الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

الشيخ علي المشكيني

الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٥

الامر باخذ المشهور منهما وترك الشاذ النادر معللا بقوله (ع) فان المجمع عليه لا ريب فيه وقوله انما الامور ثلاثة امر بين رشده فيتبع وامر بين غيه فيجتنب وامر مشكل يرد حكمه الى الله ورسوله قال رسول الله (ص) حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن اخذ بالشبهات وقع فى المحرمات وهلك من حيث لا يعلم.

وجه (١) الدلالة ان الامام عليه‌السلام اوجب طرح الشاذ معللا بان المجمع عليه لا ريب فيه والمراد ان الشاذ فيه ريب لا ان الشهرة يجعل الشاذ مما لا ريب فى بطلانه وإلّا لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالاعدلية والأصدقيّة

__________________

١ ـ حاصله ان المراد بالمجمع عليه هو المشهور والمراد بنفى الريب عنه نفيه بالاضافة الى الشاذ والمقصود إثبات رجحان للمشهور بالنسبة الى الشاذ مع اثبات ريب فى الجملة لا نفى الريب رأسا حتى يدخل فى بين الرشد ويدخل الشاذ فى بين الغى وإلّا لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالاعدلية وغيرها لان ظاهر ذلك عدم الاعتداد بالشهرة مع وجود احد المرجحات المتقدمة عليها ولا لفرض الراوى الشهرة فى كلا الخبرين ولا للتعليل بتثليت الامور ، إذ يلزم عليه ان يكون ما عدا بين الرشد من بين الغى سواء كان معلوم الحرمة ام كان من المشتبهات ، وبالجملة ان الناظر يقطع بكون الشاذ النادر داخلا فى الامر المشكل الذى يرد علمه الى الله وفى الشبهات التى من تركها نجى من المحرمات والمراد بترك الشبهات تركها على سبيل الوجوب دون الاستحباب اذ لا ريب فى وجوب العمل بالمرجحات المذكورة التى منها الشهرة وعلل الامام (ع) ذلك بتثليث الامور بادخال المشهور فى بين الرشد والشاذ النادر فى الامر المشكل مستشهدا فى النبوى بذلك فلو لم يكن المراد من الشبهات فيه تركها على سبيل الوجوب لم يبق وجه للاستشهاد به لوجوب رد الامر المشكل الى الله ورسوله (ص) مضافا الى قوله نجى من المحرمات وقوله هلك من حيث لا يعلم (م ق).

١٨١

والاورعية ولا لفرض الراوى الشهرة فى كلا الخبرين ولا لتثليث الامور ثم الاستشهاد بتثليت النبى (ص).

والحاصل ان الناظر فى الرواية يقطع بان الشاذ مما فيه الريب فيجب طرحه وهو الامر المشكل الذى اوجب الامام رده الى الله ورسوله فيعلم من ذلك كله ان الاستشهاد بقول رسول الله (ص) فى التثليث لا يستقيم إلّا مع وجوب الاجتناب عن الشبهات مضافا الى دلالة قوله نجى من المحرمات بناء على ان تخليص النفس من المحرمات واجب وقوله وقع فى المحرمات وهلك من حيث لا يعلم ودون هذا النبوى فى الظهور النبوى المروى عن ابى عبد الله عليه‌السلام فى كلام طويل وقد تقدم فى اخبار التوقف وكذا مرسلة الصدوق عن امير المؤمنين عليه‌السلام.

والجواب عنه ما ذكرنا سابقا من ان الامر بالاجتناب عن الشبهة ارشادى للتحرز عن المضرة المحتملة فيها فقد تكون المضرة عقابا وحينئذ فالاجتناب لازم وقد تكون مضرة اخرى فلا عقاب على ارتكابها على تقدير الوقوع فى الهلكة كالمشتبه بالحرام حيث لا يحتمل فيه الوقوع فى العقاب على تقدير الحرمة اتفاقا لقبح العقاب على الحكم الواقعى المجهول باعتراف الاخباريين ايضا كما تقدم.

واذا تبين لك ان المقصود من الامر بطرح الشبهات ليس خصوص الالزام فيكفى حينئذ فى مناسبة ذكر كلام النبى (ص) المسوق للارشاد انه اذا كان الاجتناب عن المشتبه بالحرام راجحا تفصيا عن الوقوع فى مفسدة الحرام فكذلك طرح الخبر الشاذ واجب لوجوب التحرى عند تعارض الخبرين فى تحصيل ما هو ابعد من الريب واقرب الى الحق اذ لو قصر فى ذلك واخذ بالخبر الذى فيه الريب احتمل ان يكون قد اخذ بغير ما هو الحجة له فيكون الحكم به حكما من غير الطرق المنصوبة من قبل الشارع فتامل.

ويؤيد ما ذكرنا من ان النبوى ليس واردا فى مقام الالزام بترك الشبهات امور احدها عموم الشبهات للشبهة الموضوعية التحريمية التى اعترف الاخباريون

١٨٢

بعدم وجوب الاجتناب عنها وتخصيصه بالشبهة الحكمية مع انه اخراج لاكثر الافراد مناف (١) للسياق فان سياق الرواية آب عن التخصيص لانه ظاهر فى الحصر وليس الشبهة الموضوعية من الحلال البين ولو بنى على كونها منه لاجل ادلة جواز ارتكابها قلنا بمثله فى الشبهة الحكمية.

الثانى انه (ص) رتب (٢) على ارتكاب الشبهات الوقوع فى المحرمات والهلاك من حيث لا يعلم والمراد منها جنس الشبهة لانه فى مقام بيان ما تردد بين الحرام والحلال لا فى مقام التحذير عن ارتكاب المجموع مع انه ينافى استشهاد الامام عليه‌السلام ومن المعلوم ان ارتكاب جنس الشبهة لا يوجب الوقوع فى الحرام ولا الهلاك من حيث لا يعلم إلّا على مجازا لمشارفة كما يدل عليه بعض ما مضى وما ياتى من الاخبار فالاستدلال موقوف على اثبات كبرى وهى ان الاشراف على الوقوع فى الحرام والهلاك من حيث لا يعلم محرم من دون سبق علم به اصلا.

