دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

التي لا يكون المبدأ فيها وصفا للذات ، كأسماء الأزمنة والأمكنة وأسماء الآلة ، فإنّ اتّحاد المبدأ فيها مع الذات خارج عن عهدة التعقّل ، إذ من الضروري عدم إمكان تعقّل اتّحاد الفتح مع المفتاح المتّخذ من الحديد أو الخشب ، والقتل مع الزمان أو المكان الذي وقع فيه ذلك المبدأ ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأمثلة التي تكون من هذا القبيل.

وبالجملة ، مع التسليم باتّحاد الوصف مع موصوفه في الوعاء المناسب له من الذهن أو الخارج بلحاظ أنّ وصف الشيء طور من أطواره وشأن من شئونه وشئون الشيء لا تغايره ولا تباينه ، فلا نسلّم اتّحاد الوصف مع زمانه ومكانه وآلاته ، وأمثال ذلك من إضافاته وملابساته ؛ إذ بعيد عن التعقّل أن يقال : إنّ المبدأ إذا اخذ لا بشرط يتّحد مع زمانه أو مكانه وآلاته ، فإنّ وجود العرض إنّما يكون وجودا لموضوعه ، لا لزمانه ومكانه وآلاته. فلا جرم إذن لا مناص للقائل ببساطة مفهوم المشتقّ أن يلتزم بالتركيب في هذه الموارد ، مع أنّه غير خفي على المتأمّل أنّ ذلك هو التفكيك والتفصيل من قبل الواضع حين وضع المشتقّات حسب ما لها من المواد ، وبطلان ذلك الالتزام بلغ إلى حدّ تضحك به الثكلى بالجزم واليقين ، إذ أنّ وضعها ليس إلّا بنسق واحد في الأدب والمحاورة من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء عليهما الصلاة والسلام من دون أن يوجد قول بالتفصيل من أحد من القديم والجديد.

ومن ذلك كلّه نستنتج أمرين في المقام :

الأوّل : بطلان ما استدلّوا به على البساطة من الوجوه المتقدّمة ، وعدم تماميّتها لإثبات دعواهم.

والثاني : عدم إمكان إثبات صحّة الحمل على البساطة أصلا وأبدا بوجه من الوجوه ، فانقدح لك أنّ هذا بنفسه برهان ودليل يقيني بالعلم القطعي على بطلان

٥٨١

هذا المسلك ، وعلى صحّة التركيب بالوضوح والإشراق.

ومع ذلك كلّه لنا دليلان آخران في المقام يدلّان على التركيب في مفهوم المشتقّ مضافا على ما تقدّم.

الأوّل : أنّه يكون هو المطابق للوجدان والعرف واللغة والمحاورة بالتبادر من إطلاق المشتقّ عند الاستعمال في المتفاهمات العرفية ، فبالوجدان السليم نجد أنّ المتصوّر المتمثّل من إطلاق كلمة (قائم) وأمثالها بالتبادر في الذهن ليس إلّا ذات متلبّس بالقيام ، دون المبدأ المنحصر وحده فقط ، والمنكر لذلك لعلّه ينكر وجدانه ، فهو يكون كمن ينكر الواضحات الأوّلية ، إذ هذا الذي ذكرناه في المقام من المتفاهم عند العرف من إطلاق هيئة كلمة (قائم) لعلّه يكون من البديهيّات والواضحات الأوّلية عند الاستظهار من أهله.

والثاني : أنّنا لو أغمضنا عن تلك الأدلّة المتقدّمة القطعيّة ، وسلّمنا صحّة حمل المشتقّ على الذات باعتبار اللابشرطية ، ولكن لا يمكن تصحيح الحمل في مثل حمل المشتقّ على مشتقّ آخر كقولنا : «الكاتب متحرّك الأصابع» أو «كلّ متعجّب ضاحك» فإنّ المشتقّ لو كان عين المبدأ فما هو الموضوع ؟ وما هو المحمول في أمثال هذه القضايا ؟

ولا مجال لأن يقال : إنّ الموضوع في أمثال هذه الموارد يكون هو نفس تحرّك الأصابع أو نفس الضحك ، لأنّهما متباينان ذاتا ووجودا ، فكيف يمكن حمل أحدهما على الآخر ، لمكان اعتبار الاتّحاد من ناحية صحّة الحمل كما عرفت ، وبدونه فلا حمل.

وكذا لا يمكن أن يقال : إنّ الكتابة أو التعجّب مع النسبة موضوع ، ونفس تحرّك الأصابع أو الضحك محمول بعين الملاك المزبور ، وهو المباينة بينهما وجودا وذاتا ، على أنّ النسبة أيضا خارجة عن مفهوم المشتقّ على القول

٥٨٢

بالبساطة. إذن لا مناص لك ولنا من الالتزام بأخذ الذات في المشتقّ ليصحّ الحمل في هذه الموارد. وهذا كالنار على المنار بنفسه برهان قاطع على التركيب.

