الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

الشيخ علي المشكيني

الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٥

والجواب عنه انه ان اريد من الضرر المظنون العقاب فالصغرى ممنوعة (١) فان استحقاق العقاب العقاب على الفعل او الترك كاستحقاق الثواب عليهما ليس ملازما للوجوب والتحريم الواقعيين كيف وقد يتحقق التحريم ونقطع بعدم العقاب فى الفعل كما فى الحرام والواجب المجهولين جهلا بسيطا او مركبا بل استحقاق الثواب والعقاب انما هو على تحقق الاطاعة والمعصية اللتين لا يتحققان إلّا بعد العلم بالوجوب والحرمة او الظن المعتبر بهما ، واما الظن المشكوك الاعتبار فهو كالشك فى استقلال العقل بقبح المؤاخذة عليه وان اريد من الضرر المظنون المفسدة المظنونة ففيه ان الضرر وان كان مظنونا إلّا ان حكم الشارع قطعا او ظنا بالرجوع فى مورد الظن الى البراءة والاستصحاب وترخيصه لترك مراعاة الظن اوجب القطع او الظن بتدارك ذلك الضرر المظنون وإلّا كان فى ترخيص العمل على الاصل المخالف للظن القاء للمفسدة.

توضيح ذلك انه لا اشكال فى انه متى ظن بوجوب شىء وان الشارع الحكيم طلب فعله منا طلبا حتميا او حرم علينا فعلا كذلك فالعقل مستقل بوجوب فعل الاول وترك الثانى لانه يظن فى ترك الاول الوقوع فى مفسدة ترك الواجب المطلق الواقعى والمحبوب المنجز النفس الامرى ويظن فى فعل الثانى الوقوع فى مفسدة الحرام الواقعى والمبغوض النفس الامرى إلّا انه لو صرح الشارع بالرخصة فى ترك العمل فى هذه الصورة كشف ذلك عن مصلحة يتدارك بها ذلك الضرر المظنون ولذا وقع الاجماع على عدم وجوب مراعات الظن بالوجوب او الحرمة اذا حصل الظن من

__________________

١ ـ حاصله ان الظن بالحكم الالزامى انما يستلزم الظن بالعقاب اذا كانت بين الحكم الواقعى والعقاب ملازمة واقعية وليس كذلك لتخلفه فيما فرضه من صور الجهل بسيطا او مركبا نعم الملازمة انما هى بين العلم بالحكم الالزامى او الظن المعتبر به وبين العقاب وليس شىء منهما حاصلا فى المقام ، اما الاول فمعلوم واما الثانى فلعدم ثبوت اعتبار الظن فى المقام (م ق)

١٢١

القياس وعلى جواز مخالفة الظن فى الشبهات الموضوعية حتى يستبين التحريم او تقوم به البينة.

اذا عرفت ذلك فنقول ان اصل البراءة والاستصحاب ان قام عليهما الدليل القطعى بحيث يدل على وجوب الرجوع اليهما فى صورة عدم العلم ولو مع وجود الظن الغير المعتبر فلا اشكال فى عدم وجوب مراعات ظن الضرر وفى انه لا يجب الترك او الفعل بمجرد ظن الوجوب او الحرمة لما عرفت من ان ترخيص الشارع الحكيم للاقدام على ما فيه ظن الضرر لا يكون إلّا لمصلحة يتدارك بها ذلك الضرر المظنون على تقدير الثبوت واقعا.

وان منعنا عن قيام الدليل على الاصول وقلنا ان الدليل القطعى لم يثبت على اعتبار الاستصحاب خصوصا فى الاحكام الشرعية وخصوصا مع الظن بالخلاف وكذلك الدليل لم يثبت على الرجوع الى البراءة حتى مع الظن بالتكليف لان العمدة فى دليل البراءة الاجماع والعقل المختصان بصورة عدم الظن بالتكليف فنقول لا اقل من ثبوت بعض الاخبار الظنية على الاستصحاب والبراءة عند عدم العلم الشامل لصورة الظن فيحصل الظن بترخيص الشارع لنا فى ترك مراعات ظن الضرر وهذا القدر يكفى فى عدم الظن بالضرر.

ومنها هو الدليل المعروف بدليل الانسداد وهو مركب من مقدمات ، المقدمة الاولى انسداد باب العلم والظن الخاص فى معظم المسائل الفقهية

الثانية انه لا يجوز لنا اهمال الاحكام المشتبهة وترك التعرض لامتثالها بنحو من انحاء امتثال الجاهل العاجز عن العلم التفصيلى بان يقتصر فى الاطاعة على التكاليف القليلة المعلومة تفصيلا او بالظن الخاص القائم مقام العلم بنص الشارع ونجعل انفسنا فى تلك الموارد ممن لا حكم عليه فيها كالاطفال والبهائم او ممن حكمه فيها الرجوع الى اصالة العدم

الثالثة انه اذا وجب التعرض لامتثالها فليس امتثالها بالطرق الشرعية المقررة للجاهل من

١٢٢

الاخذ بالاحتياط الموجب للعلم الاجمالى بالامتثال او الاخذ فى كل مسئلة بالاصل المتبع شرعا (١) فى نفس تلك المسألة مع قطع النظر عن ملاحظتها منضمة الى غيرها من المجهولات او الاخذ بفتوى العالم بتلك المسألة وتقليده فيها.

الرابعة عدم جواز العدول الى الموافقة الشكية او الوهمية مع التمكن من الموافقة الظنية لاستلزامه الترجيح بلا مرجح فاذا بطل الرجوع فى الامتثال الى الطريق الشرعية المذكورة لعدم الوجوب فى بعضها (٢) وعدم الجواز فى الآخر والمفروض عدم سقوط الامتثال بمقتضى المقدمة الثانية تعين بحكم العقل المستقل الرجوع الى الامتثال الظنى والموافقة الظنية للواقع ولا يجوز العدول عنه الى الموافقة الوهمية بان يؤخذ بالطرف المرجوح ولا الى الامتثال الاحتمالى والموافقة الشكية بان يعتمد على احد طرفى المسألة من دون تحصيل الظن فيها او يعتمد على ما يحتمل كونه طريقا شرعيا (٣) للامتثال من دون افادته للظن اصلا.