الثالث الاخبار الكثيرة المساوقة لهذا الخبر الشريف الظاهرة فى

__________________

١ ـ لقلة وجود الشبهة الحكمية بحسب الخارج ونهاية كثرة وجود الشبهات الموضوعية كذلك ، لكون اكثر الاشياء من الماكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مشتبهة بحسب الواقع (م ق)

٢ ـ الالف واللام فى الشبهات اما للاستغراق او للجنس وعلى التقديرين اما ان يراد من الوقوع فى المحرمات الوقوع فعلا او شأنا بمعنى كونه فى شرف الوقوع فيها فيكون مجاز مشارفة ، اما حمل الشبهة على العموم فالمعنى من ارتكب جميع الشبهات يرتكب حراما واقعيا لا محالة بناء على ارادة الوقوع الفعلى وهذا غير محل النزاع بل النزاع فى مطلق الشبهة وكلما صدقت عليه لا جميعها لما ذكره المصنف ره ، واما حملها على الجنس فيرد عليه منع استلزام ارتكاب جنس الشبهة ارتكاب الحرام الواقعى والوقوع فيه نعم فيه اشراف على الوقوع وهو المقصود من الرواية وحاصله ان ارتكاب الشبهة يوجب الاجتراء على المحرمات ويكون فى شرف ارتكابها ولا دليل على حرمة الاشراف (م ق)

١٨٣

الاستحباب بقرائن مذكورة فيها (منها) قول النبى (ص) فى رواية النعمان وقد تقدم فى اخبار التوقف (ومنها) قول امير المؤمنين عليه‌السلام فى مرسلة الصدوق انه خطب وقال حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له اترك والمعاصى حمى الله فمن يرتع حولها يوشك ان يدخلها (ومنها) رواية ابى جعفر الباقر (ع) قال قال جدى رسول الله (ص) فى حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه الى ان يرعاها فى الحمى الا وان لكل ملك حمى وإلّا ان حمى الله محارمه فاتقوا حمى الله ومحارمه ومنها ما ورد من ان فى حلال الدنيا حسابا وفى حرامها عقابا وفى الشبهات عتابا (ومنها) رواية فضيل بن عياض قال قلت لابى عبد الله (ع) من الورع من الناس قال الذى يتورع عن محارم الله تعالى ويجتنب هؤلاء فاذا لم يتق الشبهات وقع فى الحرام وهو لا يعرفه

واما العقل فتقريره بوجهين احدهما انا نعلم اجمالا قبل مراجعة الادلة الشرعية بمحرمات كثيرة يجب بمقتضى قوله تعالى (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ونحوه الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب او اليقين بعدم العقاب لان الاشتغال اليقينى يستدعى البراءة اليقينية باتفاق المجتهدين والاخباريين وبعد مراجعة الادلة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات الواقعية فلا بد من اجتناب كل ما احتمل ان يكون منها اذا لم يكن هناك دليل شرعى يدل على حليته اذ مع هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل على تقدير حرمته واقعا

فان قلت بعد مراجعة الادلة نعلم تفصيلا بحرمة امور كثيرة ولا نعلم اجمالا بوجود ما عداها فالاشتغال بما عدى المعلوم بالتفصيل غير متيقن حتى يجب الاحتياط وبعبارة اخرى العلم الاجمالى قبل الرجوع الى الادلة واما بعده فليس هنا علم اجمالى

١٨٤

قلت ان اريد من الادلة (١) ما يوجب العلم بالحكم الواقعى الاولى فكل مراجع فى الفقه يعلم ان ذلك غير ميسر لان سند الاخبار لو فرض قطعيا لكن دلالتها ظنية وان اريد منها ما يعم الدليل الظنى المعتبر من الشارع فمراجعتها لا يوجب اليقين بالبراءة من ذلك التكليف المعلوم اجمالا اذ ليس معنى اعتبار الدليل الظنى الا وجوب الاخذ بمضمونه فان كان تحريما كان ذلك كانه احد المحرمات الواقعية وان كان تحليلا كان اللازم منه عدم العقاب على فعله وان كان فى الواقع من المحرمات وهذا المعنى لا يوجب انحصار المحرمات الواقعية فى مضامين تلك الادلة حتى يحصل العلم بالبراءة بموافقتها بل ولا يحصل الظن بالبراءة عن جميع المحرمات المعلومة اجمالا وليس الظن التفصيلى بحرمة جملة من الافعال كالعلم التفصيلى بها لان العلم التفصيلى بنفسه مناف لذلك العلم الاجمالى والظن غير مناف له لا بنفسه ولا بملاحظة اعتباره شرعا على الوجه المذكور نعم لو اعتبر الشارع هذه الادلة بحيث انقلب التكليف على العمل بمؤداها بحيث يكون هو المكلف به كان ما عدا ما تضمنه الادلة من محتملات التحريم خارجا عن المكلف به فلا يجب الاحتياط فيها

وبالجملة فما نحن فيه بمنزلة قطيع غنم يعلم اجمالا بوجود محرمات فيها ثم قامت البينة على تحريم جملة منها وتحليل جملة وبقى الشك فى جملة ثالثة فان مجرد قيام البينة على تحريم البعض لا يوجب العلم ولا الظن بالبراءة من جميع المحرمات

__________________

١ ـ حاصله ان رجوع العلم الاجمالى بعد المراجعة الى علم تفصيلى وشك بدوى يتم فيما لو كانت الادلة المذكورة مفيدة للقطع بالواقع واما بناء على عدمه وكون حجيتها من باب الطريقية فمفادها (ح) تنجيز الواقع فيما صادف والعذر فيما خالف وهذا لا يوجب احراز الواقع ولا يوجب الانحلال ؛ وقوله والظن غير مناف له يعنى ان الظن بنفسه ليس بحجة حتى ينافى العلم الاجمالى ، وادلة اعتبارها لا تعتبرها إلّا بنحو الطريقية لا السببية ، وقوله نعم لو اعتبر يعنى لو فرض اعتبارها سببا بنحو انقلاب الواقع عن حقيقته لى ما ادى اليه الطرق الظاهرية انحل العلم الاجمالى ولكنه باطل مستلزم للتصويب (شرح)

