دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

المقولات فيه ، وهذا واضح كالشمس في وسط السماء.

هذا تمام الكلام في ذلك المقال.

وبقي الكلام في ردّه وجوابه ، فلا يخفى عليك أنّه قدس‌سره إن كان مراده من وجود الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له وجودها مطلقا لكلّ واحد من الآحاد حتّى الجاهل بالوضع والاعتبار والجعل ، فلا ريب في بطلانه ، بل بطلانه من الواضحات الأظهر من الشمس ولا ينبغي التشكيك فيه من أحد ، إذ من البديهيّات أنّ صحّة هذا المطلب يستلزم أن يكون سماع اللفظ وتصوّره ـ ولو كان من جهة اصطكاك الحجر بالحجر ـ علّة وسببا تامّا لانتقال الذهن إلى معناه ، ويترتّب عليه استحالة الجهل باللغات ، مع أنّ إمكان وقوعه غير قابل للإنكار ، بل إنّ وقوعه من أبده البديهيات لمن كان مطّلعا على وقوع الجهل باللغات من أرباب المحاورات عند سماع الألفاظ إذا لم يكن عارفا لمعناها.

إلّا أن يقال : إنّ مراده لثبوتها الثبوت للعالم بالوضع فقط دون غيره من الجهّال ، فيشكل عليه أنّ الأمر وإن كان كذلك وقريب للتصديق ، بمعنى أنّ هذه الملازمة للعالم بالوضع دون غيره من الجهّال ، ولكن الحقّ أنّ كلامنا مسوق لبيان حقيقة الوضع ، وهذه الملازمة لا ربط لها بحقيقة الوضع ، بل إنّما هي متفرّعة على الوضع وتكون متأخّرة عن الوضع رتبة ، فلا يخفى عليك أنّ محلّ بحثنا هنا حول تعيين الحقيقة التي تترتّب عليها الملازمة بين تصوّر اللفظ والانتقال إلى معناه بعد الاطلاع على الوضع.

وقد انتهى كلامنا إلى بيان مذهب كثير من المحقّقين والأعلام فيما اختاروا من الوضع ، وملخّص كلامهم أنّهم ذهبوا إلى أنّ حقيقة الوضع من الحقائق الاعتباريّة ، أعني أنّ الوضع عندهم حقيقة اعتباريّة ليس إلّا ، لكنّهم وقعوا في اختلاف آخر في كيفيّة تفسير هذه الحقيقة على أقوال :

٨١

القول الأوّل : عبارة عمّا قيل (١) بأنّ الحقيقة ليست إلّا عبارة عن الملازمة بين طبيعي اللفظ بما له من المعنى الموضوع له ، وحقيقة هذه الملازمة متقوّمة باعتبار من بيده الاعتبار وهو الواضع ، كسائر الامور الاعتبارية في الشرعيّات والعرفيّات. ثمّ لا يذهب عليك أنّ الداعي إلى مثل هذا الاعتبار إنّما هو منحصر في قصد التفهيم في مقام التخاطب والتفاهم عند حدوث الحاجة لذلك ، إذ لا يمكن الوصول إليه بدونه.

ولكنّ الحقّ والإنصاف عدم إمكان التصديق والمساعدة عليه ، بتقريب أنّه إن أراد به اعتبارا خارجيّا بمعنى أنّ متصدّي الوضع اعتبر الملازمة بين اللفظ والمعنى في الخارج ، فيشكل عليه أنّ ذلك غير مفيد بوجه من الوجوه إن لم تكن هذه الملازمة في الذهن بينهما ، إذ من الضروريّات أنّه بدونه لا يتحقّق الانتقال نحو المعنى من تصوّر اللفظ عند سماعه ، وعلى فرض وجودها في الذهن في مسير الانتقال فالملازمة الخارجيّة تصبح لغوا محضا ، لعدم الاحتياج إليها ، إذ الغرض قد تحقّق وحصل ، وذلك عبارة عن الانتقال وهو يحصل بهذه الملازمة الذهنيّة سواء تحقّقت الملازمة الخارجية أم لا.

فإذن لا حاجة إلى اعتبار المعنى موجودا في الخارج عند وجود اللفظ فيه ، لأنّه من اللغويّات المسلّمة بلا إشكال.

وإن كان مراده اعتبار الملازمة هنا بتقريب أنّ الواضع اعتبر الملازمة بين اللفظ والمعنى في عالم الذهن ، فيشكل ، إذ لو كان اللحاظ مطلقا فيشمل الجاهل بالوضع ، وإن كان مختصّا بالعالم بالوضع فمسير الأوّل ينسدّ فإنّه لغو محض ، وذلك غير ممكن الصدور عن الواضع العليم الحكيم ؛ إذ لا أثر له بالقياس إلى

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٢٥ ـ ٢٦.

٨٢

الجاهل به ، إذ لا محصّل لهذا الوضع ، إذ الانتقال إلى المعنى بهذا الاعتبار غير مفيد.

وبعبارة أوضح : إنّه بالقياس إلى الجاهل بالوضع يبقى بلا أثر وبلا معنى ، وذلك لأنّ هذا الاعتبار من الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ الموضوع له بلا أثر بالقطع واليقين ، لأنّه إن كان عالما بالوضع فالانتقال من اللفظ إلى معناه غير ممكن الانفكاك بل ذلك ضروري له وغير قابل للجعل والاعتبار ، وإن كان جاهلا فالجعل والاعتبار يبقى بلا ثمرة ، ويصبح لغوا محضا. ولا طريق هنا إلى الثاني ، لقبح تحصيل الحاصل ، إذ لو كان في جريان الوضع وعالما به كان اعتبار الملازمة بالنسبة إليه من سنخ إثبات المثبت بالوجدان بالتعبّد والاعتبار.

