دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

وأمّا الأصل المشهور بينهم : وهو أنّ النظر إلى اللفظ آلي في مقام التكلّم والاستعمال ، وإلى المعنى استقلالي ، فقد اتّضح لك أنّه لا أصل له ولا أساس.

فتحصّل من جميع تلك البيانات الواضحة أنّنا لا نجد مانعا يقتضي عدم الإمكان أو الاستحالة عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، بل الحقّ أنّ ذلك واقع في المحاورة فضلا عن الإمكان.

وقد بقي الكلام في الجهة الثانية ، وهي عبارة عن وقوع البحث في موافقة هذا السنخ من الاستعمال للظهور العرفي وعدمه ، والحقّ أنّ ذلك الاستعمال لا يجوز عند العرف ، بل العرف يستنكر على المستعمل بالإجمال وعدم الظهور إذا قال : مرادي من كلمة : جئني بعين ، كان أكثر من معنى واحد ، وهكذا إذا قال : إنّ مرادي من هذا الاستعمال كان جميع المعاني التي وضع هذا اللفظ لها بالاشتراك ، مع عدم ذكر القرينة المعيّنة في الكلام.

فلو وجدنا لفظا مشتركا خاليا عن القرينة التي تدلّ على إرادة تفهيم بعض معانيه ، فهل نحمله على إرادة جميع المعاني ، أو على إرادة البعض ، أو تحتاج إرادة كلّ واحدة منهما إلى نصب قرينة تدلّ على ذلك ؟ لا ينبغي الشكّ في أنّ إرادة الجميع خلاف الظهور العرفي ، فلا يحمل اللفظ عليها إلّا مع نصب قرينة تدلّ على ذلك. وهذا على مسلكنا في باب الوضع واضح بلا ريب ، إذ الاشتراك غير معقول إلّا برفع اليد عن التعهّد والالتزام بتعهّد آخر ، وهو قصد تفهيم أحد المعنيين أو المعاني ، فيكون المعنى الموضوع أحد المعنيين أو المعاني دون الجميع.

وعليه فاستعماله في الجميع استعمال في غير الموضوع وعلى خلاف قانون التعهّد والالتزام ، بل لو قلنا بإمكان الاشتراك على هذا المسلك فأيضا الاستعمال المزبور يكون على خلاف الظهور ، فلا يعتمد عليه بلا دليل مبيّن ، فإنّ التفاهم

٤٦١

العرفي من اللفظ عند إطلاقه إرادة معنى واحد ، فإرادة المعنيين أو المعاني منه على خلافه.

ولا فرق في ذلك بين مسلك التعهّد وغيره ، فإنّ هذا الاستعمال مخالف للظهور على جميع المذاهب والمسالك ، سواء قلنا بأنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد استعمال حقيقي أو ملحق بالمجازي.

ولعلّ هذا هو مراد صاحب القوانين قدس‌سره (١) من اعتبار حال الوحدة في المعنى الموضوع له ، يعني أنّ التفاهم عرفا من اللفظ عند الإطلاق إرادة معنى واحد لا أزيد ، وليس مراده من ذلك أخذ حال الوحدة في الموضوع له ، لوضوح فساده بالبداهة ، بل فساده يكون من الواضحات الأوليّة.

فانقدح بما ذكرناه في المقام أنّ استعمال اللفظ في معنيين أو أزيد مع عدم إتيان قرينة تدلّ على إرادة كلّ المعاني أو خصوص معنى خاصّ ، موجب للإجمال ولا يدلّ على شيء ، إذن فالمرجع هو الاصول العملية.

والحاصل : عند استعمال اللفظ المشترك في أزيد من معنى إذا قال المستعمل : إنّ مرادي كان جميع المعاني التي وضع هذا اللفظ لها كوضع كلمة (عين) التي وضعت بإزاء كلّها ، ينكرون عليه بأنّ المراد من هذا الاستعمال إذا كان جميع تلك المعاني ، فلم لم تأت بالقرينة المعيّنة في الكلام لتدلّنا على مقصودك ؟

فالمتحصّل : لا مانع من أن يلتزم الواضع بأن يعلن لأبناء المحاورة بأنّي كلّما تكلّمت باللفظ الفلاني في مقام التخاطب لا يخلو مرادي الجدّي عن الذهب والفضّة كليهما معا. نعم ، إذا كان المراد من الاستعمال كلاهما معا لا مناص من أن يأتي بالقرينة المعيّنة ليتخلّص الكلام عن الإهمال والإجمال في تفاهم أهل

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٦٣.