ما هي النسبة بين المبدأ والذات ؟

لا يخفى عليك أنّ المبدأ قد يكون مغايرا للذات ، كما في قول القائل : «زيد ضارب» مثلا. واخرى يكون عين الذات ، وذلك مثل الصفات العليا والأسماء الحسنى في الله تبارك وتعالى ، كقولنا : «الله تبارك وتعالى قادر وعالم» فهذا الحمل كيفيّته يحتاج إلى التوضيح ، لأنّ قدرته تكون عين ذاته ، بخلاف مثل حمل المشتقّ وإطلاقه وجريه على الذات ، فإنّه صحيح بلا إشكال ، ففي مثل الأوّل صحّة إطلاق المشتقّ على الذات يكون بلا مانع ولا إشكال ، ومحلّ الكلام والخلاف يكون هو الثاني بأنّه هل يصحّ إطلاقه على الذات مع أنّه يكون عين الذات ، أم ليس بصحيح ، فإذن هذا القسم هو مورد النزاع من ناحيتين :

الاولى : اعتبار التغاير بن المبدأ والذات ، ولا يذهب عليك أنّ ذلك لا يتمّ في صفاته تعالى الجارية عليه ، إذ المبدأ فيها متّحد مع الذات ، بل الحقّ أنّه هو يكون عين الذات خارجا ومصداقا ؛ ولأجل ذلك ذهب صاحب الفصول قدس‌سره بالنقل في صفاته تعالى عن مفاهيمها اللغوية (١).

والثانية : اعتبار تلبّس الذات بالمبدإ وقيامه بها بنحو من أنحاء القيام ، فلا يخفى عليك أنّ هذا البيان في حدّ ذاته يقتضي التعدّد والاثنينية ، ومن المعلوم أنّ هذه الجهة في اللبّ والأصل بحسب الحقيقة متفرّعة على الجهة الاولى وهي

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢.

٥٨٣

عبارة عن اعتبار المغايرة بين المبدأ والذات ، فإنّه بعد الفراغ عن اعتبارها يقع الكلام في الجهة الثانية وأنّ ما كان المبدأ فيه متّحدا مع الذات بل عينها خارجا ، كيف يعقل قيامه بالذات وتلبّس الذات به ؟ لأنّه من قيام الشيء بنفسه وهو محال ، إذ تعقّل التلبّس على نحو المتعارف في الممكنات من حيث القيام غير ممكن في صفاته عزوجل.

فلا بدّ لنا قبل البحث عن هذين الجهتين من تحرير محلّ النزاع في صفاته تبارك وتعالى ، في ضمن بيان مقدّمة مفصّلة تكون منشأ التفصيل في بيان صفات الذات وغيرها من صفات الأفعال.

واعلم أنّ هذه المقدّمة عبارة عن أنّ الصفات الجارية على الله عزوجل على شكلين :

أحدهما : صفاته الذاتية ، وهي التي يكون المبدأ فيها عين الذات : كالعالم والقادر والحيّ والسميع والبصير ، وقد ذكرنا في بحث التفسير أنّ رجوع الأخيرين يكون إلى العلم أيضا ، إذ أنّهما علم خاصّ وهو العلم بالمسموعات والمبصرات (١).

وثانيهما : صفاته الفعليّة ، وهي التي يكون المبدأ فيها مغايرا للذات : كالخالق والرازق والمتكلّم والمريد والرحيم والكريم ، وما شاكل ذلك ، فإنّ المبدأ فيها ـ وهو الخلق أو الرزق أو نحوه ـ مغاير لذاته تعالى.

فإذا علمت ذلك فانقدح لك أنّ ما ذكره المحقّق صاحب الكفاية لا يخلو من الخلط بين صفات الذات وصفات الأفعال ، إذ عدّ قدس‌سره الرحيم من صفات الذات مع أنّه يكون من صفات الفعل (٢).

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن : ٤٣٢.

(٢) كفاية الاصول : ٧٦.

٥٨٤

وعلى كلّ حال ، فبهذه المقدّمة اتّضح لك هذا الخلط الصادر منه في المقام. فإذن نقول : إنّ صاحب الفصول قدس‌سره ذهب بالنسبة إلى الصفات العليا والأسماء الحسنى الجارية على الله عزوجل إلى النقل والتجوّز من ناحيتين :

الاولى : من جهة عدم المغايرة بين مباديها والذات.

والثانية : من ناحية عدم قيامها بذاته المقدّسة وتلبّسها بها لمكان العينيّة بينها وبين ذاته تعالى (١).

وقد بقي الكلام في جواب صاحب الكفاية وشيخنا الاستاذ قدس‌سرهما (٢).

وجوابهما يتلخّص في أنّ المبدأ في الصفات العليا له عزوجل وإن كان عين ذاته المقدّسة ، إلّا أنّ الاتّحاد والعينيّة إنّما تكون في وعاء الخارج والوجود ، لا في عالم المفهوم واللحاظ والتصوّر ، فالمغايرة في المفهوم تكفي في صحّة الحمل في المحاورة بعنوان الحقيقة دون المجاز ، فإنّ مفهوم المبدأ كالعلم أو القدرة مغاير لمفهوم ذاته عزوجل ، إذ الوجدان يشخّص أنّ مفهوم العلم مغاير لمفهوم كلمة (الله) التي هي من الأسماء التوقيفية لذاته المقدّسة من حيث المفهوم بالقطع واليقين ، وهذا المقدار من الغيريّة ولو بلحاظ المفهوم يكفي في خروج الحمل عن حمل شيء على نفسه وذاته ، ويكون مصحّحا للحلّ والجري.

فبذلك التقريب من التغاير المفهومي يخرج الحمل عن محذور حمل الشيء على نفسه ، ولا نحتاج إلى التمسّك بالمجاز والنقل الذي التزم به صاحب الفصول ، فإذن لا يبقى مجال للالتزام بالتجوّز في حمل صفات الذات عليه تبارك وتعالى ، إذ من البديهي الوجداني أنّ مباديها ـ كما سبق آنفا ـ مغايرة للذات من

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٧٤ ، وأجود التقريرات ١ : ٨٤.