١٨٥

نعم لو اعتبر الشارع البينة فى المقام بمعنى انه امر بتشخيص المحرمات المعلومة وجودا وعدما بهذا الطريق رجع التكليف الى وجوب اجتناب ما قام عليه البينة لا الحرام الواقعى

والجواب اولا منع (١) تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلّا بما ادى اليه الطرق الغير العلمية المنصوبة له فهو مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق لا بالواقع من حيث هو ولا بمؤدى هذه الطرق من حيث هو حتى يلزم التصويب لان ما ذكرناه هو المحصل من ثبوت الاحكام الواقعية للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق وتوضيحه فى محله و (ح) فلا يكون ما شك فى تحريمه مما هو مكلف به فعلا على تقدير حرمته واقعا

وثانيا سلمنا التكليف الفعلى بالمحرمات الواقعية (٢) إلّا ان من المقرر فى الشبهة المحصورة كما سيجيء إن شاء الله انه اذا ثبت فى المشتبهات المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلق بالمعلوم الاجمالى اقتصر فى الاجتناب على ذلك القدر لاحتمال كون المعلوم الاجمالى هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا فاصالة الحل فى البعض الآخر غير معارضة بالمثل سواء كان

__________________

١ ـ حاصله ان مقتضى تعلق التكليف بالواقع كما هو مقتضى الخطابات ونصب الطرق الظاهرية اليه هو عدم تعلق تكليف غير القادر على العلم إلّا بما أدّت اليه الطرق الظاهرية ، بمعنى عدم تنجز التكليف بالواقع الا على حسب تادية الطرق الظاهرية ، لا بالواقع مطلقا لمنافاته لنصب الطرق الظاهرية ، ولا بمؤدى الطرق كذلك بحيث ينقلب التكليف اليه لاستلزامه التصويب ولا ريب انه مع اشتراط التنجير بتأدية الطرق كانت المورد الخالية منها مجردة عن العلم بتكليف منجز (م ق)

٢ ـ حاصله انه يكفى فى انحلال العلم الاجمالى احتمال انطباق ما علم اجمالا على ما علم تفصيلا ، فاذا علم بكون احد الإناءين ملكا للغير وقامت البينة على كون هذا الاناء المعين لزيد كفى فى الانحلال ولو احتملنا كون مؤدّى الامارة غير المعلوم بالاجمال (شرح)

١٨٦

ذلك الدليل سابقا على العلم الاجمالى كما اذا علم نجاسة احد الإناءين تفصيلا فوقع قذرة فى احدهما المجهول فانه لا يجب الاجتناب عن الآخر لان حرمة احدهما معلومة تفصيلا ام كان لاحقا كما فى مثال الغنم المذكور فان العلم الاجمالى غير ثابت بعد العلم التفصيلى بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبينة وسيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى وما تحن فيه من هذا القبل

الوجه الثانى ان الاصل فى الافعال الغير الضرورية الحظر كما نسب الى طائفة من الامامية فيعمل به حتى يثبت من الشرع الاباحة ولم يرد الاباحة فيما لا نص فيه وما ورد على تقدير تسليم دلالته معارض بما ورد من الامر بالتوقف والاحتياط فالمرجع الى الاصل واحتج عليه فى العدة بان الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم فيه المفسدة

والجواب بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر انه ان اريد ما يتعلق بامر الآخرة من العقاب يجب على الحكيم تعالى بيانه فهو مع عدم البيان مأمون وان اريد غيره مما لا يدخل فى عنوان المؤاخذة من اللوازم المرتبة مع الجهل ايضا فوجوب دفعها غير لازم عقلا اذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيوى المقطوع اذا كان لبعض الدواعى النفسانية وقد جوز الشارع بل امر به فى بعض الموارد وعلى تقدير الاستقلال فليس مما يترتب عليه العقاب لكونه من باب الشبهة الموضوعية لان المحرم هو مفهوم الاضرار وصدقه فى هذا المقام مشكوك كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المائع الخاص والشبهة الموضوعية لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الاخباريين ايضا وسيجيء تتمة الكلام فى الشبهة الموضوعية إن شاء الله تعالى

وينبغى التنبيه على امور الاول ان مقتضى الادلة المتقدمة (١) كون الحكم الظاهرى فى الفعل المشتبه الحكم هى الاباحة من غير ملاحظة الظن بعدم تحريمه فى الواقع او

__________________

١ ـ المراد بالاباحة هنا هو مجرد عدم المنع شرعا لا التى تكون احد الاحكام الخمسة وإلّا لا يكون جل الادلة لو لا كلها بمقتضية لها كما لا يخفى (الطوسى)

١٨٧

عدم وجوبه فهذا الاصل يفيد القطع بعدم اشتغال الذمة لا الظن بعدم الحكم واقعا ولو افاده لم يكن معتبرا إلّا ان الذى يظهر من جماعة كون اعتمادهم فى الحكم بالبراءة على كونها هى الحالة السابقة الاصلية والتحقيق انه لو فرض حصول الظن من الحالة السابقة فلا يعتبر والاجماع ليس على اعتبار هذا الظن وانما هو على العمل على طبق الحالة السابقة ولا يحتاج اليه بعد قيام الاخبار المتقدمة وحكم العقل.

الثانى لا اشكال فى رجحان الاحتياط عقلا ونقلا كما يستفاد من الاخبار المذكورة وغيرها وهل الاوامر الشرعية للاستحباب فيثاب عليه وان لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعى او غيره بمعنى كونه مطلوبا لاجل التحرز عن الهلكة المحتملة والاطمينان بعدم وقوعه فيها فيكون الامر به ارشاديا لا يترتب على موافقته ومخالفته سوى الخاصية المترتبة على الفعل او الترك نظير اوامر الطبيب ونظير الامر بالاشهاد عند المعاملة لئلا يقع التنازع وجهان.

