الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

الشيخ علي المشكيني

الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٥

التحقيق ان يقال : ان الظن بعد ما ثبت اعتباره بالخصوص فالظاهر ان تقديمه على الاحتياط مبنى على اعتبار قصد الوجه وحيث قد رجحنا فى مقامه عدم اعتبار نية الوجه فالاقوى جواز ترك تحصيل الظن والاخذ بالاحتياط ومن هنا يترجح القول بصحة عبادة المقلد اذا اخذ بالاحتياط وترك التقليد إلّا انه خلاف الاحتياط من جهة وجود القول بالمنع من جماعة.

٢١

اما المقام الاول وهو كفاية العلم الاجمالى

فى تنجز التكليف واعتباره كالتفصيلى

فقد عرفت ان الكلام فى اعتباره بمعنى وجوب الموافقة القطعية وعدم كفاية الموافقة الاحتمالية راجع الى مسئلة البراءة والاحتياط والمقصود هنا بيان اعتباره فى الجملة الذى اقل مراتبه حرمة المخالفة القطعية فنقول : ان للعلم الاجمالى صورا كثيرة لان الاجمال الطارى اما من جهة متعلق الحكم مع تبين نفس الحكم تفصيلا كما لو شككنا ان حكم الوجوب فى يوم الجمعة متعلق بالظهر او الجمعة وحكم الحرمة يتعلق بهذا الموضوع الخارجى من المشتبهين او بذاك ، واما من جهة نفس الحكم مع تبين موضوعه كما لو شك فى ان هذا الموضوع المعلوم الكلى او الجزئى تعلق به الوجوب او الحرمة واما من جهة الحكم والمتعلق جميعا مثل ان نعلم ان حكما من الوجوب والتحريم تعلق باحد هذين الموضوعين.

ثم الاشتباه فى كل من الثلاثة (١) اما من جهة الاشتباه فى الخطاب الصادر

__________________

١ ـ حاصل التقسيم ان الاشتباه اما ان يكون فى متعلق الحكم او فى نفس الحكم او فيهما معا وعلى التقادير اما ان تكون الشبهة حكمية او موضوعية فالاقسام ستة ، والمراد من الشبهة الحكمية ان تكون الشبهة فى مراد الشارع فى موضوع الخطاب او محموله او كليهما ومن الشبهة الموضوعية ان تكون الشبهة فى شىء من مصاديق متعلق الخطاب ، واما الامثلة للاقسام الستة فالاول ما ذكره المصنف من مثال الظهر والجمعة والثانى مثل الشبهة المحصورة و

٢٢

عن الشارع كما فى مثال الظهر والجمعة واما من جهة اشتباه مصاديق متعلق ذلك الخطاب كما فى المثال الثانى والاشتباه فى هذا القسم (١) اما فى المكلف به كما فى الشبهة المحصورة واما فى المكلف ، وطرفا الشبهة فى المكلف اما ان يكونا احتمالين فى مخاطب واحد كما فى الخنثى واما ان يكونا احتمالين فى مخاطبين كما فى واجدى المنى فى الثوب المشترك.

ولا بد قبل التعرض لبيان حكم الاقسام من التعرض لامرين : احدهما ، انك قد عرفت فى اول مسئلة اعتبار العلم ان اعتباره قد يكون من باب محض الكشف والطريقية وقد يكون من باب الموضوعية بجعل الشارع والكلام هنا فى الاول اذ اعتبار العلم الاجمالى وعدمه فى الثانى تابع لدلالة ما دل على جعله موضوعا فان دل على كون العلم التفصيلى داخلا فى الموضوع كما لو فرضنا ان الشارع لم يحكم بوجوب الاجتناب الا عما علم تفصيلا نجاسته ، فلا اشكال فى عدم اعتبار العلم الاجمالى بالنجاسة.

الثانى انه اذا تولد من العلم الاجمالى العلم التفصيلى بالحكم الشرعى فى مورد وجب اتباعه وحرم مخالفته ، لما تقدم من اعتبار علم التفصيلى من غير تقييد بحصوله من منشأ خاص فلا فرق بين من علم تفصيلا ببطلان صلاته بالحدث ، او بواحد مردد بين الحدث والاستدبار ، او بين ترك ركن وفعل مبطل ، او بين فقد شرط من شرائط صلاة نفسه

__________________

ـ الثالث مثل الشك فى وجوب الجمعة وحرمتها والرابع مثل المرأة المعينة المرددة بين كونها منذورة الوطى او منذورة الترك ، والخامس مثل ما لو علم اجمالا بتعلق احد الحكمين من الوجوب والحرمة باحد الفعلين فتقع الشبهة فى كل من الحكم ومتعلقه من جهة الخطاب الصادر من الشارع والسادس مثل ان يعلم كون واحدة من هاتين المرأتين واجبة الوطى او محرمته لاجل الشك فى كونها منذورة الوطى او منذورة الترك (ق).

١ ـ اى الشبهة المصداقية (ق)

٢٣

وفقد شرط من شرائط صلاة امامه بناء على اعتبار وجود شرائط الامام فى علم المأموم الى غير ذلك ، وبالجملة فلا فرق بين هذا العلم التفصيلى وبين غيره من العلوم التفصيلية إلّا انه قد ورد فى الشرع موارد يوهم خلاف ذلك. منها : حكم بعض بصحة ايتمام احد واجدى المنى فى الثوب المشترك بينهما بالآخر مع ان المأموم يعلم تفصيلا ببطلان صلاته من جهة حدثه او حدث امامه ، ومنها ، حكم الحاكم بتنصيف العين التى تداعاها رجلان بحيث يعلم صدق احدهما وكذب الآخر فان لازم ذلك جواز شراء ثالث للنصفين من كل منهما مع انه يعلم تفصيلا عدم انتقال تمام المال اليه من مالكه الواقعى الى غير ذلك من الموارد التى يقف عليها المتتبع.

