دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

الواضحات غير القابلة للإنكار عدم كون خبر الواحد من سلاسل علل وجود إثبات السنّة بالمعنى المتقدّم في الخارج حتّى لا ينفكّ عن الحجّية ؛ إذ خبر الواحد إنّما يكون حاك عن السنّة ، والحكاية تحتمل الصدق والكذب ، وكيف يعقل أن نثبت السنّة به في الخارج واقعا مع أنّ الحكاية عن الشيء إنّما تكون في رتبة متأخّرة عن ذلك ؛ إذ من البديهي تأخّر الحاكي عن المحكيّ عنه من حيث الرتبة.

وعلى فرض التسليم أنّ البحث هنا يكون بنحو كان التامّة ، وإنّما يثبت الموضوع لا عوارضه الذاتيّة. فإن كان مراده من هذا الكلام والثبوت الثبوت الواقعي التكويني الذهني ، أي كون الخبر الواحد علّة في سلسلة الوسائط المثبتة للسنّة بالوجدان الواقعي ، فذلك أيضا بعيد عن التعقّل ، إذ من الواضحات الأظهر من الشمس عدم كون خبر الواحد مفيدا للعلم واليقين الوجداني بثبوت السنّة وإثباتها في عالم الواقع كالخبر المتواتر.

وبالجملة ، كيف يعقل انكشاف السنّة من ناحية خبر الواحد واقعا نظير انكشافها بالخبر المتواتر والقرينة القطعيّة ؟ على أنّنا لو صدّقناكم فالمسألة تخرج عن حجّية خبر الواحد موضوعا ؛ إذ المسألة حينئذ تدخل في مصاديق حجّية العلم واليقين الوجداني بحصول السنّة التي لا مناص إلّا الجري على طبقها ، وأين هذا ومسألة حجّية خبر الواحد ؟

وملخّص الكلام ـ كما تقدّم ـ أنّ حجّية خبر الواحد غير منفكّة عن احتمال الصدق والكذب ، بل ذلك الاحتمال لازم لذات كلّ أخبار الآحاد ؛ فإذن لا يعقل أن يكون خبر الواحد واقعا في سلك ثبوت السنّة في الواقع ونفس الأمر ، وبذلك البيان وقفت على عدم تعقّل كونه واسطة لإثبات السنّة كذلك.

وإن كان مراده قدس‌سره الثبوت التعبّدي في المقام كما يكون هذا هو المستظهر من

٦١

كلامه ، وأنّه الحقّ ، فلا بدّ لنا من التصديق بحسب ظاهر الأمر ؛ إذ لا ينبغي الشكّ لأحد أنّ السنّة الواقعية تثبت تعبّدا بواسطة خبر الواحد ، ولكنّ الحقّ أنّ ذلك من عوارض الخبر دون السنّة ، إذ ذكرنا غير مرّة أنّ الثبوت التعبّدي على طبق مسلكنا عبارة عند الشارع عن إلغاء احتمال الخلاف ، وذلك عند التحليل يرجع إلى إعطاء الشارع عنوان الطريقيّة والكاشفيّة والانكشاف شرعا وتعبّدا بخبر الواحد ببركة الدليل الذي يدلّ على حجّيته بعد عدم كونه كذلك قبل هذا الإعطاء.

ولكن بعد الإعطاء فكأنّه جعله علما للمكلّف في عالم التشريع شرعا بعد ما لم يكن كذلك قبل الإعطاء ، إلّا أنّه بعد الإعطاء لا ينفكّ عن الإثبات والانكشاف للسنّة عند المطّلع على هذا الإعطاء شرعا ، ويكون بهذا التقريب هو من عوارضها الملحقة بها.

ولكنّ الحقّ والإنصاف عدم كون ذلك هو المبحوث عنه في هذه المسألة ، بل المبحوث عنه فيها طريقيّة خبر الواحد وإعطاء الكشف به وجعله كالعلم واليقين من باب التعبّد. ومن البيّن الظاهر غير القابل للإنكار أنّ هذه الطريقيّة من عوارض خبر الواحد دون السنّة ، والثبوت التعبّدي على مسلك المشهور ليس إلّا عبارة عن إنشاء الحكم الظاهري على طبق مدلول الخبر ، وذلك يكون من عوارضه دون السنّة بحسب الظاهر.

فانقدح بذلك البيان حال مسلك صاحب الكفاية في باب حجّية خبر الواحد من أنّه ليس إلّا جعل المنجّزية والمعذّرية (١) ؛ إذ من الواضحات الأوّلية أنّهما من عوارضه وصفاته أيضا ، لا من عوارض السنّة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١٩ ، مبحث الجمع بين الأحكام الواقعيّة والظاهريّة.

٦٢

فتلخّص من جميع ما ذكرنا مفصّلا أنّ البحث عن هذه المسألة على مجموع تلك المسالك المتقدّمة بحث عن عوارض الخبر من دون أن يكون من عوارض السنّة الواقعيّة بوجه من الوجوه ، مع أنّ ما اختاره قدس‌سره في المقام إذا كان صحيحا إنّما يتمّ في خصوص هذه المسألة دون غيرها من المسائل المتقدّمة ، وقد عرفت بالتفصيل أنّ الإشكال المذكور غير مختصّ بها.