٥٨٥

حيث المفهوم.

على أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره أورد ثانيا بعين ما أورد في الكفاية على الجهة الثانية ، وهو أنّ الالتزام بالنقل والتجوّز في الصفات يستلزم تعطيل العقول عن فهم الأوراد والأذكار بالكلّية ، ويكون التكلّم بها مجرّد لقلقة لسان بلا حاصل.

وأورد في الكفاية على الجهة الثانية ، وملخّص إيراده ـ على الجهة الثانية التي هي عبارة عن أنّ اعتبار التلبّس والقيام يقتضي الاثنينيّة والتعدّد ـ أنّه لا مانع من تلبّس ذاته تعالى بمبادئ صفاته العليا ، فإنّ التلبّس على أشكال مختلفة ، تارة يكون التلبّس والقيام بنحو الصدور ، واخرى بنحو الوقوع ، وثالثا بنحو الحلول ، ورابعا بنحو الانتزاع كما في الاعتبار والإضافات ، وخامسا بنحو الاتّحاد والعينية ، كما في قيام صفاته العليا بذاته المقدّسة ، فإنّ مباديها عين ذاته المقدّسة. وهذا أرقى وأعلى مراتب القيام والتلبّس وإن كان خارجا عن الفهم العرفي (١).

وقد بيّنا غير مرّة أنّ أنظار العرف لا تكون متّبعة إلّا في موارد تعيين مفاهيم الألفاظ من حيث السعة والضيق ، والمعتمد في تطبيقات المفاهيم على مواردها ليس إلّا النظر العقلي ، فإذا كان هذا تلبّسا وقياما بنظر العقل ـ بل كان من أتمّ موارده ومراتبه ـ لم يضرّ عدم إدراك أهل العرف ذلك.

وبهذا التقريب انقدح أنّه لا وجه لما التزم به في الفصول من النقل في الصفات الجارية عليه عزوجل عمّا هي عليه من المعنى ، وكيف كان فإنّ هذه الصفات إن كانت بغير ما لها من معانيها جارية على ذاته المقدّسة فمن الواضحات الأوّلية أنّه إمّا أن تكون مجرّد لقلقة اللسان وتلفّظا بألفاظ مهملة ، فإنّ غير هذه المفاهيم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٧.

٥٨٦

العامّة غير معلوم لنا ، إلّا ما يقابل هذه المعاني العامّة ويضادّها ، ومن البديهي الواضح أنّ إرادته منها غير ممكن.

فلا يذهب عليك أنّ أداء حقّ المطلب لمن يكون طالب الحقيقة يقتضي التحقيق في مقامات ثلاثة :

الاولى : في اعتبار المغايرة بين المبدأ والذات في المشتقّات بالذات والحقيقة ، أو لا بل تكفي المغايرة اعتبارا أيضا.

الثانية : في لزوم صحّة قيام المبدأ بالذات فيما إذا كانا متّحدين خارجا.

الثالثة : أنّه على تقدير الالتزام بالنقل في صفاته العليا ، هل يلزم أحد المحذورين المتقدّمين أو لا ؟

أمّا الكلام في الجهة الاولى : فقد سبق أنّه يعتبر في صحّة حمل الشيء على الشيء التغاير بينهما من ناحية ، والاتّحاد من ناحية اخرى ، وأمّا بين الذات المبدأ فلا دليل على اعتبار المغايرة حتّى مفهوما ، فضلا عن كونها حقيقة ، بل قد يكون مفهوم المبدأ بعينه هو مفهوم الذات ، وبالعكس كما في حمل قضية الوجود فهو موجود والضوء مضيء وهكذا ، إذ من البديهي أنّ المبدأ في الموجود هو الوجود ، وفي المضيء هو الضوء والضياء ، من دون أن يكون بينهما تغاير بين المبدأ والذات بوجه من الوجوه حتّى مفهوما.

والمتلخّص أنّ المبدأ قد يكون عين الذات خارجا وإدراكا ، بل إطلاق العنوان الاشتقاقي عليها حينئذ أولى من إطلاقه على غيره ، وإن كان خارجا عن الفهم العرفي ، فمن باب المثال : إطلاق الموجود على الوجود أولى من إطلاقه على غيره ، لأنّه موجود بالذات وغيره موجود بالعرض.

وعلى هذا الضوء لا مانع من إطلاق صفاته العليا عليه تعالى حقيقة ، وإن كانت مباديها عين ذاته الأقدس.

٥٨٧

وقد انتهى كلامنا في بيان الجهة الثانية : فإذن لا بدّ لنا من بيان المراد من التلبّس والقيام ، فاعلم أنّ المراد من التلبّس والقيام ليس قيام العرض بمعروضه وتلبّسه به ، وإلّا لكان البحث عن ذلك مختصّا بالمشتقّات التي تكون مباديها من المقولات التسع ، من دون أن يشمل البحث لما كان المبدأ فيه من الامور الاعتباريّة أو الانتزاعيّة بالقطع واليقين مع أنّ الأمر ليس كذلك ، بل البحث يشملهما ، لأنّ البحث عنه عامّ.

بل المراد منه واجديّة الذات للمبدا في مقابل فقدانها له ، ومن البديهي الواضح أنّها تختلف بحسب اختلاف الموارد.

فإذن الشيء تارة يكون واجدا لما هو مغاير له وجودا ومفهوما ، كما هو الحال في غالب المشتقّات.

