الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

الشيخ علي المشكيني

الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٥

مثلا دليلا علميا كان واردا على الاصل المذكور فالعمل بالنص القطعى فى مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمى فى مقابل الاصل العملى وان كان المخصص ظنيا معتبرا كان حاكما على الاصل لان معنى حجية الظن جعل احتمال مخالفة مؤداه للواقع بمنزلة العدم فى عدم ترتب ما كان يترتب عليه من الاثر لو لا حجية هذه الامارة وهو وجوب العمل بالعموم عند احتمال وجود المخصص وعدمه فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص الغاء للعمل بالعموم فثبت ان النص وارد على اصالة الحقيقة اذا كان قطعيا من جميع الجهات وحاكم عليه اذا كان ظنيا فى الجملة كالخاص الظنى السند مثلا ويحتمل ان يكون الظن ايضا واردا بناء على كون العمل بالظاهر عرفا وشرعا معلقا على عدم التعبد بالتخصيص فحالها حال الاصول العقلية فتامل.

هذا كله على تقدير كون اصالة الظهور من حيث اصالة عدم القرينة واما اذا كان من جهة الظن النوعى الحاصل بارادة الحقيقة الحاصل من الغلبة او من غيرها فالظاهر ان النص وارد عليها مطلقا وان كان النص ظنيا لان الظاهر ان دليل حجية الظن الحاصل بارادة الحقيقة الذى هو مستند اصالة الظهور مقيد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه فاذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل نظير ارتفاع موضوع الاصل بالدليل.

__________________

ـ العموم اذ ينتفى بذلك الشك الذى هو موضوع اصالة العموم بالوجدان وإن كان ظنى السند كان معنى وجوب تصديق العادل الغاء احتمال بقاء الفرد تحت العام فينتفى موضوع اصالة العموم تعبدا وهو معنى الحكومة ، وقوله على عدم التعبد : اى لا على عدم ورود القرينة واقعا فانه لو كان المناط عدم التعبد فبمجرد ورود الظن الذى ثبت التعبد به ينتفى موضوع اصالة العموم وجدانا ، وهذا بخلاف ما كان موضوعها عدم القرينة واقعا فان التعبد بالظن لا ينفى الواقع إلّا تعبدا ، وقوله فالظاهر ان النص : اى قطعى الدلالة وإن كان ظنى السند (شرح)

٤٦١

ويكشف عما ذكرنا انا لم نجد ولا نجد من انفسنا موردا يقدم فيه العام من حيث هو على الخاص وان فرض كونه اضعف الظنون المعتبرة فلو كان حجية ظهور العام غير معلق على عدم الظن المعتبر على خلافه لوجد مورد نقرض فيه اضعفية مرتبة ظن الخاص من ظن العام حتى يقدم عليه او مكافئته له حتى يتوقف مع انا لم نسمع موردا يتوقف فى مقابلة العام من حيث هو والخاص فضلا عن ان يرجح عليه نعم لو فرض (١) الخاص ظاهرا ايضا خرج عن النص وصار من باب تعارض الظاهرين فربما يقدم العام.

ثم ان التعارض على ما عرفت من تعريفه لا يكون فى الادلة القطعية لان حجيتها انما هى من حيث صفة القطع والقطع بالمتنافيين او باحدهما مع الظن بالآخر غير ممكن ومنه يعلم عدم وقوع التعارض بين الدليلين يكون حجيتهما باعتبار صفة الظن الفعلى لان اجتماع الظنيين بالمتنافيين محال فاذا تعارض سببان للظن الفعلى فان بقى الظن فى احدهما فهو المعتبر وإلّا تساقطا وقولهم ان التعارض لا يكون إلّا فى الظنين يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث افادة نوعهما الظن

__________________

١ ـ حاصل اقسام الخاص فى جميع ما ذكره ان الخاص اما ان يكون نصا قطعى الدلالة او يكون ظاهرا ظنى الدلالة وعلى الاول إن كان قطعى السند كان واردا على العام وإن كان ظنيا كان حاكما وإن كان ظاهرا سواء كان قطعى السند او ظنية يحصل التعارض بين ظهوره وظهور العام فقد يتساوى الظهور ان فيحصل الاجمال وقد يترجح احدهما على الآخر فيعمل على الظاهر والاظهر ، والمصنف ره قد تعرض لقسمى الظاهر عند بيان الفرق بين المخصص والحاكم آنفا ، ثم ان هذه الاقسام جارية فى جميع موارد اصالة الحقيقة مع ما يعارضها مما يصلح للقرينية ولا يختص بدليلين كان بين موضوعيها عموم مطلق ويسميان بالعام والخاص فعلم ان اطلاق الخاص والعام بلحاظ النسبة الخاصة بين موضوعيهما واما بالقياس الى دلالتهما فقد يتحقق الورود وقد يتحقق الحكومة وقد يكونان مجملين وقد يكون احدهما اظهر من الآخر فتدبر (شرح)

٤٦٢

وانما اطلقوا القول فى ذلك لان اغلب الامارات بل جميعها عند جل العلماء بل ما عدا جمع ممن قارب عصرنا معتبرة من هذه الحيثية لا لافادة الظن الفعلى بحيث يناط الاعتبار به.

اذا عرفت ما ذكرنا فاعلم ان الكلام فى احكام التعارض يقع فى مقامين لان المتعارضين اما ان يكون لاحدهما مرجح على الآخر واما ان لا يكون بل يكونان متعادلين متكافئين وقبل الشروع فى بيان حكمهما لا بد من الكلام فى القضية المشهورة وهى ان الجمع بين الدليلين مهما امكن اولى من الطرح والمراد بالطرح على الظاهر المصرح به فى كلام بعضهم وفى معقد اجماع بعض آخر اعم من طرح احدهما لمرجح فى الآخر فيكون الجمع مع التعادل اولى من التخيير ومع وجود المرجح اولى من الترجيح.