فلا بد فى هذه الموارد من التزام احد امور (١) على سبيل منع الخلو ، احدها : كون العلم التفصيلى فى كل من اطراف الشبهة موضوعا للحكم ، بان يقال : ان المانع للصلاة الحدث المعلوم صدوره تفصيلا من مكلف خاص ، فالمأموم والامام متطهران فى الواقع ، الثانى : ان الحكم الظاهرى فى حق كل احد نافذ واقعا فى حق الآخر بان يقال ان من كانت صلاته بحسب الظاهر صحيحة عند نفسه فللآخر ان يرتب عليها آثار الصحة الواقعية فيجوز له الايتمام به وكذا من حل له اخذ الدار ممن وصل اليه نصفه فانه يملك هذا النصف فى الواقع ، وكذلك اذا اشترى النصف الآخر فيثبت ملكه للنصفين فى الواقع ، الثالث : ان يلتزم بتقييد الاحكام المذكورة بما اذا لم يفض الى العلم التفصيلى بالمخالفة والمنع مما يستلزم المخالفة المعلومة تفصيلا وعليك بالتأمل فى دفع الاشكال عن كل مورد باحد الامور المذكورة فان اعتبار العلم التفصيلى بالحكم الواقعى وحرمة مخالفته مما لا يقبل التخصيص باجماع او نحوه.

اذا عرفت هذا فلتعد الى حكم مخالفة العلم الاجمالى فنقول : مخالفة الحكم المعلوم بالاجمال يتصور على وجهين : احدهما مخالفته من حيث الالتزام كالالتزام

__________________

١ ـ يجرى الوجهان الاولان منها فى كلا المثالين المذكورين واما الوجه الثالث فيجرى فى المثال الثانى فقط فيحكم بجواز شراء احد النصفين وعدم شراء كليهما (ش)

٢٤

باباحة وطى المرأة المرددة بين من حرم وطيها بالحلف ومن وجب وطيها به ، مع اتحاد زمانى الوجوب والحرمة وكالالتزام باباحة موضوع كلى مردد امره بين الوجوب والتحريم مع عدم كون احدهما المعين تعبديا يعتبر فيه قصد الامتثال ، فان المخالفة فى المثالين ليس من حيث العمل لانه لا يخلو من الفعل الموافق للوجوب او الترك الموافق للحرمة ، فلا قطع بالمخالفة الا من حيث الالتزام باباحة الفعل. الثانى : مخالفته من حيث العمل كترك الامرين اللذين يعلم بوجوب احدهما وارتكاب فعلين يعلم بحرمة احدهما فان المخالفة هنا من حيث العمل ، وبعد ذلك نقول : اما المخالفة الغير العملية ، فالظاهر جوازها فى الشبهة الموضوعية والحكمية معا سواء كان الاشتباه والترديد بين حكمين لموضوع واحد كالمثالين المتقدمين او بين حكمين لموضوعين (١) كطهارة البدن وبقاء الحدث لمن توضأ غفلة بمائع مردد بين الماء والبول لان الحكم الواقعى المعلوم اجمالا ، لا يترتب عليه اثر الا وجوب الاطاعة وحرمة المعصية عملا والمفروض انهما غير ممكنين ، ووجوب الالتزام بالحكم الواقعى مع قطع النظر عن العمل غير ثابت ، لان الالتزام بالاحكام الشرعية الفرعية انما يجب مقدمة للعمل وليست كالاصول الاعتقادية يطلب فيها الالتزام والاعتقاد من حيث الذات ، فلا مانع من جريان الاصل فى الشبهات الموضوعية فيخرج مجراه عن موضوع التكليفين ، فيقال الاصل عدم تعلق الحلف بوطى هذه وعدم تعلق الحلف بترك وطيها ، فتخرج المرأة بذلك عن موضوع حكمى التحريم والوجوب ، فيحكم بالاباحة لاجل الخروج عن موضوع الحرمة والوجوب لا لاجل طرحهما ، وكذا الكلام فى الحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث فى الوضوء بالمائع المردد ، وكذا لا مانع من جريانه فى الشبهة الحكمية وإن كان منافيا لنفس الحكم الواقعى المعلوم اجمالا ، لا مخرجا عن موضوعه.

__________________

١ ـ فان الطهارة موضوعها البدن والحدث موضوعها الروح والنفس ، والتقييد بالغفلة لاجل ان يتاتى منه قصد القربة (ش).

٢٥

فالتحقيق ان طرح الحكم الواقعى ولو كان معلوما تفصيلا ليس محرما الا من حيث كونها معصية دل العقل على قبحها واستحقاق العقاب بها ، فاذا فرض العلم تفصيلا بوجوب الشىء فلم يلتزم به المكلف إلّا انه فعله لا لداعى الوجوب لم يكن عليه شىء ، نعم لو اخذ فى ذلك الفعل نية القربة فالاتيان به لا للوجوب ، مخالفة عملية ومعصية لترك المأمور به ، ولذا قيدنا الوجوب والتحريم فى صدر المسألة بغير ما علم كون احدهما المعين تعبديا فاذا كان هذا حال العلم التفصيلى فاذا علم اجمالا بحكم مردد بين الحكمين وفرضنا اجراء الاصل فى نفى الحكمين اللذين علم بكون احدهما حكم الشارع والمفروض ايضا عدم مخالفته فى العلم ، فلا معصية ولا قبح ، بل وكذلك لو فرضنا عدم جريان الاصل لما عرفت من ثبوت ذلك فى العلم التفصيلى. فملخص الكلام ان المخالفة من حيث الالتزام ليست مخالفة ومخالفة الاحكام الفرعية انما هى فى العمل ولا عبرة بالالتزام وعدمه.

