الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

الشيخ علي المشكيني

الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٥

حكم بحل التصرف فيهما لاجل اليد وان لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الاصل فيهما حرمة التصرف لاصالة بقاء الثوب على ملك الغير واصالة الحرية فى الانسان المشكوك فى رقيته وكذا الزوجة ان لوحظ فيها اصل عدم تحقق النسب او الرضاع فالحلية مستندة اليه وان قطع النظر عن هذا الاصل فالاصل عدم تأثير العقد فيها فيحرم وطيها ، وبالجملة فهذه الامثلة الثلاثة بملاحظة الاصل الاولى محكومة بالحرمة والحكم بحليتها انما هو من حيث الاصل الموضوعى الثانوى فالحل غير مستند (١) الى اصالة الاباحة فى شيء منها هذا ، ولكن فى الاخبار المتقدمة بل جميع الادلة المتقدمة من الكتاب والعقل كفاية مع ان صدرها وذيلها ظاهر ان فى المدعى.

وتوهم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا نظرا الى ان الشارع بين حكم الخمر مثلا فيجب حينئذ اجتناب كل ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدمة العلمية فالعقل لا يقبح العقاب خصوصا على تقدير مصادفة الحرام.

مدفوع بان النهى عن الخمر يوجب حرمة الافراد المعلومة تفصيلا او المعلومة اجمالا المترددة بين محصورين ، والاول لا يحتاج الى مقدمة علمية ، والثانى يتوقف على الاجتناب من اطراف الشبهة لا غير واماما احتمل كونه خمرا من دون علم اجمالى فلم يعلم من النهى تحريمه وليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرم يحسن العقاب عليه فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقف العلم باجتنابه على اجتنابه بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلى المشتبه حكمه كشرب التتن فى قبح العقاب عليه.

__________________

١ ـ فانه لم تذكر تلك الامثلة مثالا للمطلب ، بل تنظيرا لتقريب اصالة الاباحة فى الاذهان ، وانها ليست بعادمة النظير فى الشريعة ، فقد حكم بملكية العبد والثوب مع الشك فيها بمجرد اليد ، وبصحة العقد على الامرأة التى شك فى انها من المحارم بالنسب او بالرضاع بمجرد اصالة عدمهما (الطوسى)

٢٠١

وما ذكر من التوهم جار فيه ايضا لان العمومات الدالة على حرمة الخبائث والفواحش وما نهيكم عنه فانتهوا يدل على حرمة امور واقعية يحتمل كون شرب التتن منها ، ومنشأ التوهم المذكور ملاحظة تعلق الحكم بكلى مردد بين مقدار معلوم وبين اكثر منه فيتخيل ان الترديد فى المكلف به مع العلم بالتكليف فيجب الاحتياط ، ونظير هذا التوهم قد وقع فى الشبهة الوجوبية حيث تخيل بعض ان دوران ما فات من الصلوات بين الاقل والاكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدمة العلمية.

وتوضيح دفعه ان قوله اقض ما فات يوجب العلم التفصيلى بوجوب قضاء ما علم فوته وهو الاقل ولا يدل اصلا على وجوب ما شك فى فوته وليس فى فعله مقدمة لواجب حتى يجب من باب المقدمة فالامر بقضاء ما فات واقعا لا يقتضى إلّا وجوب المعلوم فواته من جهة ان الامر بقضاء الفائت الواقعى لا يعد دليلا الا على ما علم صدق الفائت عليه ، وهذا لا يحتاج الى مقدمة ولا يعلم منه وجوب شيء آخر يحتاج الى المقدمة العلمية ، والحاصل ان المقدمة العلمية المتصفة بالوجوب لا تكون الا مع العلم الاجمالى هذا.

ولكن المشهور بين الاصحاب رضوان الله عليهم بل المقطوع به من المفيد الى الشهيد الثانى انه لو لم يعلم كمية ما فات قضى حتى يظن الفراغ منها ، وظاهر ذلك كون الحكم على القاعدة وقد عرفت ان المورد من موارد جريان اصالة البراءة والاخذ بالاقل عند دوران الامر بينه وبين الاكثر كما لو شك فى مقدار الدين الذى يجب قضائه او فى ان الفائت منه صلاة العصر فقط او هى مع الظهر فان الظاهر عدم افتائهم بلزوم قضاء الظهر ، وكذا لو تردد فيما فات عن ابويه او فى ما تحمله بالاجارة بين الاقل والاكثر.

وربما يوجه الحكم (١) فيما نحن فيه بان الاصل عدم الاتيان بالصلاة الواجبة فيترتب

__________________

١ ـ يعنى حكم المشهور بوجوب القضاء حتى يعلم الفراغ ؛ وحاصله ان استصحاب

٢٠٢

عليه وجوب القضاء الا فى صلاة علم الاتيان بها فى وقتها ، ودعوى ترتب وجوب القضاء على صدق الفوت الغير الثابت بالاصل لا مجرد عدم الاتيان الثابت بالاصل ممنوعة لما يظهر من الاخبار وكلمات الاصحاب من ان المراد بالفوت مجرد الترك كما بيناه فى الفقه.