قال الشيخ ابن ابى جمهور الاحسائى فى غوالى اللئالى على ما حكى عنه ان كل حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك اولا البحث عن معناهما وكيفية دلالة الفاظهما فان امكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات فاحرص عليه واجتهد فى تحصيله فان العمل بالدليلين مهما امكن خير من ترك احدهما وتعطيله باجماع العلماء فاذا لم تتمكن من ذلك ولم يظهر لك وجه فارجع الى العمل بهذا الحديث واشار بهذا الى مقبولة عمر بن حنظلة انتهى واستدل عليه بان الاصل فى الدليلين الاعمال فيجب الجمع بينهما مهما امكن لاستحالة الترجيح من غير مرجح.

ولا يخفى ان العمل بهذه القضية على ظاهرها يوجب سد باب الترجيح والهرج فى الفقه كما لا يخفى ولا دليل عليه بل الدليل على خلافه من الاجماع والنص اما عدم الدليل فلان ما ذكر من ان الاصل فى الدليل الاعمال مسلم ، لكن المفروض عدم امكانه فى المقام فان العمل بقوله عليه‌السلام ثمن العذرة سحت

٤٦٣

وقوله لا باس ببيع العذرة على ظاهرهما غير ممكن وإلّا لم يكونا متعارضين واخراجهما عن ظاهرهما بحمل الاولى على عذرة غير مأكول اللحم والثانى على عذرة مأكول اللحم ليس عملا بهما اذ كما يجب مراعات السند فى الرواية والتعبد بصدورها اذا اجتمعت شرائط الحجية كذلك يجب التعبد بارادة المتكلم ظاهر الكلام المفروض وجوب التعبد بصدوره اذا لم يكن هنا قرينة صارفة ولا ريب ان التعبد (١) بصدور احدهما المعين اذا كان هناك مرجح والمتخير اذا لم يكن ؛ ثابت على تقدير الجمع وعدمه فيدور الامر بين عدم التعبد بصدور ما عد الواحد المتفق على التعبد به وبين عدم التعبد بظاهر الواحد المتفق على التعبد به ولا اولوية للثانى.

ومما ذكرنا يظهر (٢) فساد توهم انه اذا علمنا بدليل حجية الامارة فيهما وقلنا بان الخبرين معتبر ان سندا فيصير ان كمقطوعى الصدور ولا اشكال ولا خلاف فى انه اذا وقع التعارض بين ظاهرى مقطوعى الظهور كآيتين او متواترين وجب تأويلهما والعمل بخلاف ظاهرهما فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم قرينة صارفة

__________________

١ ـ حاصله انه بعد ملاحظة انه كما يجب العمل باخبار الآحاد من حيث السند يجب العمل بها ايضا من حيث الدلالة ففى مورد التعارض لا يمكن العمل بهما من جميع الجهات بل الممكن اما الاخذ باحدهما وطرح الآخر بالكلية كما هو المشهور واما الاخذ بسندهما وطرح ظاهرهما كما هو مقتضى الجمع المدعى ، والثانى ليس باولى من الاول لان التعبد بسند احدهما يقينى للزومه على كلا القولين وكذا طرح ظاهر احدهما وهو ظاهر غير المتعبد بصدوره ففى ترجيح اى من القولين لا بد من ارتكاب التأويل ، اما فى الاول ففى ترك سند الذى تعين طرح ظاهره واما فى الثانى ففى طرح ظاهر الذى تعين اخذ سنده فعلم انه لا دليل على ذلك القول (شرح)

٢ ـ شروع فى رد جملة من الاعتراضات التى اوردوها على منع الاولوية فمنها قياس المورد على ظاهرين قطعيى الصدور (م ق)

٤٦٤

لتأويل كل من الظاهرين.

وتوضيح الفرق وفساد القياس ان وجوب التعبد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور بل القطع قرينة على ارادة خلاف الظاهر وفيما نحن فيه يكون وجوب التعبد بالظاهر مزاحما لوجوب التعبد بالسند وبعبارة اخرى العمل بمقتضى ادلة اعتبار السند والظاهر بمعنى الحكم بصدورهما وارادة ظاهرهما غير ممكن والممكن من هذه الامور الاربعة اثنان لا غير اما الاخذ بالسندين واما الاخذ بظاهر وسند من احدهما فالسند الواحد منهما متيقن الاخذ به وطرح احد الظاهرين وهو ظاهر الآخر الغير المتيقن الاخذ بسنده ليس مخالفا للاصل لان المخالف للاصل ارتكاب التأويل فى الكلام بعد الفراغ عن التعبد بصدوره فيدور الامر بين مخالفة احد اصلين اما مخالفة دليل التعبد بالصدور فى غير المتيقن التعبد واما مخالفة الظاهر فى متيقن التعبد واحدهما ليس حاكما على الآخر لان الشك فيهما مسبب عن ثالث فيتعارضان.

ومنه يظهر فساد قياس ذلك بالنص الظنى السند (١) مع الظاهر حيث يوجب الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر لا سند النص توضيحه ان سند الظاهر لا يزاحم سند النص ولا دلالته واما سند النص ودلالته فانما يزاحمان ظاهره لا سنده وهما حاكمان على ظهوره لان من آثار التعبد به رفع اليد عن ذلك الظهور لان الشك فيه مسبب عن الشك فى التعبد بالنص.

واضعف مما ذكر (٢) توهم قياس ذلك بما اذا كان خبر بلا معارض لكن

__________________

١ ـ اى بالعام والخاص مثلا حيث يؤخذ سند الخاص ويطرح ظاهر العام والجواب عنه ما قدمناه من ان الشك فى اصالة العموم مسبب عن الشك فى التعبد بالخاص فصار حاكما على ذلك الاصل (شرح)

٢ ـ وجه الاضعفية انه اذا كان النص الظنى السند حاكما على الظاهر كما فى الخاص والعام فحكومة الاجماع او وروده اولى (م ق)

٤٦٥

ظاهره مخالف للاجماع فانه يحكم بمقتضى اعتبار سنده بارادة خلاف الظاهر من مدلوله لكن لا دوران هناك بين طرح السند والعمل بالظاهر وبين العكس اذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبق مورد للعمل بظاهره بخلاف ما نحن فيه فانا اذا طرحنا سند احد الخبرين امكننا العمل بظاهر الآخر ولا مرجح لعكس ذلك.