اما المقدمة الاولى فهى بالنسبة الى انسداد باب العلم فى الاغلب غير محتاجة الى الاثبات ضرورة قلة ما يوجب العلم التفصيلى بالمسألة على وجه لا يحتاج العمل فيها الى اعمال امارة غير علمية واما بالنسبة الى انسداد باب الظن الخاص فهى مبتنية على ان لا يثبت من الادلة المتقدمة لحجية الخبر الواحد حجية مقدار منه يفى بضميمة الادلة العلمية وباقى الظنون الخاصة باثبات معظم الاحكام الشرعية بحيث لا يبقى مانع عن الرجوع فى المسائل الخالية عن الخبر واخواته من الظنون الخاصة الى ما يقتضيه الاصل فى تلك الواقعة من البراءة والاستصحاب او الاحتياط او التخيير فتسليم هذه المقدمة ومنعها لا يظهر الا بعد التأمل التام وبذل الجهد فى النظر فيما تقدم من

__________________

١ ـ كاصالة البراءة والاستصحاب والتخيير لعدم جريان الاصول فى اطراف العلم الاجمالى كما سيجيء بيانه فى الجواب عن هذه المقدمة (شرح)

٢ ـ كالاحتياط وفى الآخر مثل البراءة والاستصحاب والتخيير ونحوها (م ق)

٣ ـ كالقرعة ونحوها (ق)

١٢٣

ادلة حجية الخبر وانه هل يثبت بها حجية مقدار وافٍ من الخبر ام لا وهذه هى عمدة مقدمات دليل الانسداد بل الظاهر المصرح به فى كلمات بعض ان ثبوت هذه المقدمة يكفى فى حجية الظن المطلق للاجماع عليه على تقدير انسداد باب العلم والظن الخاص

واما المقدمة الثانية وهى عدم جواز اهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها وترك التعرض لامتثالها بنحو من الانحاء فيدل عليه اولا ان الرجوع فى جميع تلك الوقائع الى نفى الحكم مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها فى لسان جمع من مشايخنا بالخروج عن الدين بمعنى ان المقتصر على التدين بالمعلومات التارك للاحكام المجهولة جاعلا لها كالمعدومة يكاد يعد خارجا عن الدين لقلة المعلومات التى اخذ بها وكثرة المجهولات التى اعرض عنها وهذا امر يقطع ببطلانه كل احد بعد الالتفات الى كثرة المجهولات كما يقطع ببطلان الرجوع الى نفى الحكم وعدم الالتزام بحكم اصلا.

والحاصل ان ترك اكثر الاحكام الفرعية بنفسه محذور مفروغ عن بطلانه كطرح جميع الاحكام لو فرضت مجهولة فلو فرضنا ان مقلدا دخل عليه وقت الصلاة ولم يعلم من الصلاة عدا ما تعلم من ابويه بظن الصحة مع احتمال الفساد عنده احتمالا ضعيفا ولم يتمكن من ازيد من ذلك فهل يلتزم بسقوط التكليف عنه بالصلاة فى هذه الحالة او انه ياتى بها على حسب ظنه الحاصل من قول ابويه ، والمفروض ان قول ابويه مما لم يدل عليه دليل شرعى فاذا لم تجد من نفسك الرخصة فى تجويز ترك الصلاة لهذا الشخص فكيف ترخص الجاهل بمعظم الاحكام فى نفى الالتزام بشيء منها عدا القليل المعلوم او المظنون بالظن الخاص وترك ما عداه ولو كان مظنونا بظن لم يقم على اعتباره دليل خاص ، بل الانصاف انه لو فرض والعياذ بالله فقد الظن المطلق فى معظم الاحكام كان الواجب الرجوع الى الامتثال الاحتمالي بالتزام ما لا يقطع معه بطرح الاحكام الواقعية.

وثانيا انه لو سلمنا أن الرجوع الى البراءة لا يوجب شيئا مما ذكر من المحذور

١٢٤

البديهى وهو الخروج من الدين فنقول انه لا دليل على الرجوع الى البراءة من جهة العلم الاجمالى بوجود الواجبات والمحرمات فان ادلتها مختصة بغير هذه الصورة ونحن نعلم اجمالا ان فى المظنونات واجبات كثيرة ومحرمات كثيرة والفرق بين هذا الوجه وسابقه ان الوجه السابق كان مبنيا على لزوم المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين وهو محذور مستقل وان قلنا بجواز العمل بالاصل فى صورة لزوم مطلق المخالفة القطعية وهذا الوجه مبنى على ان مطلق مخالفة القطعية غير جائز واصل البراءة فى مقابلها غير جار ما لم يصل المعلوم الاجمالى الى حد الشبهة الغير المحصور وقد ثبت فى مسئلة البراءة ان مجراها الشك فى اصل التكليف لا الشك فى تعينه مع القطع بثبوت أصله كما فى ما نحن فيه.

واما المقدمة الثالثة ففى بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقررة للجاهل من الاحتياط او الرجوع فى كل مسئلة الى ما يقتضيه الاصل فى تلك المسألة او الرجوع الى فتوى العالم بالمسألة وتقليده فيها فنقول ان كلا من هذه الامور الثلاثة وان كان طريقا شرعيا فى الجملة لامتثال الحكم المجهول إلّا ان منها ما لا يجب فى المقام ومنها ما لا يجرى اما الاحتياط فهو وان كان مقتضى الاصل والقاعدة العقلية والنقلية عند ثبوت العلم الاجمالى بوجود الواجبات والمحرمات إلّا انه فى المقام اعنى صورة انسداد باب العلم فى معظم المسائل الفقهية غير واجب للزوم العسر الشديد (١) والحرج الاكيد فى التزامه لكثرة ما يحتمل موهوما وجوبه خصوصا ابواب الطهارة والصلاة فمراعاته مما يوجب الحرج والمثال لا يحتاج اليه فلو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه اجماع قطعى او خبر متواتر على التزام بالاحتياط فى جميع اموره يوما وليلة

__________________

١ ـ حاصله انه يتوجه امور ، احدها لزوم اختلال نظم العالم وعيش بنى آدم واضطراب امورهم ، ثانيها مع التنزل عنه لزوم العسر والحرج الاكيدين ، ثالثها مع التسليم عدم امكان الاحتياط فى بعض الموارد لدوران الامر بين المحذورين (م ق)

١٢٥

لوجد صدق ما ادعيناه.