٤٦٢

العرف والمحاورة.

فتلخّص من جميع ما بيّناه في المقام أنّ استعمال اللفظ في أكثر من المعنى الواحد وإن ممكنا بل واقعا ، إلّا أنّه يكون من المستحيلات العرفية في عالم الظهور والاستظهار ، فالمتكلّم إذا قال : جئني بعين من غير أن يأخذ في كلامه قرينة معيّنة يكون كلامه من المجملات عند العرف ، فلا بدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة في مقدار الزائد في ظرف فقدان الظهور العرفي لتعيين الوظيفة العمليّة.

وتظهر الثمرة في الشخص المالك لعبدين اسم كلّ منهما غانم ، فأراد بيعهما ، فقال بصيغة المشتركة : (بعت غانما بدرهمين) وكان المشتري من الخارج عالما بأنّه استعمل اللفظ في أكثر من معنى واحد ، إلّا أنّ المشتري وقع في الترديد أنّ الثمن المجموع من حيث المجموع متعيّن في الدرهمين حتّى تكون النتيجة هي قيمة كلّ من العبدين بحسب القيمة الدرهم الواحد ، أو الأمر ليس كذلك ، بل إنّه باع كلّا منهما بدرهمين حتّى يكون ثمن كلّ منهما منفردا درهمين ؟ وكلّ من هذين الاحتمالين يتصوّر من سنخ هذا الكلام في المحاورة ، فيصبح الكلام مجملا ، فعند موت أحدهما أي البائع والمشتري لا بدّ من الرجوع إلى الاصول العملية لتعيين الوظيفة العملية.

هذا فيما إذا دار الأمر بين إرادة معنى واحد وإرادة الأكثر منه ، وأمّا إذا علم إرادة الأكثر ، ودار الأمر بين إرادة مجموع المعنيين على نحو العموم المجموعي ، أو إرادة كلّ واحد منهما على سبيل العموم الاستغراقي ، ولم تكن قرينة في الكلام على تعيين أحد الأمرين ، فقد قيل بلزوم حمل اللفظ على الثاني تقديما للحقيقة على المجاز.

ولكنّه لا يتمّ ، فإنّه لا وجه لذلك الترجيح حتّى على القول بأنّ الاستعمال في

٤٦٣

أكثر من معنى واحد على سبيل الاستغراق استعمال حقيقي ، لما عرفت من أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد على خلاف الظهور العرفي وإن كان الاستعمال استعمالا حقيقيا ، وأصالة الحقيقة هنا غير جارية كما لا يخفى.

فتحصّل من مجموع ما بيّناه في المقام أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز ولا مانع منه من الأصل والأساس. نعم ، هو مخالف للظهور العرفي ، فلا يمكن حمل اللفظ عليه بلا إتيان قرينة معيّنة.

فإذا عرفت ما تلونا عليك من التحقيق في محلّ الكلام. فلا يخفى عليك أنّه لا فرق في ذلك بين التثنية والجمع وبين المفرد ، كما أنّه لا وجه للفرق بين أن يكون المعنيان حقيقيين أو مجازيين ، أو أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، لأجل اتّحاد الملاك في الجميع من حيث الجواز والمنع.

وما قيل في استحالة إرادة المعنى المجازي والمعنى الحقيقي معا ، من أنّ إرادة المعنى المجازي تحتاج إلى القرينية الصارفة عن إرادة المعنى الحقيقي ، وهي مانعة عن إرادته ولا تجتمع معها.

يندفع بأنّ هذا إنّما هو فيما إذا أراد المتكلّم خصوص المعنى المجازي ، وأمّا إذا أراد المعنى المجازي والحقيقي معا على نحو المجموع أو الجميع فيحتاج ذلك إلى القرينة الصارفة عن إرادة خصوص المعنى الحقيقي لا عن إرادته مع المعنى المجازي إذا كانت هناك قرينة تدلّ على ذلك.

وعلى أيّ حال فقد انقدح ممّا ذكرناه في المقام أنّه لا وجه لما اختاره صاحب المعالم قدس‌سره (١) من التفصيل بين التثنية والجمع وبين المفرد ، حيث جوّز إرادة الأكثر من معنى واحد في التثنية والجمع دون المفرد ، بل اختار قدس‌سره أنّ الاستعمال

__________________

(١) انظر معالم الاصول : ٣٠.