بل الظاهر هو الطرح (١) لان المرجع والمحكم فى الامكان الذى قيد به وجوب العمل بالخبرين هو العرف ولا شك فى حكم العرف واهل اللسان بعدم امكان العمل بقوله اكرم العلماء ولا تكرم العلماء ، نعم لو فرض علمهم بصدور كليهما حملوا الامر بالعمل بهما على ارادة ما يعم العمل بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف ولاجل ما ذكرنا وقع من جماعة من اجلاء الرواة السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين مع ما هو مركوز فى ذهن كل احد من ان كل دليل شرعى يجب العمل به مهما امكن فلو لم يفهموا عدم الامكان فى المتعارضين لم يبق وجه للتحير الموجب للسؤال مع انه لم يقع الجواب فى شيء من تلك الاخبار العلاجية بوجوب الجمع بتاويلهما معا وحمل مورد السؤال على صورة تعذر تأويلهما ولو بعيدا تقييد بفرد غير واقع فى الاخبار المتعارضة وهذا دليل آخر على عدم كلية هذه القاعدة.

هذا كله مضاما الى مخالفتها للاجماع فان علماء الاسلام من زمن الصحابة الى يومنا هذا لم يزالوا يستعملون المرجحات فى الاخبار المتعارضة بظواهرها ثم اختيار احدهما وطرح الآخر من دون تأويلهما معا لاجل الجمع واما ما تقدم من غوالى اللئالى فليس نصا بل ولا ظاهرا فى دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على التخيير والترجيح فان الظاهر من الامكان فى قوله وان امكنك التوفيق بينهما هو الامكان العرفى فى مقابل الامتناع العرفى بحكم اهل اللسان فان حمل اللفظ على

__________________

١ ـ هذا شروع فى بيان مخالفة القضية المشهورة اعنى اولوية الجمع من الطرح للنص والاخبار العلاجية وللاجماع (م ق)

٤٦٦

خلاف ظاهره بلا قرينة غير ممكن عند اهل اللسان بخلاف حمل العام والمطلق على الخاص والمقيد ويؤيده قوله اخيرا فاذا لم تتمكن من ذلك ولم يظهر لك وجهه فارجع الى العمل بهذا الحديث فان مورد عدم التمكن نادر جدا وبالجملة فلا يظن بصاحب الغوالى ولا بمن دونه ان يقتصر فى الترجيح على موارد لا يمكن تاويل كليهما فضلا عن دعواه الاجماع على ذلك.

والتحقيق الذى عليه اهله ان الجمع بين الخبرين المتنافيين بظاهرهما على اقسام ثلاثة احدها ما يكون متوقفا على تأويلهما معا (١) والثانى ما يتوقف على تأويل احدهما المعين والثالث ما يتوقف على تأويل احدهما لا بعينه اما الاول فهو الذى تقدم انه مخالف للدليل والنص والاجماع واما الثانى فهو تعارض النص والظاهر الذى تقدم انه ليس بتعارض فى الحقيقة واما الثالث فمن امثلته العام والخاص من وجه حيث يحصل الجمع بتخصيص احدهما مع بقاء الآخر على ظاهره ومثل قوله اغتسل يوم الجمعة بناء على ان ظاهر الصيغة الوجوب وقوله ينبغى غسل الجمعة بناء على ظهور هذه المادة فى الاستحباب فان الجمع يحصل برفع اليد عن ظاهر احدهما.

و (ح) فان كان لاحد الظاهرين مزية وقوة على الآخر بحيث لو اجتمعا فى كلام واحد نحو رايت اسدا يرمى او اتصلا فى كلامين لمتكلم واحد تعين العمل بالاظهر وصرف الظاهر الى ما لا يخالفه كان حكم هذا حكم القسم الثانى فى انه اذا تعبد بصدور الاظهر يصير قرينة صارفة للظاهر من دون عكس نعم الفرق بينه وبين القسم الثانى ان التعبد بصدور النص لا يمكن إلّا بكونه صارفا عن الظاهر ولا معنى له غير ذلك ولذا ذكرنا دوران الامر فيه بين طرح دلالة الظاهر وطرح

__________________

١ ـ ففى مثال : بيع العذرة سحت ولا بأس ببيع العذرة قد حمل الاول على عذرة غير الماكول والثانى على عذرة الماكول قوله والثانى ما يتوقف : كالعام والخاص والمطلق والمقيد (شرح)

٤٦٧

سند النص وفيما نحن فيه يمكن التعبد بصدور الاظهر وابقاء الظاهر على حاله وصرف الاظهر لان كلا من الظهورين مستند الى اصالة الحقيقة إلّا ان العرف يرجحون احد الظهورين على الآخر فالتعارض موجود والترجيح بالعرف بخلاف النص والظاهر.

واما لو لم يكن لاحد الظاهرين مزية على الآخر فالظاهر ان الدليل فى الجمع وهو ترجيح التعبد بالصدور على اصالة الظهور غير جار هنا فانه لا محصل للعمل بهما على ان يكونا مجملين ويرجع الى الاصل الموافق لاحدهما ويؤيد ذلك بل يدل عليه ان الظاهر من العرف دخول هذا القسم فى الاخبار العلاجية الآمرة بالرجوع الى المرجحات واللازم (ح) بعد فقد المرجحات التخيير بينهما كما هو صريح تلك الاخبار.