هذا كله بالنسبة الى نفس العمل بالاحتياط واما تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلده وتعلم المقلد موارد الاحتياط الشخصية وعلاج تعارض الاحتياطات وترجيح الاحتياط الناشى عن الاحتمال القوى على الاحتياط الناشى عن الاحتمال الضعيف فهو امر مستغرق لاوقات المجتهد والمقلد فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلمها فى حرج يخل بنظام معاشهم ومعادهم

توضيح ذلك ان الاحتياط فى مسئلة التطهير بالماء المستعمل فى رفع الحدث الاكبر ترك التطهير به لكن قد يعارضه فى المورد الشخصية احتياطات اخرى بعضها اقوى منه وبعضها اضعف وبعضها مساو ، فانه قد يوجد ماء آخر للطهارة وقد لا يوجد معه الا التراب وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيره فان الاحتياط فى الاول هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهة اخرى كما اذا كان قد اصابه ما لم ينعقد الاجماع على طهارته وفى الثانى هو الجمع بين الطهارة المائية والترابية ان لم يزاحمه ضيق الوقت وفى الثالثة من ذلك المستعمل والصلاة ان لم يزاحمه امر آخر واجب او محتمل الوجوب فكيف يسوغ للمجتهد ان يلقى الى مقلده ان الاحتياط فى ترك الطهارة بالماء المستعمل مع كون الاحتياط فى كثير من الموارد استعماله فقط او الجمع بينه وبين غيره وبالجملة فتعليم موارد الاحتياط الشخصية وتعلمها فضلا عن العمل بها امر يكاد يلحق بالمتعذر ويظهر ذلك بالتأمل فى الوقائع الاتفاقية.

واما الرجوع فى كل واقعة الى ما يقتضيه الاصل فى تلك الواقعة من غير التفات الى العلم الاجمالى بوجود الواجبات والمحرمات بين الوقائع بان يلاحظ نفس الواقعة فان كان فيها حكم سابق يحتمل بقائه استصحب كالماء المتغير بعد زوال التغيير وإلّا فان كان الشك فى اصل التكليف كشرب التتن اجرى البراءة وان كان الشك فى تعيين المكلف به مثل القصر والاتمام فان امكن الاحتياط وجب وإلّا تخير كما اذا كان الشك فى تعيين التكليف الالزامى كما اذا دار الامر بين الوجوب

١٢٦

والتحريم فيرد هذا الوجه ان العلم الاجمالى (١) بوجود الواجبات والمحرمات يمنع عن اجراء البراءة والاستصحاب المخالف للاحتياط بل وكذا العلم الاجمالى بوجود غير الواجبات والمحرمات فى الاستصحابات المطابقة للاحتياط يمنع من العمل (٢) بالاستصحابات من حيث انها استصحابات وان كان لا يمنع من العمل بها من حيث الاحتياط لكن الاحتياط فى جميع ذلك يوجب العسر

وبالجملة فالعمل بالاصول النافية للتكليف فى مواردها مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة وبالاصول المثبتة للتكليف من الاحتياط والاستصحاب مستلزم للحرج وهذا الكثرة المشتبهات فى المقامين كما لا يخفى على المتأمل واما رجوع هذا الجاهل الذى انسد عليه باب العلم فى المسائل المشتبهة الى فتوى العالم بها وتقليده فيها فهو باطل لان الجاهل الذى وظيفته الرجوع الى العالم هو الجاهل العاجز عن الفحص واما الجاهل الذى بذل الجهد وشاهد مستند العالم وغلطه فى استناده اليه واعتقاده عنه فلا دليل على حجية فتواه بالنسبة اليه وليست فتواه من الطرق المقررة لهذا الجاهل فان من يخطى القائل بحجية خبر الواحد فى فهم دلالة آية النبإ عليها كيف يجوز له متابعته واى مزية له عليه حتى يجب رجوعه اليه ولا يجب العكس وهذا هو الوجه فيما اجمع عليه العلماء من ان المجتهد اذا لم يجد دليلا فى المسألة على التكليف كان حكمه الرجوع الى البراءة لا الى من يعتقد وجود

__________________

١ ـ فانه مع وجود العلم الاجمالى المذكور ان اريد اجراء البراءة والاستصحاب فى جميع اطرافه لزمت مخالفة العلم الاجمالى بثبوت التكليف فى الجملة وان اريد اجرائها فى بعضها لزم الترجيح بلا مرجح (م ق)

٢ ـ لانا اذا فرضنا اناءين نجسين ثم علم اجمالا بعروض الطهارة لاحدهما فالعلم بانتقاض الحالة السابقة فى الجملة وإن كان يمنع عن استصحاب نجاستهما إلّا ان ذلك لا يمنع عن الاجتناب منهما من باب المقدمة للاجتناب عن الحرام الواقعى وما نحن فيه من هذا القبيل (م ق)

١٢٧

الدليل على التكليف.

والحاصل ان اعتقاد مجتهد ليس حجة على مجتهد آخر خال عن ذلك الاعتقاد وادلة وجوب رجوع الجاهل الى العالم يراد بها العالم الذى يختفى منشأ علمه على ذلك لا مجرد المنعقد بالحكم ولا فرق بين المجهدين المعتقدين المختلفين فى الاعتقاد وبين المجتهدين الذين احدهما اعتقد الحكم عن دلالة والآخر اعتقد بفساد تلك الدلالة فلا يحصل له اعتقاد وهذا شيء مطرد فى باب مطلق رجوع الجاهل الى العالم شاهدا كان او مفتيا او غيرهما

واما المقدمة الرابعة فهى ايضا مسلمة ولعله لذلك (١) يجب العمل بالظن فى الضرر والعدالة وامثالها ، اذا تمهد هذه المقدمات فقد ثبت وجوب العمل بالظن فيما نحن فيه ومحصلها انه اذا ثبت انسداد باب العلم والظن الخاص كما هو مقتضى المقدمة الاولى وثبت وجوب امتثال الاحكام المشتبهة وعدم جواز اهمالها بالمرة كما هو مقتضى المقدمة الثانية وثبت عدم وجوب كون الامتثال على وجه الاحتياط وعدم جواز الرجوع فيه الى الاصول الشرعية كما هو مقتضى المقدمة الثالثة تعين بحكم العقل المستقل التعرض لامتثالها على وجه الطن بالواقع فيها اذ ليس بعد الامتثال العلمى والظنى بالظن الخاص المعتبر فى الشريعة امتثال مقدم على الامتثال الظنى

