الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

الشيخ علي المشكيني

الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٥

ذلك و (ح) فالشاك فى شيء مما يعتبر فى الايمان بالمعنى الاخص ليس بمؤمن ولا كافر فلا يجرى عليه احكام الايمان واما الشاك فى شيء مما يعتبر فى الاسلام بالمعنى الاعم كالنبوة والمعاد فان اكتفينا فى الاسلام بظاهر الشهادتين وعدم الانكار ظاهرا وان لم يعتقد باطنا فهو مسلم وان اعتبرنا فى الاسلام الشهادتين مع احتمال الاعتقاد على طبقهما حتى يكون الشهادتان امارة على الاعتقاد الباطنى فلا اشكال فى عدم اسلام الشاك لو علم منه الشك فلا يجرى عليه احكام المسلمين من جواز المناكحة والتوارث وغيرهما وهل يحكم بكفره ونجاسته (ح) فيه اشكال من تقييد كفر الشاك فى غير واحد من الاخبار بالجحود هذا كله فى الظان بالحق واما الظان بالباطل فالظاهر كفره.

بقى الكلام فى انه اذا لم يكتف بالظن وحصل الجزم من التقليد فهل يكفى ذلك او لا بد من النظر والاستدلال ظاهر الاكثر الثانى بل ادعى عليه العلامة قده فى الباب الحاد يعشر الاجماع حيث قال اجمع العلماء على وجوب معرفة الله وصفاته الثبوتية وما يصح عليه وما يمتنع عنه والنبوة والامامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد فان صريحه ان المعرفة بالتقليد غير كافية ومثلها عبارة الشهيد الاول والمحقق الثانى واصرح منهما عبارة المحقق فى المعارج حيث استدل على بطلان التقليد بانه جزم فى غير محله ، لكن مقتضى استدلال العضدى على منع التقليد بالاجماع على وجوب معرفة الله وانها لا يحصل بالتقليد هو ان الكلام فى التقليد الغير المفيد للمعرفة وهو الذى يقتضيه ايضا ما ذكره شيخنا فى العدة كما سيجيء كلامه وكلام الشهيد ره فى القواعد من عدم جواز التقليد فى العقليات ولا فى الاصول الضرورية من السمعيات ولا فى غيرها مما لا يتعلق به عمل ويكون المطلوب فيها العلم كالتفاضل بين الانبياء السابقة ويعضده ايضا ظاهر ما عن شيخنا البهائى قده فى حاشية الزبدة من ان النزاع فى جواز التقليد وعدمه يرجع الى النزاع فى كفاية الظن وعدمها ويؤيده ايضا اقتران التقليد فى الاصول فى كلماتهم بالتقليد

١٤١

فى الفروع حيث يذكرون فى اركان الفتوى ان المستفتى فيه هى الفروع دون الاصول ، لكن الظاهر عدم المقابلة التامة بين التقليدين اذ لا يعتبر فى التقليد فى الفروع حصول الظن فيعمل المقلد مع كونه شاكا وهذا غير معقول فى اصول الدين التى يطلب فيها الاعتقاد حتى يجرى فيه الخلاف وكذا ليس المراد من كفاية التقليد هنا كفايته عن الواقع مخالفا كان فى الواقع او موافقا كما فى الفروع بل المراد كفاية التقليد فى الحق وسقوط النظر به عنه إلّا ان يكتفى فيها بمجرد التدين ظاهرا وان لم يعتقد لكنه بعيد.

ثم ان ظاهر كلام الحاجبى والعضدى اختصاص الخلاف بالمسائل العقلية وهو فى محله بناء على ما استظهرنا منهم من عدم حصول الجزم من التقليد لان الذى لا يفيد الجزم من التقليد انما هو فى العقليات المبتنية على الاستدلالات العقلية ، واما النقليات فالاعتماد فيها على قول المقلد بالفتح كالاعتماد على قول المخبر الذى قد يفيد الجزم بصدقه بواسطة القرائن وفى الحقيقة يخرج هذا عن التقليد وكيف كان فالاقوى كفاية الجزم الحاصل من التقليد لعدم الدليل منها على اعتبار الزائد على المعرفة والتصديق والاعتقاد وتقييدها بطريق خاص لا دليل عليه مع ان الانصاف ان النظر والاستدلال بالبراهين العقلية للشخص المتفطن لوجوب النظر فى الاصول لا يفيد بنفسه الجزم لكثرة الشبه الحادثة فى النفس والمدونة فى الكتب حتى انهم ذكروا شبها يصعب الجواب عنها للمحققين الصارفين لاعمارهم فى فن الكلام فكيف حال المشتغل به مقدارا من الزمان لاجل تصحيح عقائده ليشتغل بعد ذلك بامور معاشه ومعاده خصوصا والشيطان يغتنم الفرصة لالقاء الشبهات والتشكيك فى البديهيات وقد شاهدنا جماعة قد صرفوا اعمارهم ولم يحصلوا منها شيئا الا القليل.

المقام الثانى فى غير المتمكن من العلم والكلام فيه تارة فى تحقق موضوعه فى الخارج واخرى فى انه يجب عليه مع اليأس من العلم تحصيل الظن ام لا وثالثة فى حكمه الوضعى قبل الظن وبعده اما الاول فقد يقال فيه بعدم وجود العاجز نظرا الى

١٤٢

العمومات الدالة على حصر الناس فى المؤمن والكافر مع ما دل على خلود الكافرين باجمعهم فى النار بضميمة حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر فينتج ذلك عن تقصير كل غير مؤمن وان من تريه قاصرا عاجزا عن العلم قد تمكن من تحصيل العلم بالحق ولو فى زمان ما وان صار عاجزا قبل ذلك او بعده والعقل لا يقبح عقاب مثل هذا الشخص ولهذا ادعى غير واحد فى مسئلة التخطئة والتصويب الاجماع ان المخطئ فى العقائد غير معذور.