واخرى يكون واجدا لما هو متّحد معه خارجا وعينه مصداقا وإن كان يغايره مفهوما ، كواجدية ذات الله تبارك وتعالى لجميع صفاته الذاتيّة الثبوتيّة اللازمة له ، وأنّها تكون عين ذاته المقدّسة.

وثالثة يكون واجدا لما يتّحد معه مفهوما ومصداقا ، وهو عبارة عن واجديّة الشيء لنفسه ، ومن البديهي الواضح أنّ هذا السنخ من الواجدية ملموس جدّا ، بل إنّما هي أتمّ وأشدّ من واجديّة الشيء لغيره ، فالوجود أولى بأن يصدق عليه الموجود من غيره ، إذ من الضروري أنّ واجدية الشيء لنفسه ضروريّة.

وبالجملة ، فإنّ المراد من التلبّس الواجديّة ، وهي كما تصدق على واجديّة الشيء لغيره ، كذلك تصدق على واجدية الشيء لنفسه ، ومن هذا القبيل واجديّة الله تعالى لصفاته الكماليّة وإن كانت الواجدية بهذا المعنى خارجة عن المتفاهمات العرفية ، إلّا أنّ ذلك غير مضرّ بعد الصدق بنظر العقل ، وعلى كلّ حال فلا أصل لإشكال استحالة تلبّس الشيء بنفسه.

٥٨٨

وقد بقي الكلام في بيان الجهة الثالثة : فلا بدّ لنا من التعرّض لها ليتّضح المراد منها ـ وهي عبارة عن استلزام النقل تعطيل العقول عن فهم الأدعية والمناجاة والتوسّلات بالأوراد والأذكار التي وردت في جوامع الدعوات من الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام بل في آيات من القرآن الكريم ـ فمن الظاهر أنّه لا يتمّ في محلّ الكلام هاهنا بالقطع واليقين وإن كان تماما في مقام إثبات أنّ مفهوم الوجود واحد مشترك معنوي بين الواجب والممكن ، كما ذكر السبزواري في شرح المنظومة (١) وغيره.

ولكنّه غير تامّ في مثل مقامنا هذا ، إذ المغايرة بين المبدأ والذات حسب المتفاهم العرفي فى ألسنة أهل المحاورة واللغة من هيئات المشتقّات الدائرة في الألسن أمر معلوم واضح بلا شكّ ولا ريب فيه. وقد سبق آنفا أنّ الاتحاد والعينيّة بينهما خارج عن الصدق العرفي ، فلا يصحّ حينئذ إطلاق المشتقّ على سنخ إطلاق المشتقّات عليه تعالى بهذا المعنى المتعارف.

بل الحقّ لطالبه في المقام يتلخّص بأنّ المبدأ في صفاته عزوجل ليس إلّا عين ذاته المقدّسة بلا أيّ تغيّر بينهما بوجه من الوجوه من الأصل والأساس ، فإذن انقدح لا محالة لك الحقّ بأنّ الإطلاق عليه جلّ شأنه لا بدّ من أن يكون بمعنى آخر من المعاني مجازا ، وهو ما يكون المبدأ فيه عين الذات ، فحينئذ فلا يراد من كلمتي «العالم والقادر» في قولنا «يا عالم ويا حيّ ويا قادر ويا حكيم» مثلا معناها المتعارف في المحاورة ، بل إنّما يراد بهما من يكون علمه وقدرته عين ذاته ، فيكون مرجع «يا عالم» عند المخاطبة والمناجاة معه عزوجل إلى «يا الله» كما أشار إلى ذلك المعنى الذي فسّرناه لك بعض الروايات : بأنّ

__________________

(١) شرح المنظومة : ١٠ ، فنّ الحكمة.

٥٨٩

«الله تبارك وتعالى علم كلّه وقدرة كلّه وحياة كلّه» (١).

ولا بعد في رجوع ما التزم به صاحب الفصول قدس‌سره من النقل والتجوّز إلى ذلك التوجيه الذي أوضحناه لك ، فبالوضوح والإشراق أدركت أنّه لا يلزم من عدم إرادة المعنى المتعارف من هيئات المشتقّات بالنسبة إلى صفاته العليا ما سبق من لقلقة اللسان من المحذور الذي ينجرّ إلى تعطيل العقول عند إطلاقها عليه تبارك وتعالى.

وأمّا أنّه يتمّ في مفهوم الوجود فلأجل أنّ إطلاق الموجود عليه تبارك وتعالى إمّا أن يكون بمعناه المتعارف وهو الشيء القيوم الثابت الذي يعبّر عنه في لسان العجم ب (هستي).

وإمّا ان يكون بما يقابله وليس هذا إلّا العدم والمعدوم.

وإمّا أن يراد منه شيء أو معنى لا نفهمه.

فمن البديهي أنّه على الثاني يلزم تعطيل العالم عن الصانع والخالق.

وعلى الثالث ملازم لتعطيل العقول وأن يكون التلفّظ به بمجرّد لقلقة اللسان ومجرّد التلفّظ بالألفاظ مهملا بلا معنى ومفهوم يراد منها ، فلا يخفى عليك أنّ كلا الأمرين غير ممكن الالتزام ، فيكون الحقّ المتعيّن المبيّن المصدّق هو الأوّل وليس إلّا هو.

الفرق بين المشتقّ والمبدأ

وكيف كان فقد انتهى كلامنا إلى بيان ما يكون هو الفارق بين المبدأ والمشتقّ على القول بكونهما متّحدين كاتحاد الوجود والموجود ، وقد اشتهر بين الحكماء

__________________

(١) بحار الأنوار ٤ : ٨٤ ، الحديث ١٧ و ١٨.

