الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

الشيخ علي المشكيني

الرسائل الجديدة والفرائد الحديثة

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٥

انما المهم الموضوع له هذا المقصد بيان ما خرج او قيل بخروجه (١) من هذا الاصل من الامور الغير العلمية التى اقيم الدليل على اعتبارها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم الذى جعلوه موجبا للرجوع الى الظن مطلقا او فى الجملة وهى امور : منها ، الامارات المعمولة فى استنباط الاحكام الشرعية من الفاظ الكتاب والسنة وهى على قسمين :

القسم الاول ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم عند (٢) احتمال ارادة خلاف ذلك كاصالة الحقيقة عند احتمال ارادة المجاز واصالة العموم والاطلاق ، ومرجع الكل الى اصالة عدم القرينة (٣) الصارفة عن المعنى الذى يقطع بارادة المتكلم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة وكغلبة استعمال المطلق (٤) فى الفرد الشائع بناء على عدم وصوله الى حد الوضع ، وكالقرائن المقامية التى يعتمدها عقلاء اهل اللسان

__________________

١ ـ من الاول الظواهر وخبر الثقة ونحوهما ومن الثانى الشهرة والاجماع المنقول (ق)

٢ ـ حاصله بيان اعتبار الظن الحاصل بمراد المتكلم من حقائق الالفاظ او مجازاتها المحفوفة بالقرائن المقالية او الحالية (ق)

٣ ـ فان الحق ان الاصول الوجودية الجارية فى مباحث الالفاظ لا تاصل لها بنفسها بل مرجعها الى عدم الاعتناء بالاحتمالات المنافية لها من احتمال وجود القرينة او غفلة المتكلم عن نصبها او غلطه او ارادته لاظهار خلاف مراده لتقية ونحوها من الامور المقتضية لارادة خلاف الظاهر (الهمدانى)

٤ ـ عطف على قوله كاصالة الحقيقة وهذه الغلبة من القرائن المفهمة ، فان القرائن اما صارفة كاحدى قرائن المجاز او معينة كقرينة المشترك والقرينة الاخرى للمجاز ، او مفهمة وهى قرينة المشترك المعنوى ، وافراد الغلبة بالذكر مع شمول قرائن المقام لها لكون المراد بقرائن المقام هى قرائن المجاز ، فلا تشمل الغلبة التى هى من القرائن المفهمة وقوله الامور المعتبرة ، يشمل جميع القرائن (ق)

٤١

فى محاوراتهم كوقوع الامر عقيب توهم الحظر ونحو ذلك. وبالجملة الامور المعتبرة عند اهل اللسان فى محاوراتهم بحيث لو اراد المتكلم القاصد للتفهيم خلاف مقتضاها من دون نصب قرينة معتبرة عد ذلك منه قبيحا.

والقسم الثانى ما يعمل لتشخيص اوضاع الالفاظ وتمييز مجازاتها عن حقائقها وظواهرها عن خلافها (١) كتشخيص ان لفظ الصعيد موضوع لمطلق وجه الارض او التراب الخالص ، وتعيين ان وقوع الامر عقيب توهم الحظر هل يوجب ظهوره فى الاباحة المطلقة وان الشهرة فى المجاز المشهور هل توجب احتياج الحقيقة الى القرينة الصارفة من الظهور العرضى المسبب من الشهرة نظير احتياج المطلق المنصرف الى بعض افراده ، وبالجملة فالمطلوب فى هذا القسم ان اللفظ ظاهر فى هذا المعنى (٢) او غير ظاهر والشك فيه مسبب عن الاوضاع اللغوية والعرفية ، وفى القسم الاول ان الظاهر المفروغ عن كونه ظاهرا مراد او لا والشك فيه مسبب عن اعتماد المتكلم على القرنية وعدمه ، فالقسمان من قبيل الصغرى والكبرى لتشخيص المراد.

فاعتباره فى الجملة مما لا اشكال فيه ولا خلاف لان المفروض كون تلك الامور معتبرة عند اهل اللسان فى محاوراتهم المقصود بها التفهيم ومن المعلوم بديهة ان طريق محاورات الشارع فى تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات اهل اللسان فى تفهيم مقاصدهم وانما الخلاف والاشكال وقع فى موضعين (٣) احدهما جواز العمل بظاهر الكتاب

__________________

١ ـ من قبيل عطف الاعم على الاخص لعدم اختصاص الكلام بتشخيص الحقائق عن مجازاتها (ق)

٢ ـ اثبات الظهور اما بالوجدان او بالظن المعتبر ومرجعه الى اثبات اعتبار الظن بالظهور الناشى عن الامارات المورثة للظن بالاوضاع اللغوية والعرفية فما يندرج فى هذه الكلية فهو من محل الكلام فى هذا التقسيم (س).

٣ ـ النسبة بين الخلافين عموم من وجه لاختصاص الخلاف الاول بالكتاب

٤٢

والثانى ان العمل بالظواهر مطلقا حتى فى حق غير المخاطب بها قام الدليل عليه بالخصوص بحيث لا يحتاج الى اثبات انسداد باب العلم فى الاحكام الشرعية ام لا.

اما الكلام فى الخلاف الاول فتفصيله انه ذهب جماعة من الاخباريين الى المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الحجج المعصومين صلوات الله عليهم واقوى ما يتمسك لهم على ذلك وجهان : احدهما الاخبار المتواترة المدعى ظهورها فى المنع عن ذلك مثل النبوى (ص) من فسر القرآن برأيه فليتبوأ (١) مقعده من النار ، وفى رواية اخرى من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ وفى نبوى ثالث : من فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب ، وعن ابى عبد الله (ع) من فسر القرآن برأيه ان اصاب لم يؤجر وان اخطأ سقط ابعد من السماء ، وفى النبوى العامى من فسر القرآن برأيه فاصاب فقد اخطأ. وعن مولانا الرضا «ع» عن ابيه عن آبائه عن امير المؤمنين «ع» قال قال رسول الله (ص) : ان الله عزوجل قال فى الحديث القدسى : ما آمن بى من فسر كلامى برأيه وما عرفنى من شبهنى بخلقى وما على دينى من استعمل القياس فى دينى ، وعن تفسير العياشى عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ومن فسر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر ، وعن مجمع البيان انه قد صح عن النبى (ص) وعن الائمة (ع) القائمين مقامه ان تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالاثر الصحيح والنص الصريح وقوله «ص» ليس شىء ابعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ان الآية يكون اولها فى شىء وآخرها فى شىء وهو كلام متصل ينصرف الى وجوه ، وفى مرسلة شبيب بن انس عن ابى عبد الله (ع) انه قال لابى حنيفة انت فقيه اهل العراق قال نعم