وقد يفصل بين ما اذا كان لكل من الظاهرين مورد سليم عن المعارض كالعامين من وجه حيث ان مادة الافتراق فى كل منهما سليم عن المعارض وبين غيره كقوله اغتسل للجمعة وينبغى غسل الجمعة فيرجح الجمع على الطرح فى الاول لوجوب العمل بكل منهما فى الجملة فيستبعد الطرح فى مادة الاجتماع بخلاف الثانى وسيجيء تتمة الكلام إن شاء الله تعالى.

فظهر مما ذكرنا ان الجمع فى ادلة الاحكام بالنحو المتقدم من تاويل كليهما لا اولوية له اصلا على طرح احدهما والاخذ بالآخر بل الامر بالعكس واما الجمع بين البينات (١) فى حقوق الناس فهو وان كان لا اولوية فيه على طرح احدهما

__________________

١ ـ اعلم انه قد فرعوا على قضية اولوية الجمع من الطرح العمل بالبينتين المتعارضتين فى دعوى الاموال وتعيين قيمة الصحيح والمعيب فحكموا بتنصيف دار تداعياها واقاما بينة ، والتحقيق انه حيث كان العمل بهما على طبق مدلولهما غير ممكن كما لا يمكن فيهما ما يعمل به فى ادلة الاحكام من اخذ السندين وطرح الظاهرين لان كلمات الشهود بمنزلة النصين المتعارضين انحصر وجه الجمع فى التبعيض فيهما من حيث التصديق بان يصدق كل

٤٦٨

بحسب ادلة حجية البينة لانها تدل على وجوب الاخذ بكل منهما فى تمام مضمونه فلا فرق فى مخالفتهما بين الاخذ لا بكل منهما بل باحدهما او بكل منهما لا فى تمام مضمونه بل فى بعضه إلّا ان عد الجمع بهذا النحو مصالحة بين الخصمين عند العرف لعله يكون مرجحا للثاني على الاول ويؤيده ورود الامر بالجمع بين الحقين بهذا النحو فى رواية السكونى المعمول بها فيمن اودعه رجل درهمين وآخر درهما فامتزجا بغير تفريط وتلف احدهما هذا ولكن الانصاف ان الاصل فى موارد تعارض البينات وشبهها هى القرعة نعم يبقى الكلام فى كون القرعة مرجحة للبينة المطابقة لها او مرجعا بعد تساقط البينتين وكذا الكلام فى عموم موارد القرعة او اختصاصها بما لا يكون هناك اصل عملى كاصالة الطهارة مع احدى البينتين وللكلام مورد آخر.

فلنرجع الى ما كنا فيه فنقول حيث تبين عدم تقدم الجمع على الترجيح ولا على التخيير فلا بد من الكلام فى المقامين اللذين ذكرنا ان الكلام فى احكام التعارض يقع فيهما فنقول ان المتعارضين اما ان لا يكون مع احدهما مرجح فيكونان متكافئين متعادلين واما ان يكون مع احدهما مرجح فالمقام الاول فى المتكافئين والكلام فيه اولا فى ان الاصل فى المتكافئين التساقط وفرضهما كان لم يكونا اولا ثم اللازم

__________________

ـ من المتعارضين فى بعض ما يخبر به فمن اخبر بان هذه الدار كلها لزيد نصدقه فى نصفها وكذا من شهد بان قيمة هذا الشىء صحيحا كذا ومعيبا كذا نصدقه فى ان قيمة كل نصف منضما الى نصفه الآخر نصف القيمة ، وهذا النحو غير ممكن فى الاخبار بان يكرم بعض العلماء ويهين بعضهم فيما اذا ورد اكرم العلماء وورد لا تكرمهم لان المخالفة القطعية فى الاحكام الشرعية لا يرتكب اذ الحق فيها للشارع وهو لا يرضى بالمعصية القطعية ؛ وهذا بخلاف حقوق الناس فان الحق فيها لمتعدد فالعمل بالبعض فى كل منهما جمع بين الحقين من غير ترجيح ولاجل ذلك يعد هذا مصالحة بين الخصمين وقد ورد التعبد به «تم تحرير مطلب الشيخ ره»

٤٦٩

بعد عدم التساقط الاحتياط (١) او التخيير او التوقف والرجوع الى الاصل المطابق لاحدهما دون المخالف لهما لانه معنى تساقطهما.

فنقول وبالله المستعان ان الاصل فى المتعارضين التخيير ووجهه انه لما كان امتثال التكليف بالعمل بكل منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطا بالقدرة والمفروض ان كلا منهما مقدور فى حال ترك الآخر وغير مقدور مع ايجاد الآخر فكل منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله ومع ايجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه فوجوب الاخذ باحدهما (٢) نتيجة ادلة وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة وهذا مما يحكم به بديهة العقل كما فى كل واجبين اجتمعا على المكلف ولا مانع من تعيين كل منهما على المكلف بمقتضى دليله الا تعيين الآخر عليه كذلك.

والسر فى ذلك انا لو حكمنا بسقوط كليهما مع امكان احدهما على البدل لم يكن وجوب كل واحد منهما ثابتا بمجرد الامكان ولزم كون وجوب كل منهما مشروطا بعدم انضمامه مع الآخر وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كل منهما فى مقام الامتثال بازيد من الامكان ، والحاصل انه اذا امر الشارع بشيء واحد استقل العقل بوجوب اطاعته فى ذلك الامر بشرط عدم المانع العقلى والشرعى واذا امر بشيئين واتفق امتناع

__________________

١ ـ يعنى فى مقام العمل مع امكانه وإلّا فالتخيير ، وقوله او التخيير : وهو مذهب المشهور والتخيير شرعى على الطريقية وعقلى على السببية كما سيجىء (م ق)

٢ ـ يعنى ان مقتضى الادلة وان كان وجوب العمل بكل واحد من الدليلين عينا إلّا ان الاخذ باحدهما تخييرا انما هو بضميمة مقدمة خارجية عقلية وهى كون وجوب العمل بكل منهما عينا مشروطا بامكانه ومع عدم تحقق الشرط لاجل تمانعهما يتعين العمل بهما تخييرا ببداهة حكم العقل (م ق)

٤٧٠

ايجادهما فى الخارج استقل العقل بوجوب اطاعته فى احدهما لا بعينه لانها ممكنة فيقبح تركها.