ولذا عدل هو قدس‌سره عن مسلك المشهور ، واختار أنّ موضوع العلم عبارة عن جامع مقولي واحد يجتمع جميع تلك المسائل المختلفة في توسعة جناحه الجامع لجميع موضوعاتها المتشتّتة (١).

ولكنّ الإنصاف أنّ تفصيل الكلام كما هو حقّه مرّ عليك بما لا مزيد عليه ، إذ بيّنا هناك بالتفصيل الدقيق المحقّق بعدم وجدان قيام الدليل والبرهان على لزوم موضوع كذلك في جميع العلوم ، حتّى تبلغ النوبة إلى علم الاصول ، فإذن يبقى علم الاصول بلا موضوع جامع مقولي خاصّ كسائر العلوم.

ومع ذلك كلّه لو أنكرت وأغمضت عن تلك البراهين الواضحة والأدلّة المتظافرة التي هي غير قابلة للإنكار ، وأصررت على لزوم الموضوع لكلّ علم من العلوم ولو كان ذلك الموضوع من الموضوعات العنوانية ، مثل عنوان الكلمة والكلام في مسائل علم النحو ، وفعل المكلّف في علم الفقه ، وعنوان المعلوم التصديقي والتصوّري في علم المنطق.

فنقول : إنّ ذلك موجود في علم الاصول بلا شكّ وريب ، وهذا الموضوع هو الجامع الذي يكون قابلا للانتزاع من مجموع تلك المسائل المتباينة ، فلقائل أن يقول : إنّ موضوع علم الاصول كلّ ما يمكن أن يكون نتيجة البحث عنه واقعا في

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢.

٦٣

طريق الاقتدار على الاستنباط وتعيين الوظيفة للمكلّف عند العمل.

هذا تمام الكلام في بيان موضوع كلّ علم ، وموضوع علم الاصول خاصّة.

٦٤

الأمر الرابع

في الوضع

وقد انتهى كلامنا إلى بيان مسألة الوضع.

واعلم أنّه لا بدّ لنا من الكلام فيه من نواحي متعدّدة.

الناحية الاولى : وقع الكلام فيها بلحاظ كيفية دلالة الألفاظ الموضوعة على معانيها : هل تكون بالذات ؟ بمعنى أنّه هناك مناسبة ذاتيّة بين اللفظ الموضوع والموضوع له ، وهي سبب لدلالة اللفظ على مدلوله ، فيكون المنشأ الأصلي هو تلك المناسبة بينهما. فنقول : إنّ الدلالة ذاتيّة ، كما أنّ ذلك أحد الأقوال في الوضع ؟ أو لا بل المنشأ الأصلي في الدلالة ليس إلّا الوضع والجعل في ميدان المواضعة حتّى تكون الدلالة الموجودة بينهما وضعيّة من ناحية جعل الواضع.

والناحية الثانية : لا بدّ لنا من التعرّض لبيان الواضع الأصلي هل هو منحصر في خصوص الله تبارك وتعالى ، أو المتصدّي لذلك الأمر المهمّ إنّما يكون هو الإنسان فقط لا غير ، كما سيأتي الكلام في هذه الناحية مفصّلا.

وهي محلّ كلام بين الأصحاب بأنّ الوضع داخل في

٦٥

الامور الواقعيّة من دون أن يكون له ربط بالاعتبار ، أو لا بل إنّما هو من الامور الاعتباريّة حتّى يكون قوامه بيد المعتبر في عالم الاعتبار فقط ؟

الناحية الرابعة : في أقسام الوضع من حيث الثبوت والإمكان ، ومن حيث الوقوع ثانيا.

أمّا الكلام في الناحية الاولى فقد احتمله بعض بأنّ دلالة الألفاظ على معانيها نشأت من ناحية المناسبة الذاتيّة بينهما (١) ، وتلك المناسبة تكون أساس الدلالة ، لا الوضع.

فلا يخفى عليك أنّ هذا الكلام مورد إشكال لا يمكن الجواب عنه ، إذ المراد من الدلالة الذاتيّة لو كانت منتهية إلى ارتباط مكنون بين ذاتهما ولا ينفك عنهما ، بل هو مستقرّ بينهما ، فذلك كذب محض ، إذ كيف يتصوّر أن يقال : بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتيّة واقعيّة بحدّ يوجب مجرّد سماع اللفظ إحضار المعنى بعنوان العلّة التامّة في الانتقال إلى ذهن السامع ، ولو كان هو جاهلا من غير أهل اللسان واللغة ؟ بل إنّ ذلك ينتهي إلى الإفراط الباطل.

إذ لازم هذا القول أن نقول بتمكّن كلّ شخص من الاطلاع والإحاطة بتمام اللغات ، فضلا عن لغة واحدة. وهذا من حيث البطلان بحيث يضحك الثكلى إذ السامع للألفاظ لا ينتقل إلى ذهنه بعض معاني ألفاظ لسانه ، فضلا عن أن يكون بالدلالة الذاتيّة محيطا على الاطلاع والانتقال على جميع معاني الألفاظ في كلّ لغة.