__________________

ـ وعمومه للمخاطبين الحاضرين فى مجلس الوحى ولغيرهم ، واختصاص الثانى بغير المخاطبين المشافهين وعمومه للكتاب والسنة (ق)

١ ـ التبوء اتخاذ المباءة ، اى المنزل والمعنى فلينزل وليهيئ منزله فى النار (ق)

٤٣

قال فبأي شىء تفتيهم قال بكتاب الله وسنة نبيه «ص» قال يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال نعم قال «ع» يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ويلك ما جعل الله ذلك الا عند اهل الكتاب الذين انزل عليهم ، ويلك ما هو إلّا عند الخاص من ذرية نبينا «ص» وما ورثك الله من كتابه حرفا.

وفى رواية زيد الشحام قال دخل قتادة على ابى جعفر «ع» فقال له انت فقيه اهل البصرة فقال هكذا يزعمون فقال بلغنى انك تفسر القرآن قال نعم الى ان قال يا قتادة ان كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت واهلكت وان كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت واهلكت ويحك يا قتادة انما يعرف القرآن من خوطب به ، الى غير ذلك مما ادعى فى الوسائل فى كتاب القضاء تجاوزها عن حد التواتر. وحاصل هذا الوجه يرجع الى ان منع الشارع عن ذلك يكشف عن ان مقصود المتكلم ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام فليس من قبيل المحاورات العرفية.

والجواب عن الاستدلال بها انها لا تدل على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها وارادة خلاف ظاهرها فى الاخبار ، اذ من المعلوم ان هذا لا يسمى تفسيرا فان احدا من العقلاء اذا راى فى كتاب مولاه انه امره بشىء بلسانه المتعارف فى مخاطبته له عربيا او فارسيا او غيرهما فعمل به وامتثله لم يعد هذا تفسيرا ، اذ التفسير كشف القناع ، ثم لو سلم كون مطلق حمل اللفظ على معناه تفسيرا لكن الظاهر ان المراد بالراى هو الاعتبار العقلى الظنى الراجع الى الاستحسان فلا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغوية والعرفية.

و «ح» فالمراد بالتفسير بالراى ، اما حمل اللفظ على خلاف ظاهره (١) او احد احتماليه لرجحان ذلك فى نظره القاصر وعقله الفاتر ، ويرشد اليه المروى عن

__________________

١ ـ كحمل الجنة والنار والحور والقصور على لذات الروح وكما لها او آلامها ونقائصها وحمل الملائكة على القوى والشياطين على بعض الحيوانات الموذية ونحوها (ش)

٤٤

مولانا الصادق «ع» قال فى حديث طويل وانما هلك الناس فى المتشابه لانهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلا من عند انفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسئلة الاوصياء «ع» فيعرفونهم.

واما الحمل على ما يظهر له فى بادئ الراى من المعانى العرفية واللغوية من دون التأمل فى الادلة العقلية ومن دون تتبع فى القرائن النقلية مثل الآيات الأخر الدالة على خلاف هذا المعنى والاخبار الواردة فى بيان المراد منها وتعيين ناسخها من منسوخها ومما يقرب هذا المعنى الثانى وان كان الاول اقرب عرفا ان المنهى فى تلك الاخبار المخالفون الذين يستغنون بكتاب الله عن اهل البيت (ع) بل يخطئونهم به. ومن المعلوم ضرورة من مذهبنا تقديم نص الامام «ع» على ظاهر القرآن كما ان المعلوم ضرورة من مذهبهم العكس.

ويرشدك الى هذا ما تقدم فى رد الامام «ع» على ابى حنيفة حيث انه يعمل بكتاب الله ومن المعلوم انه انما كان يعمل بظواهره لا انه كان يأوله بالراى اذ لا عبرة بالراى عندهم مع الكتاب والسنة ، ويرشد الى هذا قول ابى عبد الله «ع» فى ذم المخالفين انهم ضربوا القرآن بعضه ببعض واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون انه الناسخ واحتجوا بالخاص وهم يظنون انه العام واحتجوا بالآية وتركوا السنة فى تاويلها ولم ينظروا الى ما يفتح به الكلام والى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره اذ لم يأخذوه عن اهله فضلوا واضلوا.

وبالجملة فالانصاف يقتضى عدم الحكم بظهور الاخبار المذكورة فى النهى عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبع فى ساير الادلة خصوصا الآثار الواردة عن المعصومين «ع» كيف ولو دلت (١) على المنع من العمل على هذا الوجه

__________________

١ ـ حاصل المعارضة الاستكشاف باخبار التفسير بالرأى عن كون وجه المنع من العمل بظواهر القرآن وجود المانع منه وهو العلم الاجمالى بطرو التخصيص والتقييد والتجوز فى اكثر الآيات لا عدم المقتضى له ، ووجه المعارضة (ح) واضح (ق)

٤٥

دلت على عدم جواز العمل باحاديث اهل البيت «ع».

ففى رواية سليم بن قيس الهلالى عن امير المؤمنين «ع» ان امر النبى «ص» مثل القرآن ، منه ناسخ ومنسوخ وخاص وعام ومحكم ومتشابه وقد كان من رسول الله «ص» الكلام يكون له وجهان كلام عام وكلام خاص مثل القرآن وفى رواية محمد بن مسلم ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن.