من ظاهر الامر بعد فرض عدم ارادة الوجوب ومن سياق جل الاخبار الواردة فى ذلك فان الظاهر كونها مؤكدة لحكم العقل بالاحتياط والظاهر ان حكم العقل بالاحتياط من حيث هو احتياط على تقدير كونه الزاميا لمحض الاطمينان ودفع احتمال العقاب وكما انه اذا تيقن بالضرر يكون الزام العقل لمحض الفرار عن العقاب المتيقن فكذلك طلبه الغير الالزامى اذا احتمل الضرر بل وكما ان امر الشارع بالاطاعة فى قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) لمحض الارشاد لئلا يقع العبد فى عقاب المعصية ويفوته ثواب الطاعة ولا يترتب على مخالفته سوى ذلك فكذلك امره بالاخذ بما يأمن معه الضرر ولا يترتب على موافقته سوى الامان المذكور ولا على مخالفته سوى الوقوع فى الحرام الواقعى على تقدير تحققه.

ويشهد لما ذكرنا ان ظاهر الاخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة فى التفصى

١٨٨

عن الهلكة الواقعية لئلا يقع فيها من حيث لا يعلم واقترانه (١) مع الاجتناب عن الحرام المعلوم فى كونه ورعا ومن المعلوم ان الامر باجتناب المحرمات فى هذه الاخبار ليس إلّا للارشاد لا يترتب على موافقتها ومخالفتها سوى الخاصية الموجودة فى المأمور به وهو الاجتناب عن الحرام او فوتها فكذلك الامر باجتناب الشبهة لا يترتب على موافقته سوى ما يترتب على نفس الاجتناب لو لم يأمر به الشارع بل فعله المكلف حذرا من الوقوع فى الحرام ولا يبعد التزام ترتب الثواب عليه من حيث انه انقياد واطاعة حكمية فيكون حينئذ حال الاحتياط والامر به حال نفس الاطاعة الحقيقية والامر بها فى كون الامر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من المدح او الثواب لو لا الامر هذا.

ولكن الظاهر من بعض الاخبار المتقدمة مثل قوله (ع) من ارتكب الشبهات نازعته نفسه الى ان يقع فى المحرمات وقوله من ترك الشبهات كان لما استبان له من الاثم اترك وقوله من يرتع حول الحمى يوشك ان يقع فيه هو كون الامر به للاستحباب وحكمته (٢) ان لا يهون عليه ارتكاب المحرمات المعلومة ولازم ذلك استحقاق الثواب على اطاعة اوامر الاحتياط مضافا الى الخاصية المترتبة على نفسه.

ثم لا فرق فيما ذكرنا من حسن الاحتياط بالفعل او بالترك بين افراد المسألة

__________________

١ ـ معطوف على قوله ظاهر الاخبار والضمير عائد الى الاجتناب عن الشبهات وحاصله ان الاجتناب عن الشبهات فى اخبار الاحتياط مقترن بالاجتناب عن المحرمات المعلومة فى كون كل منهما ورعا كما فى رواية فضيل بن عياض المتقدمة ولا ريب فى كون الثانى للارشاد فكذلك الاول بقرينة المقارنة (م ق)

٢ ـ يعنى ان رجحان الاحتياط تارة يكون لمجرد احراز الواقع ، وقد يكون لاجل حصول كمال فى النفس تتحرز به عن المحرمات المعلومة فيحصل لترك الشبهات (ح) حسن ذاتى ومن هنا حمل الاخبار الظاهرة الانطباق للاول على الإرشاد وللثانى على الاستحباب (م ق)

١٨٩

حتى مورد دوران الامر بين الاستحباب والتحريم بناء على ان دفع المفسدة الملزمة للترك اولى من جلب المصلحة الغير الملزمة وظهور الاخبار المتقدمة فى ذلك ايضا ، ولا يتوهم انه يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط فيما احتمل كونه من العبادات المستحبة بل حسن الاحتياط بتركه اذ لا ينفك ذلك عن احتمال كون فعله تشريعا محرما لان حرمة التشريع تابعة لتحققه ومع اتيان ما احتمل كونها عبادة لداعى هذا الاحتمال لا يتحقق موضوع التشريع ولذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال كما فى الصلاة الى اربع جهات او فى الثوبين المشتبهين وغيرهما وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء الله

الثالث ان اصل الاباحة (١) فى مشتبه الحكم انما هو مع عدم اصل موضوعي حاكم عليه فلو شك فى حل اكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية جرى اصالة الحل وان شك فيه من جهة الشك فى قبوله للتذكية فالحكم الحرمة لاصالة عدم التذكية لان من شرائطها قابلية المحل وهى مشكوكة فيحكم بعدمها وكون الحيوان ميتة ويظهر من المحقق والشهيد الثانيين قدس‌سرهما فيما اذا شك فى حيوان متولد من طاهر ونجس لا يتبعهما فى الاسم وليس له مماثل ان الاصل فيه الطهارة والحرمة فان كان الوجه فيه اصالة عدم التذكية فانما يحسن (٢) مع الشك فى قبول التذكية وعدم عموم يدل على جواز تذكية كل حيوان الا ما خرج كما ادعاه بعض وان كان الوجه فيه اصالة حرمة اكل لحمه قبل التذكية ففيه ان الحرمة قبل التذكية لاجل كونه من الميتة (٣) فاذا فرض اثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة فيحتاج حرمته الى

__________________

١ ـ اذا وجد حيوان وعلمت قابليته للتذكية فاصالة الاباحة تقتضى حليته واذا شك فى قابليته لها فاصالة الاباحة لا يقتضى كونه قابلا لفرض كون حلية اللحم بمقتضى قوله تعالى (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) مشروطة بقابليته للتذكية فلا بد فى الحكم بها من احراز شرطها والاصل يقتضى عدمه فيحكم بحرمته ، نعم لو كان هنا اصل ثانوى يقتضى كون كل حيوان قابلا للتذكية فالحكم الحلية (م ق)

٢ ـ مضافا الى ان اصالة عدم التذكية تقتضى النجاسة ايضا بالملازمة (شرح)

٣ ـ فان الميتة عبارة عن غير المذكى فيصدق على الحى ايضا (شرح)

١٩٠

موضوع آخر وكيف كان فلا يعرف وجه لرفع اليد عن اصالة الحل والاباحة.