لكن الذى يقتضيه الانصاف شهادة الوجدان بقصور بعض المكلفين وقد تقدم عن الكلينى ما يشير الى ذلك وسيجيء عن الشيخ قده فى العدة من كون العاجز عن التحصيل بمنزلة البهائم ، هذا مع ورود الاخبار المستفيضة ثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر وقضية مناظرة زرارة وغيره مع الامام عليه‌السلام فى ذلك مذكورة فى الكافى ومورد الاجماع على ان المخطئ آثم هو المجتهد الباذل جهده بزعمه فلا ينافى كون العاقل والملتفت العاجز عن بذل الجهد معذورا غير آثم.

واما الثانى فالظاهر فيه عدم وجوب تحصيل الظن عليه لان المفروض عجزه عن الايمان والتصديق المأمور به ولا دليل آخر على عدم جواز التوقف وليس المقام من قبيل الفروع فى وجوب العمل بالظن مع تعذر العلم لان المقصود فيها العمل ولا معنى للتوقف فيه فلا بد عند انسداد باب العلم من العمل على طبق اصل او ظن والمقصود فيما نحن فيه الاعتقاد فاذا عجز عنه فلا دليل على وجوب تحصيل الظن الذى لا يغنى عن الحق شيئا فيندرج فى عموم قولهم عليهم‌السلام اذا جاءكم ما لا تعلمون فها نعم لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة الى العالم وراى العالم منه التمكن من تحصيل الظن بالحق ولم يخف عليه افضاء نظره الظنى الى الباطل فلا يبعد وجوب الزامه بالتحصيل لان انكشاف الحق ولو ظنا اولى من البقاء على الشك فيه.

واما الثالث فان لم يقر فى الظاهر بما هو مناط الاسلام فالظاهر كفره وان اقر به مع العلم بانه شاك باطنا فالظاهر عدم اسلامه بناء على ان الاقرار الظاهرى

١٤٣

مشروط باحتمال اعتقاده لما يقربه وفى جريان حكم الكفر عليه (ح) اشكال من اطلاق بعض الاخبار بكفر الشاك ومن تقييده فى غير واحد من الاخبار بالجحود مثل رواية محمد بن مسلم قال سئل ابو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام قال ما تقول فيمن شك فى الله قال كافر يا أبا محمد قال فشك فى رسول الله (ص) قال كافر ثم التفت الى زرارة فقال انما يكفر اذا جحد وفى رواية اخرى لو ان الناس اذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا ثم ان جحود الشاك يحتمل ان يراد به اظهار عدم الثبوت وانكار التدين به لاجل عدم الثبوت ويحتمل ان يراد به الانكار الصورى على سبيل الجزم وعلى التقديرين فظاهرها ان المقر ظاهرا الشاك باطنا الغير المظهر لشكه غير كافر ويؤيده هذا رواية زرارة الواردة فى تفسير قوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) عن ابى جعفر عليه‌السلام قال قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر واشباههما من المؤمنين ثم انهم دخلوا الاسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك ولم يعرفوا الايمان بقلوبهم فيكونوا مؤمنين فيجب لهم الجنة ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النار فهم على تلك الحالة اما يعذبهم واما يتوب عليهم وقريب منها غيرها.

التنبيه الثالث فى مستند المشهور فى كون الشهرة فى الفتوى جابرة لضعف سند الخبر فانه ان كان من جهة افادتها الظن بصدق الخبر ففيه مع انه قد لا يوجب الظن بصدور ذلك الخبر نعم يوجب الظن بصدور حكم عن الشارع مطابق لمضمون الخبر ان جلهم لا يقولون بحجية الخبر المظنون الصدور مطلقا فان المحكى عن المشهور اعتبار الايمان فى الراوى مع انه لا يرتاب فى افادة الموثق للظن ، فان قيل ان ذلك لخروج خبر غير الامامى بالدليل الخاص مثل منطوق آية النبإ ومثل قوله لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا قلنا ان كان ما خرج بحكم الآية والرواية مختصا بما لا يفيد الظن فلا يشمل الموثق وان كان عاما لما ظن بصدوره كان خبر غير الامامى المنجبر بالشهرة والموثق متساويين فى الدخول تحت الدليل المخرج ومثل الموثق خبر الفاسق المتحرز عن الكذب والخبر المعتضد بالاولوية والاستقراء وسائر الامارات الظنية

١٤٤

مع ان المشهور لا يقولون بذلك وان كان لقيام دليل خاص عليه ففيه المنع من وجود هذا الدليل

وبالجملة فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشهرة والمنجبر بغيره من الامارات وبين الخبر الموثق المفيد لمثل الظن الحاصل من الضعيف المنجبر فى غاية الاشكال خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور الى تلك الرواية واليه اشار شيخنا فى موضع من المسالك بان جبر الضعيف بالشهرة ضعيف مجبور بالشهرة وربما يدعى كون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصة حيث ادعى الاجماع على حجيته ولم يثبت واشكل من ذلك دعوى دلالة منطوق آية النبإ عليه بناء على ان التبين يعم الظنى الحاصل من ذهاب المشهور الى مضمون الخبر وهو بعيد اذ لو اريد مطلق الظن فلا يخفى بعده لان المنهى عنه ليس إلا خبر الفاسق المفيد للظن اذ لا يعمل احد بالخبر المشكوك صدقه وان اريد البالغ حد الاطمينان فله وجه غير انه يقتضى دخول سائر الظنون الجابرة اذا بلغت ولو بضميمة المجبور حد الاطمينان ولا يختص بالشهرة فالآية تدل على حجية الخبر المفيد للوثوق والاطمينان ولا بعد فيه وقد مر فى ادلة حجية الاخبار ما يؤيده او يدل عليه من حكايات الاجماع والاخبار وابعد من الكل دعوى استفادة حجيته مما دل من الاخبار كمقبولة ابن حنظلة والمرفوعة الى زرارة على الامر بالاخذ بما اشتهر بين الاصحاب من المتعارضين فان ترجيحه على غيره فى مقام التعارض يوجب حجيته فى غير مقام التعارض بالاجماع والاولوية وتوضيح فساد ذلك ان الظاهر من الروايتين شهرة الخبر من حيث الرواية كما يدل عليه قول السائل فيما بعد ذلك فانهما معا مشهور ان مع ان ذكر الشهرة من المرجحات يدل على كون الخبرين فى انفسهما معتبرين مع قطع النظر عن الشهرة

