرر عقلا ظنيا كان الضرر أو قطعيا ، لأنّ إلقاء النفس فيما لا يؤمن من ضرره قبيح

٣٧

أمّا الإجماع فالمحصّل منه غير حاصل ، والمسألة عقليّة خصوصا مع مخالفة غير واحد ، كما عرفت من النهاية وستعرف من قواعد الشهيد قدس‌سره ، والمنقول منه ليس حجّة في المقام.

وأمّا بناء العقلاء فلو سلّم فإنّما هو على مذمّة الشخص من حيث أنّ هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه ، لا على نفس فعله ، كمن انكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر على قتل سيّده لقتله ، فإنّ المذمّة على المنكشف ، لا الكاشف.

____________________________________

عقلا ، وعليه فلا يتصوّر هنا انكشاف الخلاف ، اذ عدم الأمن من الضرر يكون تمام الموضوع فلا يكون من باب التجرّي أصلا.

(أمّا الإجماع فالمحصّل منه) أي : من الإجماع الذي هو اتّفاق الكل أو جماعة من العلماء بحيث يكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام فمردود من وجوه :

الأول : أنّه غير حجّة لمخالفة كثير من الأصحاب كما تقدم منه قدس‌سره.

والثاني : أن (المسألة عقلية) ودعوى الإجماع في المسألة العقلية غير مجدية لعدم كشفه عن رضا المعصوم عليه‌السلام.

والثالث : أن الإجماع المحصّل لم يحصل ، ويمكن ارجاع الوجه الثالث إلى الأول ، فلا يكون وجها مستقلّا.

(والمنقول منه ليس حجّة في المقام) وذلك بعين ملاك المنع في الإجماع المحصّل ، وهو أنّه لا يكشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام في المسألة العقلية ، فإذا كان المحصّل مردودا كان المنقول منه غير حجّة بطريق أولى.

(وأمّا بناء العقلاء).

يعني : وأمّا الإشكال في بناء العقلاء ، فنمنع ولا نسلّم ثبوت بناء العقلاء على الاستحقاق والمذمّة ، ولو سلّم فإنّما تكون المذمّة في المنكشف ، أي : سوء السريرة ، لا الكاشف الذي هو الفعل ، فيذمّ العقلاء على أنّه شقي لا على أنّه أتى بما هو محرم ، فذمّهم يرجع إلى الفاعل لا إلى الفعل الخارجي الذي هو في الواقع يكون شرب الخل ، فنفس الفعل لا يكون موردا للذم ولا يكون محرما.

والحاصل أنّ محل الخلاف هو الحكم بحرمة هذا الفعل الذي اعتقد حرمته ، وليس محرما في الواقع ، وأمّا مجرد كشف هذا الفعل عن خبث سريرة فاعله وفساد طينته فلا

٣٨

ومن هنا يظهر الجواب عن قبح التجرّي ، فإنّه لكشف ما تجرّى به عن خبث الفاعل لكونه جريئا عازما على العصيان والتمرّد ، لا عن كون الفعل مبغوضا للمولى.

والحاصل أنّ الكلام في كون هذا الفعل ـ غير المنهي عنه واقعا ـ مبغوضا للمولى من حيث تعلّق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضا ، لا في أنّ هذا الفعل المنهي عنه باعتقاده ينبئ عن سوء سريرة العبد مع سيّده وكونه جريئا في مقام الطغيان والمعصية وعازما عليه ، فإنّ هذا غير منكر في هذا المقام ـ كما سيجيء ـ ولكن لا يجدي في كون الفعل محرّما شرعيّا ، لأنّ استحقاق المذمّة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل.

ومن المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل لا بالفاعل.

وأمّا ما ذكر من الدليل العقليّ فنلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع ، لأنّه عصى

____________________________________

خلاف فيه ظاهرا.

والسريرة : قد تطلق على السجية والجبلّة ، وقد تطلق على النيات الباطنية والامور الخفية.