نعم ذكر شارح الروضة هنا وجها آخر ونقله بعض محشيها عن الشهيد فى القواعد قال شارع الروضة ان كلا من النجاسات والمحللات محصورة فاذا لم يدخل فى المحصور منها كان الاصل طهارته وحرمة لحمه وهو ظاهر انتهى

ويمكن منع حصر المحللات بل المحرمات المحصورة والعقل والنقل دل على اباحة ما لم يعلم حرمته ولذا يتمسكون كثيرا باصالة الحل فى باب الاطعمة والاشربة ولو قيل ان الحل انما علق بالطيبات فى قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) المفيد للحصر فى مقام الجواب عن الاستفهام فكل ما شك فى كونه طيبا فالاصل عدم احلال الشارع له قلنا ان التحريم محمول فى القرآن على الخبائث والفواحش فاذا شك فيه فالاصل عدم التحريم ومع تعارض الاصلين يرجع الى اصالة الاباحة وعموم قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) وقوله (ع) ليس الحرام الا ما حرم الله مع انه يمكن فرض كون الحيوان مما ثبت كونه طيبا بل الطيب ما لا يستقذر فهو امر عدمى يمكن احرازه بالاصل (١) عند الشك فتدبر.

الرابع حكى عن بعض الاخباريين كلام لا يخلو ايراده عن فائدة وهو انه هل يجوز احد ان يقف عبد من عباد الله تعالى فيقال له بما كنت تعمل فى الاحكام الشرعية فيقول كنت اعمل بقول المعصوم واقتفى اثره وما يثبت من المعلوم فان اشتبه على شيء عملت بالاحتياط فيزل قدم هذا العبد عن الصراط ويقابل بالاهانة والاحباط فيؤمر به الى النار ويحرم مرافقة الابرار هيهات هيهات ان يكون اهل التسامح والتساهل فى الدين فى الجنة خالدين واهل الاحتياط فى

__________________

١ ـ يعنى ان موضوع الحرمة والحل هى الخباثة وعدمها ، فمع الشك فى انصاف شيء باحدهما يمكن اثبات عدمها بالاصل فيثبت به اباحته ، والامر بالتامل لاجل انه لم يثبت عدم خباثة الحيوان المشكوك الحل فى زمان حتى يستصحب إلّا بنحو العدم الازلى المثبت (م ق)

١٩١

النار معذبين انتهى كلامه.

اقول ولا يخفى على العوام فضلا عن غيرهم ان احد الا يقول بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه وانه سبيل النجاة واما الافتاء بوجوب الاحتياط فلا اشكال فى انه غير مطابق للاحتياط لاحتمال حرمته فان ثبت وجوب الافتاء فالامر يدور بين الوجوب والتحريم وإلّا فالاحتياط فى ترك الفتوى و (ح) فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله فان التفت الى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس بارتكاب المشتبه وان لم يلتفت اليه واحتمل العقاب كان مجبولا على الالتزام بتركه كمن احتمل ان فيما يريد سلوكه من الطريق سبعا.

وعلى كل تقدير فلا ينفع قول الاخباريين له ان العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ولا قول الاصولى له ان العقل يحكم بنفى البأس مع الاشتباه ، وبالجملة فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط والافتاء بوجوبه من الاخباريين نظير الافتاء بالبراءة من المجتهدين ولا متيقن من الامرين فى البين ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست باقل من مفاسد ارتكاب المشتبه كما لا يخفى فما ذكره هذا الاخبارى من الانكار لم يعلم توجهه الى احد والله العالم وهو الحاكم.

الخامس ان محل الكلام فى الشبهة الوجوبية هو احتمال الوجوب النفسى المستقل واما اذا احتمل كون شيء واجبا لكونه جزء او شرطا لواجب آخر فهو داخل فى الشك فى المكلف به وان كان المختار جريان اصل البراءة فيه ايضا كما سيجيء إن شاء الله لكنه خارج عن هذه المسألة الاتفاقية

السادس انه لا اشكال فى رجحان الاحتياط بالفعل حتى فيما احتمل كراهته والظاهر ترتب الثواب عليه اذا اتى به لداعى احتمال المحبوبية لانه انقياد واطاعة حكمية والحكم بالثواب هنا اولى من الحكم بالعقاب (١) على تارك الاحتياط

__________________

١ ـ وجه الاولية ان الامر فى جانب الثواب اوسع منه ولذا لا يعاقب إلّا بالاستحقاق وربما يثاب بدونه (م ط)

١٩٢

اللازم بناء على انه فى حكم المعصية وان لم يفعل محرما واقعيا وفى جريان ذلك فى العبادات عند دوران الامر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان اقواهما الجريان لكفاية احتمال المطلوبية فى صحة العبادة فيما لم يعلم مطلوبيته ولو اجمالا ولا يتوقف على ورود امر بها ولذا استقرت سيرة العلماء والصلحاء فتوى وعملا على اعادة العبادات بمجرد الخروج عن مخالفة النصوص غير المعتبرة والفتاوى النادرة.

ولو قيل بان العبادة لا بد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بامر الشارع تفصيلا او اجمالا كما فى كل من الصلوات الاربع عند اشتباه القبلة او الظن المعتبر اشكل جريان الاحتياط فيها (١) ولا يجدى فى صحتها (٢) لان موضوع التقوى والاحتياط الذى يتوقف عليه هذه الاوامر لا يتحقق إلّا بعد اتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر فى العبادة حتى نية التقرب وإلّا لم يكن احتياطا فلا يجوز ان يكون تلك الاوامر منشأ للقربة المنوية فيها.