وبالجملة إنّ الالتزام بالدلالة الذاتيّة بين الألفاظ والمعاني ـ بحيث يوجب أن

__________________

(١) نسبه في القوانين ١ : ١٩٤ إلى عباد بن سليمان الصيمري وأصحاب التكسير.

٦٦

يكون سماع اللفظ علّة تامّة لانتقال الذهن إلى معناه ـ من الأباطيل التي تعرفها الجهّال ، فضلا عن الفضلاء والعلماء الكبار ؛ إذ كيف يمكن تصوّر تمكّن شخص من الإحاطة بتمام اللغات فضلا عن لغة واحدة ، مع أنّ الالتزام بالدلالة الذاتيّة ملازم لتلك الإحاطة الكاذبة التي ينبغي التوقّف في بطلانها عند من له الاطلاع باللغات والمعاني.

إلّا أن يقال : إنّ المراد من الدلالة الذاتيّة يكون هو الارتباط بين اللفظ والمعنى الحاصل بينهما بهذه المناسبة المذكورة التي توجب أن يكون سماع اللفظ مقتضيا لانتقال الذهن إلى معناه ، بمعنى الدلالة الاقتضائية ، لا العلّة التامّة ، يعني أنّ الوضع يكون مقتضيا عند سماع اللفظ لانتقال الذهن إلى المعنى المراد من ذلك اللفظ في كيان الدلالة الاقتضائيّة في قبال العلّة التامّة.

ولكنّ الحقّ والإنصاف ، أنّ ذلك وإن كان بمكان من الإمكان ثبوتا ، وقابلا للاختلاف والنزاع ؛ إذ لا يتصوّر مانع عن الالتزام بذلك عقلا من ثبوت هذا السنخ من المناسبة بين تلك الألفاظ والمعاني الموضوعة لها ، كمثال الملازمة الراسخة بين الشيئين والأمرين فيما كانت هي ثابتة في الواقع الأزلي من دون احتياج إلى تصرّف من بيده الاعتبار من المعتبرين وتصوّر لحاظ فرض أيّ فارض ، سواء كان طرفاه من الإمكانيات أو من المستحيلات أو مختلفين ، لأنّ صدق أحدهما غير متوقّف على صدق الطرف الآخر ، بل هي ثابتة وصادقة مع عدم إمكانهما واستحالتهما كما في قول الله تبارك وتعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١) نعم إنّ سنخ ثبوتها غير سنخ ثبوت المقولات نظير الجواهر والأعراض ، ولأجل ذلك هي غير داخلة تحت شيء منهما.

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

٦٧

ولكن لا يخفى عليك أنّه لا دليل عليه في مقام الإثبات.

ومن هذه الناحية لا يمكن الالتزام بها ، وإن كان ممكنا ثبوتا.

إلّا أن يقال : إنّه لا محيص عن الالتزام بذلك ؛ إذ لو لا تلك المناسبة بينهما أي بين اللفظ والمعنى كيف يمكن للواضع أن يخصّص أحدهما بالآخر في مقابل تلك المعاني المتعدّدة الحاضرة في صفّه ورديفه ؟ وهل هذا التصرّف من الواضع إلّا من قبيل الترجيح بلا مرجّح الذي يعدّ من المحالات ، إذ كيف يعقل تحقّق حادث من الحوادث بلا وجود سبب وعلّة ؟

ولكنّ الحقّ أنّ هذا الإيراد مردود غير وارد ، أمّا أوّلا : فلأنّ المحال يتمّ في الثاني دون الأوّل ، على أنّه لا قبح في ذلك أصلا وأبدا حتّى تبلغ النوبة إلى الاستحالة ، إذ اختيار الوضع من الواضع لخصوص واحد من الألفاظ والمعاني في قبال سائر الألفاظ والمعاني بالطبع غير منفكّ عن المرجّح عند اختيار طبيعي الفعل مع فقدان الترجيح بين مصاديقه وأفراده ، وسنتعرّض لبيان توضيح هذا المطلب عند البحث عن الطلب والإرادة بحول الله وقوّته.

وبما أنّ المرجّح لاختيار طبيعيّ الوضع والتخصيص موجود ، فهو يكفينا في تخصيص الواضع وجعله لكلّ معنى لفظا مخصوصا ، وإن فقد الترجيح بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراده.

مع أنّه غير معقول تصوّر تحقّق تلك المناسبة المذكورة بين جميع الألفاظ والمعاني ؛ إذ ذلك مستلزم لتحقّقها بين لفظ واحد ومعاني متضادّة أو متناقضة فيما إذا كان للفظ واحد معاني كذلك ، مثل لفظ (جون) الموضوع للأسود والأبيض ، ولفظ (القرء) الموضوع للطهر والحيض ، وأمثالهما الموجودة في اللسان واللغة. وذلك غير معقول بالقطع واليقين لأنّ تحقّقها بين لفظ واحد ومعاني كذلك ملازم لتحقّقها بين نفس هذه المعاني بالوضوح والإشراق عند

٦٨

صاحب الدرك والإمعان.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى بيان الوجه الأوّل.