وان شئت تطبيق ذلك (١) على قاعدة الاحتياط اللازم فتوضيحه ان القضاء وان كان بامر جديد إلّا ان ذلك الامر كاشف عن استمرار مطلوبية الصلاة من عند دخول وقتها الى آخر زمان التمكن من المكلف غاية الامر كون هذا على سبيل تعدد المطلوب بان يكون الكلى المشترك بين ما فى الوقت وخارجه مطلوبا وكون اتيانه فى الوقت مطلوبا آخر ، كما ان اداء الدين ورد السلام واجب فى اول اوقات الامكان ولو لم يفعل ففى الآن الثانى وهكذا ، و (ح) فاذا دخل الوقت وجب ابراء الذمة عن ذلك الكلى ، فاذا شك فى براءة ذمته بعد الوقت فمقتضى حكم العقل باقتضاء الشغل اليقيني للبراءة اليقينية وجوب الاتيان كما لو شك فى البراءة قبل خروج الوقت ، وكما لو شك فى اداء الدين الفورى فلا يقال ان الطلب فى الزمان الاول قد ارتفع بالعصيان ووجوده فى الزمان الثانى مشكوك فيه وكذلك جواب السلام ، والحاصل ان التكليف المتعدد بالمطلق والمقيد لا ينافى جريان الاستصحاب وقاعدة الاشتغال بالنسبة

__________________

ـ عدم الاتيان بالمشكوك فيه حاكم على اصالة البراءة عنه ، وحاصل الدعوى ان الحق كون القضاء بامر جديد لا بالامر الاول وهو فى الادلة معلق على صدق الفوت وهو امر وجودى مسبوق بالعدم واثباته باصالة عدم الاتيان بالمشكوك فيه مبنى على الاصول المثبتة ، وحاصل الدفع ان الفوت عبارة عن نفس عدم الاتيان بالمأمور به فيحرز بالاصل (م ق)

١ ـ كان التوجيه السابق مبنيا على الاستصحاب وهذا مبنى على قاعدة الاشتغال ، وحاصله دعوى كون المراد بالامر الادائى شيئين احدهما مطلوبية الطبيعة من حيث هى والآخر مطلوبية ايجادها فى ضمن فرد خاص فاذا انتفى الثانى بقى الاول ، واذا شك فى الاتيان بالفرد تستصحب مطلوبية الطبيعة (م ق)

٢٠٣

الى المطلق فلا يكون المقام مجرى البراءة هذا.

ولكن الانصاف ضعف هذا التوجيه لو سلم استناد الاصحاب اليه فى المقام

اما اولا (١) فلان من المحتمل بل الظاهر على القول بكون القضاء بامر جديد كون كل من الاداء والقضاء تكليفا مغايرا للآخر فهو من قبيل وجوب الشىء ووجوب تداركه بعد فوته كما يكشف عن ذلك تعلق امرا الاداء بنفس الفعل وامر القضاء به بوصف الفوت ويؤيده بعض ما دل على ان لكل من الفرائض بدلا وهو قضائه عدا الولاية ، لا من باب الامر بالكلى والامر بفرد خاص منه كقولهم صم وصم يوم الخميس او الامر بالكلى والامر بتعجيله كرد السلام وقضاء الدين فلا مجرى لقاعدة الاشتغال واستصحابه.

واما ثانيا فلان منع عموم ما دل على ان الشك فى الاتيان بعد خروج الوقت لا يعتد به للمقام خال عن السند خصوصا مع اعتضاده بما دل على ان الشك فى الشىء لا يعتنى به بعد تجاوزه مثل قوله (ع) انما الشك فى شيء لم تجزه ومع اعتضاده فى بعض المقامات بظاهر حال المسلم فى عدم ترك الصلاة.

فان قلت (٢) لو احتملنا حرمة هذا المائع مثلا فالضرر محتمل فى هذا الفرد المشتبه لاحتمال كونه محرما فيجب دفعه.

قلنا ان اريد بالضرر العقاب وما يجرى مجراه من الامور الاخروية فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، وان اريد ما لا يدفع العقل ترتبه من غير بيان كما فى المضار الدنيوية فوجوب دفعه عقلا لو سلم كما تقدم من الشيخ وجماعة لم يسلم وجوبه شرعا لان الشارع صرح بحلية كل ما لم يعلم حرمته فلا عقاب عليه كيف وقد يحكم الشرع بجواز ارتكاب الضرر القطعى الغير المتعلق بامر المعاد كما هو المفروض فى المحتمل

__________________

١ ـ الايراد الاول وارد على التوجيه الاخير والثانى على كلا التوجيهين (م ق)

٢ ـ هذا راجع الى اصل المسألة بعد الفراغ عن رفع توهم جريان قاعدة الاشتغال فى الشبهات الوجوبية ومسئلة قضاء الصلوات (شرح)

٢٠٤

فى المقام.

فان قيل نختار احتمال المضرة الدنيوية وتحريمه ثابت شرعا لقوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) الى التهلكة كما استدل به الشيخ ايضا فى العدة على دفع اصالة الاباحة وهذا الدليل ومثله رافع للحلية الثابتة (١) بقولهم عليهم‌السلام كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام

قلت وجوب دفع المشكوك من الضرر الدنيوى ممنوع وآية التهلكة مختصة بمظنة الهلاك ، وقد صرح الفقهاء فى باب المسافر بان سلوك الطريق الذى يظن معه العطب معصية دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك ، لكن الانصاف الزام العقل بدفع الضرر المشكوك فيه كالحكم بدفع الضرر المتيقن كما يعلم بالوجدان عند وجود مائع محتمل السمية اذا فرض تساوى الاحتمالين من جميع الوجوه لكن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقن انما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيوى من حيث هو كما يحكم بوجوب دفع الضرر الاخروى كذلك ، إلّا انه قد يتحد مع الضرر الدنيوى عنوان يترتب عليه نفع اخروى فلا يستقل العقل بوجوب دفعه ولذا لا ينكر العقل امر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص وتعريضها فى الجهاد والاكراه على القتل او على الارتداد و (ح) فالضرر الدنيوى المقطوع يجوز ان يبيحه الشارع لمصلحة الترخيص (٢) فإباحته للضرر المشكوك لمصلحة الترخيص على العباد او لغيرها من المصالح اولى بالجواز.