وفي مجمع البحرين : السرائر ما أسرّ في القلوب ، والعقائد والنيات وغيرها وما خفى من الأعمال.

(ومن هنا يظهر الجواب عن قبح التجرّي).

فإنّه قبيح لكشف ما تجرّى به عن خبث الفاعل وعن كونه شقيّا لكونه جريئا وعازما على العصيان والتمرد ، وليس حكم العقل على القبح من جهة كون الفعل مبغوضا للمولى لأنّ شرب الخل ليس مبغوضا للمولى.

والحاصل أنّ التجرّي فيه جهتان :

الاولى : أنّ التجرّي كاشف عن سوء سريرة الفاعل ، ولا خلاف في هذه الجهة.

الثانية : أنّ التجرّي يوجب قبح الفعل المتجرّى به ، فيكون محرما شرعا.

فالنزاع في الجهة الثانية بمعنى أنّ التجرّي هل يوجب قبح الفعل ليكون حراما أم لا؟

المصنّف رحمه‌الله يقول ليس فيه قبح فعلي بل فيه قبح فاعلي ، والقبح الفاعلي لا يستلزم الحرمة الشرعية.

٣٩

اختيارا ، دون من لم يصادف.

قولك : «إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار» ممنوع ، فإنّ العقاب بما لا يرجع بالآخرة إلى الاختيار قبيح ، إلّا أنّ عدم العقاب لأمر

____________________________________

(وأمّا ما ذكر من الدليل العقلي ... إلى آخره).

اختار المصنّف رحمه‌الله التفصيل بين المصادف وغيره ، ويقول باستحقاق الأول دون الثاني ، وذلك لأنّ من صادف قطعه الواقع قد عصى اختيارا ، إذ الفعل الاختياري ما يكون مسبوقا بالإرادة ، وشرب الخمر في المقام يكون كذلك ، فيكون اختياريا ، فيقع العقاب عليه ، ومن لم يصادف قطعه الواقع لم يكن مستحقا للعقاب لأنّه لم يشرب الخمر.

(قولك : «إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار» ممنوع).

أي : لا يحسن ، بل يحسن أن يناط عدم العقاب بما هو خارج عن الاختيار لأن عدم العقاب بأمر غير اختياري لا قبح فيه ، كما هو المستفاد من الأخبار.

نعم ، العقاب بما لا يكون اختياريا ، أو بما لا يرجع بالآخرة إلى أمر اختياري لا يحسن بل يكون قبيحا ، فعدم العقاب في المقام وإن كان منوطا بأمر خارج عن الاختيار ـ وهو عدم المصادفة أو شرب الخل ، إذ المكلّف أراد شرب الخمر فشرب الخل ـ لم يكن مسبوقا بالإرادة فيكون غير اختياري ، ولكن عدم العقاب على أمر غير اختياري أو ما لم يرجع بالآخرة إلى الاختيار ليس قبيحا ، بل قبحه ممنوع عند المشهور.

والعقاب في المقام لم يكن على أمر غير اختياري بل يكون على أمر اختياري ، وهو شرب الخمر ، أو على أمر يرجع بالآخرة إلى الاختيار ، وهو المصادفة ، ولا شبهة في استحقاق العقاب على أمر يرجع بالآخرة إلى الاختيار.

ويمكن أن نجعل (ممنوع) في قول المصنف خبرا لقوله : (قولك) أي : وقولك إنّ التفاوت ... ممنوع ، بل التفاوت بالاستحقاق والعدم يحسن أن يكون منوطا بما هو خارج عن الاختيار ، لأن ما هو خارج عن الاختيار على قسمين :

الأول : ما لا يرجع بالآخرة إلى الاختيار ، والعقاب على هذا القسم قبيح.

والثاني : ما يرجع بالآخرة إلى الاختيار فلا يكون العقاب عليه قبيحا.

٤٠