وثانيا : لو فرضنا صحّة امتناع الترجيح بلا مرجّح ، إلّا أنّ المرجّح ليس في انحصار تلك المناسبة المزبورة حتّى نبتلى بمحذور تلك المصيبة من غير التخلّص منها ؛ إذ من الواضح كفاية وجود المرجّح في الجملة ، ولو في ضمن أمر اتّفاقي ؛ إذ المحذور إنّما يرد من ناحية الترجيح بلا مرجّح ، فإذا وجد المرجّح فلا محالة يندفع المحذور بلا فرق بين وجود مرجّح ذاتي ومرجّح ذاتي ومرجّح اتّفاقي ، إذ بالضرورة من الوجدان أنّ المانع في ذلك المقام ليس إلّا الترجيح من دون وجدان المرجّح.

على أنّ المرجّح لو كان ممّا لا بدّ منه ، فلا بدّ من أن يكون في اختيار الواضع عند فعل الوضع حتّى يكون أصل الفعل الصادر من الفاعل والواضع مع الترجيح ، وذلك الرجحان يمكن وجوده في نفس الوضع وإن فقد تلك المناسبة فيما بين اللفظ والمعنى.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى الناحية الاولى ، فخذ واغتنم.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى الناحية الثانية ، فلا بدّ لنا من البحث في بيان ذلك ، فلا يخفى عليك أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره اختار أنّ الواضع في وضع الألفاظ للمعاني هو الله الحكيم لا غير.

وقد أقام الدليل على هذا الاختصاص بأنّا على يقين فيما بيدنا من التواريخ عدم وجدان شخص خاصّ أو مجتمع مخصوص تصدّى لذلك الأمر ، حتّى نلتزم بأنّهم وضعوا الألفاظ المتكثّرة في لغة واحدة لمعانيها المستفادة منها عند البيان والتكلّم ، فضلا عن سائر اللغات الموجودة في كلّ لسان من ألسنة

٦٩

العرب والعجم.

كما أنّنا نقطع بعدم وجود الدلالة الذاتيّة على نحو يفهم كلّ فرد فرد من الأشخاص من كلّ فرد فرد من الألفاظ المفهوم الذي يكون معنى ذلك اللفظ المخصوص الذي يختصّ بذلك الوضع ، إذ عهدة ذلك الأمر المهمّ خارج عن تحت قدرة البشر بما هم بشر ، بل القدرة في ميدان الوضع تكون بيده تبارك وتعالى.

فيكون الواضع هو الله الحكيم الذي وضع لكلّ المعاني في اللغات الدارجة بين أربابها لفظا مخصوصا باعتبار مناسبة معلومة عنده ومجهولة عندنا ، واختار الله عزوجل هذا الأمر المهمّ من الوسائط بين تشريع الأحكام الشرعيّة التي لا بدّ من إيصالها إلى المكلّفين بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، والامور التكوينية التي فطر الإنسان والخلائق على إدراكها ، كحدوث الجوع والعطش عند احتياج المعدة إلى الغذاء والماء وأمثالهما.

فانقدح بذلك البيان أنّ الوضع من جانبه تبارك وتعالى اعتبار وجعل متوسّط بينهما ، فلا يعدّ من التكوينيّات المحضة ، ليكون مستغنيا عن أمر آخر ، ولا من التشريعيات المجرّدة حتّى يكون في غنى عن تبليغ الرسل والأوصياء الكرام ، وإنّما يكون ذلك الأمر المهمّ من شئون الله عزوجل في إلهامه تبارك وتعالى عباده على اختلافهم بما اختصّهم من الألسنة واللغات المختلفة على نحو بحيث يكون كلّ منهم على شاكلته ، بما لهم من اختلاف الوضع واللغة واللسان ، إذ تتكلّم كلّ طائفة بلفظ خاصّ عند تفهيم إرادة بيان المعنى الخاصّ من ذلك اللفظ المخصوص.

ومن المؤكّدات التي تؤكّد توضيح هذا المطلب أنّه لو أراد عدّة من الرجال اتّخاذ ألفاظ جديدة بمقدار الألفاظ الدارجة في أيّ لغة من اللغات فليس في

٧٠

إمكانهم ، بل لم يكونوا قادرين على ذلك بالقطع واليقين ، فما الظنّ منك بالنسبة إلى التمكّن على ذلك من شخص واحد في قبال كثرة المعاني التي هي خارجة عن إدراك تصوّرها من شخص واحد أو أفراد متكثّرة ومتعدّدة.