٥٩٠

والفلاسفة أنّ الفرق بينهما أي المبدأ والمشتقّ إنّما هو بالاعتبار اللابشرط وبشرط اللا ، فيكون نظير الإيجاد والوجود ، أو الوجود والموجود بالوجوه والاعتبار من حيث اللابشرطية وبشرط اللائية من سنخ الأعراض ، إذ وجود العرض بنفسه وفي نفسه ولنفسه يكون لغيره في غيره لغيره ، وأنّه يكون باعتبار اللابشرط وبشرط اللا.

فتفصيله عبارة عن أنّه كما يمكن تصوّر العرض بشرط لا بحيث لا يكون معه شيء ويكون معرّى ومرسلا ومقطوعا عن جميع القيود والإضافات والخصوصيات والشئون التقييدية ، بحيث يكون هو وحده بما هو هو ، كذلك يمكن لحاظه لا بشرط على نحو من الإبهام يكون أرقى من كلّ التلبّسات حتّى عن مثل المصدر واسم المصدر ، فضلا عن سائر المشتقّات ، وهاتان الكلمتان ـ أي اللابشرط وبشرط اللا ـ محلّ الكلام من حيث إنّه ما المراد منهما.

ولأجل ذلك قد فسّر صاحب الفصول قدس‌سره مرادهم منها بما يراد من الكلمتين في بحث المطلق والمقيّد (١).

ومقصوده من هذا الكلام أنّ الماهية مرّة تلاحظ لا بشرط بالإضافة إلى العوارض والطوارئ الخارجيّة ، واخرى بشرط شيء ، وثالثة بشرط لا.

فعلى الأوّل تسمّى الماهيّة مطلقة ولا بشرط.

وعلى الثاني تسمّى بشرط شيء.

وعلى الثالث بشرط لا.

وعلى هذا فلو ورد لفظ في كلام الشارع ولم يكن مقيّدا بشيء من الخصوصيّات المنوّعة او المصنّفة أو المشخّصة ، وشككنا في الإطلاق ثبوتا

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢.

٥٩١

فتمسّك بإطلاقه في مقام الإثبات لإثبات الإطلاق في مقام الثبوت بقانون التبعية إذا تمّت مقدّمات الحكمة.

مثلا لو شكّ في اعتبار شيء في البيع كالعربيّة أو اللفظ أو نحو ذلك لأمكن لنا التمسّك بإطلاق قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) لإثبات عدم اعتباره فيه ، وأمّا إذا كان مقيّدا بشيء من الخصوصيات المتقدّمة فنستكشف منه التقييد ثبوتا بعين الملاك المذكور.

وقد اشكل عليهم بأنّ هذا الفرق بعيد عن الصحّة ، وذلك لأنّ صحّة الحمل وعدم صحّتها لا تختلف من حيث اعتبار شيء لا بشرط أو بشرط لا ؛ لأنّ العلم والحركة والضرب وما شاكلها ممّا يمتنع حملها على الذوات وإن اعتبر لا بشرط ألف مرّة ، فإنّ ماهيّة الحركة أو العلم بنفسها غير قابلة للحمل على الشيء ، فلا يقال : «زيد علم أو حركة» ومجرّد اعتبارها لا بشرط بالإضافة إلى الطوارئ والعوارض الخارجيّة لا يوجب انقلابها عمّا كانت عليه ، فاعتبار اللابشرط وبشرط اللا من هذه الناحية على حدّ سواء ، فالمطلق والمقيّد من هذه الجهة سواء ، وكلاهما آبيان عن الحمل. فما ذكروه من الفرق بين المشتقّ والمبدأ بهذا السنخ من الفرق لا يرجع إلى معنى معتمد صحيح.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره ليس مرادا للفلاسفة من الكلمتين «اللابشرط وبشرط اللا» يقينا كما ينقدح لك ذلك عن قريب ، وعليه فما أورده قدس‌سره عليهم غير وارد عليهم ، فيكون في غير محلّه.

وبالجملة كما يمكن تصوّر العرض بشرط لا ، بحيث لا يكون معه شيء ويكون عاريا ومقطوعا عن جميع الخصوصيات والقيود ، بحيث يكون معرّى

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٥٩٢

عن كلّ الخصوصيات والتلبّسات والقيود والإضافات بما هو هو ، كذلك يمكن لحاظه لا بشرط على نحو يمكن أن يكون جامعا لجميع الشروط والقيود والخصوصيّات بالمناسبات المفضية لجلب الخصوصيات والقيود عند الحاجة إليها في التلبّسات والإضافات.

ولأجل ذلك يقولون : إنّ اللابشرط يجتمع مع ألف شرط ، على نحو يمكن أن يتّحد مع الطوارئ والحالات بلحاظ وجوده في الخارج ، إذ العرض في الخارج لا يوجد إلّا في الموضوع.

فتلخّص أنّ بين العرض والعرضي مباينة في حدّ ذاته ، ولا يمكن حمل أحدهما على الآخر بالوجوه والاعتبارات ، إذ محذور عدم إمكان حمل شيء على نفسه لا يندفع بتلك التعبيرات الاعتباريّة بعد تصديق الاتّحاد بين العرض والذات ، بل الوجه في صحّة الحمل ليس إلّا الاتحاد الوجودي في الخارج ، وهذا الوجه من أحسن أنحاء صحّة الحمل.