وينبغى التنبه على امور الاول ان محل الكلام فى الشبهة الموضوعية المحكومة بالاباحة ما اذا لم يكن هناك اصل موضوعى يقضى بالحرمة فمثل المرأة المرددة بين الزوجة والاجنبية خارج عن محل الكلام لان اصالة عدم علاقة الزوجية المقتضية للحرمة بل استصحاب الحرمة حاكمة على اصالة الاباحة ونحوها المال

__________________

١ ـ فتكون الآية حاكمة على الرواية (ق)

٢ ـ اى لمصلحة تسهيل الامر على العباد وإلّا فنفس الترخيص ليس فيها مصلحة (ق)

٢٠٥

المردد بين مال نفسه وملك غيره مع سبق ملك الغير له ، واما مع عدم سبق (١) ملك احد عليه ، فلا ينبغى الاشكال فى عدم ترتب احكام ملكه عليه من جواز بيعه ونحوه مما يعتبر فيه تحقق المالية واما اباحة التصرفات الغير المترتبة فى الادلة على ماله وملكه فيمكن القول بها للاصل ويمكن عدمه لان الحلية فى الاموال لا بدلها من سبب محلل بالاستقراء ولقوله (ع) لا يحل مال الا من حيث احله الله.

ومبنى الوجهين ان اباحة التصرف هى المحتاجة الى السبب فيحرم مع عدمه ولو بالاصل او ان حرمة التصرف محمولة فى الادلة على ملك الغير فمع عدم تملك الغير ولو بالاصل ينتفى الحرمة ، ومن قبيل ما لا يجرى فيه اصالة الاباحة اللحم المردد بين المذكى والميتة فان اصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة حاكمة على اصالتى الاباحة والطهارة.

الثانى ان الشيخ الحر اورد فى بعض كلماته اعتراضا على معاشر الاخباريين ، وحاصله انه ما الفرق بين الشبهة فى نفس الحكم وبين الشبهة فى طريقه حيث اوجبتم الاحتياط فى الاول دون الثانى ، واجاب بانه يستفاد هذا التقسيم من احاديث كثيرة ، منها قوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال فهذا واشباهه صادق على شبهة فى طريق الحكم الى ان قال واذا حصل الشك فى تحريم الميتة لم يصدق عليها ان فيها حلالا وحراما اقول كان مطلبه ان هذه الرواية وامثالها مخصصة لعموم ما دل على وجوب التوقف والاحتياط فى مطلق الشبهة وقد تقدم ان حمل تلك الاخبار على الاستحباب اولى.

ومنها ما ورد من الامر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة والاباحة بسبب تعارض الادلة وعدم النص وذلك واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعى ؛ اقول ما دل على التخيير والتوسعة مع التعارض وعلى الاباحة مع عدم ورود النهى وان لم

__________________

١ ـ كما اذا علم بخروج المال عن الاباحة الاصلية ولم يعلم دخوله فى ملكه او ملك غيره (شرح)

٢٠٦

يكن فى الكثرة بمقدار ادلة التوقف والاحتياط إلّا ان الانصاف ان دلالتها على الاباحة والرخصة اظهر من دلالة تلك الاخبار على وجوب الاجتناب ، قال ومنها ان ذلك وجه للجمع بين الاخبار لا يكاد يوجد وجه اقرب منه اقول مقتضى الانصاف ان حمل ادلة الاحتياط على الرجحان المطلق اقرب مما ذكره.

الثالث انه لا شك فى حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقا حتى فيما كان هناك امارة على الحل مغنية عن اصالة الاباحة إلّا انه لا ريب فى ان الاحتياط فى الجميع موجب لاختلال النظام فلا يجوز الامر به من الحكيم لمنافاته للغرض ، والتبعيض بحسب الموارد واستحباب الاحتياط حتى يلزم الاختلال ايضا مشكل لان تحديده فى غاية العسر فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات فيحتاط فى المظنونات واما المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات اليها فالاحتياط فيها حرج مخل بالنظام ، ويدل على هذا العقل بعد ملاحظة حسن الاحتياط مطلقا واستلزام كليته الاختلال

ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات (١) فالحرام المحتمل اذا كان من الامور المهمة فى نظر الشارع كالدماء والفروج بل مطلق حقوق الناس بالنسبة الى حقوق الله تعالى يحتاط فيه وإلّا فلا ، ويدل على هذا جميع ما ورد من التأكيد فى امر النكاح وانه شديد وانه يكون منه الولد ، منها ما تقدم من قوله عليه‌السلام لا تجامعوا على النكاح بالشبهة قال عليه‌السلام فاذا بلغك ان امرأة ارضعتك الى ان قال ان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام فى الهلكة ، وقد تعارض هذه بما دل على عدم وجوب السؤال والتوبيخ عليه وعدم قبول قول من يدعى حرمة المعقودة مطلقا او بشرط عدم كونه ثقة وغير ذلك وفيه ان مساقها التسهيل وعدم وجوب الاحتياط فلا ينافى الاستحباب فالاولى الحكم برجحان الاحتياط فى كل موضع لا يلزم منه الحرام ، وما ذكر من ان تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر فهو

__________________

١ ـ فيحتاط فيما يعتنى به الشارع اكثر من غيره كما فى الفروج واموال الناس وحقوقهم (الطوسى)

٢٠٧

انما يقدح فى وجوب الاحتياط لا فى حسنه.

الرابع اباحة ما يحتمل الحرمة (١) غير مختصة بالعاجز عن الاستعلام بل يشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع لعموم ادلته من العقل والنقل وقوله عليه‌السلام فى ذيل رواية مسعدة بن صدقة والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غيره او تقوم به البينة فان ظاهره حصول الاستبانة وقيام البينة لا التحصيل ، وقوله هو لك حلال حتى يجيئك شاهدان ، لكن هذا واشباهه مثل قوله عليه‌السلام فى اللحم المشترى من السوق كل ولا تسئل وقوله عليه‌السلام ليس عليكم المسألة ان الخوارج ضيقوا على انفسهم وقوله (ع) فى حكاية المنقطعة التى تبين لها زوج لم سألت واردة فى موارد وجود الامارة الشرعية على الحلية فلا تشمل ما نحن فيه إلّا ان المسألة غير خلافية مع كفاية الاطلاقات.