وبالجملة لا خفاء في أنّ الملازمة الذهنية أمر تكوينيّ حاصل غير قابل للجعل والاعتبار ، وليست معنى الوضع من الأصل والأساس ، بل هي مترتّبة عليه ، فلا مناص عند ذلك من التعرّض إلى حقيقة الوضع وأنّها ما هي بحسب الواقع الذي تتحمّل هذه الملازمة التي تكون من ثمراته.

القول الثاني : أنّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجودا تنزيليا للموضوع له ، بمعنى أنّه هو هو في عالم الاعتبار عند من بيده الاعتبار وإن لم يكن كذلك في عالم الحقيقة ونفس الأمر (١).

بيان ذلك : أنّ الموجود على قسمين : أحدهما ما له وجود في عالم التكوين والعين كالمقولات الواقعيّة من الجواهر والأعراض ، بخلاف القسم الثاني ، فإنّ له وجودا اعتباريّا جعليّا ، فهو من الموجودات الاعتباريّة ، فلا وجود له إلّا في ظرف الاعتبار ، فيكون من الامور الاعتباريّة من دون أن يكون له وجود

__________________

(١) قاله المحقّق الطوسي قدس‌سره في شرح منطق الإشارات : ٢١ ـ ٢٢.

٨٣

في الخارج ، وذلك مثل الامور الاعتبارية الشرعيّة والعرفيّة من الأحكام التكليفيّة والوضعيّة.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّه قيل : إنّ حقيقة علقة الوضعيّة تدور مدار القسم الثاني ، يعني أنّ الواضع جعل وجود اللفظ وجودا للمعنى في عالم الجعل والاعتبار ، فيكون اللفظ وجودا تنزيليّا له في ذلك العالم لا في عالم الخارج والعين كالتنزيلات الشرعيّة والعرفيّة ، نظير الأحاديث الواردة في طواف الكعبة عنهم عليهم‌السلام بأنّ «الطواف بالبيت صلاة» (١) وإنّما «الفقّاع خمر استصغره الناس» (٢) وأمثالهما من التنزيلات الكثيرة في عالم التنزيل ، ولأجل ذلك يكون نظر المستعمل إلى اللفظ في تلك الموارد آليّا فقط عند الاستعمال ، وإلى المعنى استقلاليّا إذ النظر معطوف إلى المعنى ، بحيث لا يرى في تلك المرحلة إلّا ذات المعنى والمفهوم ، وليس للمستعمل نظر في الواقع ونفس الأمر إلّا إلى الموضوع له دون اللفظ.

وبعبارة اخرى : لا مانع من أن تقول : إنّ الوضع إنّما تحقّق لأجل الاستعمال ، فيكون بحسب الحقيقة مقدّمة للمعنى ، بمعنى أنّه سبب لإيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب عند التفاهم ، فالمستعمل بحسب الحقيقة لا نظر له إلّا إلى المعنى دون اللفظ.

ويرد عليه أوّلا : أنّ تفسير الوضع بهذا المعنى تفسير دقيق بعيد عن الأذهان بالنسبة إلى جلّ المتصدّين للوضع في الألفاظ في الغاية ، بالأخصّ بالنسبة إلى عامّة الواضعين ، وبالأخصّ القاصرين من الواضعين كالأطفال والمجانين الذين قد ترى صدور الوضع عنهم عند عروض الحاجة إليه ، بل يصدر مثل هذا الوضع

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٩ : ٤١٠ ، الباب ٣٨ من أبواب الطواف ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٩٢ ، الباب ٢٨ من أبواب الأطعمة والأشربة ، الحديث ١.

٨٤

من بعض الحيوانات أيضا.

ملخّص الكلام : أنّ حقيقة الوضع حقيقة عرفيّة في المحاورة وأنّها سهلة التناول والمأخذ ، ولا يلحق بها أمثال هذه الدقّة والتحقيق الذي تكون أذهان الخاصّة في غفلة غالبا عنها ، فكيف بأذهان العامّة من الواضعين الغافلين عن مثل هذه التحقيقات والاستعارات الدقيقة المختصّة بطبقة خاصّة من أهل الأدب في المحاورات !

وثانيا : أنّ هذا القائل قد غفل عن الغرض من انتخاب وضع الألفاظ للمعاني ، لأنّ الغرض من الوضع ليس إلّا استعمال اللفظ في المعنى ليدلّ عليه ، وليكون اللفظ دالّا والمستعمل فيه مدلولا عليه بدلالة ذلك اللفظ ليفهم منه ذلك المعنى. وقد عرفت أنّ الدلالة اللفظيّة ليست إلّا بين شيئين أحدهما الدالّ والآخر المدلول ، فإذن اعتبار الوحدة بينهما بأن يكون وجود اللفظ وجودا للمعنى أيضا لغو وعبث ، وصدور ذلك لا يناسب شأن الواضع الحكيم بالقطع واليقين ، فخذ واغتنم.

وأمّا ما ذكره أخيرا ، ففيه أنّ لحاظ اللفظ آلة في مقام الاستعمال لا يستلزم أن يكون كذلك في مقام الوضع ، لأنّ حال واضع الألفاظ أشبه شيء بحال صانع المرآة ومستعملها كمثل مستعملها ، فكما أنّ صانع المرآة في مقام صنعها يلاحظها استقلالا ، وفي مرحلة استعمالها يلاحظها آليّا فكذلك الواضع في وضع الألفاظ ، إذ أنّه في مقام الوضع لا مناص من أن يلاحظ الألفاظ مستقلّا وفي مرحلة الاستعمال يلاحظها آليّا.

القول الثالث : اعلم أنّ بعض مشايخنا المحقّقين قدس‌سره (١) قد التزم بأنّ حقيقة الوضع أمر اعتباري في الألفاظ يدلّ على المعنى كاختصاص الدوالّ نظير العلم

__________________

(١) قاله الآخوند الملّا علي النهاوندي في تشريح الاصول : ٢٥.