هذا كله مع معارضة الاخبار المذكورة باكثر منها مما يدل على جواز التمسك بظاهر القرآن مثل خبر الثقلين (١) المشهور بين الفريقين وغيرها مما دل على الامر بالتمسك بالقرآن والعمل بما فيه وعرض الاخبار المتعارضة بل ومطلق الاخبار عليه ورد الشروط المخالفة للكتاب فى ابواب العقود والاخبار الدالة قولا وفعلا وتقريرا على جواز التمسك بالكتاب مثل قوله (ع) لما قال زرارة من اين علمت ان المسح ببعض الراس فقال لمكان الباء فعرفه «ع» مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب.

وقول الصادق عليه‌السلام فى مقام نهى الدوانقى عن قبول خبر النمام انه فاسق وقال الله تعالى («إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية وقوله «ع» لابنه إسماعيل ان الله عزوجل يقول (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) فاذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم. وقوله «ع» لمن اطال الجلوس فى بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذارا بانه لم يكن شيئا اتاه برجله ، اما سمعت قول الله عزوجل : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً.) وقوله «ع» فى تحليل العبد للمطلقة ثلثا انه زوج قال الله عزوجل : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وفى عدم تحليلها بالعقد المنقطع انه تعالى قال (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) وتقريره عليه‌السلام التمسك بقوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وانه نسخ بقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ.)

وقوله (ع) فى رواية عبد الأعلى فى حكم من عثر فوقع ظفره فجعل على اصبعه

__________________

١ ـ الثقل بالتحريك متاع المسافر والثقل الاكبر يراد به الكتاب العزيز والاصغر العترة الطاهرة النبوية «ص» (م ق)

٤٦

مرارة (١) ان هذا وشبهه يعرف من كتاب الله ما جعل عليكم فى الدين من حرج ثم قال امسح عليه فاحال عليه‌السلام (٢) معرفة حكم المسح على اصبعه المغطى بالمرارة الى الكتاب موميا الى ان هذا لا يحتاج الى السؤال لوجوده فى ظاهر القرآن ولا يخفى ان استفادة الحكم المذكور من ظاهر الآية الشريفة مما لا يظهر الا للمتأمل المدقق نظرا الى ان الآية الشريفة انما تدل على نفى وجوب الحرج اعنى المسح على نفس الإصبع ، فيدور الامر فى بادئ النظر بين سقوط المسح رأسا وبين بقائه مع سقوط قيد مباشرة الماسح ، للممسوح ، فهو بظاهره لا يدل على ما حكم به الامام عليه‌السلام لكن يعلم عند التأمل ان الموجب للحرج هو اعتبار المباشرة فى المسح فهو الساقط دون اصل المسح فيصير نفى الحرج دليلا على سقوط اعتبار المباشرة فى المسح فيمسح على الإصبع المغطى فاذا احال الامام (ع) استفادة مثل هذا الحكم الى الكتاب فكيف يحتاج نفى وجوب الغسل او الوضوء عند الحرج الشديد المستفاد من ظاهر الآية المذكورة او غير ذلك من الاحكام التى يعرفها كل عارف باللسان من ظاهر القرآن الى ورود التفسير بذلك من اهل البيت «ع».

ومن ذلك ما ورد من ان المصلى اربعا فى السفر ان قرأت عليه آية القصر وجب عليه الاعادة وإلّا فلا ، وفى بعض الروايات ان قرأت عليه وفسرت له. والظاهر (٣)

__________________

١ ـ المرارة بالفتح محل الصفراء كالكيس فيها ماء اخضر معلقة مع الكبد وهى لكل حيوان الا البعير (ق)

٢ ـ الظاهر انه احال معرفة سقوط المسح على البشرة على ظاهر الكتاب واما استفادة كفاية المسح على المرارة من ظاهر الكتاب كما هو ظاهر الرواية فلعلها بواسطة ما هو المغروس فى الاذهان من ان الميسور لا يسقط بالمعسور فكان السائل لم يكن تحيره الا فى كيفية وضوئه من حيث تعسر المسح على البشرة لا فى اصل التكليف به (الهمدانى)

٣ ـ دفع لما يتوهم من ان هذا الخبر مؤيد لمطلب الخصم من لزوم ورود التفسير

٤٧

ولو بحكم اصالة الاطلاق فى باقى الروايات ان المراد من تفسيرها له بيان ان المراد من قوله تعالى (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا.) بيان الترخيص فى اصل تشريع القصر وكونه مبنيا على التخفيف فلا ينافى تعين القصر على المسافر وعدم صحة الاتمام منه ، ومثل هذه المخالفة للظاهر يحتاج الى التفسير بلا شبهة وقد ذكر زرارة ومحمد بن مسلم للامام «ع» ان الله تعالى قال : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل افعلوا فاجاب «ع» بانه من قبيل قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وهذا ايضا يدل على تقرير الامام «ع» لهما فى التعرض لاستفادة الاحكام من الكتاب والدخل والتصرف فى ظواهره ومن ذلك استشهاد الامام «ع» بآيات كثيرة مثل الاستشهاد لحلية بعض النسوان بقوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) وفى عدم جواز طلاق العبد بقوله عبدا مملوكا لا يقدر على شىء ، ومن ذلك الاستشهاد لحلية بعض الحيوانات بقوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ) الى محرما الآية الى غير ذلك مما لا يحصى.

الثانى من وجهى المنع انا نعلم بطرو التقييد والتخصيص والتجوز فى اكثر ظواهر الكتاب ، وذلك مما يسقطها عن الظهور وفيه اولا النقض بظواهر السنة فانا نقطع بطرو مخالفة الظاهر فى اكثرها وثانيا ان هذا لا يوجب السقوط وانما يوجب الفحص عما يوجب مخالفة الظاهر.