١٤٥

بسمِ الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على اعدائهم اجمعين الى يوم الدين المقصد الثالث من مقاصد هذا الكتاب في الشك قد قسمنا فى صدر هذا الكتاب المكلف الملتفت الى الحكم الشرعى العملى فى الواقعة على ثلاثة اقسام لانه اما ان يحصل له القطع بالحكم الشرعى واما ان يحصل له الظن واما ان يحصل له الشك وقد عرفت ان القطع حجة فى نفسه لا بجعل جاعل والظن يمكن ان يعتبر فى متعلقه لكونه كاشفا عنه ظنا لكن العمل به والاعتماد عليه فى الشرعيات موقوف على وقوع التعبد به وهو غير واقع الا فى الجملة وقد ذكرنا موارد وقوعه فى الاحكام الشرعية فى الجزء الاول من هذا الكتاب

واما الشك فلما لم يكن فيه كشف اصلا لم يعقل فيه ان يعتبر فلو ورد فى مورده حكم شرعى كان يقول الواقعة المشكوكة حكمها كذا كان حكما ظاهريا (١) لكونه مقابلا للحكم الواقعى المشكوك بالفرض ويطلق عليه الواقعى

__________________

١ ـ الاحكام باعتبار تعلقها بنفس الموضوعات الواقعية وبالموضوعات المشكوكة فى حكمها تنقسم الى واقعية وظاهرية ، والادلة الدالة عليها الى اجتهادية وفقاهية ، اما الاولى فهى الاحكام المقررة فى نفس الامر لنفس الموضوعات الواقعية من غير مدخلية للعلم والجهل فيها وهذه الاحكام على قسمين اختيارى وهى التى جعلها الشارع للمختار كوجوب الصلاة قائما وتسمى بالاحكام الواقعية الاختيارية واضطرارى وهى

١٤٦

الثانوى ايضا لانه حكم واقعى للواقعة المشكوك فى حكمها وثانوى بالنسبة الى ذلك الحكم المشكوك فيه لان موضوع هذا الحكم الظاهرى وهى الواقعة المشكوك فى حكمها لا يتحقق إلّا بعد تصور حكم نفس الواقعة والشك فيه مثلا شرب التتن فى نفسه له حكم فرضنا فيما نحن فيه شك المكلف فيه فاذا فرضنا ورود حكم شرعى لهذا الفعل المشكوك الحكم كان هذا الحكم متأخرا طبعا عن ذلك المشكوك فذلك الحكم حكم واقعى بقول مطلق وهذا الوارد ظاهرى لكونه المعمول به فى الظاهر وواقعى ثانوى لانه متأخر عن ذلك الحكم لتأخر موضوعه عنه ويسمى الدليل الدال على هذا الحكم الظاهرى اصلا ، واما ما دل على الحكم الاول علما او ظنا معتبرا فيختصّ باسم الدليل وقد يقيد بالاجتهادى كما ان الاول قد يسمى بالدليل مقيدا بالفقاهتى

ومما ذكرنا من تأخر مرتبة الحكم الظاهرى عن الحكم الواقعى لاجل تقييد موضوعه بالشك فى الحكم الواقعى يظهر لك (١) وجه تقديم الادلة على الاصول

__________________

ـ التى جعلها الشارع للمضطر كوجوب الصلاة قاعدا او مضطجعا وتسمى بالاحكام الواقعية الاضطرارية ، واما الثانية فهى الاحكام المقررة للجاهل بالاحكام الواقعية. كمؤديات الاصول العملية وهى مستلزمة لاحكام أخر مقررة فى نفس الامر لينسب الجهل اليها وتكون هذه ظاهرية بالنسبة اليها وتسمى واقعية ثانوية ايضا (شرح)

١ ـ مجمل الكلام فى تقديم الدليل على الاصل هو انه اما وارد عليه يرفع موضوعه حقيقة كما هو الحال فى الدليل العلمى بالنسبة الى الاصل العملى مطلقا او الدليل مطلقا بالاضافة الى خصوص الاصل العقلى ، فان موضوع حكم العقل بالبراءة او الاحتياط او التخيير يرتفع حقيقة بقيام الدليل المعتبر بداهة صلاحيته للبيان ولحصول الامان من العقاب وللمرجحية ، واما حاكم عليه برفع موضوعه حكما كما هو الحال فى الدليل غير العلمى بالنسبة الى كل اصل كان مدركه النقل ، ولا منافاة بين الوارد والمورود والحاكم والمحكوم فان الحاكم بمنزلة الشارح للمحكوم مما له من اطلاق او عموم (الطوسى)

١٤٧

لان موضوع الاصول يرتفع بوجود الدليل فلا معارضة بينهما لا لعدم اتحاد الموضوع بل لارتفاع موضوع الاصل وهو الشك بوجود الدليل ألا ترى انه لا معارضة ولا تنافى بين كون حكم شرب التتن المشكوك حكمه هى الاباحة وبين كون حكم شرب التتن فى نفسه مع قطع النظر عن الشك فيه هى الحرمة فاذا علمنا بالثانى لكونه علميا ولفرض سلامته عن معارضة الاول خرج شرب التتن عن موضوع دليل الاول وهو كونه مشكوك الحكم لا عن حكمه حتى يلزم فيه تخصيص وطرح لظاهره