ويمكن ان يقرر دليل الجواز بوجه اخصر : وهو انه لو وجب الالتزام فان كان باحدهما المعين واقعا فهو تكليف من غير بيان ولا يلتزمه احد وان كان باحدهما المخير فيه فهذا لا يمكن ان يثبت بذلك الخطاب الواقعى المجمل فلا بد له من خطاب آخر وهو لا دليل عليه.

نعم ظاهرهم فى مسئلة دوران الامر بين الوجوب والتحريم الاتفاق على عدم الرجوع الى الاباحة وان اختلفوا بين قائل بالتخيير وقائل بتعيين الاخذ بالحرمة. والانصاف انه لا يخلو عن قوة لان المخالفة العملية التى لا تلزم فى المقام هى المخالفة دفعة وفى واقعة واما المخالفة تدريجا وفى واقعتين فهى لازمة البتة والعقل كما يحكم بقبح المخالفة دفعة عن قصد وعمد كذلك يحكم بحرمة المخالفة فى واقعتين تدريجا عن قصد اليها من غير تعبد بحكم ظاهرى عند كل واقعة و (ح) فيجب بحكم العقل الالتزام بالفعل او الترك ، اذ فى عدمه ارتكاب لما هو مبغوض للشارع

٢٦

يقينا عن قصد وتعدد الواقعة (١) انما يجدى مع الاذن من الشارع عند كل واقعة كما فى تخيير الشارع للمقلد بين قولى المجتهدين تخييرا مستمرا يجوز معه الرجوع عن احدهما الى الآخر واما مع عدمه فالقادم على ما هو مبغوض للشارع يستحق عقلا العقاب على ارتكاب ذلك المبغوض اما لو التزم باحد الاحتمالين قبح عقابه على مخالفة الواقع لو اتفقت ، ويمكن استفادة الحكم ايضا من فحوى اخبار التخيير عند التعارض ، لكن هذا الكلام لا يجرى فى الشبهة الواحدة التى لم تتعدد فيها الواقعة حتى تحصل المخالفة العملية تدريجا ، فالمانع فى الحقيقة هى المخالفة العملية القطعية ولو تدريجا مع عدم التعبد بدليل ظاهرى ، فتأمل (٢).

هذا كله فى المخالفة القطعية للحكم المعلوم اجمالا من حيث الالتزام بان لا يلتزم به او يلتزم بعدمه فى مرحلة الظاهر اذا اقتضت الاصول ذلك.

واما المخالفة العملية (٣) فان كانت لخطاب تفصيلى فالظاهر عدم جوازها سواء كانت فى الشبهة الموضوعية كارتكاب الإناءين المشتبهين المخالف لقول

__________________

١ ـ دفع لتوهم اختصاص حرمة المخالفة العملية بصورة وحدة الواقعة وعدم تأتيها فى الوقائع المتعددة ، كتخيير المقلد بين قولى المجتهدين على نحو الاستمرار ؛ وحاصل الدفع ان عدم القبح فى الوقائع المتعددة انما يسلم فيما كان للمكلف عند كل واقعة دليل تعبدى واذن صادر من الشارع مع قطع النظر عن الآخر ، واما مع عدمه ، بان كانت الوقائع المتعددة من جزئيات التكليف الواحد المعلوم بالاجمال ومحتملاته فالعقل لا يفرق بينها وبين الواقعة الواحدة فى قبح المخالفة العملية (م ق)

٢ ـ لعله اشارة الى ان اصل الاباحة على تقدير القول بجريانه مع العلم الاجمالى فى خصوص كل واقعة فهو حكم ظاهرى بالنسبة الى كل واقعة كالتخيير الشرعى للمقلد وان قلنا : ان العلم الاجمالى مانع عن الاصل فلا فرق بين اصل الاباحة وغيره (الهمدانى)

٣ ـ مخالفة العمل اما لخطاب معلوم بالتفصيل واما مردد بين خطابين وعلى التقديرين اما ان تكون الشبهة حكمية او موضوعية والامثلة واضحة مما ذكره (م ق)

٢٧

الشارع اجتنب عن النجس وكترك القصر والاتمام فى موارد اشتباه الحكم لان ذلك معصية لذلك الخطاب لان المفروض وجوب الاجتناب عن النجس الموجود بين الإناءين ووجوب صلاة الظهر مثلا قصرا او اتماما وكذا لو قال اكرم زيدا واشتبه بين شخصين ، فان ترك اكرامهما معصية.

فان قلت (١) اذا اجرينا اصالة الطهارة فى كل من الإناءين واخرجناهما عن موضوع النجس بحكم الشارع فليس فى ارتكابهما بناء على طهارة كل منهما مخالفة لقول الشارع اجتنب عن النجس. قلت : اصالة الطهارة (٢) فى كل منهما بالخصوص انما يوجب جواز ارتكابه من حيث هو واما الاناء النجس الموجود بينهما فلا اصل يدل على طهارته لانه نجس يقينا ، فلا بد اما من اجتنابهما تحصيلا للموافقة القطعية واما ان يجتنب احدهما فرارا عن المخالفة القطعية على الاختلاف المذكور فى محله. هذا مع ان حكم الشارع بخروج مجرى الاصل عن موضوع التكليف الثابت بالادلة الاجتهادية لا معنى له إلّا رفع حكم ذلك الموضوع فمرجع اصالة الطهارة الى عدم وجوب الاجتناب المخالف لقوله اجتنب عن النجس ، فافهم.