لكن هذا كله على تقدير ان يكون العمل بالخبر من باب السببية بان يكون قيام الخبر على وجوب شيء واقعا سببا شرعيا لوجوبه ظاهرا على المكلف فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين فيلغى احدهما مع وجود وصف السببية فيه لاعمال الأخر كما فى كل واجبين متزاحمين اما لو جعلناه من باب الطريقية كما هو ظاهر ادلة حجية الاخبار بل غيرها من الامارات بمعنى ان الشارع لاحظ الواقع وامر بالتوصل اليه من هذا الطريق لغلبة ايصاله الى الواقع فالمتعارضان لا يصير ان من قبيل الواجبين المتزاحمين للعلم بعدم ارادة الشارع سلوك الطريقين معا لان احدهما مخالف للواقع فلا يكونان طريقين الى الواقع ولو فرض محالا امكان العمل بهما كما يعلم ارادته لكل من المتزاحمين فى نفسه لو فرض امكان الجمع مثلا لو فرضنا ان الشارع لاحظ كون الخبر غالب الايصال الى الواقع فامر بالعمل به فى جميع الموارد لعدم المائز بين الفرد الموصل منه وغيره فاذا تعارض خبر ان جامعان لشرائط الحجية لم يعقل بقاء تلك المصلحة فى كل منهما بحيث لو امكن الجمع بينهما اراد الشارع ادراك المصلحتين بل وجود تلك المصلحة فى كل منهما بخصوصه مقيد بعدم معارضته بمثله ومن هنا يتجه الحكم حينئذ بالتوقف لا بمعنى ان احدهما المعين واقعا طريق ولا نعلمه بعينه كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين بل بمعنى ان شيئا منهما ليس طريقا فى مؤداه بالخصوص فيتساقطان ومقتضاه الرجوع الى الاصول العملية.

هذا ما يقتضيه القاعدة فى وجوب العمل بالاخبار من حيث الطريقية إلّا ان الاخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلت على عدم التساقط مع فقد المرجح و (ح) فهل يحكم بالتخيير او العمل بما طابق منهما الاحتياط (١) او بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما كالجمع

__________________

١ ـ اى باحدهما المطابق للاحتياط إن كان مطابقا وإلّا فالتخيير وكذا المراد

٤٧١

بين الظهر والجمعة مع تصادم ادلتهما وكذا بين القصر والاتمام وجوه.

المشهور وهو الذى عليه جمهور المجتهدين الاول للاخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة عليه ولا يعارضها عدا ما فى مرفوعة زرارة الآتية المحكية عن غوالى اللئالى الدالة على الوجه الثانى من الوجوه الثلاثة وهى ضعيفة جدا وقد طعن فى ذلك التاليف (١) وفى مؤلفه المحدث البحرانى قده فى مقدمات الحدائق واما اخبار التوقف الدالة على الوجه الثالث من حيث ان التوقف فى الفتوى يستلزم الاحتياط فى العمل كما فى ما لا نص فيه فهى محمولة على صورة التمكن من الوصول الى الامام عليه‌السلام كما يظهر من بعضها فيظهر منها ان المراد ترك العمل وارجاء الواقعة الى لقاء الامام (ع) لا العمل فيها بالاحتياط.

ثم ان حكم الشارع فى تلك الاخبار بالتخيير فى تكافؤ الخبرين لا يدل على كون حجية الاخبار من باب السببية بتوهم انه لو لا ذلك وإلّا لاوجب التوقف لقوة احتمال ان يكون التخيير حكما ظاهريا عمليا (٢) فى مورد التوقف لا حكما واقعيا ناشئا من تزاحم الواجبين بل الاخبار المشتملة على الترجيحات وتعليلاتها اصدق شاهد على ما استظهرناه من كون حجية الاخبار من باب الطريقية بل هو امر واضح ومراد من جعلها من باب الاسباب عدم اناطتها بالظن الشخصى كما يظهر من صاحب

__________________

ـ بالقول الثالث هو العمل بالاحتياط مع امكانه وإلّا فالتخيير والمراد بما كان مخالفا لهما مخالفته لخصوص كل منهما بمعنى عدم امكان الاحتياط بالعمل بخصوص كل منهما وإن كان خصوص كل منهما موافقا للاحتياط فى الجملة كما يظهر من تمثيله بالظهر والجمعة (ق)

١ ـ فى المقدمة السادسة من مقدمات كتابه فى مقام ترجيح المقبولة على المرفوعة : قال مع ما عليه المرفوعة من الرفع والارسال وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه الى التساهل فى نقل الاخبار والاهمال وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها انتهى (ق)

٢ ـ اى ثابتا على خلاف قاعدة التوقف كحكم الشارع فى بعض موارد اشتباه الواجب بغير الحرام بان اكتفى بالموافقة الاحتمالية للواقع (شرح)

٤٧٢

المعالم ره فى تقرير دليل الانسداد.

ثم المحكى عن جماعة بل قيل انه مما لا خلاف فيه ان التعادل ان وقع للمجتهد كان مخيرا في عمل نفسه وان وقع للمفتى لاجل الافتاء فحكمه ان يخير المستفتى فيتخير فى العمل كالمفتى ووجه الاول واضح واما وجه الثانى فلان نصب الشارع للامارات وطريقيتها يشمل المجتهد والمقلد إلّا ان المقلد عاجز عن القيام بشروط العمل بالادلة من حيث تشخيص مقتضاها ودفع موانعها فاذا اثبت ذلك المجتهد واثبت جواز العمل بكل من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلد والمجتهد تخير المقلد كالمجتهد ولان ايجاب مضمون احد الخبرين على المقلد لم يقم دليل عليه فهو تشريع.