فان قلت (١) : العلم الاجمالى بوجود مخالفة الظواهر لا يرتفع اثره وهو

__________________

ـ فاشار (ره) ببيان الفرد الخفى اولا على وجه الاستظهار وثانيا بمقتضى الاصل الى كون المراد باعتبار التفسير هو اعتباره فى استفادة ما هو خلاف الظاهر من الآية لا فى العمل بظاهرها (ق)

١ ـ حاصل السؤال عدم ارتفاع اثر العلم الاجمالى وهو وجوب الفحص بالفحص عن الاخبار التى يمكن الفحص عنها لعدم ارتفاع العلم الاجمالى بذلك لان اطراف الشبهة اوسع من ذلك لاندراس كثير من الاخبار ولعلها اكثر مما بقى بايدينا ومجرد

٤٨

وجوب التوقف بالفحص ولذا لو تردد اللفظ بين معنيين او علم اجمالا بمخالفة احد الظاهرين لظاهر الآخر كما فى العامين من وجه وشبههما وجب التوقف فيه ولو بعد الفحص ، قلت : المعلوم اجمالا هو وجود مخالفات كثيرة فى الواقع فيما بايدينا بحيث يظهر تفصيلا بعد الفحص واما وجود مخالفات فى الواقع زائدا على ذلك فغير معلوم ، فحينئذ لا يجوز العمل قبل الفحص لاحتمال وجود مخصص يظهر بالفحص ولا يمكن نفيه بالاصل لاجل العلم الاجمالى واما بعد الفحص فاحتمال وجود المخصص فى الواقع ينفى بالاصل السالم عن العلم الاجمالى والحاصل ان المنصف لا يجد فرقا بين ظاهر الكتاب والسنة لا قبل الفحص ولا بعده.

ثم انك قد عرفت ان العمدة فى منع الاخباريين من العمل بظواهر الكتاب هى الاخبار المانعة عن تفسير القرآن إلّا انه يظهر من كلام السيد الصدر ان ظواهر القرآن من المتشابه ، قال : ان المتشابه كما يكون فى اصل اللغة (١) كذلك يكون بحسب الاصطلاح مثل ان يقول أحد أنا استعمل العمومات وكثيرا ما اريد الخصوص من غير قرينة وربما اخاطب احدا واريد غيره ونحو ذلك ، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ولا يحصل لنا الظن به والقرآن من هذا القبيل وما ذكرنا وان دل على عدم جواز العمل بظواهر الاخبار ايضا لما فيها من الناسخ والمنسوخ والمحكم

__________________

ـ ومجرد الفحص عما يمكن الفحص عنها ووجدان مخصصات ومقيدات لا يجدى فى ارتفاع العلم الاجمالى المذكور كما انه لو تردد لفظ بين معنيين او علم اجمالا بمخالفة احدا الظاهرين للظاهر الآخر كالعامين من وجه فمجرد الفحص من دون وجدان قرينة لا يجدى فى جواز العمل بالدليل ، وحاصل الجواب منع او سعية دائرة العلم الاجمالى من الاخبار الموجودة بايدينا اليوم لا احتمال كون المندرسة منها واردة فى المواعظ والقصص والامثال ونحو ذلك مما لا دخل له فى الاحكام (م ـ ق).

١ ـ كالمشترك المستعمل بلا قرينة (ق)

٤٩

والمتشابه والعام والمخصص والمطلق والمقيد لكن منعنا من ذلك فى القرآن للمنع من اتباع المتشابه وعدم بيان حقيقته ومنعنا رسول الله (ص) عن تفسير القرآن ولا ريب فى ان غير النص محتاج الى التفسير وايضا ذم الله تعالى من اتباع الظن وكذا الرسول (ص) واوصيائه ولم يستثنوا ظواهر القرآن ، الى ان قال : واما الاخبار فقد سبق ان اصحاب الائمة (ع) كانوا عاملين باخبار واحد من غير فحص عن مخصص او معارض ناسخ او مقيد ولو لا هذا لكنا فى العمل بظواهر الاخبار ايضا من المتوقفين انتهى.

اقول : وفيه ان عمل اصحاب الائمة عليهم‌السلام بظواهر الاخبار لم يكن لدليل خاص شرعى وصل اليهم من ائمتهم عليهم‌السلام وانما كان امرا مركوزا فى اذهانهم بالنسبة الى مطلق الكلام الصادر من المتكلم لاجل الافادة والاستفادة ، سواء كان من الشارع ام غيره ، وهذا المعنى جار فى القرآن ايضا على تقدير كونه ملقى للافادة والاستفادة على ما هو الاصل فى خطاب كل متكلم. وما ذكره من كون الظواهر من المتشابهات ممنوع بان المتشابه لا يصدق على الظواهر لا لغة ولا عرفا بل يصح سلبه عنه ، فالنهى الوارد عن اتباع المتشابه لا يمنع (١).

ثم انك قد عرفت مما ذكرنا ان خلاف الاخباريين فى ظواهر الكتاب ليس فى الوجه الذى ذكرنا من اعتبار الظواهر اللفظية فى الكلمات الصادرة لافادة المطالب واستفادتها ، وانما يكون خلافهم فى ان خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادة المراد من انفسها بل بضميمة تفسير اهل الذكر ، او انها ليست بظواهر بعد احتمال كون محكمها من المتشابه ، كما عرفت من كلام السيد المتقدم.

وينبغى التنبيه على امور

الاول انه ربما توهم بعض ان الخلاف فى اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى ، اذ ليست آية متعلقة بالفروع والاصول الا وورد فى بيانها او فى الحكم الموافق

__________________

١ ـ اى عن العمل بالظواهر (ق)

٥٠

لها خبر او اخبار كثيرة بل انعقد الاجماع على اكثرها مع ان جل آيات الاصول والفروع بل كلها مما تعلق الحكم فيها بامور مجملة لا يمكن العمل بها الا بعد اخذ تفصيلها من الاخبار انتهى.