٤٦٤

حقيقي في التثنية والجمع ، وأقام الدليل على ذلك بأنّ التثنية في قوّة تكرار المفرد مرّتين ، والجمع في قوّة تكراره مرّات ، فقولنا : رأيت عينين ، في قوّة قولنا : رأيت عينا وعينا. وكما يجوز أن يراد من العين الأوّلي معنى ، ومن الثانية معنى آخر على نحو الحقيقة ، كذلك يجوز أن يراد المعنيان من التثنية.

وممّا يؤيّد ذلك صحّة التثنية في الأعلام الشخصية كقولك : زيدان ، فإنّ المراد منه فردان متغايران بالقطع واليقين لا محالة.

وما ذهب إليه قدس‌سره من أنّ الاستعمال حقيقي في التثنية والجمع بعيد عن الواقع وغير قابل للتصديق من الأصل والأساس بوجه من الوجوه ، بيان ذلك هو أنّ للتثنية والجمع وضعين ، أحدهما للمادّة ، والآخر للهيئة ، وهي الألف والنون أو الواو والنون.

أمّا المادّة فهي موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات حتّى الخصوصية اللابشرطية.

وأمّا الهيئة فهي موضوعة للدلالة على إرادة المتعدّد من مدخولها.

فحينئذ إن اريد من المدخول ككلمة العين مثلا في قولك : رأيت عينين ، معنيان كالجارية والباكية ، أو الذهب والفضّة ، بناء على ما حقّقناه من جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فالهيئة الطارئة عليها تدلّ على إرادة المتعدّد منهما ، ويكون المراد من قولنا : عينان حينئذ فردان من الجارية وفردان من الباكية ، أو فردان من الذهب وفردان من الفضّة ، فالتثنية تدلّ على أربعة أفراد. وهذا وإن كان صحيحا على ما ذكرناه إلّا أنّه أجنبيّ عن استعمال التثنية في أكثر من معنى واحد ، فإنّه من استعمال المفرد في ذلك ، والتثنية مستعملة في معناه الموضوع له ، وهو الدلالة على إرادة المتعدّد من مدخولها.

وهذا بعينه نظير ما إذا ثنّى ما يكون متعدّدا من نفسه كالعشيرة مثلا ،

٤٦٥

أو الطائفة ، أو الجماعة ، أو القوم إلى غير ذلك ، كقولك : رأيت طائفتين ، فكما أنّه لم يذهب إلى وهم أحد إلى أنّ التثنية في أمثال هذه الموارد مستعملة في أكثر من معنى واحد ، فكذلك في المقام ، فلا فرق في ذلك بين المقامين أصلا ، غاية الأمر أنّ المفرد هنا استعمل في المتعدّد بالعناية دونه هناك.

وكيف كان فهذه الصورة غير مرادة لصاحب المعالم قدس‌سره يقينا ، لأنّ التثنية فيها لم تستعمل في أكثر من معنى واحد ، فلا معنى حينئذ لكونها حقيقة كما هو واضح جدّا.

وإن اريد من كلمة العين معنى واحد كالذهب مثلا ، لتدلّ الهيئة على إرادة أكثر من طبيعة واحدة ، ففيه أنّه غير معقول ؛ وذلك لما عرفت من أنّ للتثنية وضعين : أحدهما للهيئة ، وهي تدلّ على إرادة المتعدّد من المدخول ، والثاني للمادّة وهي تدلّ على الطبيعة المهملة. إذن إن اريد بالمادّة طبيعة واحدة كالذهب مثلا فالهيئة تدلّ على إرادة المتعدّد منه ، ويكون المراد من العينين فردين من الذهب ، وحيث إنّ المفروض في المقام إرادة طبيعة واحدة من المدخول فالتثنية تفيد تكرارها بإرادة فردين منها ، ومع هذا كيف تدلّ على تعدّد المدخول من حيث الطبيعة ، وليس هنا شيء آخر يكون دالّا على إرادة اخرى كالفضّة مثلا.