وملخّص المطلب مع التفصيل المتقدّم منّا بالنسبة إلى أخذ نتيجة كلامه قدس‌سره في هذا المقام يتشخّص في امور :

الأوّل منها : أنّ الوضع يكون من شئون الله تبارك وتعالى ، فيكون الواضع هو الله عزّ اسمه ، إلّا أنّه في غير منهج إرسال الرسل وإنزال الكتب ، كما يكون الحال بهذا المنوال في إبلاغ الأحكام وإيصالها إلى العباد عند الامتثال ولا جعل الامور التكوينية التي فطر الإنسان على إدراكها ، بل الطريق منحصر بطريق الإلهام إلى كلّ عنصر من عناصر البشر بما له من الاستعداد في ذلك الميدان.

والثاني : أنّه قدس‌سره قال بوجود مناسبة مجهولة بين تلك المعاني والألفاظ في اللغات الدارجة.

الثالث : أنّه عزوجل اختار هو الوضع بلحاظ هذه المناسبة فقط.

الرابع : ذكر قدس‌سره أنّ هذا الوضع من الجعليّات المتوسّطة بين الجعل التكويني والجعل التشريعي.

الخامس : أنّه قدس‌سره أفاد ـ بعد نفي الدلالة الذاتية في بيان توضيح انحصار الوضع بالله العليّ الحكيم دون غيره من الواضعين في وجه ذلك الانحصار والاختصاص ـ أمرين : الأوّل : عدم تمكّن الشخص الواحد من التصدّي للوضع في اللغات ، لعدم إمكان إحاطته بتمام ألفاظ لغة واحدة ، فضلا عن الإحاطة بجميع اللغات المتكثّرة والمتعدّدة.

وثانيهما : أنّه قدس‌سره ذكر أنّ الشخص الواحد لو فرضنا قدرته على ذلك الأمر المهمّ ، وأنّه قادر على التصدّي لاختيار وضع الألفاظ لما لها من المعاني إمّا

٧١

منفردا ، أو بمساعدة أشخاص مشخّصين من أهل كلّ لغة من اللغات الذين لهم التمكّن لوضع الألفاظ بإزاء ما لها من المعاني ، لاشتهر وبان ؛ إذ كان من أكبر خدمات البشر في عرصة التأريخ ، وكان الواجب على أهل التأريخ التصدّي لبيانه وضبطه وتحريره وتقريره لما له من الأهميّة ؛ إذ هم المسئولون عن ضبط أخبار السلف الماضين وإبلاغها إلى أهلها ، خصوصا مثل هذا الأمر المهمّ الذي له تعلّق بجميع التواريخ ، مع أنّه بقي نسيا منسيّا من دون أن يكون عن حدوث الوضع من شخص واحد في كلّ عصر وزمان ماض عين ولا أثر.

فانقدح لك بهذا البيان الواضح أنّ البشر لو كانوا أهلا لهذا التصدّي وكانوا هم الواضعين لاشتهر وبان بحدّ المتواترات في التواريخ ، إذ أنّهم تحمّلوا نقل ما يكون دونه من حيث الأهميّة ، فكيف أسقطوا ذلك وأغمضوا عن ضبطه ونقله ؟

ولكنّ الحقّ والإنصاف أنّه لا يمكننا المساعدة على ما أفاد قدس‌سره بل لنا في التأمّل في جميع تلك الموارد مجال واسع ، وسنبيّن لك ذلك.

أمّا الوجه الأوّل ، فضعفه أظهر من الشمس في رابعة النهار ، وضعفه يظهر ممّا ذكره قدس‌سره واعتمد عليه من الأمرين المذكورين اللذين قرأناهما عليك.

وأمّا الثاني ، فردّه من الواضحات ، إذ أنّه من الامور الغيبيّة مختصّ بمن له تخرّص على المغيّبات ، وليس من الامور الاستدلاليّة ، إذ قد انقدح لك فيما سبق عدم وجدان الدليل على وجود هذه المناسبة فيما بين الألفاظ والمعاني ، بل أقمنا البرهان والدليل على فقدانها في ذلك كلّه.

وأمّا الثالث ، فمحلّ إشكال من جهة أنّا إن سلّمنا ـ على فرض المحال ـ بوجود تلك المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى ، فكيف يمكننا أن نسلّم أنّ الواضع لاحظ لكلّ واحد من الألفاظ والمعاني هذه الخصوصيّة على طبق تلك المناسبة. فلا نسلّم أنّ الواضع لاحظ بالحتم واليقين تلك المناسبة عند الوضع في

٧٢

كلّ لفظ ومعنى بمعنى جعله لكلّ معنى لفظا مخصوصا على طبق تلك المناسبة ، لعدم الاحتياج إلى هذا اللحاظ بتلك الخصوصيّة ، لحصول الغرض من الوضع في فرض فقدان تلك المناسبة.

فإذن فأيّ حاجة ألجأتنا إلى لزوم رعاية هذه المناسبة عند الوضع ، فلا محالة يبقى بلا دليل ، إلّا أن يتمسّك من باب الاضطرار بقاعدة استحالة الترجيح بلا مرجّح ، وذلك لا يسمن ولا يغني من جوع ، إذ وقفت فيما سبق على بطلانها.