ويحتمل ان يكون التخيير للمفتى فيفتى بما اختار لانه حكم للمتحير وهو المجتهد ولا يقاس هذا بالشك الحاصل للمجتهد فى بقاء الحكم الشرعى مع ان حكمه وهو البناء على الحالة السابقة مشترك بينه وبين المقلد لان الشك هناك فى نفس الحكم الفرعى المشترك وله حكم مشترك والتحير هنا فى الطريق الى الحكم فعلاجه بالتخيير مختص بمن يتصدى لتعيين الطريق كما ان العلاج بالترجيح مختص به فلو فرضنا ان راوى احد الخبرين عند المقلد اعدل واوثق من الآخر لانه اخبر واعرف به مع تساويهما عند المجتهد او انعكاس الامر عنده فلا عبرة بنظر المقلد وكذا لو فرضنا تكافؤ قولى اللغويين فى معنى لفظ الرواية فالعبرة بتحير المجتهد لا تحير المقلد بين حكم يتفرع على احد القولين وآخر يتفرع على الآخر والمسألة محتاجة الى التأمل وان كان وجه المشهور اقوى (١).

__________________

١ ـ فان حال المجتهد بالنسبة الى مقلديه ليس إلا حال المترجم العارف بلغة المجتهد وباستخراج فتاواه من رسالته ؛ فاذا كان فتوى المجتهد حجية ظواهر عبائره المدونة فى رسالته وان الحكم لدى معارضته هو التخيير ليس للمترجم القادر على فهم رسالته الزام سائر العوام بمضمون احد المتعارضين بل عليه شرح الحال واخبارهم بكونهم مخيرين فى العمل بمفاد الكلامين (م الهمدانى)

٤٧٣

هذا حكم المفتى واما الحاكم والقاضى فالظاهر كما عن جماعة انه يتخير احدهما فيقضى به لان القضاء والحكم عمل له لا للغير فهو المخير ولما عن بعض من ان تخير المتخاصمين لا يرفع معه الخصومة ولو حكم على طبق احدى الامارتين فى واقعة فهل له الحكم على طبق الاخرى فى واقعة اخرى المحكى عن العلامة ره وغيره الجواز بل حكى نسبته الى المحققين لما عن النهاية من انه ليس فى العقل ما يدل على خلاف ذلك ولا يستبعد وقوعه كما لو تغير اجتهاده إلّا ان يدل دليل شرعى خارج على عدم جوازه كما روى ان النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لابى بكر لا تقض فى الشيء الواحد بحكمين مختلفين.

اقول يشكل الجواز لعدم الدليل عليه لان دليل التخيير ان كان الاخبار الدالة عليه فالظاهر انها مسوقة لبيان وظيفة المتحير فى ابتداء الامر فلا اطلاق فيها بالنسبة الى حال المتحير بعد الالتزام باحدهما واما العقل الحاكم بعدم جواز طرح كليهما فهو ساكت من هذه الجهة والاصل عدم حجية الآخر بعد الالتزام باحدهما كما تقرر فى دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد الى مثله ، نعم لو كان الحكم بالتخيير فى المقام من باب تزاحم الواجبين كان الاقوى استمراره لان المقتضى له فى السابق موجود بعينه بخلاف التخيير الظاهرى فى تعارض الطريقين فان احتمال تعيين ما التزمه قائم بخلاف التخيير الواقعى فتامل واستصحاب التخيير غير جار لان الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يتخير فاثباته لمن اختار والتزم اثبات للحكم فى غير موضوعه الاول وبعض المعاصرين استجود كلام العلامة ره مع انه منع من العدول عن امارة الى اخرى وعن مجتهد الى آخر فتدبر.

ثم ان حكم التعادل فى الامارات المنصوبة فى غير الاحكام كما فى اقوال اهل اللغة واهل الرجال وجوب التوقف لان الظاهر اعتبارها من حيث الطريقية الى الواقع لا السببية المحضة وان لم يكن منوطا بالظن الفعلى وقد عرفت ان اللازم فى تعادل ما هو من هذا القبيل التوقف والرجوع الى ما يقتضيه الاصل فى ذلك

٤٧٤

المقام إلّا انه ان جعلنا الاصل من المرجحات كما هو المشهور وسيجيء لم يتحقق التعادل بين الامارتين الا بعد عدم موافقة شىء منهما للاصل والمفروض عدم جواز الرجوع الى الثالث لانه طرح للامارتين فالاصل الذى يرجع اليه هو الاصل فى المسألة المتفرعة على مورد التعارض كما لو فرضنا تعادل اقوال اهل اللغة فى معنى الغناء او الصعيد او الجذع من الشاة فى الاضحية فانه يرجع الى الاصل فى المسألة الفرعية.

بقى هنا ما يجب التنبيه عليه خاتمة للتخيير وهو ان الرجوع الى التخيير غير جار الا بعد الفحص التام عن المرجحات لان مأخذ التخيير ان كان هو العقل الحاكم بان عدم امكان الجمع فى العمل لا يوجب إلّا طرح البعض فهو لا يستقل بالتخيير فى المأخوذ والمطروح الا بعد عدم مزية فى احدهما اعتبرها الشارع فى العمل ؛ والحكم بعدمها لا يمكن إلّا بعد القطع بالعدم والظن المعتبر او اجراء اصالة العدم لا يعتبر فيما له دخل فى الاحكام الشرعية الكلية الا بعد الفحص التام مع ان اصالة العدم لا تجدى (١) فى استقلال العقل بالتخيير كما لا يخفى.