ومن هنا كان اطلاق التقديم والترجيح تسامحا لان الترجيح فرع المعارضة وكذلك اطلاق الخاص على الدليل والعام على الاصل فيقال يخصص الاصل بالدليل فان دليل الامارة وان لم يكن كالدليل العلمى رافعا لموضوع الاصل إلّا انه نزل شرعا منزلة الرافع فهو حاكم على الاصل لا مخصص له كما سيتضح إن شاء الله على ان ذلك انما يتم بالنسبة الى الادلة الشرعية واما الادلة العقلية القائمة على البراءة والاشتغال فارتفاع موضوعها بعد ورود الادلة الظنية واضح لجواز الاقتناع بها فى مقام البيان وانتهاضها رافعا لاحتمال العقاب كما هو ظاهر واما التخيير فهو اصل عقلى لا غير كما سيتضح إن شاء الله ، واعلم ان المقصود (١) بالكلام فى هذا المقصد الاصول المتضمنة لحكم الشبهة فى الحكم الفرعى الكلى وان تضمنت حكم الشبهة فى الموضوع ايضا وهى منحصرة فى اربعة ، اصل البراءة واصل الاحتياط والتخيير والاستصحاب بناء على كونه حكما ظاهريا ثبت التعبد به من الاخبار اذ بناء على كونه مفيدا للظن يدخل فى الامارات الكاشفة عن الحكم الواقعى واما الاصول المشخصة لحكم الشبهة فى الموضوع كاصالة الصحة واصالة الوقوع فيما شك فيه بعد تجاوز المحل فلا يقع الكلام فيها الا لمناسبة يقتضيها المقام

__________________

١ ـ لان الكتاب فى الاصول فلا يتكفل الا لبيان ما يجدى المجتهد فى مقام الاستنباط مما يستعمله من الدليل فى طريق استنباط الحكم الشرعى الكلى او ما يستريح اليه من الاصول بعد الفحص واليأس عن الدليل على ذلك الحكم وليس مفاد الاصول فى الشبهات الموضوعية مما يعمل فى طريق استنباط الحكم الكلى ولا مما ينتهى اليه بعد اليأس عن الدليل فيها بل هو بنفسه الحكم المستنبط المعمول به ظاهر (الطوسى)

١٤٨

ثم ان انحصار موارد الاشتباه فى الاصول الاربعة عقلى لان حكم الشك اما ان يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه واما ان لا يكون سواء لم يكن يقين سابق عليه او كان ولم يلحظ والاول هو مورد الاستصحاب والثانى اما ان يكون الشك فيه فى التكليف ام لا فالاول مجرى البراءة والثانى اما ان يمكن فيه الاحتياط ام لا فالاول مجرى قاعدة الاحتياط ـ والثانى مجرى التخيير وقد ظهر مما ذكرنا ان موارد الاصول قد تتداخل (١) لان المناط فى الاستصحاب ملاحظة الحالة السابقة المتيقنة ومدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها وان كانت موجودة

ثم ان تمام الكلام فى الاصول الاربعة يحصل باشباعه فى مقامين (احدهما) حكم الشك فى الحكم الواقعى من دون ملاحظة الحالة السابقة الراجع الى الاصول الثلاثة ، الثانى حكمه بملاحظة الحالة السابقة وهو الاستصحاب (اما المقام الاول) فيقع الكلام فيه فى موضعين لان الشك اما فى نفس التكليف وهو النوع الخاص من الالزام وان علم جنسه كالتكليف المردد بين الوجوب والتحريم واما فى متعلق التكليف مع العلم بنفسه كما اذا علم وجوب شيء وشك بين تعلقه بالظهر والجمعة او علم وجوب فائتة وتردد بين الظهر والمغرب

والموضع الاول وهو الشك في نفس التكليف يقع الكلام فيه فى مطالب لان التكليف المشكوك فيه اما تحريم مشتبه بغير الوجوب واما وجوب مشتبه بغير التحريم واما تحريم مشتبه بالوجوب وصور الاشتباه كثيرة ، وهذا مبنى على اختصاص التكليف بالالزام او اختصاص الخلاف فى البراءة والاحتياط به فلو فرض شموله للمستحب والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام فلا حاجة الى تعميم العنوان

ثم ان متعلق التكليف المشكوك اما ان يكون فعلا كليا متعلقا للحكم الشرعى الكلى كشرب التتن المشكوك فى حرمته والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك فى

__________________

١ ـ بمعنى ان الشيء الواحد الذى كانت له حالة سابقة غير ملحوظة يصلح للاستصحاب وللاصول الثلاثة وإن كان لا يجرى فيه فعلا الا هو او احدها (م ط)

١٤٩

وجوبه واما ان يكون فعلا جزئيا متعلقا للحكم الجزئى كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا ومنشأ الشك فى القسم الثانى اشتباه الامور الخارجية ومنشؤه فى الاول اما عدم النص فى المسألة كمسألة شرب التتن واما ان يكون اجمال النص كدوران الامر فى قوله تعالى (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بين التشديد والتخفيف مثلا واما ان يكون تعارض النصين ومنه الآية المذكورة بناء على تواترا القراءات

وتوضيح احكام هذه الاقسام فى ضمن مطالب (١) الاول دوران الامر بين الحرمة

__________________

١ ـ وليعلم ان شقوق المسألة اثنى عشر اذا الامر اما ان يدور بين الحرمة وغير الوجوب او الوجوب وغير الحرمة او الحرمة والوجوب ويسمى القسم الاول بالشبهة التحريمية والثانى بالشبهة الوجوبية.

والثالث بدوران الامر بين الحرمة والوجوب او بين المحذورين وعلى التقادير اما ان يكون منشأ الشك عدم النص او اجماله او تعارض بعضه مع بعض وهذه الاقسام الثلاثة تسمى بالشبهة الحكمية او يكون المنشأ اشتباه الامور الخارجية ويسمى بالشبهة الموضوعية او المصداقية.

ثم ان المطلب الاول يشتمل على ستة من تلك الاقسام وهى اقسام الشبهة الحكمية من التحريمة والوجوبية.