توضيح ذلك انه اذا وجب عقلا او شرعا التعرض لامتثال الحكم الشرعى فله مراتب اربع الاولى الامتثال العلمى التفصيلى وهو ان يأتى بما يعلم تفصيلا انه هو المكلف به ، وفى معناه ما اذا ثبت كونه هو المكلف به بالطريق الشرعى وان لم يفد العلم ولا الظن كالاصول الجارية فى مواردها وفتوى المجتهد

__________________

١ ـ اذ لا ريب فى انسداد باب العلم بالضرر والعدالة غالبا مع تعلق احكام مختلفة بهما وكون العمل باصالة البراءة مستلزما لمخالفة العلم الاجمالى وعدم امكان الاحتياط فى موردهما فتعين العمل فى تعيينهما بالظن لا محالة (م ق)

١٢٨

بالنسبة الى الجاهل العاجز عن الاجتهاد (الثانية) الامتثال العلمى الاجمالى وهو يحصل بالاحتياط (الثالثة) الامتثال الظنى وهو ان يأتى بما يظن انه المكلف به (الرابعة) الامتثال الاحتمالى كالتعبد باحد طرفى المسألة من الوجوب والتحريم او التعبد ببعض محتملات المكلف به عند عدم وجوب الاحتياط او عدم امكانه وهذه المراتب مترتبة لا يجوز بحكم العقل العدول عن سابقتها الى لاحقتها الا مع تعذرها على اشكال فى الاولين تقدم فى اول الكتاب و (ح) فاذا تعذرت المرتبة الاولى ولم يجب الثانية تعينت الثالثة ولا يجوز الاكتفاء بالرابعة

فاندفع بما ذكرنا ما ربما يتوهم من التنافى بين التزام بقاء التكليف فى الوقائع المجهولة الحكم وعدم ارتفاعه بالجهل وبين التزام العمل بالظن نظرا الى ان التكليف بالواقع لو فرض بقاؤه فلا يجدى غير الاحتياط فى احراز الواقع وامتثاله (توضيح الاندفاع) ان المراد من بقاء التكليف بالواقع نظير التزام بقاء التكليف فيما تردد الامر بين محذورين من حيث الحكم او الموضوع بحيث لا يمكن الاحتياط فان الحكم بالتخيير لا ينافى التزام بقاء التكليف فيقال ان الاخذ باحدهما لا يجدى فى امتثال الواقع لان المراد ببقاء التكليف عدم السقوط رأسا بحيث لا يعاقب عند ترك المحتملات كلا. بل العقل يستقل باستحقاق العقاب عند الترك رأسا نظير جميع الوقائع المشتبهة فيما نحن فيه نظير اشتباه الواجب من الظهر والجمعة فى يوم الجمعة بحيث يقطع بالعقاب بتركهما معا مع عدم امكان الاحتياط او كونه عسرا قد نص الشارع على نفيه مع وجود الظن باحدهما فانه يدور الامر بين العمل بالظن والتخيير والعمل بالموهوم فان ايجاب العمل بكل من الثلاثة وان لم يحرز به الواقع إلّا ان العمل بالظن اقرب الى الواقع من العمل بالموهوم والتخيير فيجب عقلا (فافهم)

والحاصل انه بعد ما ثبت بحكم المقدمة الثانية وجوب التعرض لامتثال المجهولات بنحو من الانحاء وحرمة اهمالها وفرضها كالمعدوم وثبت بحكم المقدمة الثالثة عدم وجوب امتثال المجهولات بالاحتياط وعدم جواز الرجوع فى امتثالها الى الاصول الجارية فى نفس تلك المسائل ولا الى فتوى من يدعى انفتاح باب

١٢٩

العلم بها تعين وجوب تحصيل الظن بالواقع فيها وموافقته ولا يجوز قبل تحصيل الظن الاكتفاء بالاخذ باحد طرفى المسألة ولا بعد تحصيل الظن الاخذ بالطرف الموهوم لقبح الاكتفاء فى مقام الامتثال بالشك والوهم مع التمكن من الظن كما يقبح الاكتفاء بالظن مع التمكن من العلم ولا يجوز ايضا الاعتناء بما يحتمل ان يكون طريقا معتبرا مع عدم افادته الظن لعدم خروجه عن الامتثال الشكى او الوهمي هذا خلاصة الكلام فى مقدمات دليل الانسداد المنتجة لوجوب العمل بالظن فى الجملة

تنبيهات الاول قد يقرر (١) دليل الانسداد على وجه يكون كاشفا عن حكم الشارع بلزوم العمل بالظن بان يقال ان بقاء التكاليف مع العلم بان الشارع لم يعذرنا فى ترك التعرض لها واهمالها مع عدم ايجاب الاحتياط علينا وعدم بيان طريق مجعول فيها يكشف عن ان الظن جائز العمل به ماض عند الشارع وانه لا يعاقبنا على ترك واجب اذا ظن بعدم وجوبه ولا بفعل محرم اذا ظن بعدم تحريمه فحجية الظن على هذا التقرير تعبد شرعى كشف عنه العقل من جهة دوران الامر بين امور كلها باطلة سواه فالاستدلال عليه من باب الاستدلال على تعيين احد طرفى المنفصلة او اطرافها بنفى الباقى فيقال ان الشارع اما ان اعرض عن هذه التكاليف المعلومة اجمالا او اراد الامتثال

__________________

١ ـ هذا اشارة الى الخلاف فى ان حكم العقل بجواز العمل بالظن بملاحظة دليل الانسداد هل هو من باب الكشف عن جعل الشارع للظن حجة شرعية عند الانسداد او من باب حكم العقل وانشائه لحجيته كالعلم فى صورة الانفتاح وذكر هذا الخلاف مقدمة لبيان كون النتيجة مهملة او مطلقة ، لان الاول لازم للاول والثانى للثانى ، وكيف كان فالوجه فى الكشف والحكومة واضح لانه بعد تمامية المقدمات فالعقل اما ان يكشف عن جعل الشارع للظن حجة شرعية يجب اتباعه وان احتملت مخالفته للواقع ، واما ان يستقل بنفسه للحكم بجواز الاقتصار عليه فى مقام الامتثال فيكون المنشئ لحجته (ح) هو العقل دون الشرع وهذا هو الاقرب (م ق)