٨٥

على رأس الفرسخ ، فتخصيص الواضع ليس إلّا اعتباره الارتباط والاختصاص بين لفظ خاصّ ومعنى مخصوص.

قال رحمه‌الله : وقد لا يكون المعنى المعتبر تسبيبا كاختصاص الوضعي ، إذ من الواضحات أنّه لا حاجة في وجوده إلّا اعتبار من ناحية الواضع ، ومن البديهيّات أنّ اعتبار كلّ معتبر قائم بوجوده بالمباشرة لا بالتسبيب كي يتسبّب إلى اعتبار نفسه بقوله : وضعت أو عيّنت أو جعلت وأمثال ذلك ، فوضع الواضع وتخصيص الصادر عنه ليس إلّا اعتبار الارتباط والاختصاص بين لفظ خاصّ ومعنى مخصوص.

ثمّ إنّه لا شبهة في اتّحاد حيثية دلالة لفظ الموضوع على الموضوع له ومعناه الانتقال بمعنى كونه مشكل الانتقال وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية سائر الدوالّ كمثل الأعلام المنصوبات على رءوس الفراسخ في انتقال الناظر إلى أنّ ذلك المكان والموضع رأس الفرسخ من المسافة المقصودة مع امتياز بينهما ، غاية الأمر أنّ الوضع في الأعلام الموضوعة حقيقيّ وفي وضع الألفاظ اعتباري ، يعني أنّ العلم المنصوب على رأس الفرسخ عيني خارجي من دون أن يكون باعتبار معتبر ، وليس الأمر كذلك في وضع الألفاظ الموضوعة ، إذ اللفظ كأنّه وضع على المعنى ليكون علامة عليه عند المعتبر ، وبذلك البيان انقدح أنّ شأن الواضع إنّما هو اعتبار وضع لفظ خاصّ على معنى مخصوص ، إذ لا يخفى عليك أنّ الاختصاص والارتباط من لوازم الاعتبار والوضع لا عينه ، فبما أنّك وقفت على اتّحاد حيثيّة دلالة اللفظ مع حيثيّة دلالة سائر الدوال فلا يخفى عليك أنّه لا حاجة إلى الالتزام بأنّ حقيقة الوضع إنّما هو تعهّد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى كما التزم بذلك بعض المحقّقين وأجلّة العصر.

وبهذا التقريب الواضح أشرق بيان المطلب في نهاية الشوط أنّ كيفية الدلالة

٨٦

والانتقال في باب وضع الألفاظ وسائر الدوالّ على نهج واحد من حيث الدلالة والانتقال بلا وجود ترديد وإشكال ، وإذا لم تر من ناصب العلم تعهّدا في نصب العلم على رأس الفرسخ من دون ذلك الوضع عليه بداعي الانتقال ، فلك أن ترى ذلك في مبحثنا هذا ، كما لك أن ترى الفرق بين الدلالتين في وضع الأعلام بأنّه حقيقي خارجي ، وفي وضع الألفاظ اعتباري محض يكون قوامه بيد المعتبر (١).

هذا تمام الكلام في بيان ما ذهب إليه في الوضع بعض مشايخنا المحقّقين ، وملخّص كلامه قدس‌سره يتشخّص في امور لا بدّ لنا من التنبيه عليها.

منها : أنّ حقيقة الوضع لا مساس له بالتسبيب ، بل هو أمر مباشريّ قوامه بيد من له الاعتبار بالمباشرة.

ومنها : أنّ الارتباط والاختصاص لا ربط له بحقيقة الوضع بوجه من الوجوه ، بل هما إنّما يكونان من لوازم الوضع.

ومنها : أنّ حقيقة الوضع ليست من وادي التعهّد والالتزام النفساني من الأصل والأساس بوجه من الوجوه ، ولكن من دون أن يشيّده بالبرهان.

ومنها : أنّ حقيقة الوضع بحسب التحليل ليس إلّا من سنخ نصب الأعلام في مكانها المخصوص بلا شكّ وارتياب ، غاية الأمر أنّ الوضع في الأعلام حقيقي خارجي وفي المقام اعتباري جعلي. فلا يذهب عليك أنّ هذا الأمر في الحقيقة نتيجة الامور الثلاثة المتقدّمة ووليدتها ، فإذا وقفت على جميع ما ذكرناه لتوضيح هذا القول بما لا مزيد عليه فلا بدّ من بيان أصل المطلب في حلّ الإشكال.

فنقول وبالله التوفيق : إنّ الأوّل والثاني في نهاية الصحّة والتصديق على جميع تلك المذاهب والمشارب في بيان حقيقة الوضع وتفسيره ، من دون أيّ فرق بين

__________________

(١) إلى هنا انتهى ما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره. نهاية الدراية ١ : ٢٠.

٨٧

مشربنا ومسالك القوم.

وأمّا الكلام في الأمر الثالث فمقرون بالإشكال ، ولا مردّ عنه على ما سيأتي بيانه بحول من الله تعالى وقوّته من أنّ الصحيح الذي هو قابل للتصديق في المقام عبارة من أنّ حقيقة الوضع بحسب الواقع ليست إلّا التعهّد والالتزام النفساني فقط لا غير.

وأمّا الأمر الرابع (وهو أنّ سنخ الوضع مثل سنخ الوضع الواقعي الحقيقي الخارجي) فغير قابل للتصديق. ويرد عليه أوّلا : عين الإيراد الذي أوردناه على القول الثاني ، إذ ذكرنا هناك أنّ تفسير الوضع بتلك الدقّة وذلك المعنى لو فرضنا صحّته في نفسه بحسب الواقع ليس هنا محلّه ، إذ هو تفسير مشكل دقيق لا يناسب أذهان العامّة الواضعين بالقطع واليقين خصوصا القاصرين منهم مثل الأطفال والمجانين ، إذ هم أهل الوضع كما ترى أنت صدور الوضع عنهم كثيرا في جنب الواضعين والمستعملين ، إذ هم غير مدركين لهذا المعنى الدقيق الذي نزّل الوضع منزلة نصب العلم على رأس الفرسخ مع أنّ صدور الوضع منهم غير قابل للإنكار ، والحال أنّهم لا يدركون هذا المعنى الدقيق الذي يختصّ بتعداد معدود من المحقّقين.