اللهم إلّا ان يقال (٣) ان المراد من الاحتياط والاتقاء فى هذه الاوامر

__________________

١ ـ لان الاحتياط كل فعل او ترك يحرز به الواقع والفعل انما يكون عبادة اذا اشتمل على قصد القربة شرطا او شطرا المتوقف على العلم بالامر به اجمالا او تفصيلا ، فالاحتياط بالعبادة فرع احراز كونها عبادة وهو فرع العلم بالامر المفروض عدمه فى المقام (م ق)

٢ ـ لعدم حصول موضوع التقوى فى المقام إلّا بالعلم بالامر لان التقوى هو اتيان ما امر الله به والانتهاء عما نهى عنه فشمول الامر به للمأتى به فرع احتماله لكونه عبادة واحتماله فرع اتيانه بقصد القربة وإلّا لم يكن عبادة يقينا وهو فرع لعلم بالامر به تفصيلا او اجمالا ؛ فلو اريد اثبات صحة قصد التقرب به بهذا الامر لزم الدور (م ق)

٣ ـ حاصله ان لروم الدور ناش من كون المراد من الاحتياط بالنسبة الى العبادة فى تلك الاخبار معناه الحقيقى وهو اتيانها بجميع ما يعتبر فيها حتى قصد الامر ؛

١٩٣

هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة فمعنى الاحتياط بالصلاة الاتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة فاوامر الاحتياط يتعلق بهذا الفعل وحينئذ فيقصد المكلف فيه التقرب باطاعة هذا الامر ومن هنا يتجه الفتوى باستحباب هذا الفعل وان لم يعلم المقلد كون هذا الفعل مما شك فى كونها عبادة ولم يأت بداعى احتمال المطلوبية ولو اريد بالاحتياط فى هذه الاوامر معناه الحقيقى وهو اتيان الفعل لداعى احتمال المطلوبية لم يجز للمجتهد ان يفتى باستحبابه الا مع تقييده باتيانه بداعى الاحتمال حتى يصدق عليه عنوان الاحتياط مع استقرار سيرة اهل الفتوى على خلافه فعلم ان المقصود اتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نية الداعى.

ثم ان منشأ احتمال الوجوب اذا كان خبرا ضعيفا فلا حاجة الى اخبار الاحتياط وكلفة اثبات ان الامر فيها للاستحباب الشرعى دون الارشاد العقلى لورود بعض الاخبار باستحباب فعل كل ما يحتمل فيه الثواب كصحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال من بلغه عن النبى (ص) شيء من الثواب فعمله كان اجر ذلك له وان كان رسول الله (ص) لم يقله وعن البحار بعد ذكرها ان هذا الخبر من المشهورات رواه العامة والخاصة باسانيد والظاهر ان المراد من شيء من الثواب بقرينة ضمير فعمله واضافة الاجر اليه هو الفعل المشتمل على الثواب وفى عدة الداعى عن الكلينى قده انه روى بطرقه عن الائمة عليهم‌السلام انه من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وان لم يكن الامر كما فعله وارسل نحوه السيد قدس‌سره فى الاقبال عن الصادق عليه‌السلام إلّا ان فيه كان له ذلك والاخبار الواردة فى هذا الباب كثيرة إلّا ان ما ذكرناها اوضح دلالة على ما نحن فيه.

__________________

ـ فلم لا يكون المراد معناه المجازى وإتيانها بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد الامر و (ح) يرتفع الدور ويتحقق فى العبادات بقصد الامر الاحتياطى (حاشية الكفاية للمشكينى)

١٩٤

وان كان يورد عليه ايضا بان ثبوت الاجر لا يدل على الاستحباب الشرعى فالانصاف انه لا يخلو عن وجه لان الظاهر من هذه الاخبار كون العمل متفرعا على البلوغ وكونه الداعى على العمل ويؤيده تقييد العمل فى غير واحد من تلك الاخبار بطلب قول النبى (ص) والتماس الثواب الموعود ومن المعلوم ان العقل مستقل باستحقاق هذا العامل المدح والثواب.

وحينئذ فان كان الثابت فى هذه الاخبار اصل الثواب كانت مؤكدة بحكم العقل بالاستحقاق واما طلب الشارع لهذا الفعل فان كان على وجه الارشاد لاجل تحصيل هذا الثواب الموعود فهو لازم للاستحقاق المذكور وهو عين الامر بالاحتياط وان كان على وجه الطلب الشرعى المعبر عنه بالاستحباب فهو غير لازم للحكم بتنجز الثواب لان هذا الحكم تصديق لحكم العقل بتنجزه فيشبه قوله تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يدخله جنات تجرى إلّا ان هذا وعد على الاطاعة الحقيقية وما نحن فيه وعد على الاطاعة الحكمية وهو الفعل الذى يعد معه العبد فى حكم المطيع فهو من باب وعد الثواب على نية الخير التى يعد معها العبد فى حكم المطيع من حيث الانقياد.

واما ما يتوهم من ان استفادة الاستحباب الشرعى فيما نحن فيه نظير استفادة الاستحباب الشرعى من الاخبار الواردة فى الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل مثل قوله عليه‌السلام من سرح لحيته فله كذا مدفوع بان الاستفادة هناك باعتبار ان ترتب الثواب لا يكون إلّا مع الاطاعة حقيقة او حكما فمرجع تلك الاخبار (١)

__________________

١ ـ حاصل الفرق بين هذه الاخبار وما نحن فيه ان الثواب الموعود فى هذه الاخبار هو الثواب المترتب على نفس الفعل من حيث هو وهو مستلزم لكون الفعل من حيث هو مأمورا به وجوبا او استحبابا بخلاف ما نحن فيه فان الثواب فيه مترتب على الاتيان بالفعل بداعى كونه مما يثاب عليه وهو لا يستلزم الاستحباب الشرعى (م ق)

١٩٥

الى بيان الثواب على اطاعة الله سبحانه بهذا الفعل فهى يكشف عن تعلق الامر بها من الشارع فالثواب هناك لازم للامر فيستدل به عليه استدلالا انيا ومثل ذلك استفادة الوجوب والتحريم مما اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك او الفعل ، واما الثواب الموعود فى هذه الاخبار فهو باعتبار الاطاعة الحكمية فهو لازم لنفس عمله المتفرع على السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به امر آخر اصلا فلا يدل على طلب شرعى آخر له ، نعم يلزم من الوعد على الثواب طلب ارشادى لتحصيل ذلك الموعود والغرض من هذه الاوامر كاوامر الاحتياط تأييد لحكم العقل والترغيب فى تحصيل ما وعد الله عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين.