١٣٠

بها على العلم او اراد الامتثال المعلوم اجمالا او اراد امتثالها من طريق خاص تعبدى او اراد امتثالها الظنى وما عدا الاخير باطل فتعين هو

وقد يقرر على وجه يكون العقل منشأ للحكم بوجوب الامتثال الظنى بمعنى حسن المعاقبة على تركه وقبح المطالبة بازيد منه كما يحكم بوجوب تحصيل العلم وعدم كفاية الظن عند التمكن من تحصيل العلم فهذا الحكم العقلى ليس من مجعولات الشارع اذ كما ان نفس وجوب الاطاعة وحرمة المعصية بعد تحقق الامر والنهى من الشارع ليس من الاحكام المجعولة للشارع بل شيء يستقل به العقل لا على وجه الكشف فكذلك كيفية الاطاعة وانه يكفى فيها الظن بتحصيل مراد الشارع فى مقام ويعتبر فيها العلم بتحصيل المراد فى مقام آخر اما تفصيلا او اجمالا

وتوهم انه يلزم على هذا انفكاك حكم العقل عن حكم الشرع (مدفوع) بما قررنا فى محله من ان التلازم بين الحكمين انما هو مع قابلية المورد لهما اما لو كان قابلا لحكم العقل دون الشرع كما فى الاطاعة والمعصية فانهما لا يقبلان لورود حكم الشارع عليهما بالوجوب والتحريم الشرعيين بان يريد فعل الاولى وترك الثانية بارادة مستقلة غير ارادة فعل المأمور به وترك المنهى عنه الحاصلة بالامر والنهى حتى انه لو صرح بوجوب الاطاعة وتحريم المعصية كان الامر والنهى للارشاد لا للتكليف اذ لا يترتب على مخالفة هذا الامر او النهى الا ما يترتب على ذات المأمور به والمنهى عنه اعنى نفس الاطاعة والمعصية ، وهذا دليل الارشاد كما فى اوامر الطبيب ولذا لا يحسن من الحكيم عقاب آخر او ثواب آخر غير ما يترتب على نفس المأمور به والمنهى عنه فعلا او تركا من الثواب والعقاب

اذا عرفت ذلك فنقول الحق فى تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثانى وان التقرير على وجه الكشف فاسد ، اما اولا فلان المقدمات المذكورة لا تستلزم جعل

١٣١

الشارع للظن مطلقا او بشرط حصوله من اسباب خاصة حجة لجواز ان لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذر العلم اصلا فان العقلاء يعملون بالظن فى تكاليفهم العرفية مع القطع بعدم جعل طريق لها من جانب الموالى ولا يجب على الموالى نصب الطريق عند تعذر العلم نعم يجب عليهم الرضا بحكم العقل ويقبح عليهم المؤاخذة على مخالفة الواقع الذى يؤدى اليه الامتثال الظنى

واما ثانيا فلانه اذا بنى على كشف المقدمات المذكورة عن جعل الظن على وجه الاهمال والاجمال صح المنع الذى اورده بعض المتعرضين لرد هذا الدليل وقد اشرنا اليه سابقا وحاصله انه كما يحتمل ان يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظن او الظن فى الجملة المتردد بين الكل والبعض المردد بين الابعاض كذلك يحتمل ان يكون قد جعل لنا شيئا آخر حجة من دون اعتبار افادته الظن لانه امر ممكن غير مستحيل والمفروض عدم استقلال العقل بحكم فى هذا المقام فمن اين يثبت جعل الظن فى الجملة دون شىء آخر ولم يكن لهذا المنع دفع اصلا إلّا ان يدعى الاجماع على عدم نصب شىء آخر غير الظن فى الجملة فتأمل

التنبيه الثانى فى اعتبار الظن فى اصول الدين والاقوال المستفادة من تتبع كلمات العلماء فى هذه المسألة من حيث وجوب مطلق المعرفة او الحاصلة من خصوص النظر وكفاية الظن مطلقا او فى الجملة ثلاثة الاول اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال وهو المعروف عن الاكثر وادعى عليه العلامة فى الباب الحادى عشر من مختصر المصباح اجماع العلماء كافة وربما يحكى دعوى الاجماع عن العضدى لكن الموجود منه فى مسئلة عدم جواز التقليد فى العقليات من اصول الدين دعوى اجماع الامة على وجوب معرفة الله ، الثانى اعتبار العلم ولو من التقليد وهو المصرح به فى كلام البعض والمحكى عن آخرين ، الثالث كفاية الظن المستفاد من اخبار الآحاد وهو الظاهر مما حكاه العلامة قدس‌سره فى النهاية عن الاخباريين من انهم لم يعولوا فى اصول الدين وفروعه الا على اخبار الآحاد وحكاه الشيخ فى عدته فى مسئلة حجية اخبار الآحاد عن بعض غفلة اصحاب

١٣٢

الحديث والظاهر ان مراده حملة الاحاديث الجامدون على ظواهرها المعرضون عما عداها من البراهين العقلية المعارضة لتلك الظواهر

ثم ان محل الكلام فى كلمات هؤلاء الاعلام غير منقح فالاولى ذكر الجهات التى يمكن ان نتكلم فيها وتعقيب كل واحدة منها بما يقتضيه النظر من حكمها فنقول مستعينا بالله ان مسائل اصول الدين وهى التى لا يطلب فيها اولا وبالذات الا الاعتقاد باطنا والتدين ظاهرا وان ترتب على وجوب ذلك بعض الآثار العملية على قسمين احدهما ما وجب على المكلف الاعتقاد والتدين غير مشروط بحصول العلم كالمعارف فيكون تحصيل العلم من مقدمات الواجب المطلق فيجب الثانى ما يجب الاعتقاد والتدين به اذا اتفق حصول العلم به كبعض تفاصيل المعارف اما الثانى فحيث كان المفروض عدم وجوب تحصيل المعرفة العلمية فيه كان الاقوى القول بعدم وجوب العمل فيه بالظن لو فرض حصوله ووجوب التوقف فيه للاخبار الكثيرة الناهية عن القول بغير علم والآمرة بالتوقف وانه اذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به واذا جاءكم ما لا تعلمون فها واهوى بيده الى فيه ولا فرق فى ذلك بين ان يكون الامارة الواردة فى تلك المسألة خبرا صحيحا او غيره وظاهر المحكى فى السرائر عن السيد المرتضى عدم الخلاف فيه اصلا وهو مقتضى كلام كل من قال بعدم اعتبار اخبار الآحاد فى اصول الفقه.