وان كانت المخالفة مخالفة لخطاب مردد بين خطابين كما اذا علمنا بنجاسة

__________________

١ ـ حاصله منع لزوم المخالفة العملية فى الشبهة الموضوعية بعد فرض كون الاصول فيها مخرجة لمجاريها عن موضوع الخطابات الواقعية ، اذ بعد الحكم بطهارة كل من الإناءين لم تلزم مخالفة العمل لقوله اجتنب عن النجس (م ق)

٢ ـ حاصل الجواب الاول : منع شمول ادلة الاصول لصورة العلم الاجمالى كما هو مختاره وان اجزاء الاصل فى كل من المشتبهين انما هو مع ملاحظة كل منهما فى نفسه مع قطع النظر عن الواقع واما معه فلا وحاصل الثانى لزوم صرف ادلة الاصول على تقدير تسليم شمولها لاطراف العلم الاجمالى عن ظاهرها الى غير هذه الصورة كالشبهة البدوية (م ق)

٢٨

هذا المائع او بحرمة هذه المرأة او علمنا بوجوب الدعاء عند رؤية هلال شهر رمضان او بوجوب الصلاة عند ذكر النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففى المخالفة القطعية (ح) وجوه : احدها الجواز مطلقا ، لان المردد بين الخمر والاجنبية لم يقع النهى عنه فى خطاب من الخطابات الشرعية حتى يحرم ارتكابه وكذا المردد بين الدعاء والصلاة فان الاطاعة والمعصية عبارة عن موافقة الخطابات التفصيلية ومخالفتها. الثانى : عدم الجواز مطلقا لان مخالفة الشارع قبيحة عقلا مستحقة للذم عليها ولا يعذر فيها الا الجاهل بها ، الثالث : الفرق بين الشبهة فى الموضوع والشبهة فى الحكم ، فيجوز فى الاولى دون الثانية لان المخالفة القطعية فى الشبهات الموضوعية فوق حد الاحصاء (١) بخلاف الشبهات الحكمية كما يظهر من كلماتهم فى مسائل اجماع المركب والاقوى من هذه الوجوه هو الوجه الثانى ثم الثالث.

هذا كله فى اشتباه الحكم من حيث الفعل المكلف به ، واما الكلام فى اشتباهه من حيث الشخص المكلف بذلك الحكم فيقع فى الحكم الثابت لموضوع واقعى مردد بين شخصين كاحكام الجنابة المتعلقة بالجنب المردد بين واجدى المنى.

ومحصله ان مجرد تردد التكليف بين شخصين لا يوجب على احدهما شيئا ، اذ العبرة فى الاطاعة والمعصية بتعلق الخطاب بالمكلف الخاص ، فالجنب المردد بين شخصين غير مكلف بالغسل وان ورد من الشارع انه يجب الغسل على كل جنب ، فان كلا منهما شاك فى توجه هذا الخطاب اليه فيقبح عقاب واحد من الشخصين يكون جنبا بمجرد هذا الخطاب الغير المتوجه اليه ، نعم لو اتفق لاحدهما او لثالث علم بتوجه خطاب اليه دخل فى اشتباه متعلق التكليف الذى تقدم حكمه باقسامه.

ولا بأس بالاشارة الى بعض فروع المسألة ليتضح انطباقها على ما تقدم

__________________

١ ـ لحصول العلم لكل احد ببطلان بعض وضوءاته واغساله لنجاسة الماء مثلا واكله الغذاء المتنجس والشراب المتنجس فى موارد كثيرة فى طول عمره ونحو ذلك (ش)

٢٩

فى العلم الاجمالى بالتكليف ، فمنها حمل احدهما الآخر وادخاله فى المسجد للطواف او لغيره بناء على تحريم ادخال الجنب او ادخال النجاسة الغير المتعدية فان قلنا : الدخول والادخال متحققان بحركة واحدة دخل (١) فى المخالفة القطعية المعلومة تفصيلا ، وان تردد بين كونه من جهة الدخول او الادخال وان جعلناهما (٢) متغايرين فى الخارج كما فى الذهن فان جعلنا الدخول والادخال راجعين الى عنوان محرم واحد وهو القدر المشترك بين ادخال النفس وادخال الغير كان من المخالفة المعلومة بالخطاب التفصيلى نظير ارتكاب المشتبهين بالنجس وان جعلنا كلا منهما عنوانا مستقلا دخل فى المخالفة للخطاب المعلوم بالاجمال الذى عرفت فيه الوجوه المتقدمة وكذا من جهة دخول المحمول واستيجاره الحامل مع قطع النظر عن حرمة الدخول والادخال عليه (٣) او فرض عدمها حيث انه يعلم اجمالا بصدور احد المحرمين ، اما دخول المسجد جنبا او استيجار جنب للدخول فى المسجد ، إلّا ان يقال : بان الاستيجار تابع لحكم الاجير فاذا لم يكن فى تكليفه محكوما بالجنابة وابيح له الدخول فى المسجد صح استيجار الغير له.

ومنها اقتداء الغير بهما فى صلاة (٤) او صلاتين فان قلنا بان عدم جواز الاقتداء

__________________

١ ـ يعنى يخرج (ح) عن محل الكلام اذ لا عبرة باجمال الخطاب بعد ان تولد منه علم تفصيلى بالحرمة (الهمدانى)

٢ ـ بان : قلنا : ان الادخال يحصل بالحمل الذى هو فعل آخر مقارن للدخول الذى يتحقق بالمشى الى المسجد (فحينئذ) يكون بمنزلة ما لو اوجد كلا منهما بفعل مستقل متمايز عن الآخر ، كما لو دفع الآخر الى المسجد ثم دخل هو بنفسه (الهمدانى)

٣ ـ اى على الحامل يعنى ان الكلام انما هو فى تكليف المحمول من حيث علمه اجمالا بانه او اجيره جنب مع قطع النظر عن ان فعل الحامل محرم فيكون استيجاره اعانة على الاثم (الهمدانى)