نعم ، يمكن أن تؤوّل العين بالمسمّى ويراد من تثنيتها الفردان منه ، كالذهب والفضّة أو نحوهما ، كما هو الحال في تثنية الأعلام الشخصيّة ، إلّا أنّه أيضا ليس من استعمال التثنية في أكثر من المعنى الواحد كما لا يخفى ، مع أنّ هذا التأويل مجاز بلا كلام ولا ريب ، فيحتاج إلى قرينة.

وقد انقدح من جميع ما ذكرناه في المقام بطلان تفصيل صاحب المعالم قدس‌سره وصحّة ما أثبتناه من أنّه يجوز الاستعمال في أكثر من معنى واحد من دون فرق في ذلك بين التثنية والجمع والمفرد ، لكنّه يكون على خلاف الظهور العرفي.

٤٦٦

ثمّ إنّ المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره بعد الذهاب إلى عدم جواز الاستعمال في أكثر من معنى واحد قال : وهم ودفع ، لعلّك تتوهّم أنّ الأخبار الدالّة على أنّ للقرآن بطونا سبعة بل سبعين تدلّ على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من واحد فضلا عن جوازه ، ولكنّك غفلت عن أنّه لا دلالة لها أصلا على أنّ إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ ، فلعلّها كانت بإرادتها في حدّ أنفسها حال الاستعمال في المعنى لا من اللفظ ، كما إذا استعمل فيها ، أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وأنّ أفهامنا قاصرة عن البلوغ إليها في إدراكها (١).

ويردّه : أنّه لو كان المراد من البطون ما ذكره قدس‌سره أوّلا لم يكن ذلك موجبا لعظمة القرآن على غيره ولفضيلته على سائر المحاورات ، لإمكان أن يراد المعاني بأنفسها حال التكلّم بالألفاظ في غير المحاورات القرآنية ، بل يمكن إرادتها كذلك حال التكلّم بالألفاظ المهملة ، فضلا عن الألفاظ الموضوعة ، فمن هذه الجهة لا فرق بين الكتاب وغيره ، بل لا فرق بين اللفظ المهمل والموضوع ، فالكلّ سواء ولا فضل لأحدهما على الآخر ، على أنّ لازم ذلك أن لا تكون البطون بطونا للقرآن ومعاني له ، بل كانت شيئا أجنبيّا عنه ، نهاية الأمر أنّها اريدت حال التكلّم بألفاظه. وكلا الأمرين مخالف لصريح الروايات المشتملة على البطون ، فهي كما نطقت بإثبات الفضيلة والعظمة للقرآن على غيره من جهة اشتماله على ذلك ، كذلك نطقت بإضافة تلك البطون إليه وأنّها معان للقرآن ، لا أنّها شيء أجنبيّ عنه.

منها : (ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، وله تخوم وعلى تخومه تخوم ، ولا تحصى عجائبه ولا تبلى

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٥.

٤٦٧

غرائبه) (١) وأمثال ذلك من الروايات الكثيرة.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره ثانيا من أنّ المراد من البطون لوازم معناه وملزوماته ـ من دون أن يستعمل اللفظ فيها ـ التي لن تصل إلى إدراكها أفهامها القاصرة إلّا ببيان من الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام ، فإنّهم أهل القرآن ، فهو الصحيح.

وتدلّنا على ذلك روايات كثيرة كادت أن تبلغ حدّ التواتر إجمالا بلا إشكال وريب.

منها : أنّ القرآن حيّ لم يمت ، وأنّه يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا (٢).

ومنها : أنّ القرآن حيّ لا يموت والآية حيّة لا تموت ، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن ، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين (٣).

ومنها : لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات اولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكلّ قوم آية يتلوها هم منها من خير أو شرّ (٤).

ومن هنا : فقد ورد في عدّة من الروايات أنّ الآية من القرآن إذا فسّرت في شيء فلا تنحصر الآية به ، وهو كلام متّصل ينصرف على وجوه و «أنّ القرآن ذلول ذو وجوه ، فاحملوه على أحسن الوجوه» (٥) ، وهذا معنى أنّ للقرآن بطونا

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٢ : ٧٨ ، الباب ٨ كتاب القرآن ، الحديث ٤٧.

(٢) مرآة الأنوار : ٣.

(٣) مرآة الأنوار : ٤.

(٤) تفسير العيّاشي ١ : ١٠.

(٥) مجمع البيان ١ : ١٣ ، عوالي اللآلي ٤ : ١٠٤.