والمطلب الثانى على قسمين منها وهى الشبهة لموضوعية التحريمية ولوجوبية والمطلب الثالث على اربعة وهى اقسام دوران الامر بين المحذورين حكمية كانت شبهتها او موضوعية ثم ان مثال الشبهة التحريمية من جهة اجمال النص اما بان يكون اللفظ الدال على الحكم مجملا كالنهى المجرد عن القرينة اذا قلنا باشتراكه لفظه بين الحرمة والكراهة واما بان يكون متعلق الحكم كذلك سواء أكان الاجمال فى وضعه كالغناء اذا قلنا باجماله فيكون المشكوك فى كونه غناء محتمل الحرمة ام كان الاجمال فى المراد منه كما اذا شك فى شمول الخمر للخمر غير المسكر ولم يكن هنا اطلاق يؤخذ به ومثال الشبهة الوجوبية من جهة عدم النص كما اذا ورد خبر ضعيف او فتوى جماعة بوجوب فعل كالدعاء عند رؤيه

١٥٠

وغير الوجوب او الوجوب وغير الحرمة مع كون متعلق التكليف فعلا كليا كشرب التتن المشكوك حرمته والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك وجوبه ، سواء كان منشأ الشك عدم النص او اجماله او تعارضه ، الثانى دوران الامر بين الحرمة وغير الوجوب او الوجوب وغير الحرمة مع كون متعلق التكليف فعلا جزئيا كالمائع المحتمل كونه خمرا والمرأة المحتمل كونها منذور الوطى ، الثالث دورانه بين الوجوب والتحريم

اما المطلب الاول فقد اختلف فيه على ما يرجع الى قولين احدهما اباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الاحتياط بالترك او الفعل وهذا منسوب الى المجتهدين والثانى وجوب الترك فى خصوص محتمل التحريم ويعبر عنه بوجوب الاحتياط وهذا منسوب الى معظم الاخباريين والمعروف منهم فى الشبهة الوجوبية موافقة المجتهدين فى العمل باصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط

احتج للقول الأول بالأدلة الثلاثة فمن الكتاب آيات منها قوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) قيل دلالتها واضحة (١) وفيه انها غير ظاهرة فان حقيقة الايتاء الاعطاء فاما ان يراد بالموصول المال بقرينة قوله تعالى قبل ذلك (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) فالمعنى ان الله سبحانه لا يكلف العبد الا دفع ما اعطى من المال واما ان يراد نفس فعل الشيء او تركه بقرينة ايقاع التكليف عليه فاعطائه كناية

__________________

ـ الهلال او كالاستهلال فى رمضان ومن جهة اجمال النص كما اذا قلنا باشتراك لفظ الامر بين الوجوب والاستحباب او الاباحة ثم ان الكلام هنا مسوق لبيان عدم وجوب الاحتياط حتى فيما اذا تعارض نصان واما كون اللازم فيه بعد عدم لزوم الاحتياط هو البراءة مرجحا لما يوافقه او كون الحكم الوقف او التساقط والرجوع الى الاصل او التخيير بين الخبرين فى اول الامر او دائما وجوه مذكور فى باب التعارض (م)

١ ـ فان المراد بالايتاء اما هو الاعلام كما يشعر به قوله ان الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ، واما الاقدار فعلى الاول تدل على نفى التكليف عن غير المقدور والتكليف بالمجهول تكليف بغير المقدور فيكون منفيا (م ق)

١٥١

عن الاقدار عليه فتدل على نفى التكليف بغير المقدور كما ذكره الطبرسى وهذا المعنى اظهر واشمل (١) لان الانفاق من الميسور داخل فى ما آتاه الله فكيف كان فمن المعلوم ان ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور

نعم لو اريد من الموصول نفس الحكم والتكليف كان ايتائه عبارة عن الاعلام به لكن ارادته بالخصوص ينافى مورد الآية وارادة الاعم منه ومن المورد يستلزم استعمال الموصول فى معنيين وهو خلاف الظاهر

نعم فى رواية عبد الأعلى عن ابى عبد الله عليه السلم قال قلت له هل كلف الناس بالمعرفة قال لا على الله البيان لا يكلف الله نفسا الا وسعها ولا يكلف الله نفسا الا ما آتيها لكنه لا ينفع فى المطلب لان نفس المعرفة (٢) بالله غير مقدور قبل تعريف الله سبحانه فلا يحتاج دخولها فى الآية الى ارادة الاعلام من الايتاء فى الآية وسيجيء زيادة توضيح لذلك فى ذكر الدليل العقلى إن شاء الله تعالى ومما ذكرنا يظهر حال التمسك بقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)

ومنها قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) بناء على ان بعث الرسول كناية عن بيان التكليف نقلا او عقلا لانه يكون به غالبا كما فى قولك لا ابرح من هذا المكان حتى يؤذن المؤذن كناية عن دخول الوقت فتدل على نفى العقاب قبل البيان ، وفيه ان ظاهره الاخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث فتختص بالعذاب الدنيوى الواقع فى الامم السابقة مع ان الآية (٣) انما تدل على نفى

__________________

١ ـ وجه الاظهرية ان الآية فى مقام المنة والانسب به العموم (م ط)

٢ ـ لعل الوجه فيه كون المراد بالمعرفة هى المعرفة الكاملة التى لا يهتدى اليها العباد بعقولهم القاصرة قبل تعريف الله تعالى بارسال الرسل وانزال الكتب لا المعرفة على نحو الاجمال فانه يكون مقدورا لغالبهم (شرح)

٣ ـ فالآية لا تدل على عدم التكليف إلّا اذا دلت على عدم الاستحقاق اذ لا ملازمة بين نفى فعلية العقاب ونفى التكليف كما فى الظهار وكما فى العزم على المعصية واذ لا دلالة لها على نفى الاستحقاق فلا دلالة لها على نفى التكليف (شرح)

١٥٢

الفعلية دون نفى الاستحقاق.

ومنها قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) اى ما يجتنبونه من الافعال والتروك وظاهرها انه تعالى لا يخذلهم بعد هدايتهم الى الاسلام الا بعد ما يبين لهم وعن الكافى وتفسير العياشى وكتاب التوحيد حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه وفيه ما تقدم (١) فى الآية السابقة مع ان دلالتها اضعف من حيث ان توقف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب.

ومنها قوله تعالى (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) وفى دلالتها تامل ظاهر (٢) ويرد على الكل ان غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النهى المجهول عند المكلف لو فرض وجوده واقعا فلا ينافى ورود الدليل العام على وجوب اجتناب ما يحتمل التحريم والوجوب ومعلوم ان القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به الا عن دليل علمى وهذه الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل بل هى من قبيل الاصل بالنسبة اليه كما لا يخفى.