وثانيا : أنّ اعتبار وضع الألفاظ ليس من سنخ الأوضاع الحقيقية مثل وضع العلم على رأس الفرسخ ، وذلك من جهة أنّ وضع العلم يتقوّم بثلاثة أركان :

الركن الأوّل : الموضوع ، وهو العلم.

والركن الثاني : عبارة عن الموضوع عليه ، وهو عبارة عن ذلك المكان بما هو مكان خاصّ في حدّ ذاته.

الركن الثالث : وهو عبارة عن الموضوع له ، وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ.

٨٨

وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ ، فإنّه يتقوّم بركنين : الأوّل : الموضوع وهو اللفظ. الثاني : الموضوع له ، وليس هو إلّا الدلالة على معناه من دون أن يكون محتاجا إلى شيء ثالث حتّى يمكن أن يقال : إنّ هذا الثالث يكون هو الموضوع عليه ، وإطلاقه على الموضوع له لو لم يعدّ من الأغلاط الظاهرة فلا ريب في كونه من الامور غير المعهودة في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة في المحاورة ، على أنّ لازم ما أفاده قدس‌سره ليس إلّا كون المعنى هو الموضوع عليه.

وبالجملة حاصل الكلام إلى هنا يتلخّص من حيث أخذ النتيجة في مناهج ثلاثة :

المنهج الأوّل : عدم صحّة الدلالة الذاتيّة ، وأنّها منحصرة في خصوص الوضعيّة فقط.

المنهج الثاني : بطلان تصوّر كون حقيقة الوضع حقيقة واقعية.

المنهج الثالث : عدم صحّة تفسير الوضع بكلّ واحد من التفسيرات المتقدّمة الثلاثة التي تلوناها عليك بالتفصيل الذي لا مزيد عليه.

فالنتيجة ـ على هذا ـ أنّ حقيقة الوضع لا تنفكّ عن التعهّد والالتزام النفساني ، هذا أوّلا. ومن جهة اخرى هي التي ترشدنا إلى ذلك الغرض الذي يكون هو الباعث الداعي إلى الوضع ، ومن الشواهد المستحكمة الدالّة عليه هي الوجدان.

وبالجملة إنّ الرجوع إلى الوجدان والتأمّل فيه أقوى شاهد على ذلك.

وتقريب المطلب إلى التصديق يحتاج إلى بيان ذلك ، فلا يخفى أنّ الإنسان خلق بحسب الحقيقة مدنيّا الطبع ، بمعنى أنّه يحتاج في نظام حياته الماديّة والمعنويّة إلى وسيلة في إبراز مقاصده وأهدافه وأغراضه بها عند التفاهم والتفهيم وقت الحاجة.

٨٩

فبما أنّ ذلك المهمّ الحياتي غير ممكن بخطوط الإشارة وأمثالها بنحو الأحسن ، لعدم كفايتها في بيان المحسوسات حتّى تبلغ النوبة إلى بيان المعقولات بها ، فلا مناص ـ لا محالة ـ إلّا من استخدام الألفاظ في الوصول إلى ذلك المهمّ ، وهو عبارة عن إبراز مقاصده من المحسوسات والمعقولات ، لأنّها كافية في قضاء تلك الحاجة فقط من دون أيّ ريب وترديد. ولأجل ذلك جعل الله تبارك وتعالى هذا المطلب العظيم في عهدة نعمة البيان حيث قال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(١) ، وذلك تفضّل منه تبارك وتعالى على الإنسان إذ خصّ الإنسان مخصوصا بخصوص نعمة البيان.

وبالجملة فقد انتهى كلامنا إلى بيان المختار من الوضع في ألفاظ المحاورة ، وقلنا : إنّ المحصّل من الغرض المترتّب على الوضع ليس إلّا قصد التفهيم والتفهّم وإظهار المقاصد بها عند الحاجة.

فانقدح لك عند ذلك أنّ حقيقة الوضع يتلخّص ويتعيّن في التعهّد والتبنّي النفساني ، إذ الوضع لا ينفك عن قصد التفهيم ، بل قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهّد والالتزام ، على أنّ علقة الوضعية مخصوصة عند ذلك بصورة إرادة الواضع تفهيم المعنى من وضع الألفاظ لا مطلقا. وعلى ضوء هذا التقرير إنّما تختصّ الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقيّة ، حسب ما سنتكلّم في ذلك بالتفصيل من هذه الناحية بحول الله وقوّته.

فإذا علمت ذلك فاعلم أنّ حقيقة الوضع ليس إلّا التعهّد بإبراز المعنى وإظهاره عند حاجة المتكلّم بتفهيمه في لفظ خاصّ عند المحاورة ، بمعنى أنّ المتكلّم إذا تعلّق غرضه ببيان مفهوم خاصّ في عالم المفاهيم له أن يستخدم مظهره لفظا

__________________

(١) الرحمن : ٣ ـ ٤.

٩٠

مخصوصا من بين الألفاظ ليدلّ عليه عند التفاهم والتخاطب ، وتمثيل ذلك ينقدح بذكر مثال في اللغة العربيّة ، وذلك مثل ما إذا التزم كلّ واحد من أفراد العرب عند قصد تفهيم الجسم السيّال الذي يكون باردا بالطبع أن يظهره باتخاذ لفظ «الماء» في كلامه عند التخاطب ، وهكذا إذا تعلّق قصده بتفهيم جسم آخر كالخبز والحديد من الأجسام الجامدة.