٤٦٨

لن تصل إليها أفهامنا القاصرة إلّا بتوجيه من أهل البيت عليهم‌السلام ، كما وجّهنا إليها في بعض الموارد. وقد دلّت على ذلك المعنى روايات كثيرة واردة من طرق العامّة والخاصّة ، ومن أراد الاطلاع على مجموع هذه الروايات في جميع هذه الأبواب فليطلبها من مصادرها.

وفي بعض الروايات إشارة إلى صغرى هذه الكبرى ، وهي ما ورد من أنّ القرآن ظاهره قصّة وباطنه عظة ، فإنّه في الظاهر بيّن قصص السابقين وقضاياهم كقضيّة بني إسرائيل وما شاكلها من القصص ، ولكنّها في الباطن عظة للناس وعبر ودروس لهم ، فإن التأمّل في القضايا الصادرة عن الامم السابقة دروس لنا وعبر. ونبّهنا على أنّ السير على منهاجه ينجينا من الضلال ، وأنّ الكفر بنعم الله تعالى يوجب السخط على الكافرين والعاصين. وفي الجملة فإنّ قصص الكتاب في الظاهر وإن كانت حكايات وقصص ، إلّا أنّها في الباطن دروس وعبر للناس.

فقد أخذت النتيجة من هذا البحث لحدّ الآن امور :

الأوّل : أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز على مسلك من يرى حقيقة الوضع التعهّد والالتزام ، نعم هو خلاف الظهور عرفا.

الثاني : أنّ المراد من بطون القرآن لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وملزوماته وملازماته ، من دون استعمال اللفظ فيها على ما نطقت به الروايات من طرق الخاصّة والعامّة.

الثالث : أنّ هذه البواطن التي تضمّنها القرآن لا يعرفها إلّا من خوطب به وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ومن هنا قد وقفنا على بعضها في بعض الموارد بواسطة الآثار المنقولة عنهم عليهم‌السلام.

٤٦٩
٤٧٠

الأمر الحادي عشر

في المشتقّ

لا ريب في صحّة استعمال المشتقّ في المتلبّس بالمبدإ بالفعل ، وفي المنقضي عنه المبدأ ، وفيمن لم يتلبّس به بعد ، ولكنّه سيتلبّس به في المستقبل.

ولا ينبغي الإشكال في أنّ استعماله في المتلبّس بالمبدإ فعلا يكون على نحو الحقيقة بالقطع واليقين ، كما أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ استعماله على من يتلبّس بالمبدإ في المستقبل يكون من باب المجاز ، وإنّما الاختلاف والإشكال يكون في إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ وانصرم هل هو من باب المجاز ، أو أنّه يكون من باب الحقيقة كالقسم الأوّل.

وقبل تحقيق الكلام في بيان كيفية الحال في المقام يجب ذكر امور تكون لها دخالة في تحرير محلّ البحث من حيث النقض والإبرام.

الأوّل : اعلم أنّه ليس مرادنا من المشتقّ في محلّ الكلام هو المشتقّ الاصطلاحي الذي لا بدّ من أن يكون من مبدأ الاشتقاق ، بل المراد منه إنّما هو عبارة عن كلّ وصف خارج عن الذات المحمول عليها سواء كان الخارج من المشتقّات المصطلحة أو لا بل من الجوامد ، فلبّ البحث يرجع إلى أنّ موضوع

٤٧١

البحث يكون على شكلين :

أحدهما : ما يسمّى بالمشتقّ ، وهو ما كان لكلّ واحدة من مادّته وهيئته وضع خاصّ مستقلّ وله مبدأ اشتقاق.

والثاني : ما يسمّى بالجامد ، وهو ما كان لمجموع من مادّته وهيئته وضع واحد لا وضعان مستقلّان ، سواء كان المشتقّ من المقولات التسعة العرضية ، أو من غيرها ومن توابع الأعراض كالحركة ، والسرعة والبطء اللتين تحملان على الحركة في مقام توصيف الحركة بالسرعة والبطء.

فعلى هذا البيان تكون النسبة بين محلّ النزاع والمشتقّ الاصطلاحي العموم والخصوص من وجه ، إذ المصادر من المجرّد والمزيد خارجة عن محلّ النزاع. ومثل أسماء الفواعل والمفاعيل داخلة في محلّ النزاع ، كما أنّ مثل بعض الجوامد يشمله جناح البحث كالزوج والحرّ والعبد ، لأنّ جميع ذلك يكون من أسامي الجوامد.