المطلب الثالث فيما دار الامر فيه بين الوجوب والحرمة وفيه مسائل المسألة الاولى فى حكم دوران الامر بين الوجوب والحرمة اما من جهة عدم الدليل على تعيين احدهما بعد قيام الدليل على احدهما كما اذا اختلف الامة على القولين بحيث علم عدم الثالث ، واما من جهة اجمال الدليل كالامر المردد بين الايجاب والتهديد ولا ينبغى الاشكال فى اجراء اصالة عدم كل من الوجوب والحرمة بمعنى نفى الآثار المتعلقة بكل واحد منهما بالخصوص اذا لم يلزم مخالفة علم تفصيلى. (٢)

وانما الكلام هنا فى حكم الواقعة من حيث جريان اصالة البراءة وعدمه فان

__________________

١ ـ حاصله عدم وجوب الفحص عن الامارات التى يمكن الوصول اليها فى العمل باصالة البراءة فى الشبهات الموضوعية ، واما الشبهات الحكمية فسيجيء الكلام فيها فى آخر المبحث (م ق)

٢ ـ كما اذا نذر نذر شكر ان يعطى الفقير درهما ان اتى بواجب ، او نذر نذر زجر ان يعطيه درهما ان اتى بحرام فاذا اتى بفعل مردد بين الوجوب والحرمة فلا اشكال فى جريان اصالة عدم وجوب ذلك الفعل على الاول واصالة عدم حرمته على الثانى ومثال لزوم المخالفة كما اذا وقع كلا النذرين منه (م ق)

٢٠٨

فى المسألة وجوها ثلاثة الحكم بالاباحة ظاهرا نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب والتوقف بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا ولا واقعا ومرجعه الى الغاء الشارع لكلا الاحتمالين فلا حرج فى الفعل ولا فى الترك بحكم العقل وإلّا لزم الترجيح بلا مرجح ووجوب الاخذ باحدهما بعينه اولا بعينه ومحل هذه الوجوه ما لو كان كل من الوجوب والتحريم توصليا بحيث يسقط بمجرد الموافقة اذ لو كانا تعبديين (١) محتاجين الى قصد امتثال التكليف او كان احدهما المعين كذلك لم يكن اشكال فى عدم جواز طرحهما والرجوع الى الاباحة لانه مخالفة قطعية عملية.

وكيف كان فقد يقال فى محل الكلام بالاباحة ظاهرا لعموم ادلة الاباحة الظاهرية مثل قولهم كل شيء لك حلال وقولهم ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم فان كلا من الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه ، وغير ذلك من ادلته حتى قوله (ع) كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى اوامر على رواية الشيخ اذ الظاهر ورود احدهما بحيث يعلم تفصيلا فيصدق هنا انه لم يرد امر ولا نهى.

هذا كله مضافا الى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل والترك فان الجهل باصل الوجوب علة تامة عقلا بقبح العقاب على الترك من غير مدخلية لانتفاء احتمال الحرمة فيه ، وكذا الجهل باصل الحرمة وليس العلم بجنس التكليف (٢) المردد بين نوعى الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف المتعلق بامر مردد حتى يقال ان التكليف فى المقام معلوم اجمالا واما دعوى وجوب الالتزام بحكم الله

__________________

١ ـ فاذا اتى به بلا نية او تركه كذلك حصلت المخالفة العملية القطيعة ، كما انه اذا اتى به بلا نية فى صورة كون الوجوب فقط تعبدية او تركه كذلك فى عكسها حصلت المخالفة القطعية ايضا (شرح)

٢ ـ لان اللازم من طرح العلم الاجمالى فى الاول ليس إلّا المخالفة الالتزامية كما فيما نحن فيه لان المكلف لا يخلو من فعل موافق لاحتمال الوجوب او ترك موافق لاحتمال الحرمة ، واللازم من طرح الثانى هو المخالفة بحسب العمل كما فى ترك الظهر والجمعة كليتهما وشرب الإناءين المشتبهين كليهما (م ق)

٢٠٩

تعالى لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع ، ففيها ان المراد بوجوب الالتزام ان اريد وجوب موافقة حكم الله فهو حاصل فيما نحن فيه (١) فان فى الفعل موافقة للوجوب وفى الترك موافقة للحرمة اذ المفروض عدم توقف الموافقة فى المقام على قصد الامتثال وان اريد وجوب الانقياد والتدين بحكم الله فهو تابع للعلم بالحكم فان علم تفصيلا وجب التدين به كذلك وان علم اجمالا وجب التدين بثبوته فى الواقع ولا ينافى ذلك التدين حينئذ باباحته ظاهرا فلم يبق الا وجوب تعبد المكلف والتزامه بما يحتمل الموافقة لحكم الواقعى وهذا مما لا دليل على وجوبه اصلا وليس حكما شرعيا ثابتا فى الواقع (٢) حتى يجب مراعاته ولو مع الجهل التفصيلى

ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية الدال احدهما على الامر والآخر على النهى كما هو مورد بعض الاخبار الواردة فى تعارض الخبرين ولا يمكن ان يقال ان المستفاد منه بتنقيح المناط (٣)

__________________

١ ـ يعنى المقدار المتمكن منها وهو الموافقة الاحتمالية

٢ ـ يعنى ان موضوع وجوب التدين والالتزام هو ما علم واحرز من الحكم لا الوجوب او الحرام الواقعى ، ولازمه انه ان علم تفصيلا لزم الدين به تفصيلا وان علم اجمالا لزم الالتزام به كذلك ، وليس وجوب التدين حكما ثابتا فى الواقع ولو مع الجهل بمتعلقه حتى يجب الاحتياط ونحوه ، ومنه يعلم بطلان قياسه بالخبرين المتعارضين فان وجوب الالتزام بالاخبار من حيث هى حكم واقعى فى المسألة الاصولية بمقتضى ادلة اعتبارها فلا مانع عن اخذ الوجوب فعلا بكل منهما الا وجوب الاخذ بالآخر (شرح)