ومنها قوله تعالى مخاطبا لنبيه (ص) ملقنا اياه طريق الرد على اليهود حيث حرموا بعض ما رزقهم الله افتراء عليه (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) فابطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرموه فى جملة المحرمات التى اوحى الله اليه وعدم وجدانه (ص) ذلك فيما اوحى اليه وان كان دليلا قطعيا على عدم الوجود إلّا ان فى التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان فى ابطال

__________________

١ ـ اجاب ره تارة بما تقدم فى سابقتها من كونها اخبارا عن عادته تعالى فى الامم الماضية ، واخرى بمنع استلزام توقف الخذلان على البيان لتوقف التكليف عليه كما هو المدعى وذلك لان معنى الآية ما كان الله ليخذل قوما بسلب اسباب التوفيق وايكالهم الى انفسهم الا بعد بيان الواجبات والمحرمات ولا يلازم ذلك عدم التكليف قبل البيان (شرح)

٢ ـ لاحتمال ان تكون واردة فى قضية خاصة وهى غزوة بدر وكان المراد من الهلاك هو القتل ومن البينة هى المعجزات الباهرة الظاهرة من النبى (ص) (الطوسى)

١٥٣

الحكم بالحرمة.

لكن الانصاف ان غاية الامر ان يكون فى العدول عن التعبير من عدم الوجود الى عدم الوجدان اشارة الى المطلب واما الدلالة عدم وجدان مبنى دليل بر عدم وجود نيست لكن اشاره باين است كه در حكم فقط عدم وجدان بعد الفحص كافى است فلا مع انه لو سلم دلالتها فغاية مدلولها كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن الله تعالى من الاحكام يوجب عدم التحريم لا عدم وجدانه فيما بقى بايدينا من احكام الله تعالى بعد العلم باختفاء كثير منها عنا وسيأتى توضيح ذلك عند الاستدلال بالاجماع العملى على هذا المطلب

ومنها قوله تعالى (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) يعنى مع خلو ما فصل عن ذكر هذا الذى يجتنبونه ولعل هذه الآية اظهر من سابقتها لان السابقة دلت على انه لا يجوز الحكم بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما اوحى الله سبحانه الى النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذه تدل على انه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فصل وان لم يحكم بحرمته فيبطل وجوب الاحتياط ايضا إلّا ان دلالتها موهونة من جهة اخرى وهى ان ظاهر الموصول العموم فالتوبيخ على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع المحرمات الواقعية وعدم كون المتروك منها ولا ريب ان اللازم من ذلك العلم بعدم كون المتروك محرما واقعيا فالتوبيخ فى محله.

والانصاف ما ذكرنا من ان الآيات المذكورة لا تنهض على ابطال القول بوجوب الاحتياط لان غاية مدلول الدال منها هو عدم التكليف فيما لم يعلم خصوصا او عموما بالعقل او النقل وهذا مما لا نزاع فيه لاحد وانما اوجب الاحتياط من اوجبه بزعم قيام الدليل العقلى او النقلى على وجوبه فاللازم على منكره رد ذلك الدليل او معارضته بما يدل على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نص فيه واما الآيات المذكورة وهى كبعض الاخبار الآتية لا تنهض لذلك ضرورة انه اذا فرض انه ورد بطريق معتبر فى نفسه انه يجب الاحتياط فى كل ما يحتمل ان يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة.

واما السنة فيذكر منها فى المقام اخبار كثيرة منها المروى عن النبى صلى الله عليه

١٥٤

وآله وسلم بسند صحيح فى الخصال كما عن التوحيد رفع عن امتى تسعة اشياء الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا عليه الخبر فان حرمة شرب التتن مثلا لا نبحث فى شبهة التحريمة مما لا يعلمون فهى مرفوعة عنهم ومعنى رفعها كرفع الخطاء والنسيان رفع آثارها او خصوص المؤاخذة فهو نظير قوله عليه‌السلام ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.

ويمكن ان يورد عليه بان الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون بقرينة اخواتها هو الموضوع اعنى فعل المكلف الغير المعلوم كالفعل الذى لا يعلم انه شرب الخمر او شرب الخل وغير ذلك من الشبهات الموضوعية فلا يشمل الحكم الغير المعلوم مع ان تقدير المؤاخذة فى الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم لان المقدر المؤاخذة على نفس هذه المذكورات ولا معنى للمؤاخذة (١) على نفس الحرمة المجهولة نعم هى من آثارها فلو جعل المقدر فى كل من هذه التسعة ما هو المناسب من اثره امكن ان يقال ان اثر حرمة شرب التتن مثلا المؤاخذة على فعله وهى مرفوعة عنهم لكن الظاهر بناء على تقدير المؤاخذة نسبة المؤاخذة الى نفس المذكورات.

والحاصل ان المقدر (٢) فى الرواية باعتبار دلالة الاقتضاء يحتمل ان يكون

__________________

١ ـ فان الحرمة عبارة عن انشاء الشارع وفعله ولا يؤاخذ العبد بفعل الرب ، نعم المؤاخذة على مخالفتها من آثارها فنسبة المؤاخذة على الفعل تخالف نسبتها الى الحكم ، والاولى عبارة عن المؤاخذة عليه والثانية عبارة عن المؤاخذة المنسوبة اليه ، فالمحافظة على وحدة النسبة تستلزم ارادة الموضوع مما لا يعلمون (شرح)

٢ ـ حاصله ان الخبر يحتمل وجوها احدها كون المرفوع جميع الآثار وثانيها كون المرفوع فى كل واحد هو الاثر المناسب وثالثها كون المرفوع فى الجميع هو المؤاخذة خاصة ، والاول وإن كان اقرب اعتبارا اذ لا ريب فى كون الشيء المسلوب جميع آثاره اقرب الى عدمه مما سلب بعض آثاره إلّا انه لا اعتبار بالاقربية الاعتبارية فى الظهور والثانى وإن كان ظاهرا فى نفسه إلّا ان السياق يقتضى اظهرية الثالث كما ذكرنا (م ق)

١٥٥

جميع الآثار فى كل واحد من التسعة وهو الاقرب اعتبارا الى المعنى الحقيقى وان يكون فى كل منها ما هو الاثر الظاهر فيه وان يقدر المؤاخذة فى الكل ، وهذا اقرب عرفا من الاول واظهر من الثانى ايضا لان الظاهر ان نسبة الرفع الى مجموع التسعة على نسق واحد فاذا اريد من الخطاء والنسيان وما اكرهوا عليه وما اضطروا المؤاخذة على انفسها كان الظاهر فيما لا يعلمون ذلك ايضا