وبالجملة فإنّ المصادر سواء كانت من المصادر المجرّدة أو المزيدة خارجة عن حريم النزاع ، لأنّها لا تحمل على الذات بالحمل الشائع ، إذ ليس من سنخ الحمل الشائع في المحاورة أن يقال : زيد إكرام أو ضرب ، وإنّما يقال : زيد عدل ، من باب المبالغة ، ولكن يكون من قبيل غير حمل الشائع من الإطلاقات المجازية.

والحاصل لا ينبغي الشكّ في أنّ مثل هذا السنخ من المشتقّ خارج عن محلّ الكلام ، كما أنّ ذلك السنخ من الجوامد داخل في محلّ النزاع ، كما ذهب إليه فخر المحقّقين وصاحب المستند قدس‌سرهما في مسألة الرضاع.

وبالجملة فإنّ الجامد هو أيضا على شكلين ، أحدهما ما يكون موضوعا لمعنى منتزع عن مقام الذات ، كالإنسان والحيوان والشجر والتراب ونحو ذلك ،

٤٧٢

وثانيهما ما يكون موضوعا لمعنى منتزع عن أمر خارج عن مقام الذات ، وذلك كما تقدّم مثل عنوان الزوج والرقّ والحرّ وما شابه ذلك فهذه أربعة أقسام بالسبر والتقسيم. ومحلّ البحث في هذه المسألة كما تقدّمت الإشارة إليه لا اختصاص له بالمشتقّات المصطلحة فقط كما ربما يوهم عنوان النزاع فيها ، بل القسم الثاني من الجوامد داخل فيه أيضا ، كما أنّه لا يعمّ جميع المشتقّات بل يختصّ بخصوص القسم الأوّل منها.

فملخّص الكلام أنّ النتيجة الحاصلة من جميع ما ذكرناه في المقام من الأقسام الأربعة عبارة عن أنّ محلّ البحث هنا في القسم الأوّل من المشتقّ والقسم الثاني من الجامد ، والقسمان الآخران خارجان عن بحث كيفية وضع المشتقّ من الأصل والأساس.

فانقدح بذلك التحرير أنّ النسبة بين المشتقّ في محلّ النزاع وكلّ من المشتقّ المصطلح والجامد عموم من وجه كما تقدّم ، لأنّ الأفعال بتمامها والمصادر كلّها مطلقا ـ المزيدة والمجرّدة ـ جميعا من المشتقّات الاصطلاحية بالقطع واليقين ، ولكنّها مع ذلك غير داخلة في محلّ البحث. والعناوين الانتزاعية مثل عنوان الزوج والحرّ والرقّ وأمثال ذلك من الجوامد ، مع أنّها ليست من مقولة المشتقّ الاصطلاحي ، إلّا أنّها داخلة في محلّ البحث والكلام. فالنزاع يجري في كلّ عنوان جار على الذات باعتبار تلبّسها بالمبدإ بنحو من أنحائه ، سواء كان ذلك المبدأ من إحدى المقولات التسع الواقعيّة حسب ما تقدّم كالكمّ والكيف والأين وأشباه ذلك ، أم كان من توابعها كالشدّة والضعف والسرعة والبطء ، أم كان من الاعتبارات كالملكية والزوجية والحرّية وما شاكلها ، أم كان من الانتزاعيات كالفوقية والتحتية والسابقية والمسبوقية والإمكان والوجوب والامتناع وأمثال ذلك كلّه.

٤٧٣

فتلخّص أنّ دخول الشيء في محلّ النزاع في مقامنا هذا يبتنى على أصلين :

الأصل الأوّل : أن يكون الشيء جاريا ومحمولا على الذات المتلبّسة بالمبدإ ومتّحدا معها خارجا بنحو من أنحاء الاتحاد ، وبذلك الركن والأساس خرجت المصادر المزيدة ، لأنّها غير جارية على الذات المتّصفة بها ، فإنّها مغايرة معها خارجا وعينا ، فلا يقال في المحاورة : زيد إكرام ، إذا كان زيد متّصفا بهذا المبدأ ، بل يقال : زيد كريم. وهكذا يكون الأمر بالنسبة إلى المصادر المجرّدة ولا يشملها النزاع ، لعدم صحّة حملها في المحاورة على الذات ، لعدم صحّة قولك : زيد علم أو عدل أو زهد أو صبر إلّا من باب المبالغة مجازا ، وإن قلنا بأنّها تكون من جملة المشتقّات ، كما أنّ هذا هو الحقّ الصحيح من المختار. وهكذا الأفعال بتمامها غير داخلة في محلّ النزاع ، لكونها فاقدة لهذا الأصل والركن الركين.