فلا يخفى عليك أنّ هذا التعهّد والتبنّي النفساني في إظهار المعنى وإبرازه بلفظ خاصّ عند تعلّق الغرض والقصد بتفهيمه لا يختصّ بلسان دون لسان وبلغة دون لغة ، بل هو مطلق وثابت في أذهان كلّ فرد من أفراد أهل المحاورة واللغة واللسان بالنسبة إلى ألفاظها ومعانيها بنحو القوّة ، ومن الواضحات أنّ محلّ تعلّق هذا التعهّد داخل تحت اختيار المتكلّم ، فيكون أمرا اختياريّا له ، وذلك عبارة عن التكلّم بلفظ عند قصد بيان تفهيم مفهوم خاصّ ، فخذ واغتنم.

واعلم أنّ ذلك من الثوابت في المحاورة واللغة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له بنحو القضية الحقيقية ، نعم في مرحلة الاستعمال يوجد المستعمل فردا من تلك الألفاظ في استعماله ، وشخص آخر يستخدم فردا آخر منه في استعمال آخر ، وهكذا هلمّ جرّا.

وبذلك التقريب الواضح في المقام اندفع إشكال الدور الذي تخيّلوه هنا ، وذلك الدور عبارة من أنّ تعهّد ذكر اللفظ عند بيان قصد تفهيم المعنى متوقّف على العلم بالوضع وأنّ هذا اللفظ قد وضع لهذا المعنى الموضوع له ، ولو فرض أنّ الوضع عبارة عن ذلك التعهّد لدار بلا ريب وإشكال ، فلا يخفى أنّ هذا الإشكال ليس له مجال الورود في المقام.

وتوضيح ذلك الاندفاع يحتاج إلى بيان ، وهو أنّ ما يتوقّف على العلم بالوضع إنّما هو منحصر في خصوص التعهّد الشخصي الفعلي الثابت في مرحلة

٩١

الاستعمال دون التعهّد الكلّي النفساني المتعلّق بذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنى بنحو القضيّة الحقيقيّة ، وقد تلونا عليك أنّ حقيقة الوضع عبارة عن ذلك التعهّد ، ومن البديهيات أنّ ذلك التعهّد غير متوقّف على أيّ شيء ، فانقدح بذلك البيان أنّ منشأ التوهّم عدم امتياز المتوهّم بين التعهّد في مرحلة الاستعمال والتعهّد في مرحلة الوضع ، فلا يخفى أنّ التوقّف إنّما يكون على الثاني دون الأوّل.

وبعبارة أوضح : إنّ كيفيّة حال الألفاظ في المحاورة مثل حال الإشارات الخارجيّة ، إذ ربّما يقصد المشير بالإشارة إبراز المعنى الذي هو متعلّق القصد وأراد المشير تفهيمه وهو من الامور الخفيّة ، ولا يحبّ أن يطّلع الحاضرون في المجلس عليه ، فيبرزه بالإشارة من ناحية اليد أو العين والحاجب أو الرأس ، فكذلك بيان المعاني بتوسّط الألفاظ إذا تكلّم يبرز بها أيضا المعاني التي يقصد تفهيمها عند المفاهمة ، فإذن لا فرق بين الإشارات والألفاظ من هذه الناحية وإن كان بينهما فرق من جهة اخرى ، إذ الإشارة إنّما تكون على سنخ الواحد في جميع المحاورات واللغات والألسنة دون الألفاظ.

وعلى هذا وقفت بأنّ كلّ مستعمل واضع حقيقة ، إذ التعهّد عند كلّ استعمال من كلّ مستعمل فعل اختياري له في مقام الإبراز للمعاني المقصودة له ، فمن المحالات الأوّلية أن يتعهّد شخص آخر تعهّده في ذمّته ، لخروجه عن تحت اقتداره واختياره.

بقي هنا تتمّة في الكلام لا بدّ من التنبيه عليها ، وهي عبارة عن إمكان أن يتكلّف شخص واحد بعنوان الوكيل العامّ من ناحية أمّة وضع لغاتهم من الابتداء لمعانيها فيكون هو الواضع بإزائها بمعنى أنّه يجعلها مستعدّة لإظهار المعاني وإبرازها عند عروض الحاجة إلى قصد التخاطب والتفاهم فى تفهيمها ، ويكون

٩٢

هذا المتعهّد بتلك الخدمة المهمّة ، ثمّ إنّهم تبعوه في ذلك التعهّد الذي صدر منه قبلهم وهم يمشون على خطواته في هذا التعهّد. أو يكون هو المتصدّي تبرّعا لذلك الوضع بلا وكالة منهم أو فضولا ، وجعلوا بناءهم على وفق تعهّده وتبنّيه والتزامه ، وذلك لا ينافي كونهم من الواضعين بذلك التعهّد الجديد في مرحلة الاستعمال حقيقة.

فانقدح لك عدم الفرق بين الطبقات المتقدّمة والمتأخّرة اللاحقة ، نهاية الكلام أنّ الطبقات اللاحقة لاحقون بالسابقة في اتّباعهم تلك الخدمة.

وهم بسبق حائز تفصيلا

مستوجب ثنائي الجميلا

وبالجملة فهم يتعهّدون على نحو تعهّداتهم وتبنّياتهم ، ومن الواضحات أنّ الامّة اللاحقة لهم أوضاع وتعهّدات في استخدام الألفاظ الاخرى الابتدائية في الوصول إلى ما يحتاجون إليه من المعاني التي تكون موردا لابتلائهم عند التفهيم والتخاطب والتفاهم في أعصارهم وأزمانهم الموجودة ، وهكذا الحوادث الآتية.

وقد بقي الكلام في بيان المختار من الوضع ، وكيف ما كان بعد ما بيّنا لك من بطلان الوضع بتلك الوجوه المتقدّمة فلا بدّ لنا من التكلّم في توضيح بيان حقيقة علقة الوضعية ، حتّى يتّضح الحال فيما يكون هو المختار بعون الله المتعال من علقة الوضعيّة في كلّ لغة وفي كلّ لسان من المحاورات الدارجة ومنها اللغة العربيّة.