٣ ـ لان المناط فى حكم الشارع بالتخيير فى تعارض الخبرين انما هو عدم اعراضه عن الاحكام الواقعية ورجحان الاخذ بها بحسب الامكان وهو موجود فيما نحن فيه فان قيام الطريق الظنى على الحكم ليس باقوى من حصول العلم به (شرح)

٢١٠

هو وجوب الاخذ باحد الحكمين وان لم يكن على كل واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر فانه يمكن ان يقال ان (١) الوجه فى حكم الشارع هناك بالاخذ باحدهما هو ان الشارع اوجب الاخذ بكل من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجية فاذا لم يمكن الاخذ بهما معا فلا بد من الاخذ باحدهما وهذا تكليف شرعى فى المسألة الاصولية غير التكليف المعلوم تعلقه اجمالا فى المسألة الفرعية بواحد من الفعل والترك بل ولو لا النص الحاكم هناك بالتخيير امكن القول به من هذه الجهة بخلاف ما نحن فيه اذ لا تكليف إلّا بالاخذ بما صدر واقعا فى هذه الواقعة والالتزام به حاصل من غير حاجة الى الاخذ باحدهما بالخصوص

ويشير الى ما ذكرنا من الوجه قوله عليه‌السلام فى بعض تلك الاخبار بايهما اخذت من باب التسليم وسعك وقوله عليه‌السلام من باب التسليم اشارة الى انه لما وجب على المكلف التسليم لجميع ما يرد عليه بالطريق المعتبر من اخبار الائمة عليهم‌السلام كما يظهر ذلك من الاخبار الواردة فى باب التسليم لما يرد من الائمة عليهم‌السلام ، منها قوله لا عذر لاحد من موالينا فى التشكيك فيما يرويه ثقاتنا وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا وجب التسليم لاحدهما مخيرا فى تعيينه

ثم ان هذا الوجه وان لم يخل عن مناقشة او منع إلّا ان مجرد احتماله يصلح فارقا بين المقامين مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير فى

__________________

١ ـ حاصله ان تنقيح المناط مبنى على العلم بعدم السببية فى الاخبار ؛ مع ان احتمالها قائم ومعه لا يمكن تنقيح المناط ، اذ على السببية يوجد هنا حكمان نفسيان يجب الاخذ والتدين بهما وحيث لا يمكن ذلك كان التدين باحدهما لازما ، وهذا حكم عقلى ايضا مع قطع النظر عن حكم الشرع ، فلا بقاس ذلك بالحكم الواحد واقعا المجبول لنا مع امكان التدين به على ما هو عليه ، والقول بالسببية وان كان مرجوحا كما سيجيء إلّا ان احتمالها مانع عن احراز المناط (شرح)

٢١١

مقام التعارض فافهم ، وبما ذكرنا يظهر حال قياس ما نحن فيه على حكم المقلد عند اختلاف المجتهدين فى الوجوب والحرمة

ولكن الانصاف ان ادلة الاباحة فى محتمل الحرمة ينصرف الى محتمل الحرمة وغير الوجوب وادلة نفى التكليف عما لم يعلم نوع التكليف لا يفيد إلّا عدم المؤاخذة على الترك والفعل وعدم تعيين الحرمة او الوجوب وهذا المقدار لا ينافى وجوب الاخذ باحدهما نعم هذا الوجوب يحتاج الى دليل وهو مفقود فاللازم هو التوقف وعدم الالتزام إلّا بالحكم الواقعى على ما هو عليه فى الواقع ولا دليل على عدم جواز خلو الواقعة عن حكم ظاهرى اذا لم يحتج اليه فى العمل نظير ما لو دار الامر بين الوجوب والاستحباب

ثم على تقدير وجوب الاخذ هل يتعين الاخذ بالحرمة او يتخير بينه وبين الاخذ بالوجوب وجهان بل قولان يستدل على الاول بان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة لما عن النهاية من ان الغالب فى الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل وفى الوجوب تحصيل المصلحة مصلحة لازمة للفعل واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة اتم ، ويشهد له ما ارسل عن امير المؤمنين عليه‌السلام من ان اجتناب السيئات اولى من اكتساب الحسنات ويضعف بان اولوية دفع المفسدة مسلمة لكن المصلحة الفائتة بترك الواجب ايضا مفسدة وإلّا لم يصلح للالزام اذ مجرد فوات المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت عليه لا يصلح وجها لالزام شيء على المكلف ما لم يبلغ حدا يكون فى فواته مفسدة وإلّا لكان اصغر المحرمات اعظم من ترك اهم الفرائض مع انه جعل ترك الصلاة اكبر الكبائر

ثم لو قلنا بالتخيير فهل هو فى ابتداء الامر فلا يجوز له العدول عما اختار او مستمر فله العدول مطلقا (١) أو بشرط البناء على الاستمرار وجوه يستدل للاول بقاعدة

__________________

١ ـ اى ولو لم يبن على الاستمرار بل بنى على اختيار غير ما اختاره فى الواقعة الاولى وقوله على الاستمرار اى استمرار الاخذ بالحكم المختار ؛ ووجهه انه لو بنى عليه ابتداء ، ثم بدا له فعدل فانه وان خالف تدريجا إلّا انه ليس عن عمد اليها فلا قبح فيه