لكن يمكن ان يقال انه اذا حصل الظن من الخبر فان ارادوا بعدم وجوب التصديق بمقتضى الخبر عدم تصديقه علما او ظنا فعدم حصول الاول كحصول الثانى قهرى لا يتصف بالوجوب وعدمه وان ارادوا التدين به الذى ذكرنا وجوبه فى الاعتقاديات وعدم الاكتفاء فيها بمجرد الاعتقاد كما يظهر من بعض الاخبار الدالة على ان فرض اللسان القول والتعبير عما عقد عليه القلب واقر به مستشهدا على ذلك بقوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) الخ فلا مانع من وجوبه فى مورد خبر الواحد بناء على ان هذا نوع عمل بالخبر فان ما دل على وجوب تصديق العادل لا يأبى

١٣٣

الشمول لمثل ذلك نعم لو كان العمل بالخبر لا لاجل الدليل الخاص على وجوب العمل به بل من جهة الحاجة اليه لثبوت التكليف وانسداد باب العلم لم يكن وجه للعمل به فى مورد لم يثبت التكليف فيه بالواقع كما هو المفروض او يقال ان عمدة ادلة حجية الاخبار الآحاد وهى الاجماع العملى لا تساعد على ذلك.

ومما ذكرنا يظهر الكلام فى العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر فى اصول الدين فانه قد لا يابى دليل حجية الظواهر عن وجوب التدين بما تدل عليه من المسائل الاصولية التى لم يثبت التكليف بمعرفتها لكن ظاهر كلمات كثير عدم العمل بها فى ذلك ولعل الوجه فى ذلك ان وجوب التدين المذكور انما هو من آثار العلم بالمسألة الاصولية لا من آثار نفسها واعتبار الظن المطلق او الظن الخاص سواء كان من الظواهر او غيرها معناه ترتيب الآثار المتفرعة على نفس الامر المظنون لا على العلم به واما ما يتراءى من التمسك بها احيانا لبعض العقائد فلاعتضاد مدلولها بتعدد الظواهر وغيرها من القرائن وافادة كل منها الظن فيحصل من المجموع القطع بالمسألة وليس استنادهم فى تلك المسألة الى مجرد اصالة الحقيقة التى لا يفيد الظن بارادة الظاهر فضلا عن العلم.

ثم ان الفرق بين القسمين المذكورين وتمييز ما يجب تحصيل العلم به عما لا يجب فى غاية الاشكال وقد ذكر العلامة فى الباب الحادى عشر فيما يجب معرفته على كل مكلف من تفاصيل التوحيد والنبوة والامامة والمعاد امورا لا دليل على وجوبها كذلك مدعيا ان الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الايمان مستحق للعذاب الدائم وهو فى غاية الاشكال.

نعم يمكن ان يقال ان مقتضى عموم وجوب المعرفة مثل قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) اى ليعرفون وقوله (ص) ما اعلم شيئا بعد المعرفة افضل من هذه الصلوات الخمس بناء على ان الأفضلية من الواجب خصوصا مثل الصلاة تستلزم الوجوب وكذا عمومات وجوب التفقه فى الدين الشامل للمعارف بقرينة

١٣٤

استشهاد الامام (ع) بها لوجوب النفر لمعرفة الامام بعد موت الامام السابق (ع) وعمومات طلب العلم هو وجوب معرفة الله جل ذكره ومعرفة النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام ومعرفة ما جاء به النبى (ص) على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم فيجب الفحص حتى يحصل اليأس فان حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل اعتقد وتدين وإلّا توقف ولم يتدين بالظن لو حصل له.

ومن هنا قد يقال ان الاشتغال بالعلم المتكفل لمعرفة الله ومعرفة اولياته عليهم‌السلام اهم من الاشتغال بعلم المسائل العملية بل هو المتعين لان العمل يصح عن تقليد فلا يكون الاشتغال بعلمه الا كفائيا بخلاف المعرفة هذا.

ولكن الانصاف عمن جانب الاعتساف يقتضى الاذعان بعدم التمكن من ذلك إلّا للاوحدى من الناس لان المعرفة المذكورة لا يحصل إلّا بعد تحصيل قوة استنباط المطالب من الاخبار وقوة نظرية اخرى لئلا يأخذ بالاخبار المخالفة للبراهين العقلية ومثل هذا الشخص مجتهد فى الفروغ قطعا فيحرم عليه التقليد ، ودعوى جوازه له للضرورة ليس باولى من دعوى جواز ترك الاشتغال بالمعرفة التى لا يحصل غالبا بالاعمال المبتنية على التقليد هذا اذا لم يتعين عليه الإفتاء والمرافعة لاجل قلة المجتهدين واما فى مثل زماننا فالامر واضح ولا تغتر (ح) بمن قصر استعداده او همته عن تحصيل مقدمات استنباط المطالب الاعتقادية الاصولية والعملية عن الادلة العقلية والنقلية فيتركها مبغضا لها لان الناس اعداء ما جهلوا ويشتغل بمعرفة صفات الرب جل ذكره واوصاف حججه صلوات الله وسلامه عليهم ينظر فى الاخبار لا يعرف به من الفاظها الفاعل من المفعول فضلا عن معرفة الخاص من العام وينظر فى المطالب العقلية لا يعرف به البديهيات منها ويشتغل فى خلال ذلك بالتشنيع على حملة الشريعة العملية ويستهزئ بهم بقصور الفهم وسوء النية (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.)