لا يذهب عليك أنّ الوضع من حيث الحقيقة والواقع لا يصحّ أن يعبّر عنه بنحو خصوصيّة خاصّة وارتباط مخصوص ، بل الاختصاص الحاصل بين اللفظ الموضوع والموضوع له ، كما التزم بذلك المحقّق الخراساني قدس‌سره في الكفاية (١) ،

__________________

(١) كفاية الاصول (طبع مؤسسة آل البيت) : ٩.

٩٣

لأنّ ذلك إنّما يكون من لوازم الوضع المترتّبة عليه بعد تحقّق الوضع وصدوره عن الواضع ، بل إنّما ينتزع ذلك عن انس الذهن بذلك أو عن كثرة الاستعمال بعد تحقّق الوضع ، لا أنّه عبارة عن نفس حقيقة علقة الوضعيّة ، وذلك من الظهور بحدّ لا يحتاج إلى أدنى تأمّل فيه.

ولقد كفاك شاهدا على ما ذكرناه النظر في الأعلام المنصوبة للعلامة على تعيين الفراسخ في الطرق البعيدة ، فإنّه إذا انتقلت بعد النصب إلى غير مكانها المعيّن الذي نصبت أوّلا فيه لدلالتها عليه من المقصود الخاصّ ، المارّ عليها بمناسبة انس الذهن إذا مرّ على المكان الجديد يتبادر إلى ذهنه المكان الأوّل ، مع أنّها قلعت عن مكانها الأوّل ، ونصبت في المكان الجديد بالهزل والعبث ، مع أنّ المارّ عليها يتبادر إلى ذهنه تلك العلامة الخاصّة والمقصود الخاصّ ، كما كان الأمر كذلك في المكان الأوّل الذي نصبت فيه لأجل الدلالة على تلك المسافة الخاصّة.

فالدلالة المتبادرة إلى ذهن المارّ في المكان الثاني غير مربوطة بالعلقة الوضعيّة الأوّليّة ، بل إنّما نشأت من انس الذهن وكثرة المرور بذلك المكان الأوّل وتخيّل أنّ نصبه في هذا المكان الجديد أيضا كان بذلك الاعتبار الأوّلي ، مع أنّ نصبه في المكان الجديد إنّما حدث بالهزل والعبث أو الانحراف في سير العابر والمارّ لأجل غرض السرقة ، من دون أن يكون مربوطا بالعلقة الوضعيّة في شيء بالقطع واليقين.

وإذا علمت ذلك كلّه فانقدح لك أنّ ما أفاده المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره يكون من لوازم علقة الوضعيّة لا عينها بعنوان الحقيقة.

فلنا أن نقول : إنّ ذات وحقيقة علقة الوضعيّة كما هو حقّها يتّضح بالتكلّم في الغرض والغاية التي تكون هي الباعثة والداعية للواضعين على وضع الألفاظ

٩٤

والأسماء للمعاني والمسمّيات على نحو التعيين أو التعيّن ، كما سنتكلّم في أقسامه عن قريب.

ولا يخفى عليك أنّ الغاية والغرض الداعي الذي يجرّ الواضع ويبعثه نحو وضع الألفاظ والأسماء للمسمّيات والمعاني إنّما يكون عبارة عن الإفهام والتفهيم والتفهّم في مقام التخاطب ، وإبراز ما في الضمير عند التعلّق بالأشياء التي تكون مورد احتياجه في السماوات والأرضين من الأجرام والنجوم والشمس والقمر والجبال والحجر والمدر والمياه والأنهار والبحار ، ومن الحيوانات من الأنعام والأغنام والطيور ، وكلّ ما يكون مورد احتياجه من المأكولات والملبوسات والمشروبات ، بل كلّ ما يكون دخيلا في حوائجه في بعد المادّية والمعنويّة من المحسوسات والمعقولات ، وهكذا لوازم الصناعات القديمة والجديدة من المركوبات الجوّية والأرضيّة والبحريّة ، والمكائن الزراعيّة القديمة والحديثة ، وكلّ ذلك يكون مورد احتياج المجتمع حسب ما له من الاقتضاء في سعة المجتمع وضيقه.

وبالجملة ، فلا بدّ للإنسان عند بيان مقصوده ـ عند الحاجة إلى تلك الأشياء المتقدّمة ـ من وسيلة بيان تبيّن تلك الأغراض والمقاصد عند اقتضاء الحاجة إلى التفهيم والتفهّم في مقام التخاطب ، وتلك الطريق والأمارة والوسيلة منحصرة في وضع الألفاظ والأسماء لتلك المعاني المتقدّمة ؛ لأنّه يكون هو المنظر التامّ والكافي بالنسبة إلى جميع المحسوسات والمعقولات الدخيلة في كيان تنظيم المعاد والمعاش ، بلا فرق بين أن يكون المخاطب هو البصير أو الأعمى ، من أهل أيّ لغة ولسان بأقصر وقت وزمان وأسهل وجه من حيث الفصاحة والبلاغة من دون أيّ مشكلة يمكن أن يتصوّر أن تكون هو المانع في ذلك الميدان ، بخلاف الإيماء والإشارة ، فإنّهما مع كونهما من أصعب طرق البيان عند إبراز المقاصد

٩٥

فإنّهما مستحيلتا الجريان في غير المحسوسات ، بل فيها بالنسبة إلى من يكون فاقد الحواسّ الخمس ، لا سيّما لمن يكون من الناس مبتلى بفقدان البصر ، أو عرض عليه العمى ، فإنّ الإفهام بالإشارة غير ممكن في حقّه.