٢١٢

الاحتياط حيث يدور الامر بين التخيير والتعيين واستصحاب الحكم المختار واستلزام العدول للمخالفة القطعية المانعة عنه التى لاجلها لم يرجع الى الاباحة من اول الامر ويضعف الاخير بان المخالفة القطعية فى مثل ذلك لا دليل على حرمتها كما لو بدا للمجتهد فى رأيه او عدل المقلد عن مجتهده لعذر من موت او جنون او فسق او اختيار على القول بجوازه ويضعف الاستصحاب بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه ويضعف قاعدة الاحتياط بان حكم العقل بالتخيير عقلى لا احتمال فيه حتى يجرى فيه الاحتياط ، ومن ذلك يظهر عدم جريان استصحاب التخيير اذ لا اهمال فى حكم العقل حتى يشك فى بقائه فى الزمان الثانى فالاقوى هو التخيير الاستمرارى لا للاستصحاب بل لحكم العقل فى الزمان الثانى كما حكم به فى الزمان الاول

المسألة الثانية لو دار الامر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الادلة فالحكم هنا التخيير لاطلاق الادلة وخصوص بعض منها الوارد فى خبرين احدهما امر والآخر نهى وفى كون التخيير هنا بدويا او استمراريا مطلقا او مع البناء من اول الامر على الاستمرار وجوه تقدمت إلّا انه قد يتمسك هنا للاستمرار باطلاق الاخبار ؛ ويشكل بانها مسوقة لبيان حكم المتحير فى اول الامر فلا تعرض لها لحكمه بعد الاخذ باحدهما ؛ نعم يمكن هنا استصحاب التخيير حيث انه ثبت بحكم الشارع القابل للاستمرار إلّا ان يدعى ان موضوع المستصحب او المتيقن من موضوعه هو المتحير وبعد الاخذ باحدهما لا تحير فتامل (١) وسيتضح هذا فى بحث الاستصحاب وعليه فاللازم الاستمرار على ما اختار لعدم ثبوت التخيير فى الزمان الثانى.

المسألة الثالثة لو دار الامر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع

__________________

ـ بخلاف البناء على العدول من الاول (م ط)

١ ـ لعل الوجه فيه ان الموضوع ليس عنوان المتحير بل من جاءه الخبر ان المتعارضان وهذا باق لم يزل (شرح)

٢١٣

وقد مثل بعضهم له باشتباه الحليلة الواجب وطيها بالاصالة او لعارض من نذر او غيره بالاجنبية وبالخل المحلوف على شربه المشتبه بالخمر ؛ ويرد على الاول (١) ان الحكم فى ذلك هو تحريم الوطى لاصالة عدم الزوجية بينهما واصالة عدم وجوب الوطى ، وعلى الثانى ان الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته جمعا بين اصالتى الاباحة وعدم الحلف على شربه.

والاولى فرض المثال فيما اذا وجب اكرام العدول وحرم اكرام الفساق واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة والحكم فيه كما فى المسألة الاولى من عدم وجوب الاخذ باحدهما فى الظاهر بل هنا اولى اذ ليس فيه اطراح لقول الامام عليه‌السلام اذ لبس الاشتباه فى الحكم الشرعى الكلى الذى بينه الامام عليه‌السلام وليس فيه ايضا مخالفة عملية معلومة ولو اجمالا مع ان مخالفة المعلوم اجمالا فى العمل فوق حد الاحصاء فى الشبهات الموضوعية

هذا تمام الكلام فى المقامات الثلاثة اعنى دوران الامر بين الوجوب وغير الحرمة وعكسه ودوران الامر بينهما واما دوران الامر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الاحكام فيعلم بملاحظة ما ذكرنا وملخصه ان دوران الامر بين طلب الفعل والترك وبين الاباحة نظير المقامين الاولين ودوران الامر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث ولا اشكال فى اصل هذا الحكم إلّا ان اجراء ادلة البراءة فى صورة الشك فى الطلب الغير الالزامى فعلا او تركا قد يستشكل فيه لان ظاهر تلك الادلة نفى المؤاخذة والعقاب والمفروض انتفائهما فى غير الواجب والحرام فتدبر

__________________

١ ـ اذ قد تقدم ان جريان البراءة مشروط بعدم حكومة اصل موضوعى عليها وهذا الشرط مفقود فى المثال ومخالفة العلم الاجمالى من العمل بالاصلين فى المثال الثانى غير ضائر لكونها بحسب الالتزام دون العمل وقوله والاولى فرض المثال : مبنى عن كون زيد غير مسبوق بالعلم بالفسق او العدالة (م ق)

٢١٤

الموضع الثانى

فى الشك فى المكلف به مع العلم بنوع التكليف بان يعلم الحرمة او الوجوب

ويشتبه الحرام او الواجب ومطالبه ايضا ثلاثة

المطلب الاول

فى دوران الامر بين الحرام وغير الواجب ومسائله اربع المسألة الاولى لو علم التحريم وشك فى الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجى وانما قدمنا الشبهة الموضوعية هنا لاشتهار عنوانها فى كلام العلماء بخلاف عنوان الشبهة الحكمية ، ثم الحرام المشتبه بغيره اما مشتبه فى امور محصورة كما لو دار بين امرين او امور محصورة ويسمى بالشبهة المحصورة واما مشتبه فى امور غير محصورة اما الاول الشبهة المحصورة فالكلام فيه يقع فى مقامين احدهما جواز ارتكاب كلا الامرين او الامور وطرح العلم الاجمالى وعدمه ؛ وبعبارة اخرى حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم وعدمها الثانى وجوب اجتناب الكل وعدمه وبعبارة اخرى وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم وعدمه.