اقول : ولعله قصر نظره على الآيات الواردة فى العبادات فان اغلبها من قبيل ما ذكره وإلّا فالاطلاقات الواردة فى المعاملات مما يتمسك بها فى الفروع الغير المنصوصة او المنصوصة بالنصوص المتكافئة كثيرة جدا مثل اوفوا بالعقود ، وأحل الله البيع ، وتجارة عن تراض ، وفرهان مقبوضة ، ولا تؤتوا السفهاء اموالكم ولا تقربوا مال اليتيم ، وأحل لكم ما وراء ذلكم ، وان جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ، وفلو لا نفر من كل فرقة ، وفاسألوا اهل الذكر ، وعبدا مملوكا لا يقدر على شىء ، وما على المحسنين من سبيل. وغير ذلك مما لا يحصى بل وفى العبادات ايضا كثيرة مثل قوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) وآيات التيمم والوضوء والغسل وهذه العمومات وان ورد فيها اخبار فى الجملة إلّا انه ليس كل فرع مما يتمسك فيه بالآية ورد فيه خبر سليم عن المكافئ فلاحظ وتتبع.

الثانى ، انه اذا اختلف القراءة فى الكتاب على وجهين مختلفين فى المؤدى كما فى قوله تعالى (حَتَّى يَطْهُرْنَ) حيث قرء بالتشديد من التطهر الظاهر فى الاغتسال وبالتخفيف من الطهارة الظاهرة فى النقاء عن الحيض فلا يخلو اما ان نقول بتواتر القراءات كلها كما هو المشهور خصوصا فى ما كان الاختلاف فى المادة ، واما ان لا نقول كما هو مذهب جماعة ، فعلى الاول فهما بمنزلة آيتين تعارضتا لا بد من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النص او على الاظهر ، ومع التكافؤ لا بد من الحكم بالتوقف والرجوع الى غيرهما (١) وعلى الثانى فان ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة كما ثبت

__________________

١ ـ من عموم او اصل وهاهنا يرجع الى قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) الدال على العموم الزمانى بناء على كون انى بمعنى متى ومقتضاه حينئذ جواز الوطى مطلقا خرج منه زمان رؤية الدم يقينا وبقى الباقى فيكون جواز الوطى بعد النقاء وقبل الاغتسال

٥١

بالاجماع جواز القراءة بكل قراءة كان الحكم كما تقدم ، وإلّا فلا بد من التوقف فى محل التعارض والرجوع الى القواعد مع عدم المرجح او مطلقا بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا كما هو الظاهر (١) فيحكم باستصحاب الحرمة قبل الاغتسال اذا لم يثبت تواتر التخفيف او بالجواز بناء على عموم قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ،) من حيث الزمان خرج منه ايام الحيض على الوجهين فى كون المقام من استصحاب حكم المخصص او العمل بالعموم الزمانى.

الثالث ، قد يتوهم ان وجوب العمل بظواهر الكتاب بالاجماع مستلزم لعدم جواز العمل بظاهره لان من تلك الظواهر ظاهر الآيات الناهية عن العمل بالظن مطلقا حتى ظواهر الكتاب وفيه ان فرض وجود الدليل على حجية الظواهر موجب (٢) لعدم ظهور الآيات الناهية فى حرمة العمل بالظواهر ، مع ان ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجية انفسها إلّا ان يقال : انها لا تشمل انفسها ، فتامل.

واما الخلاف الثانى فهو الذى يظهر من صاحب القوانين فى آخر مسئلة حجية الكتاب وفى اول مسئلة الاجتهاد

__________________

ـ ثابتا بالعموم وعلى فرض كون انى بمعنى حيث يجب الرجوع الى استصحاب حرمة الوطى الى زمان الاغتسال (م ـ ق)

١ ـ لاختصاص التخيير بمقتضى ادلة العلاج بالاخبار المتعارضة ولا تشمل كل امارة فيعمل حينئذ بقاعدة التساقط العقلية (ش)

٢ ـ مما يوضح ذلك انه لو فرض بصريح النبى (ص) بلسانه الشريفة بان ظواهر الكتاب حجة لا يتوهم احد تناقضا فى هذا الكلام بان يقال ان مقتضى حجتيها حجية الظواهر الناهية عن العمل بالظن ومقتضاها عدم حجية ظواهر الكتاب مطلقا وليس الوجه الا ما ذكره المصنف ره وقوله فتامل لعله اشارة الى ان الآيات الناهية وان لم تشمل انفسها لقصور الدلالة عليه إلّا انه يعلم ثبوت الحكم لها مناطا (م ق)

٥٢

والتقليد وهو الفرق بين من قصد افهامه (١) بالكلام فالظواهر حجة بالنسبة اليه من باب الظن الخاص سواء كان مخاطبا كما فى الخطابات الشفاهية ام لا كما فى الناظرين فى الكتب المصنفة لرجوع كل من ينظر اليها ، وبين من لم يقصد افهامه بالخطاب كامثالنا بالنسبة الى اخبار الائمة الصادرة عنهم عليهم‌السلام فى مقام الجواب عن سؤال السائلين وبالنسبة الى الكتاب العزيز بناء على عدم كون خطاباته موجهة الينا وعدم كونه من باب التاليف للمصنفين فالظهور اللفظى ليس حجة حينئذ لنا الا من باب الظن المطلق الثابت حجيته عند انسداد باب العلم.

ولكن الانصاف انه لا فرق فى العمل بالظهور اللفظى واصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد افهامه ومن لم يقصد ، فان جميع ما دل من اجماع العلماء واهل اللسان على حجية الظاهر بالنسبة الى من قصد افهامه جار فيمن لم يقصد لان اهل اللسان اذا نظروا الى كلام صادر من متكلم الى مخاطب يحكمون بارادة ظاهره منه اذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص فى مظان وجودها ، ولا يفرقون فى استخراج مرادات المتكلمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه فاذا وقع المكتوب الموجه من شخص الى شخص بيد ثالث فلا يتأمل فى استخراج مرادات المتكلم من الخطاب المتوجه الى المكتوب اليه فاذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب اليه فيما اراد المولى منه فلا يجوز له الاعتذار فى ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى وهذا واضح لمن راجع الامثلة العرفية. هذا حال اهل اللسان فى الكلمات الواردة اليهم.