وان كان مأخذه الاخبار فالمتراءى منها من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجحات وان كان جواز الاخذ بالتخيير ابتداء إلّا انه يكفى فى تقييدها دلالة بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجحات المذكورة فيها المتوقف على الفحص عنها المتممة (٢) فيما لم يذكر فيها من المرجحات المعتبرة بعدم

__________________

١ ـ لانها اصل قد ثبت التعبد بمقتضاه شرعا فى مورد الشك والعقل انما يستقل بحكم فى مورد بعد احراز جميع ما له دخل فى حكمه على سبيل القطع او الظن المعتبر واصالة العدم لا ترفع الشك فلا يستقل معه العقل (م ق)

٢ ـ المتممة مبنية للمفعول صفة للدلالة فى قوله ودلالة بعضها الآخر : وحاصله ان الاخبار المطلقة للتخيير تقيد بصورة فقد جميع المرجحات المعتبرة بالاخبار المقيدة له بصورة فقد بعضها بضميمة عدم القول بالفصل بين المرجحات (الطوسى)

٤٧٥

القول بالفصل بينها هذا مضافا الى لزوم الهرج والمرج نظير ما يلزم من العمل بالاصول العملية واللفظية قبل الفحص و (ح) فيجب على المجتهد الفحص التام عن وجود المرجح لاحدى الامارتين.

المقام الثانى فى التراجيح الترجيح تقديم احد الامارتين على الاخرى فى العمل لمزية لها عليها بوجه من الوجوه وفيه مقامات ، الاول فى وجوب ترجيح احد الخبرين بالمزية الداخلية او الخارجية الموجودة فيه ، الثانى فى ذكر المزايا المنصوصة والاخبار الواردة ، الثالث فى وجوب الاقتصار عليها او التعدى الى غيرها ، الرابع فى بيان المرجحات من الداخلية والخارجية.

اما المقام الاول وهو ترجيح احد الخبرين بالمزية الداخلية او الخارجية فالمشهور فيه وجوب الترجيح وحكى عن جماعة منهم الباقلانى والجبائيان عدم الاعتبار بالمزية وجريان حكم التعادل والتحقيق انا ان قلنا بان العمل باحد المتعارضين فى الجملة مستفاد من حكم الشارع به بدليل الاجماع والاخبار العلاجية كان اللازم الالتزام بالراجح وطرح المرجوح وان قلنا باصالة البراءة عند دوران الامر فى المكلف به بين التعيين والتخيير لان الشك فى جواز العمل بالمرجوح فعلا ولا ينفع وجوب العمل به عينا فى نفسه مع قطع النظر عن المعارض فهو كامارة لم يثبت حجيتها اصلا وان لم نقل بذلك بل قلنا باستفادة العمل باحد المتعارضين من نفس ادلة العمل بالاخبار فان قلنا بما اخترناه من ان الاصل التوقف بناء على اعتبار الاخبار من باب الطريقية والكشف الغالبى عن الواقع فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرد قوة فى احد الخبرين لان كلا منهما جامع لشرائط الطريقية والتمانع يحصل بمجرد ذلك فيجب الرجوع الى الاصول الموجودة فى تلك المسألة اذا لم تخالف كلا المتعارضين فرفع اليد عن مقتضى الاصل المحكم فى كل ما لم يكن طريق فعلى على خلافه بمجرد مزية لم يعلم اعتبارها لا وجه له لان المعارض المخالف بمجرده ليس طريقا فعليا لابتلائه بالمعارض الموافق للاصل والمزية الموجودة لم يثبت تاثيرها فى دفع المعارض.

٤٧٦

وتوهم استقلال العقل بوجوب العمل باقرب الطريقين الى الواقع وهو الراجح مدفوع بان ذلك انما هو فيما كان بنفسه طريقا كالامارات المعتبرة لمجرد افادة الظن واما الطرق المعتبرة شرعا من حيث افادة نوعها الظن فليس اعتبارها منوطا بالظن فالمتعارضان المفيد ان منها بالنوع للظن فى نظر الشارع سواء وما نحن فيه من هذا القبيل لان المفروض ان المعارض المرجوح لم يسقط من الحجية الشأنية كما يخرج الامارة المعتبرة بوصف الظن عن الحجية اذا كان معارضها اقوى وبالجملة فاعتبار قوة الظن فى الترجيع فى تعارض ما لم ينط اعتباره بافادة الظن او بعدم الظن على الخلاف لا دليل عليه.

وان قلنا بالتخيير بناء على اعتبار الاخبار من باب السببية والموضوعية فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب العمل بكل من المتعارضين مع الامكان كون وجوب العمل بكل منها عينا مانعا عن وجوب العمل بالآخر كذلك ولا تفاوت بين الوجوبين فى المانعية قطعا ومجرد مزية احدهما على الآخر بما يرجع الى اقربيته الى الواقع لا يوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعا عن العمل بالمرجوع دون العكس لان المانع بحكم العقل هو مجرد الوجوب والمفروض وجوده فى المرجوح وليس فى هذا الحكم العقلى اهمال واجمال وواقع مجهول حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح وبالجملة فحكم العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكل منهما فى حد ذاته.

وهذا الكلام مطرد فى كل واجبين متزاحمين نعم لو كان الوجوب فى احدهما آكد والمطلوبية فيه اشد استقل العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره وكون وجوب الاهم مزاحما لوجوب غيره من دون عكس وكذا لو احتمل الاهمية فى احدهما دون الآخر وما نحن فيه ليس كذلك قطعا فان وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره هذا.

وقد عرفت فيما تقدم انا لا نقول باصالة التخيير فى تعارض الاخبار بل ولا

٤٧٧

غيرها من الادلة بناء على ان الظاهر من ادلتها وادلة حكم تعارضها كونها من باب الطريقية ولازمه التوقف والرجوع الى الاصل المطابق لاحدهما او احدهما المطابق للاصل إلّا ان الدليل الشرعى دل على وجوب العمل باحد المتعارضين فى الجملة وحيث كان ذلك بحكم الشرع فالمتيقن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين اما مع مزية احدهما على الآخر من بعض الجهات فالمتيقن هو جواز العمل بالراجح واما العمل بالمرجوح فلم يثبت فلا يجوز الالتزام فصار الاصل وجوب العمل بالمرجح وهو اصل ثانوى بل الاصل فيما يحتمل كونه مرجحا الترجيح به إلّا ان يرد عليه اطلاقات التخيير بناء على وجوب الاقتصار فى تقييدها على ما علم كونه مرجحا.