هذا كله حال وجوب المعرفة مستقلا واما اعتبار ذلك فى الاسلام او الايمان فلا دليل عليه

١٣٥

بل يدل على خلافه الاخبار الكثيرة المفسرة لمعنى الاسلام والايمان ففى رواية محمد بن سالم عن ابى جعفر عليه‌السلام المروية فى الكافى ان الله عزوجل بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة عشر سنين ولم يمت بمكة فى تلك العشر سنين احد يشهد ان لا إله إلّا الله وان محمد رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الا ادخله الله الجنة باقراره وهو ايمان التصديق فان الظاهر ان حقيقة الايمان التى يخرج الانسان بها عن حد الكفر الموجب للخلود فى النار لم تتغير بعد انتشار الشريعة نعم ظهر فى الشريعة امور صارت ضرورية الثبوت من النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيعتبر فى الاسلام عدم انكارها لكن هذا لا يوجب التغيير فان المقصود انه لم يعتبر فى الايمان ازيد من التوحيد والتصديق بالنبى (ص) وبكونه رسولا صادقا فيما يبلغ وليس المراد معرفة تفاصيل ذلك وإلّا لم يكن من آمن بمكة من اهل الجنة او كان حقيقة الايمان بعد انتشار الشريعة غيرها فى صدر الاسلام

وفى رواية سليم بن قيس عن امير المؤمنين عليه‌السلام ان ادنى ما يكون به العبد مؤمنا ان يعرفه الله تبارك وتعالى اياه فيقر له بالطاعة فيعرفه نبيه فيقر له بالطاعة ويعرفه امامه وحجته فى ارضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة فقلت يا امير المؤمنين وان جهل جميع الاشياء الا ما وصفت قال نعم وهى صريحة فى المدعى.

وفى رواية ابى بصير عن ابى عبد الله (ع) قال جعلت فداك اخبرنى عن الدين الذى افترضه الله على العباد ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره ما هو فقال اعد على فاعاد عليه فقال شهادة ان لا إله إلّا الله وان محمدا رسول الله واقام الصلاة وايتاء الزكاة وحج البيت من استطاع اليه سبيلا وصوم شهر رمضان ثم سكت قليلا ثم قال والولاية والولاية مرتين ثم قال هذا الذى فرض الله عزوجل على العباد لا يسأل الرب عن العباد يوم القيمة فيقول الا زدتنى على ما افترضت عليك ولكن من زاده زاده الله ان رسول الله (ص) لسن سنة حسنة ينبغى للناس الاخذ بها ونحوها رواية عيسى بن السري قلت لابى عبد الله (ع) حدثنى عما بنيت عليه دعائم الاسلام التى اذا اخذت بها زكى عملى ولم يضرنى جهل ما جهلت بعده فقال شهادة ان لا إله إلّا الله وان محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والاقرار

١٣٦

بما جاء من عند الله وحق فى الاموال الزكاة والولاية التى امر الله بها ولاية آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية وقال الله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فكان على ثم صار من بعده الحسن ثم من بعده الحسين ثم من بعده على بن الحسين ثم من بعده محمد بن على ثم هكذا يكون الامر ان الارض لا يصلح إلّا بامام الحديث

وفى صحيحة ابن ابى اليسع قال قلت لابى عبد الله «ع» اخبرنى دعائم الاسلام التى لا يسع احدا التقصير عن معرفة شيء منها التى من قصر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينه ولم يقبل منه عمله ومن عرفها او عمل بها صلح دينه وقبل عمله ولم يضق به مما هو فيه لجهل شيء من الامور وجهله فقال شهادة ان لا إله إلّا الله والايمان بان محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاقرار بما جاء به من عند الله وحق فى الاموال الزكاة والولاية التى امر الله عزوجل بها ولاية آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفى رواية إسماعيل قال سألت أبا جعفر (ع) عن الدين الذى لا يسع لعباده جهله فقال الدين واسع وان الخوارج ضيقوا على انفسهم بجهلهم فقلت جعلت فداك اما احدثك بدينى الذى انا عليه فقال بلى قلت اشهد ان لا إله إلّا الله وان محمدا عبده ورسوله والاقرار بما جاء به من عند الله واتولاكم وأبرأ من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم فقال ما جهلت شيئا فقال هو والله الذى نحن عليه قلت فهل يسلم احد لا يعرف هذا الامر قال لا الا المستضعفين قلت من هم قال نساؤكم واولادكم قال أرأيت امرأتى ام ايمن فأنى اشهد انها من اهل الجنة وما كانت تعرف ما انتم عليه فان فى قوله (ع) ما جهلت شيئا دلالة واضحة على عدم اعتبار الزائد فى اصل الدين.

والمستفاد من هذه الاخبار المصرحة بعدم اعتبار معرفة ازيد مما ذكر فيها فى الدين وهو الظاهر ايضا من جماعة من علمائنا الاخيار كالشهيدين فى الالفية وشرحها والمحقق الثانى فى الجعفرية وشارحها وغيرهم هو انه يكفى فى معرفة الرب التصديق بكونه موجودا وواجب الوجود لذاته والتصديق بصفاته الثبوتية الراجعة الى صفتى العلم والقدرة

١٣٧

ونفى الصفات الراجعة الى الحاجة والحدوث وانه لا يصدر منه القبيح فعلا او تركا والمراد بمعرفة هذه الامور ركوزها فى اعتقاد المكلف بحيث اذا سألته عن شيء مما ذكر اجاب بما هو الحق فيه وان لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على السنة الخواص

ويكفى فى معرفة النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معرفة شخصه بالسّنة المعروف المختص به والتصديق بنبوته وصدقه فلا يعتبر فى ذلك الاعتقاد بعصمته اعنى كونه معصوما بالملكة من اول عمره الى آخره قال فى المقاصد العلية ويمكن اعتبار ذلك لان الغرض المقصود من الرسالة لا يتم إلّا به فينتفى الفائدة التى باعتبارها وجب ارسال الرسل وهو ظاهر بعض كتب العقائد المصدرة بان من جهل ما ذكروه فيها فليس مؤمنا مع ذكرهم ذلك والاول غير بعيد عن الصواب انتهى ، اقول والظاهر ان مراده ببعض كتب العقائد هو الباب الحاد يعشر للعلامة قدس‌سره حيث ذكر تلك العبارة بل ظاهره دعوى اجماع العلماء عليه