وان كان الثابت بهذه الاخبار خصوص الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها فهو وان كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق اصل الثواب على هذا العمل بناء على ان العقل لا يحكم باستحقاق ذلك الثواب المسموع الداعى الى الفعل بل قد يناقش فى تسمية ما يستحقه هذا العامل لمجرد احتمال الامر ثوابا وان كان نوعا من الجزاء والعوض إلّا ان مدلول هذه الاخبار اخبار عن تفضل الله سبحانه على العامل بالثواب المسموع وهو ايضا ليس لازما لامر شرعى هو الموجب بهذا الثواب بل هو نظير قوله تعالى من جاء بالحسنة فله عشر امثالها ملزوم لامر ارشادى يستقل به العقل بتحصيل ذلك الثواب المضاعف.

ثم ان الثمرة بين ما ذكرنا وبين الاستحباب الشرعى يظهر فى ترتب الآثار الشرعية المترتبة على المستحبات الشرعية مثل ارتفاع الحدث المترتب على الوضوء المأمور به شرعا فان مجرد ورود خبر غير معتبر بالامر به لا يوجب إلّا استحقاق الثواب عليه ولا يترتب عليه رفع الحدث فتامل وكذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من اللحية فى الوضوء من باب مجرد الاحتياط لا يسوغ جواز المسح ببلله بل يحتمل قويا ان يمنع من المسح من بلله وان قلنا بصيرورية (١) مستحبا شرعيا فافهم.

__________________

١ ـ لان المسح لا بد من ان يكون من بلل الوضوء ولا يصح ببلل ما ليس منه

١٩٦

السابع ان الظاهر اختصاص ادلة البراءة بصورة الشك فى الوجوب العينى سواء كان اصليا او عرضيا كالواجب المخبر المتعين لاجل الانحصار اما لو شك فى الوجوب التخييرى والاباحة (١) فلا تجرى فيه ادلة البراءة (٢) لظهورها فى عدم تعيين الشيء المجهول على المكلف بحيث يلزمه به ويعاقب عليه.

وفى جريان اصالة عدم الوجوب تفصيل (٣) لانه ان كان الشك فى وجوبه

__________________

ـ ولو كان مستحبا فيه ، نعم لو ثبت كونه جزءا مستحبا فلا اشكال فى جواز المسح به (الطوسى)

١ ـ يعنى انه لا مجال لها بعد العلم بتوجه أصله لو شك فى كيفيته وانه على نحو التعيين بان يكون متعلقا بغير ما شك فى وجوبه واباحته ، او على نحو التخيير بان يكون متعلقا به ايضا (الطوسى)

٢ ـ فانه اذا شك المكلف فى كون فعل مباحا او واجبا مخيرا بينه وبين غيره فاما ان يترك معه الفعل الآخر ايضا اولا : فعلى الاول لا معنى لفى العقاب للعلم به اجمالا ، وكذا على الثانى للعلم بعدم العقاب فى ترك هذا الفعل (م ق)

٣ ـ يعنى فى استصحاب عدم الوجوب تفصيل بالنسبة الى التخيير العقلى والشرعى ، وتوضيحه انه اذا شك فى وجوب فعل بان دار الامر فيه بين كونه احد فردى الواجب المخير او كونه مباحا فهو على وجهين ، احدهما ان يعلم اجمالا وجوب فعل ولكن لم يعلم ان الواجب هو الكلى المشترك بين الفرد المشكوك فيه وغيره او خصوص الفرد الآخر الذى علم وجوبه فى الجملة كما اذا ورد الامر بالعتق وشك فى تعلقه بالكافرة ايضا او اختصاصه بالمؤمنة وهذا هو المراد بقوله فى ضمن كلى مشترك ، وثانيهما ان يعلم وجوب فعل بالخصوص فى الجملة ولكن شك فى كونه واجبا تعيينيا او كونه احد فردى المخير كما اذا ورد الامر بعتق المؤمنة وشك فى ورود امر آخر بالكافرة على وجه يثبت التخيير بينهما ، وعلى فرض عدم الورود كان عتق الكافرة مباحا

اما الاول فلا يمكن فيه استصحاب عدم الوجوب لان مرجع الشك الى ان الواجب

١٩٧

فى ضمن كلى مشترك بينه وبين غيره او وجوب ذلك الغير بالخصوص فيشكل جريان اصالة عدم الوجوب اذ ليس إلّا وجوب واحد مردد بين الكلى والفرد فتعين هنا اجراء اصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقن الوجوب بفعل هذا المشكوك واما اذا كان الشك فى ايجابه بالخصوص جرى اصالة عدم الوجوب واصالة عدم لازمه الوضعى وهو سقوط الواجب المعلوم اذا شك فى اسقاطه له اما اذا قطع بكونه مسقطا للواجب المعلوم وشك فى كونه واجبا مسقطا لوجوبه نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم فلا مجرى للاصل الا بالنسبة الى طلبه وتجرى اصالة البراءة عن وجوبه التعينى بالعرض اذا فرض تعذر ذلك الواجب الآخر.