٤ ـ بان افتدى باحدهما فى صلاة ثم عرض للامام مانع عن اتمامها فاقام الآخر مقامه فاتمها (ق)

٣٠

من احكام الجنابة الواقعية كان الاقتداء بهما فى صلاة واحدة موجبا للعلم التفصيلى ببطلان الصلاة ، والاقتداء بهما فى صلاتين من قبيل ارتكاب الإناءين ، والاقتداء باحدهما فى صلاة واحدة كارتكاب احد الإناءين ، وان قلنا : انه يكفى فى جواز الاقتداء عدم جنابة الشخص فى حكم نفسه صح الاقتداء فى صلاة فضلا عن صلاتين لانهما طاهران بالنسبة الى حكم الاقتداء.

والاقوى هو الاول لان الحدث مانع واقعى لا علمى نعم لا اشكال فى استيجارهما لكنس المسجد فضلا عن استيجار احدهما ، لان صحة الاستيجار تابعة لاباحة الدخول لهما لا للطهارة الواقعية والمفروض اباحته لهما. وقس على ما ذكرنا جميع ما يرد عليك مميزا بين الاحكام المتعلقة بالجنب من حيث الحدث الواقعى وبين الاحكام المتعلقة بالجنب من حيث انه مانع ظاهرى للشخص المتصف به. هذا تمام الكلام فى اعتبار العلم.

٣١

المقصد الثانى فى الظن

والكلام فيه يقع فى مقامين : احدهما فى امكان التعبد به عقلا (١) والثانى فى وقوعه عقلا او شرعا.

اما الاول : فاعلم ان المعروف هو امكانه ويظهر من الدليل المحكى عن ابن قبة (٢) فى استحالة العمل بالخبر الواحد عموم المنع لمطلق الظن فانه استدل على مذهبه بان العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال اذ لا يؤمن ان يكون ما اخبر بحليته حراما وبالعكس ؛ وهذا الوجه كما ترى جار فى مطلق الظن بل فى مطلق الامارة الغير العلمية وان لم يفد الظن. واستدل المشهور على الامكان

__________________

١ ـ ليس النزاع فى المقام فى امكانه الذاتى لبداهة قابلية الظن لان يلزم باتباعه بل النزاع فى الامكان بمعنى عدم لزوم محال من فرض وجوده ويسمى بالامكان الوقوعى ويقابله الامتناع بمعنى لزومه منه (م ـ ط)

٢ ـ قبة بكسر القاف وفتح الباء مع التخفيف : هو ابو جعفر محمد بن عبد الرحمن الرازى متكلم عظيم القدر حسن العقيدة قوى الكلام ، كان من المعتزلة فتبصر وانتقل (صه).

٣٢

بانا نقطع بانه لا يلزم من التعبد به محال ، وفى هذا التقرير نظر ، اذ القطع بعدم لزوم المحال فى الواقع موقوف على احاطة العقول لجميع الجهات المحسنة والمقبحة وعلمها بانتفائها وهو غير حاصل فيما نحن فيه فالاولى ان يقرر هكذا (١) انا لا نجد فى عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء فى الحكم بالامكان.

واجيب عن دليل ابن قبة تارة بالنقض بالامور الكثيرة الغير المفيدة للعلم كالفتوى والبينة واليد ، بل القطع ايضا ، لانه قد يكون جهلا مركبا ، واخرى بالحل بان يقال : انه ان اراد امتناع التعبد بالخبر فى المسألة التى انسد فيها باب العلم بالواقع فلا يعقل المنع عن العمل به فضلا عن امتناعه ، وان اراد الامتناع مع انفتاح باب العلم والتمكن منه فى مورد العمل بالخبر فنقول : ان التعبد بالخبر (ح) بل بكل امارة غير علمية يتصور على وجهين : الاول ان يكون ذلك من باب مجرد الكشف عن الواقع ، فلا يلاحظ فى التعبد بها الا الايصال الى الواقع ، فلا مصلحة فى سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع ، كما لو امر المولى عبده عند تحيره فى طريق بغداد بسؤال الاعراب عن الطريق غير ملاحظ فى ذلك الا كون قول الاعراب موصلا الى الواقع دائما او غالبا ، والامر بالعمل فى هذا القسم ليس إلّا للارشاد ، وهذا الوجه غير صحيح مع علم الشارع العالم بالغيب بعدم دوام موافقة هذه الامارة للواقع. الثانى

__________________

١ ـ لما كان ظاهر المشهور دعوى الامكان الواقعى وكان اثباته موقوفا على احاطة العقل بجميع الجهات المحسنة والمقبحة وانتفائها فى الواقع وكانت دعوى ذلك مصادمة للوجدان ، عدل ره عنه وقرره بما يفيد الامكان الظاهرى ، وحاصله ان التعبد بالظن لم تثبت استحالته اذ ليس فى العقل ما يستحيله ومع الشك فى امكان شىء وامتناعه يحكم بامكانه فى مرحلة الظاهر لبناء العقلاء عليه (م ق)

٣٣

ان يكون ذلك لمدخلية (١) سلوك الامارة فى مصلحة العمل بها وان خالف الواقع فان العمل على طبق تلك الامارة (٢) والالتزام به فى مقام العمل على انه هو الواقع وترتيب الآثار الشرعية المترتب عليه واقعا يشتمل على مصلحة فاوجبه الشارع وتلك المصلحة لا بد ان يكون مما يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع وإلّا كان تفويتا لمصلحة الواقع وهو قبيح كما عرفت فى كلام ابن قبة (٣) فاذا أدّت الامارة الى وجوب صلاة الجمعة واقعا وجب ترتيب احكام الوجوب الواقعى وتطبيق