واما العلماء فلا خلاف بينهم فى الرجوع الى اصالة الحقيقة فى الالفاظ المجردة عن القرائن الموجهة من متكلم الى مخاطب سواء كان ذلك فى الاحكام الجزئية كالوصايا الصادرة عن الموصى المعين الى

__________________

١ ـ مقتضى هذا التفصيل حجية الظواهر من باب الظن الخاص بالنسبة الى من قصد افهامه ، سواء أكان مخاطبا بالكلام ام كان المخاطب غيره كما اذا خوطب شخص وكان المقصود افهام غيره ام لم تكن هناك مخاطبة اصلا كما فى تاليفات المصنفين (م ق)

٥٣

شخص معين ثم مست الحاجة الى العمل بها مع فقد الموصى اليه ، فان العلماء لا يتأملون فى الافتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجه الى الموصى اليه المقصود ، وكذا فى الاقارير ، ام كان فى الاحكام الكلية كالاخبار الصادرة عن الائمة عليهم‌السلام مع كون المقصود منها تفهيمهم مخاطبيهم لا غير ، فانه لم يتأمل احد من العلماء فى استفادة الاحكام من ظواهرها معتذرا بعدم الدليل على حجية اصالة عدم القرينة بالنسبة الى غير المخاطب ومن قصد افهامه.

ودعوى كون ذلك منهم للبناء على كون الاخبار الصادرة عنهم (ع) من قبيل تأليف المصنفين واضحة الفساد ، مع انها لو صحت لجرت فى الكتاب العزيز فانه اولى بان يكون من هذا القبيل فترتفع ثمرة التفصيل المذكور لان المفصل معترف بان ظاهر الكلام الذى هو من قبيل تأليف المؤلفين حجة بالخصوص لا لدخوله فى مطلق الظن وانما كلامه فى اعتبار ظهور الكلام الموجه الى مخاطب خاص بالنسبة الى غيره.

ويدل على ذلك ايضا سيرة اصحاب الائمة (ع) فانهم كانوا يعملون بظواهر الاخبار الواردة اليهم من الائمة الماضين (ع) كما كانوا يعملون بظواهر الاقوال التى يسمعونها من ائمتهم (ع) لا يفرقون بينهما إلّا بالفحص وعدمه كما سيأتى.

والحاصل ان الفرق فى حجية اصالة الحقيقة وعدم القرينة بين المخاطب وغيره مخالف للسيرة القطعية من العلماء واصحاب الائمة (ع).

ثم انك قد عرفت (١) ان مناط الحجية والاعتبار فى دلالة الالفاظ هو الظهور العرفى وهو كون الكلام بحيث يحمل عرفا على ذلك المعنى ولو بواسطة القرائن

__________________

١ ـ هل المناط فى اعتبار الظواهر كونها مفيدة للظن الشخصى بحيث يكون مدار العمل بالظواهر عليه او يكون اعتبارها من باب الظن النوعى بمعنى كونها بحيث لو خليت وطبعيا كانت مفيدة للظن ، وعلى الثانى هل هو معتبر مطلقا او مقيد بعدم قيام دليل غير معتبر على خلافه ، وجوه اصحها عند المصنف الثانى (ش)

٥٤

المقامية المكتنفة بالكلام فلا فرق بين افادته الظن بالمراد وعدمها ولا بين وجود الظن الغير المعتبر على خلافه وعدمه لان ما ذكرنا من الحجة على العمل بها جار فى جميع الصور المذكورة ، وما ربما يظهر من العلماء من التوقف فى العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور او طرحه مع اعترافهم بعدم حجية الشهرة فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم واطلاق ، بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور بناء على ان ما دل من الدليل على حجية الخبر الواحد من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور ولذا لا يتأملون فى العمل بظواهر الكتاب والسنة المتواترة اذا عارضها الشهرة ، فالتامل فى الخبر المخالف للمشهور انما هو اذا خالفت الشهرة نفس الخبر لا عمومه او اطلاقه فلا يتأملون فى عمومه اذا كانت الشهرة على التخصيص.

وربما فصل بعض من المعاصرين تفصيلا يرجع حاصله الى ان الكلام ان كان مقرونا بحال او مقال يصلح ان يكون صارفا عن المعنى الحقيقى فلا يتمسك فيه باصالة الحقيقة وان كان الشك فى اصل وجود الصارف او كان هنا امر منفصل يصلح لكونه صارفا فيعمل على اصالة الحقيقة ، وهذا تفصيل حسن متين لكنه تفصيل فى العمل باصالة الحقيقة عند الشك فى الصارف لا فى حجية الظهور اللفظى ، ومرجعه الى تعيين الظهور العرفى وتمييزه عن موارد الاجمال ، فان اللفظ فى القسم الاول يخرج عن الظهور الى الاجمال بشهادة العرف ولذا توقف جماعة فى المجاز المشهور والعام المتعقب بضمير يرجع الى بعض افراده والجمل المتعددة المتعقبة للاستثناء والامر والنهى الواردين فى مظان الحظر والايجاب الى غير ذلك مما احتف اللفظ بحال او مقال يصلح لكونه صارفا ولم يتوقف احد فى عام بمجرد احتمال دليل منفصل يحتمل كونه مخصصا له بل ربما يعكسون الامر فيحكمون بنفى ذلك الاحتمال وارتفاع الاجمال لاجل ظهور العام ، ولذا لو قال المولى اكرم العلماء ثم ورد قول آخر من المولى انه لا تكرم زيدا واشترك زيد بين عالم وجاهل

٥٥

فلا يرفع اليد عن العموم بمجرد الاحتمال بل يرفعون الاجمال بواسطة العموم فيحكمون بارادة زيد الجاهل من النهى.

واما القسم الثانى وهو الظن الذى (١) يعمل لتشخيص الظواهر كتشخيص ان اللفظ المفرد الفلانى كلفظ الصعيد او صيغة افعل او ان المركب الفلانى كالجملة الشرطية ظاهر بحكم الوضع فى المعنى الفلانى وان الامر الواقع عقيب الحظر ظاهر بقرينة وقوعه فى مقام رفع الحظر فى مجرد رفع الحظر دون الالزام.