وبالجملة ، فإنّ الإشارة والإيماء مع ما فيهما من الصعوبة والإشكال إنّما يمكن أن يتوسّل بهما في مقام التفهيم والتخاطب عند قضاء الحاجة في بيان الأغراض والمقاصد في خصوص الامور المحسوسة فيما إذا كان طرف المقابل واجدا للقوى الخمس ، لا سيّما القوّة الباصرة. وأمّا الامور المعقولة غير المحسوسة بالحواسّ الخمس من الذائقة واللامسة والسامعة والباصرة التي لا يمكن إدراكها بغير الألفاظ ، وهي من الامور المهمّة الدخيلة في النظام الأحسن ، كيف يمكن بيانها وتفهيمها بالإشارة والإيماء ؟

فإذن لا يمكن أن يبلغ الإنسان في كلّ محاورة ولسان إلى أغراضه ومقاصده في وجه سهل وتامّ إلّا عن طريق وضع الألفاظ للمعاني بالتعهّد والالتزام ، فيكون الواضع هو المتعهّد والملتزم لاعتبار الألفاظ مبرزة لبيان المعاني التي تعلّق بها غرض المتكلّم في مقام التخاطب ، لضرورة احتياجه إليها في مختلف المقامات بحسب دخالتها في تأمين إمرار معاشهم من الجهة المادّية والمعنوية ، والوصول إلى مقاصدهم في مختلف المقامات من المأكولات والمشروبات والملبوسات ، وغيرها من سائر الامور الاقتصادية والانتظامية والعسكرية والسياسية ، طبق مراتب اختلاف البلاد والاجتماعات من حيث السعة والضيق والقلّة والكثرة ، من القرون الاولى والوسطى إلى آخر منتهى الدنيا مع كثرة الأغراض وقلّتها.

فإذا عرفت ما ذكرناه في بيان العلّة والغرض الذي يكون هو الباعث والمنادي بلزوم تعيين وسيلة وآلة وطريق لإبراز تلك المعاني وإفهامها وإيصال الناس إليها في مقام المكاشفة والدلالة والتخاطب ، فانقدح لك أنّ أحسن طريق كاف في

٩٦

ذلك الميدان هو البيان في شعاع التعهّد والالتزام بالتصدّي لوضع الألفاظ للمعاني بلحاظ الإفهام ، من دون أيّ فرق بين أيّ لغة ولسان ، دون الإيماء والإشارة اللذين يمكن أن يتمسّك بهما بعض الناس عند فقد اللسان من باب الضرورة بالنسبة إلى بعض المحسوسات.

فتحصّل أنّه عند احتياج الناس إلى بيان مقاصدهم في الارتباط إلى ما يحتاجون من المعاني الدخيلة في إدامة حياتهم المادّية والمعنويّة وأخذ أغراضهم منها ، ليس هناك طريق أحسن وأرشد وأدلّ في كمال الإيجاز غير المخلّ والإطناب غير المملّ وفي نهاية الفصاحة والبلاغة من نغمة وضع الألفاظ لغرض البيان ، فالإنسان بهذا الجناح الكافي في مقام بيان مقاصده ـ مع ما لها من الكثرة والقلّة ـ يظفر بتلك المهمّات وليس إلّا ، كما لا يخفى.

ولأجل ذلك جعل الله تعالى الإنسان مكرّما بهذه المكرمة من بين سائر خلق الله تعالى ، فيكون الإنسان ذا جناحين ، لاقتداره على بيان مقاصده بالتكلّم بالألفاظ ، وبالإشارة والإيماء بالنسبة إلى بعض مقاصده ، التي يكون الإنسان في هذه الخصوصيّة مشتركا مع سائر الحيوانات. وبما أنّ حوائجه تكون في نهاية الكثرة أكرمه الله تعالى بتعليم نغمة البيان أيضا ، فصار واجدا لكلّ من الخصلتين من العموميّ والخصوصيّ من الإشارة والبيان ببركة وتفضّل من الخالق الرحمن.

فصار المتحصّل من مجموع ما ذكرناه في مقام بيان الغرض من الوضع ـ بأنّه عبارة عن قصد إبراز وإفهام المقاصد بالألفاظ الموضوعة لأجل التفهيم ـ أنّ حقيقة علقة الوضعيّة عبارة بحسب الواقع عن التعهّد والتبنّي والالتزام النفس الأمري الموجودة في وجدان الواضع لانتخاب الألفاظ على إبراز المعاني بمقصد التفهيم والتفهّم عند التخاطب للوصول إلى ما يسدّ به احتياج المتكلّم بها ، فيكون قصد التفهيم لازما ذاتيّا للوضع الذي ليس إلّا بمعنى التعهّد ، فتصير دائرة

٩٧

علقة الوضعيّة عند ذلك مضيّقة ومختصّة بصورة إرادة تفهيم المعنى لا بنحو الإطلاق ، فلا جرم تختصّ دلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقيّة حسب ما يأتي الكلام في بيان ذلك مفصّلا بعون الله الملك المتعال.

فقد ظهر لك وبان عند ذلك بأنّ حقيقة علقة الوضعيّة ليس إلّا التعهّد بإفهام المعنى الذي أبرزه المتكلّم في جهة مقصده من حيث التفهيم والتفهّم بلفظ من الألفاظ الموضوعة لذلك المقصد ، فتمام أفراد البشر من أهل أيّ لسان ومحاورة ولغة لا بدّ من أن يكونوا متعهّدين في أنفسهم ـ متى ما أرادوا أن يبيّنوا تفهيم معنى خاصّ من المعاني التي يحتاجونها في نظام معادهم ومعاشهم ـ أن يختاروا أو يجعلوا كاشفه ومبرزه لفظا مخصوصا ، فمن باب المثال أنّ كلّ واحد من أفراد المحاورة من كلّ لغة كأفراد العرب مثلا ملتزم ومتعهّد بأنّه متى ما قصد تفهيم جسم ثقيل بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ «الحجر» ، وهكذا إذا أراد تفهيم جسم سيّال بارد بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ «الماء». فيكون الأمر كذلك بالنسبة إلى بقيّة المعاني والألفاظ الاخرى.