نعم يظهر من بعض الاخبار الصحيحة عدم اختصاص المرفوع عن الامة بخصوص المؤاخذة فعن المحاسن عن ابيه عن صفوان بن يحيى والبزنطى جميعا عن ابى الحسن عليه السلم فى الرجل يستكره على اليمين فخلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك فقال (ع) لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع عن امتى ما اكرهوا عليه وما لا يطيقون وما أخطئوا الخبر فان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وان كان باطلا عندنا مع الاختيار ايضا إلّا ان استشهاد الامام (ع) على عدم لزومها مع الاكراه على الحلف بها بحديث الرفع شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة لكن النبوى (ص) المحكى فى كلام الامام (ع) مختص بثلاثة من التسعة فلعل نفى جميع الآثار مختص بها فتامل (١)

ومما يؤيد ارادة العموم ظهور كون رفع كل واحد من التسعة من خواص امة النبى (ص) اذ لو اختص الرفع بالمؤاخذة اشكل الامر فى كثير من تلك الامور من حيث ان العقل مستقل بقبح المؤاخذة عليها فلا اختصاص له بامة النبى (ص) على ما يظهر من الرواية

لكن الذى يهون الامر فى الرواية جريان هذا الاشكال فى الكتاب العزيز

__________________

١ ـ اشارة الى ان الظاهر ان هذه الثلاثة قطعة مما كان فى كلام النبى (ص) قد اقتصر عليها الامام (ع) لكونها محل الاستشهاد فكيف يمكن التفكيك بينها وبين باقيها بتقدير جميع الآثار فى خصوصها (الطوسى)

١٥٦

ايضا فان موارد الاشكال فيها (١) وهى الخطاء والنسيان وما لا يطاق وما اضطروا اليه هى بعينها ما استوهبها النبى (ص) من ربه جل ذكره ليلة المعراج على ما حكاه الله تعالى عنه (ص) فى القرآن بقوله تعالى (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)

والذى يحسم اصل الاشكال منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الامور بقول مطلق فان الخطاء والنسيان الصادرين من ترك التحفظ لا يقبح المؤاخذة عليهما وكذا المؤاخذة على ما لا يعلمون مع امكان الاحتياط وكذا التكليف الشاق الناشى عن اختيار المكلف والمراد بما لا يطاق فى الرواية هو ما لا يتحمل فى العادة لا ما لا يقدر عليه اصلا كالطيران فى الهواء واما فى الآية فلا يبعد ان يراد به العذاب والعقوبة فمعنى لا تحملنا ما لا طاقة لنا به لا تورد علينا ما لا نطيقه من العقوبة

وبالجملة فتأييد ارادة رفع جميع الآثار بلزوم الاشكال على تقدير الاختصاص برفع المؤاخذة ضعيف جدا واضعف منه وهن العموم بلزوم التخصيص بكثير من الآثار بل اكثرها حيث انها لا يرتفع (٢) بالخطاء والنسيان واخواتهما وهو ناش عن عدم تحصيل معنى الرواية كما هو حقه فاعلم انه اذا بنينا على رفع عموم الآثار فليس المراد بها الآثار المترتبة على هذه العنوانات من حيث هى اذ

__________________

١ ـ انما خص موارد الاشكال بهذه الاربعة لعدم استقلال العقل بقبح المؤاخذة على البواقى اما الطيرة والحسد والوسوسة فظاهر واما الاكراه فكذلك ايضا ولذا لا يجوز قتل النفس ولو مع الإكراه واما ما لا يعلمون فلفرض امكان الاحتياط فلا تقبح المؤاخذة عليه (م ق)

٢ ـ كالضمان فيما اتلف مال الغير خطأ ووجوب القضاء اما نسى صلاته او اتى باحد المبطلات نسيانا او اكراها ووجوب الدية على العاقلة فى قتل الخطأ ونحوها (م ق)

١٥٧

لا يعقل (١) رفع الآثار الشرعية المترتبة على الخطأ والسهو من حيث هذين العنوانين كوجوب الكفارة المترتب على قتل الخطأ ووجوب سجدتى السهو المترتب على نسيان بعض الاجزاء وليس المراد ايضا رفع الآثار المترتبة على الشيء بوصف عدم الخطاء مثل قوله من تعمد الافطار فعليه كذا لان هذا الاثر يرتفع بنفسه فى صورة الخطاء بل المراد (٢) ان الآثار المترتبة على نفس الفعل لا بشرط الخطاء والعمد قد رفعها الشارع عن ذلك الفعل اذا صدر عن خطاء

ثم المراد بالآثار هى الآثار المجعولة الشرعية التى وضعها الشارع لانها هى القابلة للارتفاع برفعه واما ما لم يكن بجعله من الآثار العقلية والعادية فلا تدل الرواية على رفعها (٣) ولا رفع الآثار المجعولة المترتبة عليها ثم المراد بالرفع ما يشمل عدم التكليف مع قيام المقتضى له فيعم الدفع ولو بان يوجه التكليف على وجه يختص بالعامد وسيجيء بيانه.

فان قلت على ما ذكرته يخرج اثر التكليف اى المؤاخذة فيما لا يعلمون عن مورد الرواية لان استحقاق العقاب اثر عقلى له مع انه متفرع على المخالفة بقيد العمد اذ

__________________

١ ـ فان هذه العناوين علة تامة لترتب تلك الاحكام فكيف تكون علة لرفعها (شرح)

٢ ـ حاصله انه بعد استثناء القسمين المذكورين من الآثار وكذا الآثار العقلية والعادية كما سيجيء وتخصيص المقدر بالآثار المترتبة على الافعال من حيث هى لا يلزم تخصيص الاكثر كما توهم (م ق)

٣ ـ حاصله انه على تقدير عموم الآثار قد فرضنا انها لا تدل على رفع الآثار العقلية ولا الآثار الشرعية المترتبة على وصف العمد (فحينئذ) يرد على التمسك بها لاثبات رفع المؤاخذة سؤالان احدهما ان اثر التكليف فيما لا يعلمون هو استحقاق المؤاخذة وهو اثر عقلى لا يرتفع بحديث الرفع وثانيهما مع التسليم ان الاستحقاق على المخالفة بقيد العمد لكونه من آثار العصيان الذى لا يتحقق بدون المخالفة العمدية ويتضح

١٥٨

مناطه اعنى المعصية لا يتحقق إلّا بذلك واما نفس المؤاخذة فليست من الآثار المجعولة الشرعية ، والحاصل انه ليس فيما لا يعلمون اثر مجعول من الشارع مترتب على الفعل لا بقيد العلم ولا الجهل حتى يحكم الشارع بارتفاعه مع الجهل.