__________________

١ ـ مقتضى هذا الوجه هو الرخصة فى العمل بمؤدى الامارة وفرض مؤداها واقعا لاجل ملاحظة الشارع المصلحة فى سلوكها من دون ان تحدث بسبب قيامها مصلحة فى نفس الفعل ، فاذا قامت الامارة المخالفة فغاية ما تقتضيه المصلحة الموجودة فى سلوكها هى الرخصة فى العمل بها وفرض مؤداها واقعا مع بقاء الواقع على ما هو عليه وثمرة بقائه يظهر فى وجوب الاعادة والقضاء مع انكشاف الخلاف فى الوقت او خارجه (م ق)

٢ ـ يعنى ان المصلحة انما هى فى نصب الطريق وتنزيل شىء منزلة العلم كالتسهيل على المكلف ونحوه من غير ان يكون له دخل فى حسن متعلقه كنفس العلم الذى هو طريق عقلى (الهمدانى)

٣ ـ قد يتوهم ان هذا الوجه هو التصويب المجمع على بطلانه والجواب إنّ التصويب وهو ثبوت الاحكام فى حق العالم دون الجاهل على اقسام : الاول ان يكون الحكم من أصله تابعا للامارة بحيث لا يكون فى حق الجاهل مع قطع النظر عن وجود هذه الامارة وعدمها حكم فيكون الاحكام الواقعية مختصة بالعالمين بها والجاهل لا حكم له ولا مفسدة ولا مصلحة فى فعله ، الثانى ان يكون الحكم الفعلى تابعا للامارة بمعنى ان الله فى كل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لو لا قيام الامارة على خلافه بحيث يكون قيام الامارة المخالفة سببا لانقلاب المصالح والمفاسد وانقلاب الحكم الواقعى الاولى الى واقعى آخر ، والظاهر بطلان كلا القسمين وقد ادعى تواتر الاخبار بوجود حكم مشترك

٣٤

العمل على وجوبها الواقعى فان كان فى اول الوقت جاز الدخول فيها بقصد الوجوب وجاز تاخيرها فاذا فعلها جاز له فعل النافلة وان حرمت فى وقت الفريضة المفروض كونها فى الواقع هى الظهر ، لعدم وجوب الظهر عليه فعلا ورخصته فى تركها وان كان فى آخر وقتها حرم تأخيرها والاشتغال بغيرها ، ثم ان استمر هذا الحكم الظاهرى اعنى الترخيص فى ترك الظهر الى آخر وقتها وجب كون الحكم الظاهرى بكون ما فعله فى اول الوقت هو الواقع المستلزم لفوات الواقع على المكلف مشتملا على مصلحة يتدارك بها ما فات لاجله من مصلحة الظهر لئلا يلزم تفويت الواجب الواقعى على المكلف مع التمكن من اتيانه بتحصيل العلم به وان لم يستمر بل علم بوجوب الظهر فى المستقبل بطل وجوب العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعا ووجب العمل على طبق عدم وجوبه فى نفس الامر من اول الامر ، لان المفروض عدم حدوث الوجوب النفس الامرى وانما عمل على طبقه ما دامت امارة الوجوب قائمة فاذا فقدت بانكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة وجب (ح) ترتيب ما هو كبرى لهذا المعلوم اعنى وجوب الاتيان بالظهر ونقض آثار وجوب صلاة الجمعة الا ما فات منها فقد تقدم ان مفسدة فواته متداركة بالحكم الظاهرى المتحقق فى زمان الفوت فلو فرضنا العلم بعد خروج وقت الظهر فقد تقدم ان حكم الشارع بالعمل بمؤدى الامارة اللازم منه ترخيص ترك

__________________

ـ بين العالم والجاهل فاذا قد ظهر بطلان التوهم المذكور فانه على الوجه الثانى المقرر فى المتن اذا قامت الامارة على وجوب الجمعة مع كون الواجب الواقعى ظهرا فلا تنتفى مصلحة الظهر ولا حكمها الانشائى المشترك. نعم لا يكون منجزا لقيام الامارة على خلافه كما انه لا تتولد مصلحة فى الجمعة ولا يحدث لها حكم واقعى نعم يكون قيام الامارة سببا لحدوث حكم ظاهرى متعلق بها ناش عن مصلحة فى انشائه وسلوك تلك الامارة كما بينه (ره) والحكم الظاهرى لا ينافى الواقعى كذلك ولا دليل على بطلان هذا القول (ش)

٣٥

الظهر فى الجزء الاخير لا بد ان يكون لمصلحة يتدارك بها مفسدة ترك الظهر.

ثم ان قلنا ان القضاء فرع صدق الفوت المتوقف على فوات الواجب من حيث ان فيه مصلحة لم يجب فيما نحن فيه لان الواجب وان ترك إلّا ان مصلحته متداركة فلا يصدق على هذا الترك الفوت ، وان قلنا انه متفرع على مجرد ترك الواجب وجب هنا لفرض العلم بترك صلاة الظهر مع وجوبها عليه واقعا إلّا ان يقال ان غاية ما يلزم فى المقام هى المصلحة فى معذورية هذا الجاهل ولو كانت تسهيل الامر على المكلفين ولا ينافى ذلك صدق الفوت.

وبالجملة فحال الامر بالعمل بالامارة القائمة على حكم شرعى حال الامر بالعمل على الامارة القائمة على الموضوع الخارجى كحياة زيد وموت عمرو ، فكما ان الامر بالعمل فى الموضوعات لا يوجب جعل نفس الموضوع وانما يوجب جعل احكامه فيترتب عليه الحكم ما دامت الامارة قائمة عليه فاذا فقدت الامارة وحصل العلم بعدم ذلك الموضوع ترتب عليه فى المستقبل جميع احكام عدم ذلك الموضوع من اول الامر فكذلك حال الامر بالعمل على الامارة القائمة على الحكم.