فيكون هذا هو الفرق الأصلي والأساسي بين المبدأ والمشتقّ ، لأنّ المشتقّ بحسب الحقيقة وإن كان بعينه هو المبدأ ، ولكنّهما يفترقان بالوجوه والاعتبار ، وذلك من جهة أنّه تارة يلاحظ القيام لا بشرط بما هو هو ، بحيث يكون عاريا ومنقطعا عن جميع العوارض حتّى عن الوجود الذهني بمعنى اسم المصدري فضلا عن المصدر ، لأنّهما غير منفكّين عن إسناد إلى فاعل ما.

نعم لمّا لم يوضع لذلك المعنى المرسل المبهم في اللغة والمحاورة لفظ واسم خاصّ يستعار لذلك المعنى في مقام الإشارة إليه اسم المصدر. والحاصل أنّ في مقام التلفّظ والبيان يؤخذ اسم المصدر طريقا في مقام الإشارة إلى ذلك المعنى المرسل والمطلق عند إحضاره إلى ذهن المخاطب ، ولكنّه في الواقع ونفس الأمر مباين لذينك المعنيين من المصدري واسم المصدري ، فبما أنّ في لغة العرب

٥٩٣

وسائر اللغات لم يوضع لذلك المعنى صيغة ولفظ مخصوص في مقام إفهامه يتمسّكون في إفهامه بلفظ المصدر : كالضرب والأكل والشرب والقيام ، أو اسم المصدر : كالغسل من باب الاستعارة عند الدلالة على مقصودهم فيما إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك الدلالة والبيان.

نعم ، يمكن التعبير الصحيح عن ذلك المعنى بلغة الفرس ، حيث إنّهم يعبّرون عن الضرب المرسل والمبهم ب (الكتك) ومثل هذا القيام والضرب اللابشرط يجتمع مع جميع الطوارئ ، بل مع ألف شرط ، فهذا المعنى إذا تجسّم في الخارج بالقيام في المحلّ واتّحد معه ولو كان الاتّحاد بالذات يكفي في صحّة الحمل ، بل الحمل ليس إلّا ذلك الاتّحاد في الواقع والحقيقة.

فتلخّص أنّ المبدأ بذلك الاعتبار والتعبير يكون هو المقصود في المقام ، لا بمعنى المصدري واسم المصدري إلّا من باب الادّعاء والاستعارة ، فيكون هذا المعنى هو المراد من اللابشرطية.

وبالجملة ، فإنّ هذا المعنى بهذه الخصوصية من اللابشرطية يكون أعلى وأرقى وجودا عمّا أفادوا من اللابشرطيّة في معنى المصدر واسم المصدر ، إذ المبدأ الأصلي يكون أعلى وأرقى حتّى من اللابشرطية بمعنى الاسم المصدري. بل لنا أن نقول : إنّه يكون معرّى عن اللابشرطيّة ، لأنّها ماهيّة مبهمة كإبهام الهيولى في نهاية الإجمال والإرسال والإبهام ، بحيث يكون مطلقا من جميع الجهات حتّى من لحاظ اللابشرطية على نحو ليس محموله إلّا الوجد المحض ، كحمل الوجود على الذات ، فيكون المبدأ في مرحلة اللحاظ والتصوّر على مرتبة من الإبهام ، بحيث يكون متساوي النسبة إلى جميع المشتقّات حتّى المصدر واسم المصدر.

فلبّ المطلب أنّ المبدأ الأصلي والأساسي يكون أشرف لحاظا من لحاظ

٥٩٤

المصدر واسم المصدر ، فضلا عن سائر المشتقّات كاسم الفاعل والمفعول والزمان والمكان والآلة.

فعلى هذا يكون كلّ من المشتقّ والمبدأ مستقلا في عالم التصوّر واللحاظ ، من دون ان يكون بينهما اتّحاد بحسب الحقيقة ، حتّى نحتاج إلى بيان الفرق بينهما بالوجوه والاعتبار من اللابشرطيّة أو بشرط اللائية ، بل إنّهما يكونان مفهومين متباينين من دون أن يكون بينهما وحدة حتّى يقال : إنّها هي مصحّحة في حمل أحدهما على الآخر من هذه الجهة.

فإذن كيف يجوز حمل أحدهما على الآخر مع فقدان أيّ شيء من السنخية بينهما ؟ فلا جرم لا بدّ لنا من الالتزام بالتركيب التحليلي من حيث المفهوم بأخذ الشيء والذات المبهم والمرسل في مفهوم المشتقّ على النحو المبيّن المتقدّم ، حفظا لصحّة الحمل حتّى لا يكون الحمل الموجود في اللغة والمحاورة من سنخ حمل المباين على المباين من دون أيّ ارتباط وسنخيّة بين العارض والمعروض ، فإذن ليست هنا سنخية تكون هي المصحّح للحمل إلّا ذلك التركيب التحليلي.

فانقدح لك بهذا البيان أنّ ما ذكرناه في المقام هو البرهان القاطع على لزوم أخذ الشيء في مفهوم المشتقّ ، بل إنّ ذلك هو الحقّ الحقيق القابل للتصديق ، لا ما التزم به المحقّق الدواني وشارح المطالع من بساطة مفهوم المشتقّ ، هذا.