اما المقام الاول فالحق فيه عدم الجواز وحرمة المخالفة القطعية وحكى عن ظاهر بعض جوازه لنا على ذلك وجود المقتضى للحرمة وعدم المانع عنها ؛ اما ثبوت المقتضى فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه فان قول

٢١٥

الشارع اجتنب عن الخمر يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإناءين او ازيد ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا مع انه لو اختص الدليل بالمعلوم تفصيلا خرج الفرد المعلوم اجمالا عن كونه حراما واقعيا وكان حلالا واقعيا ولا اظن احدا يلتزم بذلك

واما عدم المانع فلان العقل لا يمنع من التكليف عموما او خصوصا بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه فى امرين او امور والعقاب على مخالفة هذا التكليف ، واما الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم‌السلام كل شىء حلال حتى تعرف انه حرام بعينه وكل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه وغير ذلك بناء على ان هذه الاخبار كما دلت على حلية المشتبه مع عدم العلم الاجمالى وان كان محرما فى علم الله سبحانه كذلك دلت على حلية المشتبه مع العلم الاجمالى

ويؤيده اطلاق الامثلة المذكورة فى بعض هذه الروايات مثل الثوب المحتمل للسرقة والمملوك المحتمل للحرية والمرأة المحتملة للرضيعة فان اطلاقها يشمل الاشتباه مع العلم الاجمالى بل الغالب ثبوت العلم الاجمالى لكن مع كون الشبهة غير محصورة ، ولكن هذه الاخبار وامثالها لا يصلح للمنع لانها كما تدل على (١) حلية كل واحد من المشتبهين كذلك تدل على حرمة ذلك المعلوم اجمالا لانه ايضا شيء علم حرمته

__________________

١ ـ حاصله وقوع التعارض بين منطوق الخبرين ومفهوم الغاية فيهما فيلزم من شمولهما للشبهة المحصورة التناقض فى مدلولهما فان الحكم فى المغيا كما يشمل كلا الطرفين كذلك تشمل الغاية احدهما المعلوم بالاجمال حرمته والتناقض بين الايجاب الكلى والسلب الجزئى واضح ، فلا بد من حملهما عن ارادة الشبهة البدوية فيفيد ان حلية كل مشتبه الحرمة بالشبهة البدوية حتى تعلم حرمته اجمالا او تفصيلا فموارد العلم التفصيلى والاجمالى داخلة فى الغاية ولا يشملها المغيا (م ق)

٢١٦

فان قلت ان غاية الحل معرفة الحرام بشخصه ولم يتحقق فى المعلوم الاجمالى ، قلت ابقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دل على حرمة ذلك العنوان المشتبه مثل قوله اجتنب عن الخمر لان الاذن فى كلا المشتبهين ينافى المنع عن عنوان مردد بينهما ويوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم اجمالا فى متن الواقع وهو مما يشهد الاتفاق والنص على خلافه حتى نفس هذه الاخبار حيث ان مؤداها ثبوت الحرمة الواقعية للامر المشتبه.

فان قلت مخالفة الحكم الظاهرى للحكم الواقعى لا يوجب ارتفاع الحكم الواقعى كما فى الشبهة المجردة عن العلم الاجمالى مثلا قول الشارع اجتنب عن الخمر شامل للخمر الواقعى الذى لم يعلم به المكلف ولو اجمالا وحليته فى الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتى لا يكون حراما واقعيا فلا ضير فى التزام ذلك فى الخمر الواقعى المعلوم اجمالا.

قلت الحكم الظاهرى (١) لا يقدح مخالفته للحكم الواقعى فى نظر الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة لرجوع ذلك الى معذورية المحكوم الجاهل كما فى اصالة البراءة والى بدلية الحكم الظاهرى عن الواقع او كونه طريقا مجعولا اليه على الوجهين فى الطرق الظاهرية المجعولة ، واما مع علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاهل جعل كلا الحكمين لان العلم بالتحريم يقتضى وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرم فاذن الشارع فى فعله ينافى حكم العقل لوجوب الاطاعة

__________________

١ ـ حاصله ان عدم تنافى مخالفة الحكم الظاهرى للواقعى هاهنا انما يتم على تقدير عدم كون العلم الاجمالى منجزا كالتفصيلى وإلّا فالتنافى واضح ولا يقاس على الموارد التى لم ينجز الواقع فيها ، واما الشبهة البدوية فلرجوع جعل الحكم الظاهرى فيها الى معذورية الجاهل لجهله على تقدير المخالفة واما فى موارد الطرق الظاهرية فلرجوعه الى جعل مؤداها بدلا عن الواقع بناء على السببية او طريقا اليه بناء على الطريقية (م ق)

٢١٧

فان قلت اذن الشارع فى فعل المحرم مع علم المكلف بتحريمه انما ينافى حكم العقل من حيث انه اذن فى المعصية والمخالفة وهو انما يقبح مع علم المكلف بتحقق المعصية حين ارتكابها والاذن فى ارتكاب المشتبهين ليس كذلك اذا كان على التدريج بل هو اذن فى المخالفة مع عدم علم المكلف بها الا بعدها وليس فى العقل ما يقبح ذلك والّا لقبح الاذن فى ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة الغير المحصورة او فى ارتكاب مقدار يعلم عادة بكون الحرام فيها وفى ارتكاب الشبهة المجردة التى يعلم المولى اطلاع العبد بعد الفعل على كونه حراما وفى الحكم بالتخيير الاستمرارى بين الخبرين او فتوى المجتهدين

قلت اذن الشارع فى احد المشتبهين ينافى ايضا حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم المتعلق بالمصداق المشتبه لايجاب العقل حينئذ الاجتناب عن كلا المشبهين نعم لو اذن الشارع (١) فى ارتكاب احدهما مع جعل الآخر بدلا عن الواقع فى الاجتزاء بالاجتناب عنه جاز فاذن الشارع فى احدهما لا يحسن إلّا بعد الامر بالاجتناب عن الآخر بدلا ظاهريا عن الحرام الواقعى فيكون المحرم الظاهرى هو احدهما على التخيير وكذا المحلل الظاهرى ويثبت المطلوب وهو حرمة المخالفة القطعية بفعل كلا المشتبهين ، وحاصل معنى تلك الصحيحة ان كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف ان فى ارتكابه فقط او فى ارتكابه المقرون مع ارتكاب غيره ارتكابا للحرام ؛ والاول فى العلم التفصيلى والثانى فى العلم الاجمالى.