قلت قد عرفت (١) ان المراد برفع التكليف عدم توجيهه الى المكلف مع قيام المقتضى له سواء كان هناك دليل يثبته لو لا الرفع ام لا فالرفع هنا نظير رفع الحرج فى الشريعة و (ح) فاذا فرضنا انه لا يقبح فى العقل ان يوجه التكليف بشرب الخمر على وجه يشمل صورة الشك فيه فلم يفعل ذلك ولم يوجب تحصيل العلم ولو بالاحتياط ووجه التكليف على وجه يختص بالعالم تسهيلا على المكلف كفى فى صدق الرفع وهكذا الكلام فى الخطاء والنسيان فلا يشترط فى تحقق الرفع وجود دليل يثبت التكليف فى حال العمد وغيره نعم لو قبح عقلا المؤاخذة على الترك كما فى الغافل الغير المتمكن من الاحتياط لم يكن فى حقه رفع اصلا اذ ليس من شأنه ان يوجه اليه التكليف.

وحينئذ فنقول معنى رفع اثر التحريم فيما لا يعلمون عدم ايجاب الاحتياط والتحفظ فيه حتى يلزمه ترتب العقاب اذا افضى ترك التحفظ الى الوقوع فى الحرام الواقعى وكذلك الكلام فى رفع اثر النسيان والخطا فان مرجعه الى عدم ايجاب التحفظ عليه وإلّا فليس فى التكاليف ما يعم صورة النسيان لقبح تكليف الغافل ، والحاصل ان المرتفع فى ما لا يعلمون واشباهه مما لا يشمله ادلة التكليف

__________________

ـ ذلك فيمن شرب الخمر مثلا عامدا ، والمراد من الاثر هو الاستحقاق واما نفس المؤاخذة فلا يمكن ان تكون مرادة من الرواية لانها من الافعال الخارجية التى لا يقبل الارتفاع تشريعا (م ق)

١ ـ حاصل ما اجاب به ان المراد بالرفع ليس رفع الاستحقاق ابتداء بل بمعنى عدم توجيه الخطاب على نحو يشمل موارد الاشياء التسعة اما بعدم ارادة مواردها من الخطابات المثبتة على وجه الاطلاق واما بتوجيه الخطاب على وجه يختص بغيرها مع قيام المقتضى للاطلاق ويترتب عليه ارتفاع الاستحقاق والمؤاخذة (م ق)

١٥٩

هو ايجاب التحفظ على وجه لا يقع فى مخالفة الحرام الواقعى ويلزمه ارتفاع العقاب واستحقاقه فالمرتفع اولا وبالذات امر مجعول يترتب عليه ارتفاع امر غير مجعول.

ونظير ذلك ما ربما يقال فى رد من تمسك على عدم وجوب الاعادة على من صلى فى النجاسة ناسيا بعموم حديث الرفع من ان وجوب الاعادة وان كان حكما شرعيا إلّا انه مترتب على مخالفة المأتى به للمأمور به الموجب لبقاء الامر الاول وهى ليست من الآثار الشرعية للنسيان وقد تقدم ان الرواية لا تدل على رفع الآثار الغير المجعولة ولا الآثار الشرعية المترتبة عليها كوجوب الاعادة فيما نحن فيه ويرده ما تقدم فى نظيره من ان الرفع راجع الى شرطية طهارة اللباس بالنسبة الى الناسى فيقال بحكم حديث الرفع ان شرطية الطهارة شرعا مختصة بحال الذكر فيصير صلاة الناسى فى النجاسة مطابقة للمأمور به فلا يجب الاعادة وكذلك الكلام فى الجزء المنسى فتامل (١).

واعلم ايضا انه لو حكمنا بعموم الرفع لجميع الآثار فلا يبعد اختصاصه بما لا يكون فى رفعه ما ينافى الامتنان على الامة كما اذا استلزم اضرار المسلم فاتلاف المال المحترم نسيانا او خطاء لا يرتفع معه الضمان وكذلك الاضرار بمسلم (٢) لدفع الضرر عن نفسه لا يدخل فى عموم ما اضطروا اليه اذ لا امتنان فى رفع

__________________

١ ـ اشارة الى ان الجزئية والشرطية وان لم تكونا من الآثار الشرعية ايضا كما هو مختاره قده من انتزاعية الاحكام الوضعية عن التكليفية إلّا ان المرفوع هو نفس ما انتزع عنه الجزئية او الشرطية وهو وجوب المركب منه او المقيد به فيكون ايضا مشمولا لدليل الرفع (م ط)

٢ ـ الاكراه على اتلاف المال يتصور على وجهين احدهما ان يتوجه الاضرار من المكره بالكسر اولا وبالذات الى المكره بالفتح فالزمه مثلا باعطاء دراهم إلّا انه اراد دفعه عن نفسه بادخاله على غيره ولا ريب فى كون ارتفاع الضمان عن المكره بالفتح (ح) منافيا للامتنان ، وثانيهما ان يتعلق الغرض اولا وبالذات بادخال الضرر على شخص فاكره آخر على الاضرار به و (ح) لا ريب فى عدم منافاة ارتفاع الضمان من المكره بالفتح للامتنان لكون السبب هنا اقوى من المباشر ويحتمل فى كلا المقامين ملاحظة اقل الضررين ولعله لذا امر بالتامل (م ق)

١٦٠