وقد بقي الكلام في بيان الأمر الرابع ، فلا يخفى أنّ ذلك عبارة عمّا أفاده قدس‌سره عند بيان الوضع أنّه أمر وسط بين الامور التكوينيّة والجعليّة ، فلا يخفى عليك أنّ كلامه هذا لا حاصل له من حيث النتيجة ؛ إذ الواسطة معدومة بينهما ، إذ من الواضحات الأوّليّة أنّ الشيء لو كان من الموجودات التكوينيّة الحقيقيّة التي ليس لوجودها توقّف في الخارج على اعتبار أيّ معتبر ، فمن البديهي أنّه يكون في صفّ الموجودات التكوينيّة ، وإلّا فصفّه صفّ الامور الاعتبارية الجعليّة ، من دون إمكان فرض فرد ثالث ليكون هو الواسطة بين الأمرين.

وقد بقي الكلام في بيان حديث الإلهام.

فلا يخفى عليك أنّه حديث معتبر صحيح من دون أن يكون اختصاصه بالوضع فقط.

وقد تكلّمنا في بيان ذلك عند تفسير قوله تبارك وتعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(١) أنّه عزّ اسمه كما منّ على عباده بهدايتهم تشريعا وسوقهم إلى الحياة الأبديّة بإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم ، كذلك جعلهم في امتنانه تكوينا حيث ألهمهم المسير إلى نحو كمالهم ، بل إنّ هذه الهداية موجودة في

__________________

(١) الفاتحة : ٦.

٧٣

جميع الموجودات ، فهي تسير نحو كمالها بطبعها أو باختيارها ، والله تعالى هو الذي أودع فيها قوّة الاستكمال ، فترى الفأرة تفرّ من الهرّة ولا تفرّ من الشاة (١).

وبالجملة فلا يخفى عليك أنّ مسألة الإلهام لا ربط لها بالوضع ، بل الحقّ والإنصاف أنّها أجنبية عن تحقّق معنى الوضع بالكليّة والذات ، إذ من البديهيات أنّ الإلهام داخل في الامور التكوينيّة الواقعيّة من دون أن يكون له وجه اختصاص بباب وضع الألفاظ لمعانيها من الأصل والأساس. وإنّما المبحوث عنه هو بيان معنى الوضع بحسب الحقيقة ، سواء كان بإلهام من جانب الله أو لم يكن كذلك.

وقد انتهى كلامنا إلى بيان الأمر الخامس.

وملخّص الكلام في بيان ذلك الأمر عبارة عن استناده فيما التزم به من أنّ الله عزّ اسمه هو الواضع الحكيم بحسب الحقيقة ، وهذا أيضا ليس بتمام ، وعلى فرض تماميّته إنّما يتمّ فيما إذا كان وضع الألفاظ لمعانيها من الامور الدفعيّة في مرّة واحدة وفي زمان واحد.

ولكنّ الحقّ والإنصاف أنّ الأمر يكون على خلاف ذلك بحسب الحقيقة.

بيان ذلك أنّ سعة دائرة الوضع وضيقها تابعة لسعة دائرة الغرض وضيقها ، وتقريب ذلك أنّ من الواضحات غير الخفيّة على كلّ أحد أنّ الغرض من الوضع يتلخّص في التفهيم والتفهّم ، بمعنى أنّه لا غرض في اعتبار وضع الألفاظ لمعانيها إلّا أن يتفاهم بها عند الحاجة من ناحية إبراز المعاني التي تكون مطلوبة للمتكلّم والسامع بها إذا اختلج في ذهنهما في المحاورة بالسهولة ، دفعا لاختلال النظام في عالم العيش وحفظا لمسيرة حياتنا الماديّة والمعنويّة نحو الكمال المطلوب.

__________________

(١) انظر تفسير البيان : ٥٢٧.

٧٤

ومن الظاهر والبديهيّ أنّ كمّية الغرض الداعي إلى وضع الألفاظ لمعانيها تختلف من حيث السعة والضيق بمرور الزمان والعصور في توارد الليالي والأيام.

ومن المسلّم أنّ العصور الاولى كعصر آدم ـ على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ـ كانت الحوائج المبتلى بها في نهاية القلّة ، ولأجل ذلك كانت الحاجة أيضا إلى وضع الألفاظ في نهاية القلّة بإزاء المعاني ، لندرة الحوائج في ذلك الزمان وعدم دعوة الداعي المقتضي للوضع إلى أزيد من ذلك. ولكن مرور العصر والزمان وحدوث الابتلاء بوجود الحوائج الزائدة ـ في مرور الأيّام مرّة بعد اخرى وقرنا بعد قرن في الأزمنة المتمادية ـ صار موجبا لازدياد الحاجة إلى الوضع ، كزماننا هذا.

فعلى هذا التقريب انقدح لك إمكان الوضع لجماعة من أهل اللسان ، كما لا يبعد الإمكان لشخص من أهل المحاورة واللغة على وضع الألفاظ المتكثّرة للمعاني المتعدّدة في مرور العصر والزمان ، إذ سعة الوضع وضيقه تتبع مقدار حاجة الناس في المحاورات إلى البيان والتعبير عن مقاصدهم في مقام التخاطب والتفاهم من حيث السعة والضيق.