مع أنّا لو أغمضنا عن ذلك البرهان القاطع وسلّمنا ما أفادوا في بيان صحّة الحمل بأنّ وجود العرض في نفسه يكون عين وجوده في غيره ، يرد عليهم كما تقدّم في الليالي الماضية أنّ هذا يتمّ في خصوص الأعراض لا في الامور الاعتبارية ؛ إذ ليس للامور الاعتبارية والانتزاعية نحو وجود في الخارج إلّا

٥٩٥

الاعتبار ، حتّى يصحّ لهم أن يقولوا بأنّ اتّحاد الوجود لها في الخارج يكفي في صحّة الحمل ، فإذن يجوز لهم أن يقولوا في هذه الموارد أنّ وجوده في غيره هو وجوده في غيره.

بل مع الإغماض عن ذلك أيضا لا يتمّ ذلك بالنسبة إلى صحّة الحمل في أسماء الآلة والزمان والمكان ، إذ الفتح والقتل لا يتّحد مع الآلة والمكان بوجه من الوجوه ، وكيف يجوز الإغماض عن ذلك البرهان مع تكذيب الارتكاز والوجدان الثابت في العرف والمحاورة من التركيب التحليلي المسلّم في مفهوم المشتقّ ؟

فانقدح أنّه لا مناص لنا ولهم إلّا الالتزام بمسلك التركيب بلا شكّ ولا ريب.

والحاصل أنّه قد تقدّم الكلام مفصّلا في بيان معنى اللابشرط وبشرط اللائية ، بأنّ المعروف بين الحكماء والفلاسفة هو ذلك ، وأنّهم إنّما يقولون بأنّ الفرق بين المبدأ والمشتقّ منحصر بين اللابشرطية وبشرط اللائيّة.

وقد عبّر صاحب الفصول قدس‌سره عن هذا المعنى من كلامهم بالإطلاق والتقييد على ما يتبادر من ظاهر كلامه ، لأنّه قال : إنّ الإطلاق إذا تمّ في مقام الإثبات ببركة مقدّمات الحكمة يكشف عن الإطلاق في مقام الثبوت ، وذلك كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ، وقوله عليه‌السلام : (الماء كلّه طاهر) ، ثمّ أورد عليهم بأنّ هذا المقدار من الفرق لا يكفي في التمايز بينهما أي المبدأ والمشتقّ في جواز صحّة الحمل (٢).

بخلاف صاحب الكفاية حيث قال بأنّ المراد من اللابشرطيّة في طرف

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) الفصول الغرويّة : ٦٢.

٥٩٦

المشتقّ عبارة عن صحّة الحمل ، ومن اللابشرطية في طرف المبدأ عبارة عن عدم صحّة الحمل بتاتا ، فكأنّه قدس‌سره جعل هذا هو الفارق الوحيد بين المبدأ والمشتقّ (١).

وفيه أنّ ما أفاده قدس‌سره من الفرق بين المبدأ لا اختصاص له بالمشتقّ والمبدأ ، بل يجري في جميع المبادئ والماهيات.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الفارق الذي ذكره الفلاسفة بعنوان اللابشرطية وبشرط اللائية في المشتقّ والمبدأ لا بدّ من أن يلاحظ في موجود واحد ، لا في مطلق الماهيات ، لأنّهم ذكروا هذا الفرق بين الجنس والفصل والمادّة والصورة ، لاستحالة وجود أحدهما دون الآخر ، لأنّهما إنّما يكونان موجودين بوجود واحد.

بل الحقّ أنّ التعبير بالموجودين لا يخلو عن المسامحة ، إذ الجنس والفصل والمادّة والصورة ليس إلّا متّحدين بحسب الواقع والنفس الأمر ، لأنّ (الحيوان الناطق) في الحقيقة والذات ليس إلّا (الإنسان) كما أنّ الإنسان بالذات والحقيقة بحسب التحليل والدقّة ليس إلّا (حيوان ناطق) وإنّما العقل بالتأمّل والتعقّل الانتزاعي التحليلي يعبّر عن أحدهما بالجنس وعن الآخر بالفصل ؛ إذ لا ينبغي التشكيك في أنّه يستحيل أن تكون المادّة أعني البدن موجودا منفصلا عن الصورة النوعية ، وهكذا العكس. بل الحقّ هنا بحسب الذات ليس إلّا موجودا واحدا ، والاتحاد حقيقي لا انضمامي وإن التزم بالاتّحاد الانضمامي بين المادّة والصورة وبين الجنس والفصل عدّة من الحكماء والفلاسفة ، ولكنّ المتأخّرين منهم أبطلوا ذلك وأثبتوا الاتّحاد حقيقة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٥.

٥٩٧

فتحصّل أنّ الحكماء والفلاسفة إنّما ذكروا اللابشرطية وبشرط اللائية في بيان الفرق والامتياز بين الشيء الواحد الموجود الذي يكون مركّبا في الواقع ونفس الأمر من الجنس والفصل والمادّة والصورة ، الذي يمكن أن يلاحظ لا بشرط باعتبار ، كما يمكن أن يلاحظ ذلك الشيء بشرط الشيء ، مثل أن يلاحظ بشرط لا ، وذلك الفرق منهم صحيح في محلّه بالنسبة إلى ذلك المورد ، لا بالنسبة إلى موردنا.