نعم يمكن ان يقال ان معرفة ما عدا النبوة واجبة بالاستقلال على من هو متمكن منه بحسب الاستعداد وعدم الموانع لما ذكرنا من عمومات وجوب التفقه وكون المعرفة افضل من الصلوات الواجبة وان الجهل بمراتب سفراء الله جل ذكره مع تيسر العلم بها تقصير فى حقهم وتفريط فى حبهم ونقص يجب بحكم العقل رفعه بل من اعظم النقائص وقد أومى النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى ذلك حيث قال مشيرا الى بعض العلوم الخارجة من العلوم الشرعية ان ذلك علم لا يضر جهله ثم قال انما العلوم ثلاثة آية محكمة وفريضة عادلة وسنة قائمة وما سواهن فهو فضول وقد اشار الى ذلك رئيس المحدثين فى ديباجة الكافى حيث قسم الناس الى اهل الصحة والسلامة واهل المرض والزمانة وذكر وضع التكليف عن الفرقة الاخيرة

ويكفى فى معرفة الائمة صلوات الله عليهم معرفتهم بنسبهم المعروف والتصديق بانهم أئمة يهدون بالحق ويجب الانقياد اليهم والاخذ منهم وفى وجوب الزائد على ما ذكر من

١٣٨

عصمتهم الوجهان وقد ورد فى بعض الاخبار تفسير معرفة حق الامام عليه‌السلام بمعرفة كونه اماما مفترض الطاعة

ويكفى فى التصديق بما جاء به النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التصديق بما علم مجيئه به متواترا من احوال المبدا والمعاد كالتكليف بالعبادات والسؤال فى القبر وعذابه والمعاد الجسمانى والحساب والصراط والميزان والجنة والنار اجمالا مع تأمل فى اعتبار معرفة ما عدا المعاد الجسمانى من هذه الامور فى الايمان المقابل للكفر الموجب للخلود فى النار للاخبار المتقدمة المستفيضة والسيرة المستمرة فانا نعلم بالوجدان جهل كثير من الناس بها من اول البعثة الى يومنا هذا.

ويمكن ان يقال ان المعتبر هو عدم انكار هذه الامور وغيرها من الضروريات لا وجوب الاعتقاد بها على ما يظهر من بعض الاخبار من ان الشاك اذا لم يكن جاحدا فليس بكافر ففى رواية زرارة عن ابى عبد الله عليه‌السلام لو ان العباد اذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا ونحوها غيرها ويؤيدها ما عن كتاب الغيبة للشيخ قده باسناده عن الصادق عليه‌السلام ان جماعة يقال لهم الحقية وهم الذين يقسمون بحق على ولا يعرفون حقه وفضله وهم يدخلون الجنة.

وبالجملة فالقول بانه يكفى فى الايمان الاعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزه عن النقائص وبنبوة محمد وبامامة الائمة عليهم‌السلام والبراءة من اعدائهم والاعتقاد بالمعاد الجسمانى الذى لا ينفك غالبا عن الاعتقادات السابقة غير بعيد بالنظر الى الاخبار والسيرة المستمرة واما التدين بسائر الضروريات ففى اشتراطه او كفاية عدم انكارها او عدم اشتراطه ايضا فلا يضر انكارها الا مع العلم بكونها من الدين او لا يشترط ذلك وجوه اقواها الاخير ثم الاوسط وما استقربناه فى ما يعتبر فى الايمان وجدته بعد ذلك فى كلام محكى عن المحقق الورع الاردبيلى فى شرح الارشاد.

ثم ان الكلام الى هنا فى تمييز القسم الثانى وهو ما لا يجب الاعتقاد به الا بعد

١٣٩

حصول العلم به عن القسم الاول وهو ما يجب الاعتقاد به مطلقا فيجب تحصيل مقدماته اعنى الاسباب المحصلة للاعتقاد وقد عرفت ان الاقوى عدم جواز العمل بغير العلم فى القسم الثانى واما القسم الاول الذى يجب فيه النظر لتحصيل الاعتقاد فالكلام فيه يقع تارة بالنسبة الى القادر على تحصيل العلم واخرى بالنسبة الى العاجز فهنا مقامان الاول فى القادر والكلام فى جواز عمله بالظن يقع فى موضعين

الاول فى حكمه التكليفى والثانى فى حكمه الوضعى من حيث الايمان وعدمه فنقول اما حكمه التكليفى فلا ينبغى التامل فى عدم جواز اقتصاره على العمل بالظن فمن ظن بنبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم او بامامة احد من الائمة صلوات الله عليهم فلا يجوز له الاقتصار فيجب عليه مع التفطن بهذه المسألة زيادة النظر ويجب على العلماء امره بزيادة النظر ليحصل له العلم ان لم يخافوا عليه الوقوع فى خلاف الحق لانه (ح) يدخل فى قسم العاجز عن تحصيل العلم بالحق فان بقائه على الظن بالحق اولى من رجوعه الى الشك او الظن بالباطل فضلا عن العلم به والدليل على ما ذكرنا جميع الآيات والاخبار الدالة على وجوب الايمان والعلم والتفقه والمعرفة والتصديق والاقرار والشهادة والتدين وعدم الرخصة فى الجهل والشك ومتابعة الظن وهى اكثر من ان تحصى.

واما الموضع الثانى فالاقوى فيه بل المتعين الحكم بعدم الايمان للاخبار المفسرة للايمان بالاقرار والشهادة والتدين والمعرفة وغير ذلك من العبائر الظاهرة فى العلم وهل هو كافر مع ظنه بالحق فيه وجهان من اطلاق ما دل على ان الشاك وغير المؤمن كافر وظاهر ما دل من الكتاب والسنة على حصر المكلف فى المؤمن والكافر ومن تقييد كفر الشاك فى غير واحد من الاخبار بالجحود فلا يشمل ما نحن فيه ودلالة الاخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والايمان وقد اطلق عليه فى الاخبار الضلال ، لكن اكثر الاخبار الدالة على الواسطة مختصة بالايمان بالمعنى الاخص فيدل على ان من المسلمين من ليس بمؤمن ولا بكافر لا على ثبوت الواسطة بين الاسلام والكفر نعم بعضها قد يظهر منه

١٤٠