فبما أنّ مرور الزمان يؤدّي إلى سعة الحاجة وزيادة الحوائج وكثرتها ، فلا محالة يترتّب عليه ازدياد الوضع بما له من سعة ليندفع به الابتلاء ويسهل قضاء الحاجة عند التخاطب والتفاهم في المحاورات الدارجة المستحدثة لأبناء أهل كلّ عصر ومصر.

فانقدح بذلك التقريب إمكان القيام بالوضع لكلّ أهل المحاورة ، فيصحّ إسناد عمليّة الوضع إلى أهل تلك المحاورة واللغة بلا فرق بين عصر وعصر آخر ، وبلا فرق بين كون الواضع واحدا منهم أو جمع كثير.

وملخّص الكلام في ذلك الميدان ينتهي إلى أمرين لا بدّ لنا من الإشارة إليهما :

٧٥

أمّا الأوّل : فإنّ أهل كلّ محاورة من أهل ذلك اللسان واللغة لا إلزام لهم من حيث الحاجة إلى القيام بوضع جميع الألفاظ بما لها من المعاني التي يدور عليها البيان والإفادة والاستفادة بالنسبة إلى جلّ الألفاظ والمعاني في جميع الأزمنة والدهور من العصور المتمادية ، حتّى يقال : إنّ ذلك ليس في إمكان البشر وأنّه غير قادر على ذلك ؛ بل يمكن الوضع بمقدار الابتلاء بشكل تدريجي في مدار اقتضاء الحاجة في كلّ عصر بحسب دعوة الحاجة إلى التعبير بواسطة الألفاظ عن المعاني عند التخاطب والتفاهم ، وذلك في اقتدار أهل الوضع في نهاية الوضوح والإشراق.

وأمّا الثاني فلا يخفى عليك أنّه لا حاجة لنا بوجه من الوجوه إلى وضع جميع الألفاظ لجميع المعاني ؛ إذ ذلك خارج عن الابتلاء ، فعليه الوضع بأزيد عن مقدار الابتلاء يكون من أظهر مصاديق اللغو.

وقد بقي الكلام في بيان الوجه الثاني وهو عبارة عن أنّ الواضع لو كان واحدا من أبناء البشر لاشتهر ذكره في لسان أهل التواريخ ؛ إذ ذكرنا غير مرّة أنّ مثل ذلك العمل يعتبر من أعظم أعمال البشر وخدماته في ميادين الخدمة والعمل ، فبما أنّ ذلك العمل ممتاز بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عن الإنسان لتوفّر الداعي في نقله ، مع أنّه بقي مسكوتا عنه في التواريخ وفي حدّ النسيان.

فلا يخفى عليك بطلان ذلك ؛ إذ ذلك الإشكال يبقى بحاله إذا كان الواضع شخصا خاصّا من البشر كحضرة إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام أو تعداد جمع مخصوص ، بخلاف ما إذا التزمنا بما مرّ عليك من أنّ الواضع غير منحصر في شخص خاصّ واحد أو جماعة مخصوصين ، بل الحقّ الذي هو غير قابل للإنكار في المقام أنّه إنّما يكون في كيان كلّ مستعمل من أبناء اهل المحاورة واللغة ، وذلك واضح إذا كان الوضع في صورة التدريج ، إذ عند ذلك ينتفي الإشكال في

٧٦

عدم ذكره في التواريخ الماضية ، فلا يبقى مجال للإشكال بعدم الذكر في التواريخ ، فخذ واغتنم.

ومن الشواهد المؤكّدة لما ذكرناه في المقام ما هو المشهور من طريقة الأطفال عند عروض الاحتياج لهم في التعبير عن مقاصدهم المتعلّقة بالمعاني المختصّة بهم فيما بينهم ، إذ أنّهم يتّخذون الألفاظ المخصوصة بهم ويضعونها بإزاء تلك المعاني وهم المتعهّدون بذكرها عند إرادة إبراز ما يختلج في أذهانهم من الأهداف والأغراض في سبيل نيل مقاصدهم العارضة في عالم احتياجاتهم بلا وجدان اختلاف منهم عن هذه الطريقة والحال ، بل إنّ ذلك من الثوابت غير المتغيّرة عنهم حتّى إذا عاشوا في المناطق الخالية من السكنة تكلّموا باللغة التي اتّخذوها لأنفسهم في مجتمعهم في عالم الطفولية لا محالة ، وليس مرادنا من الوضع إلّا مثل هذا التعهّد المسلّم والالتزام ، ولقد أشار إلى ذلك البيان الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم في سورة الرحمن وقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(١).

والحاصل أنّ تلك الآية المباركة وإن كانت تشعر بأنّ الوضع في النهاية ينتهي إليه عزوجل ، لأنّه من عناياته وألطافه وامتنانه على الإنسان ، إلّا أنّ ذلك لبيان أمر آخر لا في بيان الوضع بأنّه هو الواضع الحكيم في وضع الألفاظ لما لها من المعاني.