والظن الحاصل هنا يرجع الى الظن بالوضع اللغوى والانفهام العرفى والاوفق بالقواعد عدم حجية الظن هنا لان الثابت المتيقن هى حجية الظواهر واما حجية الظن فى ان هذا ظاهر فلا دليل عليه عدا وجوه (٢) ذكروها فى اثبات جزئى من جزئيات هذه المسألة وهى حجية قول اللغويين فى الاوضاع فان المشهور كونه من الظنون الخاصة التى ثبت حجيتها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم فى الاحكام الشرعية وان كانت الحكمة فى اعتبارها انسداد باب العلم فى غالب مواردها فان الظاهر ان حكمة اعتبار اكثر الظنون الخاصة كاصالة الحقيقة المتقدم ذكرها وغيرها انسداد باب العلم فى غالب مواردها من العرفيات والشرعيات ، والمراد بالظن المطلق ما ثبت اعتباره من اجل انسداد باب العلم بخصوص الاحكام الشرعية وبالظن الخاص ما ثبت اعتباره لا لاجل الاضطرار الى اعتبار مطلق الظن بعد تعذر

__________________

١ ـ لا اشكال فى اعتبار الظن الحاصل بالمراد بعد العلم بالوضع او القرينة الدالة ، ومرجعه الى اعتبار الظواهر وكاشفيتها عن المراد بعد القطع بالظهور ، والكلام انما هو فى اعتبار الظن بالظهور الناشى عن الظن بالوضع او غيره (م ق)

٢ ـ الوجوه على ما يظهر من كلماته اربعة : احدها الاجماع قولا وعملا ، الثانى بناء العقلاء على العمل بقول اللغويين بل بقول كل ذى فن بارع فى فنه ، الثالث مسيس الحاجة الى اعتباره وإلّا انسد باب الاستنباط عن الادلة اللفظية ، الرابع انسداد باب العلم بالاحكام الشرعية المستلزم لاعتبار قول اللغوى (م ق)

٥٦

العلم.

وكيف كان فاستدلوا على اعتبار قول اللغويين باتفاق العلماء بل جميع العقلاء على الرجوع اليهم فى استعلام اللغات والاستشهاد باقوالهم فى مقام الاحتجاج ولم ينكر ذلك احد على احد ، وقد حكى عن السيد ره فى بعض كلماته دعوى الاجماع على ذلك بل ظاهر كلامه المحكى اتفاق المسلمين ، قال الفاضل السبزوارى فيما حكى عنه فى هذا المقام ما هذا لفظه : صحة المراجعة الى اصحاب الصناعات البارزين فى صنعتهم البارعين فى فنهم فيما اختص بصناعتهم مما اتفق عليه العقلاء فى كل عصر وزمان ، انتهى.

وفيه ان المتيقن من هذا الاتفاق هو الرجوع اليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة ونحو ذلك لا مطلقا ، ألا ترى ان اكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع اليه من اهل الرجال بل وبعضهم على اعتبار التعدد والظاهر اتفاقهم على اشتراط التعدد والعدالة فى اهل الخبرة فى مسئلة التقويم وغيرها ، هذا ، مع انه لا يعرف الحقيقة عن المجاز بمجرد قول اللغوى كما اعترف به المستدل فى بعض كلماته ولا ينفع فى تشخيص الظواهر.

فالانصاف ان الرجوع الى اهل اللغة مع عدم اجتماع شروط الشهادة اما فى مقامات يحصل العلم فيها بالمستعمل فيه من مجرد ذكر لغوى واحد او ازيد له على وجه يعلم كونه من المسلمات عند اهل اللغة كما قد يحصل العلم بالمسألة الفقهية من ارسال جماعة لها ارسال المسلمات ، واما فى مقامات يتسامح فيها لعدم التكليف الشرعى بتحصيل العلم بالمعنى اللغوى كما اذا اريد تفسير خطبة او رواية لا تتعلق بتكليف شرعى ، واما فى مقام انسد فيه طريق العلم ولا بد من العمل فيعمل بالظن بالحكم الشرعى المستند بقول اهل اللغة.

ولا يتوهم ان طرح قول اللغوى الغير المفيد للعلم فى الفاظ الكتاب والسنة مستلزم لانسداد طريق الاستنباط فى غالب الاحكام لاندفاع ذلك بان اكثر مواد اللغات

٥٧

الا ما شذ وندر كلفظ الصعيد ونحوه معلوم من العرف واللغة كما لا يخفى والمتبع فى الهيئات هى القواعد العربية المستفادة من الاستقراء القطعى واتفاق اهل العربية او التبادر بضميمة اصالة عدم القرينة ، فانه قد يثبت به الوضع الاصلى الموجود فى الحقائق كما فى صيغة افعل او الجملة الشرطية او الوصفية.

ومن هنا يتمسكون فى اثبات مفهوم الوصف بفهم ابى عبيدة فى حديث لى الواجد (١) ونحوه غيره من موارد الاستشهاد بفهم اهل اللسان وقد يثبت به الوضع بالمعنى الاعم الثابت فى المجازات المكتنفة بالقرائن المقامية كما يدعى ان الامر عقيب الحظر بنفسه مجردا عن القرينة يتبادر منه مجرد رفع الحظر دون الايجاب والالزام ، واحتمال كونه لاجل قرينة خاصة يدفع بالاصل فيثبت به كونه لاجل القرينة العامة وهى الوقوع فى مقام رفع الحظر فيثبت بذلك ظهور ثانوى لصيغة افعل بواسطة القرينة الكلية وبالجملة فالحاجة الى قول اللغوى الذى لا يحصل العلم بقوله لقلة مواردها لا تصلح سببا للحكم باعتباره لاجل الحاجة.