والمراد بالحكم الواقعى الذى يلزم بقائه هو الحكم المتعين المتعلق بالعباد الذى يحكى عنه الامارة ويتعلق به العلم او الظن وامر السفراء بتبليغه وان لم يلزم امتثاله فعلا فى حق من قامت عنده امارة على خلافه. إلّا انه يكفى فى كونه الحكم الواقعى انه لا يعذر فيه اذا كان عالما به او جاهلا مقصرا والرخصة فى تركه عقلا كما فى الجاهل القاصر او شرعا كمن قامت عنده امارة معتبرة على خلافه ، ومما ذكرنا يظهر حال الامارة على الموضوعات الخارجية فانها من هذا القسم الثالث.

والحاصل ان المراد بالحكم الواقعى هى مدلولات الخطابات الواقعية الغير المقيدة بعلم المكلفين ولا بعدم قيام الامارة على خلافها ولها آثار عقلية و

٣٦

شرعية يترتب عليها عند العلم بها او قيام امارة حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤداها هو الواقع نعم هذه ليست احكاما فعلية بمجرد وجودها الواقعى.

وتلخص من جميع ما ذكرنا ان ما ذكره ابن قبة من استحالة التعبد بخبر الواحد او بمطلق الامارة الغير العلمية ممنوع على اطلاقه وانما يقبح اذا ورد التعبد على بعض الوجوه كما تقدم. ثم انه ربما ينسب الى بعض ايجاب التعبد بخبر الواحد او بمطلق الامارة على الله تعالى بمعنى قبح تركه منه فى مقابل قول ابن قبة فان اراد به وجوب امضاء حكم العقل بالعمل به عند عدم التمكن من العلم وبقاء التكليف فحسن ، وان اراد حكم صورة الانفتاح فان اراد وجوب التعبد العينى فهو غلط لجواز تحصيل العلم معه قطعا ، وان اراد وجوب التعبد به تخييرا فهو مما لا يدركه العقل ، اذ لا يعلم العقل بوجود مصلحة فى الامارة يتدارك بها مصلحة الواقع التى تفوت بالعمل بالامارة. اللهم إلّا ان يكون فى تحصيل العلم حرج يلزم فى العقل رفع ايجابه بنصب امارة هى اقرب من غيرها الى الواقع او اصح فى نظر الشارع من غيره فى مقام البدلية عن الواقع وإلّا فيكفى امضائه للعمل بمطلق الظن كصورة الانسداد.

ثم اذا تبين عدم استحالة تعبد الشارع بغير العلم وعدم القبح فيه ولا فى تركه فيقع الكلام فى المقام الثانى فى وقوع التعبد به فى الاحكام الشرعية مطلقا او فى الجملة وقبل الخوض فى ذلك لا بد من تأسيس الاصل الذى يكون عليه المعول عند عدم الدليل على وقوع التعبد بغير العلم مطلقا او فى الجملة ، فنقول : التعبد بالظن الذى لم يدل على التعبد به دليل محرم بالادلة الاربعة ويكفى من الكتاب قوله تعالى (١)

__________________

١ ـ الآية واردة فى ذم اليهود وتوبيخهم وتقريب الدلالة ان الظاهر من قوله اذن لكم ؛ الاذن الفعلى الموقوف على وصول البيان ، والمراد بالافتراء (ح) بقرينة المقابلة نسبة الحكم الى الله تعالى من دون اذن وبيان منه سواء أكان ماذونا منه ام لا وسواء أكان المكلف ظانا بذلك ام عالما بعدمه ام شاكا ام معتقدا به مع

٣٧

(قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) دل على ان ما ليس باذن من الله من اسناد الحكم الى الشارع فهو افتراء ، ومن السنة قوله (ص) فى عداد القضاة من اهل النار رجل قضى بالحق وهو لا يعلم ، ومن الاجماع ما ادعاه الفريد البهبهانى فى بعض رسائله من كون عدم الجواز بديهيا عند العوام فضلا عن العلماء. ومن العقل تقبيح العقلاء من يتكلف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى ولو كان جاهلا مع التقصير ، نعم قد يتوهم متوهم ان الاحتياط من هذا القبيل وهو غلط واضح ، اذ فرق بين الالتزام بشىء من قبل المولى على انه منه مع عدم العلم بانه منه ، وبين الالتزام باتيانه لاحتمال كونه منه او رجاء كونه منه وشتان ما بينهما لان العقل يستقل بقبح الاول وحسن الثانى.

هذا وقد يقرر الاصل هنا بوجه آخر وهو ان الاصل عدم الحجية وعدم وقوع التعبد به وايجاب العمل به ، وفيه ان الاصل (١) وان كان ذلك إلّا انه لا يترتب

__________________

ـ التقصير ، فالآية دالة على حرمة الجميع ، وقوله فى عداد القضاة اه ، العداد ككتاب يقال فلان فى عدادهم اى واحد منهم والرواية رواها محمد بن خالد مرفوعا الى ابى عبد الله قال : القضاة اربعة ثلاثة فى النار وواحد فى الجنة رجل قضى بجور وهو يعلم فهو فى النار ورجل قضى بجور وهو لا يعلم انه قضى بجور فهو فى النار ورجل قضى بحق وهو لا يعلم فهو فى النار ورجل قضى بحق وهو يعلم فهو فى الجنة (ش)