__________________

١ ـ هذا اشارة بعد دعوى كون العلم الاجمالى كالتفصيلى فى وجوب الموافقة ؛ الى الفرق بينها من جهة اخرى وهى قابلية المعلوم بالاجمال بجعل الشارع احد المشتبهين بدلا ظاهريا عنه بان يقنع عن الواقع باجتناب احدهما لوقوع نظيره فى الشرع ، وقوله وحاصل تلك الصحيحة : يعنى بناء على ما قلنا بكون العلم الاجمالى كالتفصيلى فى وجوب الموافقة كما سبق الكلام فيه (م ق)

٢١٨

فان قلت اذا فرضنا المشتبهين (١) مما لا يمكن ارتكابهما الا تدريجا ففى زمان ارتكاب احدهما يتحقق الاجتناب عن الآخر قهرا فالمقصود من التخيير وهو ترك احدهما حاصل مع الاذن فى ارتكاب كليهما اذ لا يعتبر فى ترك الحرام القصد فضلا عن قصد الامتثال

قلت الاذن فى فعلهما فى هذه الصورة ايضا ينافى الامر بالاجتناب عن العنوان الواقعى المحرم لما تقدم من انه مع وجود دليل حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده فى المشتبهين لا يصح الاذن فى احدهما الا بعد المنع عن الآخر بدلا عن المحرم الواقعى ومعناه المنع (٢) عن فعله بعده لان هذا هو الذى يمكن ان يجعله الشارع بدلا عن الحرام الواقعى حتى لا ينافى امره بالاجتناب عنه اذ تركه فى زمان فعل الآخر لا يصلح ان يكون بدلا عن حرمته وحينئذ فان منع فى هذه الصورة عن واحد من الامرين المتدرجين فى الوجود لم يجز ارتكاب الثانى بعد ارتكاب الاول وإلّا لغى المنع المذكور

فان قلت الاذن فى احدهما يتوقف على المنع عن الآخر فى نفس تلك الواقعة

__________________

١ ـ حاصله انه لا يتأتى ما ذكره بقوله فاذن الشارع فى احدهما لا يحسن : فى صورة عدم امكان الجمع بينهما فى آن واحد وان تأتى فى صورة امكان الجمع لانه فى الاولى اذا ارتكب احدهما لا يمكن للشارع حين ارتكابه الامر بالاجتناب عن الآخر لكون تركه (ح) قهريا وحاصلا بنفسه ، وحيث ان المقصود من التخيير فى صورة امكان الجمع هو حصول ترك الآخر حين ارتكاب احدهما فهو حاصل مع الاذن فى كليهما فى صورة عدم الامكان (م ق)

٢ ـ اى معنى المنع من الآخر مع فرض الاذن فى فعل احدهما فى صورة عدم ارتكابهما دفعة هو المنع من الآخر بعد فعل احدهما وقوله اذا تركه : لانه (ح) يكون خارجا عن تحت القدرة والاختيار فلا يصلح ان يتعلق به الخطاب (شرح)

٢١٩

بان يرتكبهما دفعة (١) والمفروض امتناع ذلك فى ما نحن فيه من غير حاجة الى المنع ولا يتوقف على المنع عن الآخر بعد ارتكاب الاول كما فى التخيير الظاهرى الاستمرارى

قلت تجويز ارتكابهما من اول الامر ولو تدريجا طرح لدليل حرمة الحرام الواقعى والتخيير الاستمرارى فى مثل ذلك ممنوع والمسلم منه (٢) ما اذا لم يسبق التكليف بمعين او يسبق التكليف بالفعل حتى يكون المأتى به فى كل دفعة بدلا عن المتروك على تقدير وجوبه دون العكس بان يكون المتروك فى زمان الاتيان بالآخر بدلا عن المأتى به على تقدير حرمته وسيأتى تتمة ذلك فى الشبهة الغير المحصورة

فان قلت ان المخالفة القطعية للعلم الاجمالى فوق حد الاحصاء فى الشرعيات كما فى الشبهة الغير المحصورة وكما لو قال القائل فى مقام الاقرار هذا لزيد بل لعمرو فان الحاكم يأخذ المال لزيد وقيمته لعمرو مع ان احدهما اخذ للمال بالباطل ، وكذا يجوز للثالث ان يأخذ المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو مع علمه بان احد الأخذين تصرف فى مال الغير بغير اذنه ولو قال هذا لزيد بل لعمرو بل لخالد حيث انه يغرم لكل من عمرو وخالد تمام القيمة مع ان حكم الحاكم باشتغال ذمته بقيمتين

__________________

١ ـ اى بان يكون المشتبهان مما يمكن ارتكابهما دفعة ، وحاصله ان جعل البدل يعتبر ملاحظته فى واقعة واحدة فيلزم جعله فى صورة امكان الجمع وفيما نحن فيه ترك الآخر حاصل بنفسه فيجوز الترخيص مطلقا (شرح)

٢ ـ يعنى ان المسلم من التخيير الاستمرارى ما اذا لم يسبق فيه تكليف بمعين مطلقا كما فى صورة دوران الامر بين الوجوب والحرمة ، او سبق التكليف بالفعل كما اذا علم الوجوب وتردد الواجب بين الظهر والجمعة مثلا واما اذا سبق التكليف بالترك مثل ما لو علم التحريم وتردد الحرام بين امرين فلا دليل على جواز التخيير الاستمرارى فيه ، ولعله لان البدل عن الواقع فيما اذا كان فعلا كالمثالين المتقدمين يكون اختياريا قابلا لتعلق التكليف البدلى به وفيما اذا كان تركا كما فيما لم يمكن الجمع بينهما غير اختيارى فتامل (شرح)

٢٢٠