المتنازع فيه في المشتقّ ما هو ؟

وقد بقي الكلام فيما يكون هو محلّ الكلام والنزاع في المشتقّ ، فلا يذهب عليك أنّ كلامنا في هذه المسألة ـ أي مسألة المشتقّ ـ ليس إلّا معرفة مفهومه ومدلوله وحقيقة ما له من المعنى من حيث السعة والضيق ، كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى بقيّة مباحث الألفاظ الدارجة في اللغة والعرف والمحاورة ، بمعنى أنّ المشتقّ هل هو موضوع لمفهوم عامّ له سعة وشمول منطبق على المتلبّس والمنقضي كليهما معا ، أو أنّه موضوع لمفهوم مضيّق لا ينطبق إلّا على المتلبّس بالمبدإ فقط ؟

نعم تطبيق هذا المفهوم على موارده وإسناده إليها وأنّه بنحو الحقيقة ، أو لا بل بنحو المجاز ، خارج عن محلّ الكلام ، إذ الإسناد إذا كان إلى ما هو له فهو حقيقة ، وإن كان إلى غير ما هو له فهو مجاز ، من دون أن يكون من سنخ المجاز في الكلمة بالنسبة إلى موارد الادّعاء ، والإسناد المجازي ، إذا الكلمة إنّما استعملت في معناها الحقيقي ، وليس التصرّف إلّا في الإسناد والتطبيق.

فمن باب المثال إذا قلت : «زيد أسد» ، فمن الواضح أنّ لفظ (الأسد) إنّما استعمل في معناه الموضوع له في اللغة ، وهو عبارة عن الحيوان المفترس ،

٥٩٨

فيكون حقيقة له بالوضع من قبل الواضع ، وإنّما تطبيقه على زيد ملحوظ بنحو من السعة والعناية من باب تطبيق المجاز في الإسناد.

وبتعبير أوضح إنّه في موارد الاشتباه في التطبيق من ناحية النسيان أو الخطأ فيما إذا قلت : «هذا زيد» ثمّ تبيّن لك أنّه (عمرو) فمن البديهي أنّ لفظ (زيد) لم يستعمل في (عمرو) مجازا ، بل إنّه استعمل في معناه الذي وضع له في اللغة ، والخطأ إنّما حدث في التطبيق ، وهو لا يضرّ باستعماله فيه.

كما إذا تخيّلت حيوانا بأنّه (أسد) وقلت : «هذا أسد» ثمّ ظهر وبان لك بأنّه ليس بأسد ، بل هو حيوان آخر. وهكذا إلى آخره.

فبالقطع واليقين اللفظ في كلّ تلك الأمثلة إنّما استعمل في معناه الحقيقي الموضوع له في اللغة والمحاورة ، والتوسّع ليس إلّا في التطبيق والإسناد ، إمّا ادّعاء أو تنزيلا أو نسيانا وخطأ وجهلا.

فيكون الأمر كذلك طابق النعل بالنعل في المشتقّات ، إذ من الواضحات البديهيّة أنّ إسناد الجري والحركة إلى النهر باستعمال كلمة (جاري) فيه مثل قولك : النهر جار ، أو الميزاب ليس من باب المجاز في الكلمة ، بل الحقّ أنّ لفظ (جاري) إنّما استعمل في معناه الحقيقي الذي وضع له ، وهو عبارة عن المتلبّس بالجريان حقيقة ، والمجاز إنّما هو في إسناد الجري إلى النهر أو الميزاب أو دجلة ، لا في الكلمة.

وهذا الذي ذكرناه في المقام جار في جميع الموارد التي كان الاستعمال فيها من ناحية المجاز في الإسناد من دون أيّ فرق بين أن يكون مفهوم المشتقّ مركّبا كما هو المختار ، أو بسيطا عند من يقول بذلك على الظاهر الواضح المبيّن.

وبذلك البيان انقدح ما في كلام صاحب الفصول قدس‌سره في استعمال المشتقّ في مثل (الميزاب جار) ليس استعمالا في معناه الحقيقي ، فإنّ التلبّس والإسناد فيه

٥٩٩

ليس بحقيقي (١).

إذ يعتبر في صدق المشتقّ واستعماله في ما وضع له حقيقة أن يكون الإسناد والتطبيق حقيقيا من دون الخلط والاشتباه بين المجاز في الكلمة والمجاز في الإسناد ، بتوهّم أنّ مرجع الثاني يكون إلى الأوّل لثبوت الملازمة بينهما ، لأنّ الجاري الحقيقي ليس إلّا الماء ، فالكلمة إنّما استعملت في الماء ، وتطبيقها على النهر والماء يكون من باب السعة والعناية من باب المجاز في الإسناد ، لا المجاز في الكلمة. فما ذكره قدس‌سره من اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتقّ حقيقة غير صحيح ولا دليل عليه.

والحاصل من تلك البحوث المفصّلة بالتلخيص والإجمال في ضمن امور :

الأوّل : لبّ البحث في المشتقّ يتلخّص في البساطة والتركيب بالذات والحقيقة عند التعقّل والتعمّق التحليلي ، لا بحسب الإدراك اللحاظي كما تقدّم عن صاحب الكفاية.

الثاني : هو أخذ الذات فيها بالإبهام والإرسال عن تمام الإضافات والتلبّسات والخصوصيات ، إلّا قيام المبدأ بها ، ومن هذه الجهة تكون قابلة الصدق على الواجب والممكن والمحال بمنهج واحد.

الثالث : وقوفك على بطلان تلك الوجوه المذكورة التي اعتمدوا عليها لإبطال التركيب.

الرابع : إثباتنا وضع المشتقّ لمعنى المركّب من مفهوم الذات بذلك البرهان القاطع من الارتكاز والوجدان لا للبسيط.

الخامس : عدم صحّة قول الحكماء والفلاسفة من بيان الامتياز والفرق بين

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢.

٦٠٠