وملخّص الكلام : لا يذهب عليك أنّ هذا التعهّد والتبنّي النفساني بإبراز معنى خاصّ بلفظ مخصوص عند تعلّق القصد بتفهيمه ثابت في وجدان وأذهان أهل كلّ لغة عند التوجّه إلى ألفاظها ومعانيها بنحو الفطرة والقوّة ، كما أشارت إليها الآية الشريفة : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(١) وأنّ متعلّقه إنّما يكون أمرا اختياريا ، وهو عبارة عن التكلّم بكلمة مخصوصة عند قصد تفهيم ذاك المعنى الخاصّ.

وبالجملة ، إنّ هذه القوّة بذلك التعهّد إنّما تكون مسلّمة وثابتة لا مطلقا ، بل بين طبيعيّ الألفاظ والمعاني الموضوعة لها على نحو القضيّة الحقيقية بالعنوان الكلّي

__________________

(١) الرحمن : ٤.

٩٨

في مقام التعهّد ، إلّا أنّه عند الاستعمال يختار المستعمل فردا منها في استعمال ، وفردا آخر منها عند استعمال آخر ، وثالث ورابع ، إلى ما لا نهاية له في اللغة والمحاورة.

فإذن لا يبقى مع هذا التقريب مجال لورود إشكال الدور بتوهّم أنّ تعهّد ذكر اللفظ حين قصد إفهام المعنى متوقّف على العلم بأنّ هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى ، فلو فرض أنّ هذا الوضع والتعهّد عبارة عن ذلك الالتزام ونفس ذاك التعهّد المتقدّم لدار.

وبيان عدم ورود إشكال الدور يتّضح بالمقايسة إلى انطباق كلّي الطبيعي على الأفراد ، إذ استعماله في الفرد متوقّف على أن يكون الفرد مصداقا له ، وأمّا الكلّي فلا يتوقّف على العلم بالأفراد عند الاستعمال في الطبيعي على نحو القضيّة الحقيقية. وكم من فرق بين التعهّد الشخصي الخارجي الثابت في مرحلة الاستعمال ، وبين التعهّد الكلّي النفساني الذي تعلّق بذكر طبيعي اللفظ في مقام الكشف عن طبيعيّ المعنى الكلّي بنحو القضيّة الحقيقيّة.

وقد أوضحنا لك ـ بما لا مزيد عليه ـ أنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهّد الثبوتي النفساني الثابت بين طبيعيّ اللفظ والمعنى الموضوع له على نحو القضيّة الحقيقيّة. ولعمري كم من فرق بين التعهّد في مرحلة الاستعمال والتعهّد في مرحلة الوضع ؛ إذ الأوّل متوقّف على الثاني دون العكس.

فيكون ما نحن فيه من قبيل الإشارات الخارجيّة في موارد خاصّة عند قصد إخفاء أمر عن بعض الحضّار في المجلس عند تصديق شخص آخر ، وتبيين ذلك المقصود بوسيلة الإشارة باليد مرّة وبالعين اخرى ، فيكون الأمر في الألفاظ كذلك ، بل لا فرق بين الإشارات وبين البيان مع الألفاظ من هذه الجهة. نعم بينهما فرق من ناحية أنّ الإشارة تكون على سنخ واحد في جميع الموارد من اللغات

٩٩

والمحاورات ، بخلاف البيان بوسيلة الألفاظ ، فإنّها أشتات مختلفات.

فانقدح بما ذكرناه في بيان مسلك المختار في الكشف عن حقيقة علقة الوضعيّة أنّها متعيّنة في التعهّد والتبنّي النفساني ، حيث إنّ كلّ مستعمل واضع وبالعكس بعنوان الحقيقة ، إذ التعهّد بالنسبة إلى كلّ شخص إنّما يكون فعلا اختياريا له ، ولا يجوز ولا يمكن أن يتعهّد شخص تعهّدا في ذمّته خارجا عن حيطة اختياره وقدرته. هذا.

ولكن يمكن أن يكون شخص واحد قائما بذلك التعهّد من باب الوكالة عنهم في تعيين ألفاظ لغاتهم من بدء الأمر لمعانيها ، فيكون هو المتصدّي لوضعها بإزائها ، أي بمعنى جعلها بعنوان المقدّمة المستعدّة من باب الخدمة لهم ليكونوا في أسهل تمكّن لإبرازها عند بروز الحاجة إلى قصد تفهيمها ، ويكون هو المتكفّل لذلك. وإنّما طبّق الناس وأبناء المحاورة تعهّداتهم في مقام التخاطب على طبق تعهّدات هذا الوكيل ، ويمكن ذلك من دون الاحتياج إلى التوكيل من قبلهم ، كما فعل ذلك أرباب كتب اللغة لو فرضنا أنّ ذلك كان بعنوان التعهّد لا بعنوان جمع الألفاظ واللغات المتعهّد عليها في ألسنة الامم الماضية ، وهم بعد ذلك صاروا من المتعهّدين له حذو النعل بالنعل كأنّهم هو هو في حمل الواضع عليهم بعنوان الحقيقة.

فعليك بالتأمّل في ذلك فإنّه لا فرق بين الطبقات الماضية والموجودين الذين ما كانوا متعهّدين ذلك التعهّد بالنسبة إلى اللغات القديمة إلّا بالمتابعة في التعهّدات للطبقات الماضية ، كما أنّ الطبقات اللاحقة ربما يحتاجون إلى تعهّدات جديدة عند حدوث المعاني الحديثة الكثيرة كعصرنا هذا ، وهكذا بالنسبة إلى العصور القادمة. وقد تقدّم آنفا بأنّ الوضع إنّما يكون تدريجيّ الحصول يتزايد بتزايد الحاجات في امتداد القرون.

١٠٠