وربما يتخيل من هذا القبيل ما لو شك فى وجوب الايتمام على من عجز عن القراءة وتعلمها بناء اعلى رجوع المسألة الى الشك فى كون الايتمام مستحبا

__________________

ـ هو الكلى او الفرد الآخر منه ، فهذا الفرد بنفسه ليس موردا للاصل ولا مسرح لنفى وجوب الكلى للعلم اجمالا بوجوبه ووجوب الفرد الآخر فيتعين (ح) اجراء اصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقن الوجوب بفعل هذا المشكوك لا اصالة عدم وجوب المشكوك وإن كان مؤدّى الاصلين واحدا.

واما الثانى فهو على قسمين احدهما ان يعلم كون الفرد المشكوك فيه مسقطا للتكليف المعلوم اجمالا على تقدير وجوبه واشار الى هذا بقوله واما اذا كان الشك انتهى والآخر ان يعلم كونه مسقطا وان ثبت اباحته كما فى مثال الصوم والسفر اذا ورد الامر بالصوم فى الحضر وشك فى ورود امر آخر بالسفر بحيث لو ثبت افاد التخيير بينهما لانه على تقدير عدم ثبوته كان مباحا مسقطا واليه اشار بقوله اما اذا قطع بكون شيء ؛ اما الاول فيمكن فيه اجراء اصالة عدم الفرد المشكوك فيه ؛ وكذا يجرى الاصل فى لازمه الوضعى اعنى سقوط الواجب بفعله فيستصحب عدم السقوط ؛ واما الثانى فيجرى فيه عدم الحكم التكليفى فقط (م ق)

١٩٨

مسقطا او واجبا مخيرا بينه وبين الصلاة مع القراءة فيدفع وجوبه التخييرى (١) بالاصل ، لكن الظاهر ان المسألة ليست من هذا القبيل (٢) لان صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة فيتصف بالوجوب لا محالة واتصافها بالاستحباب من باب افضل فردى الواجب فيختص بما اذا تمكن المكلف من غيره فاذا عجز تعين وخرج عن الاستحباب كما اذا منعه مانع آخر عن الصلاة منفردا لكن يمكن منع تحقق العجز فيه ، فانه يتمكن من الصلاة منفردا بلا قراءة لسقوطها عنه بالتعذر كسقوطها بالايتمام فتعين احد المسقطين يحتاج الى دليل والمسألة محتاجة الى التأمل ، ثم ان الكلام فى الشك فى الوجوب الكفائى (٣) كوجوب رد السلام على المصلى اذا سلم على جماعة وهو منهم يظهر مما ذكرنا فافهم.

الثامن ان الاصوليين عنونوا فى باب التراجيح الخلاف فى تقديم الخبر الموافق للاصل المسمى بالمقرر على المخالف المسمى بالناقل وعنونوا ايضا مسئلة تقديم الخبر الدال على الاباحة على الدال على الحظر ونسب تقديم الحاظر على المبيح الى عدم الخلاف فى ذلك والخلاف فى المسألة الاولى ينافى الوفاق فى الثانية كما ان قول الاكثر فيهما مخالف لما يشاهد من عملهم على عدم تقديم المخالف للاصل بل التخيير او الرجوع الى الاصل الذى هو وجوب الاحتياط عند الاخباريين والبراءة عند المجتهدين.

__________________

١ ـ يعنى وجوبه التخييرى المتعين بتعذر احد الفردين (م ق)

٢ ـ وانما يكون من هذا القبيل ما كان مباينا لما علم وجوبه كالسفر المباح بالنسبة الى الصوم لا ما كان من افراده فانه يتصف بالوجوب لا محالة (الطوسى)

٣ ـ لو علم المكلف باصل الوجوب وشك فى تعلقه به او بغيره او علم بتعلقه بغيره لكن شك فى تعلقه به ايضا كانت اصالة عدم الوجوب جارية كما انه لو علم بتعلق الوجوب جرى استصحاب بقائه الى ان يعلم بالفراغ (م ط)

١٩٩

ويمكن ان يقال ان (١) مرادهم من الاصل فى مسئلة الناقل والمقرر اصالة البراءة من الوجوب لاصالة الاباحة فيتفارق مسئلة تعارض المبيح والحاظر وان حكم اصحابنا بالتخيير والاحتياط لاجل الاخبار الواردة لا لمقتضى نفس مدلولى الخبرين من حيث هما.

المطلب الثانى دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب او الوجوب وغير الحرمة مع كون الشك فى الواقعة الجزئية لاجل الاشتباه فى بعض الامور الخارجية كما اذا شك فى حرمة شرب مائع واباحته للتردد فى انه خل او خمر وفى حرمة لحم لتردده بين كونه من الشاة او من الارنب وفى وجوب سفر للشك فى تعلق النذر به وعدمه والظاهر عدم الخلاف فى ان مقتضى الاصل فيه (٢) الاباحة للاخبار الكثيرة فى ذلك مثل قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام وكل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال.

واستدل العلامة ره في التذكرة على ذلك برواية مسعدة بن صدقة كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة او العبد يكون عبدك ولعله حر قد باع نفسه او قهر فبيع او خدع فبيع او امرأة تحتك وهى اختك او رضيعتك والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا او تقوم به البينة وتبعه عليه جماعة من المتأخرين.

ولا اشكال فى ظهور صدرها فى المدعى إلّا ان الامثلة المذكورة فيها ليس الحل فيها مستندا الى اصالة الحلية فان الثوب والعبد ان لوحظا باعتبار اليد عليهما

__________________

١ ـ حاصله تخصيص موضوع المسألة الاولى بصورة دوران الامر بين الوجوب وغير الحرمة ، وموضوع الثانية بصورة دوران الامر بين الحرمة وغير الوجوب (م ق)

٢ ـ الادلة المذكورة لا تنطبق الا على الشبهات التحريمية ، ولم يذكر هنا ما يدل على البراءة فى الشبهة الوجوبية ولعله اعتمد فى ذلك على ما سبق من حديث الرفع وقوله (ع) الناس فى سعة ما لا يعلمون والعمدة فى المقام الاجماع حتى من الاخباريين (شرح)

٢٠٠