١ ـ لان مرجعه الى الاستصحاب العدمى فى الحوادث المشكوكة ، اذ حجية الظن والتعبد به وايجاب العمل به من الامور الحادثة فيستصحب عدمها فيثبت به ما كان مرتبا على عدم هذا الحادث المشكوك فيه وهى حرمة العمل بالظن ، وحاصل الجواب : ان المقصود من استصحاب عدم الحجية اثبات حرمة العمل بالظن ويكفى فى ثبوتها مجرد الشك وعدم العلم بالحجية من دون حاجة الى اثبات عدم الحجية ، وذلك لان وجوب التعبد بالظن وإن كان من الآثار الشرعية المترتبة على الحجية الواقعية ولا بد فى اثباته من العلم بالحجية وجدانا او شرعا ، إلّا ان حرمة التعبد به يكفى فى اثباتها عدم العلم

٣٨

على مقتضاه شىء فان حرمة العمل يكفى فى موضوعها عدم العلم بورود التعبد من غير حاجة الى احراز عدم ورود التعبد به ، ليحتاج فى ذلك الى الاصل ثم اثبات الحرمة.

والحاصل ان اصالة عدم الحادث انما يحتاج اليها فى الاحكام المترتبة على ذلك الحادث واما الحكم المترتب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفى فيه الشك فيه ولا يحتاج الى احراز عدمه بحكم الاصل ، وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ فانه لا يحتاج فى اجرائها الى اجراء اصالة عدم فراغ الذمة بل يكفى فيها عدم العلم بالفراغ فافهم.

لكن ما ذكرنا فى بيان الاصل هو الذى ينبغى ان يعتمد عليه وحاصله : ان التعبد بالظن مع الشك فى رضاء الشارع بالعمل به فى الشريعة تعبد بالشك وهو باطل عقلا ونقلا سواء استلزم (١) طرح الاصل او الدليل الموجود فى مقابله ام لا ، واما مجرد العمل على طبقه فهو محرم اذا خالف اصلا من الاصول اللفظية او العملية الدالة على وجوب الاخذ بمضمونها حتى يعلم الرافع ، فالعمل بالظن قد يجتمع فيه جهتان للحرمة كما اذا عمل به ملتزما بانه حكم الله وكان العمل به مخالفا لمقتضى الاصول ، كما لو ظن الوجوب واقتضى الاستصحاب الحرمة ، وقد يتفق فيه جهة واحدة كما اذا خالف الاصل ولم يلتزم بكونه حكم الله او التزم ولم يخالف

__________________

ـ بحجيته تشريعا محرما فلا ، يحتاج فى اثبات حرمة التعبد به الى احراز عدم كونه حجة ولو بالاصل (ق)

١ ـ العمل بالظن على ما يظهر من كلامه على وجوه : احدها ان يعمل به على وجه التعبد والتدين. ثانيها ان يعمل به لرجاء مطابقته للواقع. ثالثها ، ان يعمل به بمعنى جعل الافعال على طبقه من دون تدين به ولا بعنوان احتمال المطابقة للواقع بل تشهيا واقتراحا ، والاول هو مورد الادلة الاربعة التى اقامها لان مقتضاها حرمة التشريع وهو غير متحقق فى الاخيرين (ق).

٣٩

مقتضى الاصول وقد لا يكون فيه عقاب اصلا كما اذا لم يلتزم بكونه حكم الله ولم يخالف اصلا و (ح) قد يستحق عليه الثواب كما اذا عمل به على وجه الاحتياط.

هذا ولكن حقيقة العمل بالظن هو الاستناد اليه فى العمل والالتزام بكون مؤداه حكم الله فى حقه ، فالعمل على ما يطابقه بلا استناد اليه ليس عملا به ، فصح ان يقال : ان العمل بالظن والتعبد به حرام مطلقا وافق الاصول او خالفها ، غاية الامر انه اذا خالف الاصول يستحق العقاب من جهتين ، من جهة الالتزام والتشريع ومن جهة طرح الاصل المأمور بالعمل به حتى يعلم بخلافه ، وقد اشير فى الكتاب والسنة الى الجهتين فمما اشير فيه (١) الى الاولى قوله : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) بالتقريب المتقدم وقوله (ص) رجل قضى بالحق وهو لا يعلم ، ومما اشير فيه الى الثانية قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وقوله (ع) من افتى الناس بغير علم كان ما يفسده اكثر مما يصلحه ، ونفس ادلة الاصول.

ثم انه ربما يستدل على اصالة حرمة العمل بالظن بالآيات الناهية عن العمل بالظن ، وقد اطالوا الكلام فى النقض والابرام فى هذا المقام بما لا ثمرة مهمة فى ذكره بعد ما عرفت ، والظاهر ان مضمون الآيات هو التعبد بالظن والتدين به ، وقد عرفت انه ضرورى التحريم فلا مهم فى اطالة الكلام فى دلالة الآيات وعدمها.

__________________

١ ـ وجه الاشارة فى الآية ان المراد بالافتراء فيها نسبة حكم الى الله من دون اذن فعلى منه تعالى ، وغير خفى ان هذا المعنى لا ينطبق على المعنى الثانى للعمل بالظن اعنى مجرد جعل العمل على طبقه من دون استناد وتعبد ، اذ المقصود بالافتراء فى الآية نسبة الحكم الى الله على وجه ابراز غير المعلوم بصورة المعلوم وهو معنى التعبد وكذا القضاء بالحق بغير علم لا يكون إلّا بهذا الوجه ، وقوله ثانيا ومما أشير إليه. وجه الاشارة فى الآية كونها واردة فى مقام الذم على العمل بالظن من حيث مخالفة عمله للواقع وهو اما العلم او الامارات والاصول المعتبرة ، فالذم يشمل صورة العمل بالظن المخالف لها واما فى الرواية فقوله ما يفسده اكثر (ق)

٤٠