فلا يخفى عليك في أنّ جميع ما تلونا عليك في دفع الإشكالين المذكورين متّحد في مسلكنا ومسالك الأصحاب من دون وجدان أيّ فرق بينهما في تفسير الوضع وعلقة الوضعيّة ، إذ من الواضحات أنّ تحقّق تدريجيّة الوضع للواضع أو

__________________

(١) الرحمن : ٣ ـ ٤.

٧٧

الواضعين ، وعدم اختصاصه بواضع واحد وشخص خاصّ ، لا تدع محلّا لورود هذا الإشكال المذكور.

هذا تمام الكلام لبيان مسلكنا بخلاف غيره من سائر المسالك.

فالحاصل من جميع ما ذكرناه هنا أمران :

أحدهما : عدم كون الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم في اللغات الدارجة في المحاورة.

وثانيهما : عدم انحصار الواضع في شخص خاصّ واحد أو في أشخاص خاصّين وجماعة معيّنين على مسلك جميع الأصحاب في بيان تفسير الوضع بالحقيقة واليقين.

٧٨

في حقيقة الوضع

وقد انتهى كلامنا في بيان أصل حقيقة الوضع في الجهة الثانية. فلا يخفى عليك أنّ هذه الجهة متضمّنة لتعيين حقيقة الوضع. وفيه بحث وكلام.

واعلم أنّ بعض الأعاظم قدس‌سره (١) ذهب إلى أنّه من الامور الواقعيّة ، ولكن لا بمعنى أنّه ملحق بأحد المقولات ، إذ من الواضحات عدم شمول مقولة الجوهر له ، إذ أنّها منحصرة في خمسة أقسام ، وليس الوضع واحدا منها ، وهي عبارة عن : العقل ، والنفس ، والصورة ، والمادّة ، والجسم. والوضع ليس واحدا منها.

وكذلك الكلام في عدم كونه من المقولات التسع العرضية ، إذ أنّها متقوّمة بوجود الغير في الخارج ، لعدم إمكان وجودها في الخارج والعين إلّا في الموضوع ، إذ محلّ وجودها في الخارج والعين لا بدّ أن يكون هو الموضوع وأنّها إنّما توجد فيه لا غير ؛ إذ وجودها في نفسها وبنفسها عين وجودها لغيرها ، وليس حقيقة الوضع والعلقة الوضعيّة كذلك ؛ لأنّها قائمة بطبيعيّ اللفظ والمعنى ، وقوامها ليس إلّا بهما من دون أن يكون ثبوتهما وتحقّقهما على وجودهما في الخارج.

فلا يخفى عليك أنّ هذا المعنى في نظام الحقيقة من الواضحات ؛ إذ يصحّ وضع اللفظ بإزاء معنى المعدوم بل الأمر المستحيل.

__________________

(١) المراد به ظاهرا هو المحقّق العراقي ، انظر نهاية الأفكار ١ : ٢٥ ـ ٢٦.

٧٩

وأنت ترى ذلك السنخ من الوضع عند وضع لفظ الدور أو التسلسل بإزاء خصوص حصّة مستحيلة منه ، لا بإزاء المعنى الكلّي والجامع بينها وبين غيرها.

فانقدح بذلك البيان أن لو كانت حقيقة الوضع ملحقة بإحدى المقولات لكانت مستحيلة الوجود بدون وجود اللفظ والمعنى الموضوع له ، بل إنّما يكون هو أي الوضع بمعنى الملازمة الخاصّة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له مثل سائر الملازمات الثابتة في الواقع بين الأمرين من الامور التكوينيّة مثل قولنا : «إن كان هذا العدد زوجا فهو منقسم إلى متساويين ، بخلاف ما إذا كان فردا فلا ينقسم بالمتساويين» فالملازمة بين زوجية العدد وانقسامه بالمتساويين ، وبين فرديّته وعدم انقسامه كذلك من الثوابت في الواقع والنفس الأمر أزلا وأبدا.

غاية الأمر أنّ تلك الملازمة ذاتيّة أزليّة ، وهذه الملازمة بين اللفظ الموضوع والمعنى الموضوع له جعليّة واعتباريّة ، لا بمعنى أنّه مقوّم لذاتها وحقيقتها ، بل بمعنى أنّه علّة وسبب لحدوثها ، ولكن بعد الإحداث والحدوث تدخل في سلسلة الامور الواقعيّة ، وجعليّته بهذا الاعتبار غير مناف لاتّصافها بالامور الواقعيّة وتحقّقها في لوح الواقع ونفس الأمر ، وكم له من نظير. وقد حقّقنا في محلّه أنّ هذه الملازمة ليست من سنخ المقولات بوجه من الوجوه كالجواهر والأعراض ، إذ أنّها وإن كانت ثابتة في الواقع في مقابل اعتبار أيّ معتبر وفرض أيّ فارض مثل قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١) ، إذ من البديهيات أنّ الملازمة بين تعدّد الآلهة وفساد العالم ثابتة في الواقع والحقيقة ، إلّا أنّها غير داخلة تحت شيء منها ، إذ سنخ ثبوتها في الخارج ليس من سنخ ثبوت

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

٨٠