هذا ولكن الانصاف (٢) ان مورد الحاجة الى قول اللغويين اكثر من ان يحصى فى تفاصيل المعانى بحيث يفهم دخول الافراد المشكوكة او خروجها وان كان المعنى فى الجملة معلوما من دون مراجعة قول اللغوى كما فى مثل الفاظ الوطن والمفازة والثمرة والفاكهة والكنز والمعدن والغوص وغير ذلك من متعلقات الاحكام

__________________

١ ـ حديث «لى الواجد يحل عقوبته» مشهور ، واللى التهاون والتأخير والمعنى ان تهاون الشخص الواجد للمال والثروة عن اداء دينه سبب لجواز عقوبته والزامه بالاداء (ش)

٢ ـ كان المصنف قده قبل الدورة الاخيرة التى لم يمهله هادم اللذات لا تمامها مقويا لعدم حجية قول اللغوى ، وعدل عنه فى الدورة الاخيرة فاضاف قوله هذا ولكن اه ولكنك خبير بان ما انصفه لا يجدى بعد ما اعترف به آنفا من عدم امكان تمييز الحقائق عن المجازات بقول اللغوى ولعله لذا امر بالتامل (م ق)

٥٨

عما لا يحصى وان لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقف فيها محذورا ولعل هذا المقدار مع الاتفاقات المستفيضة كاف فى المطلب ، فتامل.

ومن جملة الظنون الخارجة عن الاصل ، الاجماع المنقول بخبر الواحد (١) عند كثير ممن يقول باعتبار الخبر بالخصوص نظرا الى انه من افراده فيشمله ادلته ، والمقصود من ذكره هنا مقدما على بيان الحال فى الاخبار هو التعرض للملازمة بين حجية الخبر وحجيته فنقول : ان ظاهر اكثر القائلين باعتباره بالخصوص ان الدليل عليه هو الدليل على حجية خبر العادل فهو عندهم كخبر صحيح عالى السند ، لان مدعى الاجماع يحكى مدلوله ويرويه عن الامام (ع) بلا واسطة ويدخل الاجماع ما يدخل الخبر من الاقسام (٢) ويلحقه ما يلحقه من الاحكام والذى يقوى فى النظر هو عدم الملازمة بين حجية الخبر وحجية الاجماع المنقول ، وتوضيح ذلك ، يحصل بتقديم امرين (٣) ...

__________________

١ ـ الاجماع اما محصل او منقول والمحصل اما قطعى او ظنى والمنقول اما منقول بتواتر او بالآحاد وما عدا الاخير خارج عن محل الكلام (ق)

٢ ـ من كونه صحيحا او موثقا او حسنا آحادا او مستفيضا او متواترا ، وما يلحقه من الاحكام كاحكام التعادل والترجيح وتخصيص العام منه بخاصه وجواز تخصيص الكتاب به ونحو ذلك (م ق)

٣ ـ وجه الحاجة الى الامرين انه قد يدعى الملازمة بين حجية الاجماع المنقول وخبر الواحد نظرا الى كون كل منهما نقلا لقول المعصوم عليه‌السلام فيدل على حجية الاول ما يدل على حجية الثانى فبين فى الامر الاول ان خبر الواحد اخبار عن حس والاجماع اخبار عن حدس ، وادلة الاخبار انما تدل على حجية الاول دون الثانى وقد تدعى الملازمة بينهما مع تسليم عدم دلالة الاخبار على حجية الخبر عن حدس نظرا الى ان حدس اللازم عن الملزوم على قسمين احدهما ان تكون الملازمة بينهما ضرورية او عادية ، وثانيهما ان تكون اتفاقية واستلزام اتفاق العلماء لقول الامام قد يكون من قبيل الاول كاتفاق جميع علماء الاعصار وقد يكون من قبيل الثانى كما فى اتفاق جماعة وادلة اخبار الآحاد انما لا تشمل اللوازم الحدسية اذا كانت الملازمة اتفاقية فاشار فى الامر الثانى الى ان الملازمة ليست ضرورية ولا عادية فلا تشمله ادلة الاخبار (م ق).

٥٩

الاول ان الادلة الخاصة التى اقاموها على حجية خبر العادل لا تدل الا على حجية اخبار عن حس لان العمدة من تلك الادلة هو الاتفاق الحاصل من عمل القدماء واصحاب الائمة (ع) ومعلوم عدم شموله الا للرواية المصطلحة وكذلك الاخبار الواردة فى العمل بالروايات.

واما الآيات فالعمدة فيها من حيث وضوح الدلالة هى آية النبأ وهى انما تدل على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق والظاهر منها (١) بقرينة التفصيل بين العادل حين الاخبار والفاسق وبقرينة تعليل اختصاص التبين بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع فى الندم احتمالا مساويا لان الفاسق لا رادع له عن الكذب ، هو عدم الاعتناء باحتمال تعمد كذبه لا وجوب البناء على اصابته وعدم خطائه فى حدسه ، لان الفسق والعدالة حين الاخبار لا تصلحان مناطين لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة الى حدسه وكذا احتمال الوقوع فى الندم من جهة الخطاء فى الحدس امر مشترك بين العادل والفاسق فلا يصلح لتعليل الفرق به ، فعلمنا من ذلك ان المقصود من الآية ارادة نفى احتمال تعمد الكذب عن العادل حين الاخبار دون الفاسق لان هذا هو

__________________

١ ـ حاصله ان الاشكال فى اعتبار الاجماع المنقول انما هو من حيث احتمال خطاء المدعى فى حدسه لا من حيث احتمال تعمده للكذب لان احتمال ذلك فى علمائنا الاخيار (رض) منتف قطعا والآية انما تدل على وجوب التصديق من حيث احتمال تعمد الكذب لا من حيث احتمال خطائه فى حدسه وتشهد بذلك على ما يستفاد من كلامه وجوه : احدها التفصيل فى الحكم بين العادل والفاسق كما هو مقتضى المفهوم شرطا ووصفا ولا ريب ان صفة الفسق انما تصلح للعلية اذا كان الحكم بوجوب التبين من حيث احتمال تعمد الكذب ولو اريد الوجوب من حيث احتمال الخطاء لزم كون التعليل بامر مشترك ، ثانيها التعليل بقوله سبحانه (أَنْ تُصِيبُوا) لان احتمال الوقوع فى الندم من حيث احتمال الخطاء مشترك بين العادل والفاسق بخلافه من حيث احتمال تعمد الكذب.

(م ق)

٦٠