وقد يستدل على وجوب الترجيح بانه لو لا ذلك لاختل نظم الاجتهاد بل نظام الفقه من حيث لزوم التخيير بين الخاص والعام والمطلق والمقيد وغيرهما من الظاهر والنص المتعارضين وفيه ان الظاهر خروج مثل هذه المعارضات عن محل النزاع فان الظاهر لا يعد معارضا للنص اما لان العمل به لاصالة عدم الصارف المندفعة بوجود النص واما لان ذلك لا يعد تعارضا فى العرف ومحل النزاع فى غير ذلك وكيف كان فقد ظهر ضعف القول المزبور وضعف دليله المذكور له وهو عدم الدليل على الترجيح بقوة الظن.

واضعف من ذلك ما حكى عن النهاية من احتجاجه بانه لو وجب الترجيح بين الامارات فى الاحكام لوجب عند تعارض البينات والتالى باطل لعدم تقديم شهادة الاربعة على الاثنين واجاب عنه فى محكى النهاية والمنية بمنع بطلان التالى وانه يقدم شهادة الاربعة على الاثنين سلمنا لكن عدم الترجيح فى الشهادة ربما كان مذهب اكثر الصحابة والترجيح هنا مذهب الجميع انتهى ومرجع الاخير الى انه لو لا الاجماع حكمنا بالترجيح فى البينات ايضا ويظهر ما فيه مما ذكرنا سابقا فانا لو بنينا على ان حجية البينة من باب الطريقية فاللازم مع التعارض التوقف

٤٧٨

والرجوع الى ما يقتضيه الاصول فى ذلك المورد من التحالف او القرعة او غير ذلك ولو بنى على حجيتها من باب السببية والموضوعية فقد ذكرنا انه لا وجه للترجيح بمجرد اقربية احدهما الى الواقع لعدم تفاوت الراجح والمرجوح فى الدخول فيما دل على كون البينة سببا للحكم على طبقها وتمانعهما مستند الى مجرد سببية كل منهما كما هو المفروض فجعل احدهما مانعا دون الآخر لا يحتمله العقل.

ثم انه يظهر من السيد الصدر الشارح للوافية الرجوع فى المتعارضين من الاخبار الى التخيير او التوقف والاحتياط وحمل اخبار الترجيح على الاستحباب حيث قال بعد ايراد اشكالات على العمل بظاهر الاخبار ان الجواب عن الكل ما اشرنا اليه من ان الاصل التوقف فى الفتوى والتخيير فى العمل ان لم يحصل من دليل آخر العلم بعدم مطابقة احد الخبرين للواقع وان الترجيح هو الفضل والاولى ولا يخفى بعده عن مدلول اخبار الترجيح وكيف يحمل الامر بالاخذ بمخالف العامة وطرح ما وافقهم على الاستحباب خصوصا مع التعليل بان الرشد فى خلافهم وان قولهم فى المسائل مبنى على مخالفة امير المؤمنين عليه‌السلام فيما يسمعونه منه وكذا الامر بطرح الشاذ النادر وبعدم الاعتناء والالتفات الى حكم غير الاعدل والأفقه من الحكمين مع ان فى سياق تلك المرجحات موافقة الكتاب والسنة ومخالفتهما ولا يمكن حمله على الاستحباب فلو حمل غيره عليه لزم التفكيك فتامل وكيف كان فلا شك ان التفصى عن الاشكالات الداعية له الى ذلك اهون من هذا الحمل لما عرفت من عدم جواز الحمل على الاستحباب ثم لو سلمنا دوران الامر بين تقييد اخبار التخيير وبين حمل اخبار الترجيح على الاستحباب فلو لم يكن الاول اقوى وجب التوقف فيجب العمل بالترجيح لما عرفت من ان حكم الشارع باحد المتعارضين اذا كان مرددا بين التخيير والتعيين وجب التزام ما احتمل تعيينه.

المقام الثانى فى ذكر الاخبار الواردة فى احكام المتعارضين وهى اخبار.

٤٧٩

الاول ما رواه المشايخ الثلاثة (١) باسنادهم عن عمر بن حنظلة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من اصحابنا يكون بينهما منازعة فى دين او ميراث فتحاكما الى السلطان او الى القضاة أيحل ذلك قال عليه‌السلام من تحاكم عليهم فى حق او باطل فانما تحاكم الى الطاغوت وما يحكم له فانما يأخذه سحتا وان كان حقه ثابتا لانه اخذ بحكم الطاغوت وانما امر الله ان يكفر به قال الله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) قلت فكيف يصنعان قال ينظران الى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر فى حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما بحكم الله استخف وعلينا قد رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله قلت فان كان كل رجل يختار دجلا من اصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين فى حقهما فاختلفا فى ما حكما وكلاهما اختلفا فى حديثكم قال الحكم ما حكم به اعدلهما وأفقههما واصدقهما فى الحديث واورعهما ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر قلت فانهما عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر قال ينظر الى ما كان من روايتهم عنا فى ذلك الذى حكما به المجمع عليه بين اصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذى ليس بمشهور عند اصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه وانما الامور ثلاثة امر بين رشده فيتبع وامر بين غيه فيجتنب وامر مشكل يرد حكمه الى الله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن اخذ بالشبهات وقع فى المحرمات وهلك من حيث لا يعلم قال قلت فان كان الخبران

__________________

١ ـ وصفها فى البحار بالصحة وليس فى السند ما يوجب القدح فيه الا رجلان احدهما داود بن الحصين وقد وثقه النجاشى ، وثانيهما عمر بن حنظلة ولم يذكره اصحاب الرجال بمدح ولا ذم الا الشهيد الثانى ره قال حققت توثيقه من محل آخر وكيف كان فلا تامل فى قبول الرواية لقبول الاصحاب لها وهو كاف (م ق)

٤٨٠