والأصل الثاني : عبارة عن أن تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ بأن تكون لها حالتان : حالة تلبّسها بالمبدإ ، وحالة انقضاء المبدأ عنها ، فإذا عرفت هذا الركن فلا ينبغي الريب في أنّ القسم الأوّل من الجوامد خارج عن حريم النزاع كالإنسان والحيوان والشجر وما يشاكلها من العناوين الذاتية ، وذلك من جهة أنّ قوام الإنسانية والشجرية والحيوانية في الصدق والتطبيق متقوّم ببقاء صورة النوعية ، فإذا انقضت تلك الصورة فلا محالة أنّ الذات غير باقية ، إذ الإنسانية إذا تبدّلت بتراب وهكذا الشجرية إذا تبدّلت بالرماد لا يصدق على ذلك التراب والرماد عنوان الإنسان والشجر.

فبذلك يعلم أنّ صدق هذه العناوين متوقّف على بقاء صورة نوعية الإنسان والشجر ، فإذا تبدّلت بالرماد والتراب فلا يجوز الحمل والجري ، فكيف يجوز أن يقال للتراب أنّه إنسان وللرماد بأنّه شجر.

فإذن لا يجري النزاع فيما إذا كان قوام الشيء من حيث الذات بصورته

٤٧٤

النوعية كالإنسان والشجر والمدر والتراب والحجر ، إذ لا شكّ أنّ صدق عنوان الشجرية والمدرية والترابية يتقوّم ببقاء الصورة النوعية ، فالإنسان والشجر إذا كانا باقيين بحالة الصورة الإنسانية والشجرية في ضمن تلك الصورة الباقية النوعية التي تكون في قبال الصورة النوعية لسائر الأشياء يجوز أن يطلق عليه عنوان الإنسان والشجر ، وإذا صار ترابا ورمادا بالإحراق فالإطلاق غلط وكذب ، بل الصحيح عند ذلك هو صدق عنوان الرماد والتراب عليه ، لاتصافه بهذه الصورة الجديدة دون صورته الاولى.

والحاصل بعد تبدّل الصورة النوعية الأوّلية إلى هذه الصورة النوعية الجديدة الترابية والرمادية لا يصدق عليها عنوان الإنسان والشجر عند من يكون في المحاورة من أهل النظر وإن كان الجسم والهيولى بحالهما باقيين مع دقّة النظر ، لأنّ مجرّد الاستعداد لا يكفي في صدق الجري ، بل إنّما يدور صدق الجري مدار بقاء صورة النوعية.

والوجه في ذلك أنّ المبادئ في أمثال ذلك مقوّمة لنفس الحقيقة والذات ، وبانتفائها تنتفي الذات ، فلا تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ.

وبعبارة اخرى : إنّ شيئية الشيء إنّما تكون بصورته النوعيّة لا بمادّته ، فإذا فرض تبدّل الإنسان بالتراب ، أو الكلب بالملح ، فما هو ملاك الإنسانيّة أو الكلبيّة وهو الصورة النوعيّة التي قد انتفت وانعدمت ؟ ووجدت حقيقة اخرى وصورة نوعيّة جديدة ثانية ، وهي عبارة عن الصورة النوعيّة الترابية أو الملحية.

ومن البديهيات الأوّلية أنّ الإنسان والكلب والشجر لا يصدق على التراب والملح والرماد أصلا وأبدا بوجه من الوجوه ، لأنّ الذات غير باقية ، وهي منعدمة بانعدام الصورة النوعيّة ، ومع عدم بقاء الذات لا يشملها النزاع ، ولا معنى لأن يقال : إنّ الإطلاق عليها حقيقة ، أو لا بل هو يكون من باب المجاز.

٤٧٥

وأمّا المادّة المشتركة بين الجميع المعبّر عنها بالهيولى وإن كانت باقية بالدقّة العقلية ، إلّا أنّها هي ملكوت مبهمة وقوّة محضة صرفة لإفاضة الصورة عليها ، من دون أن تكون بحدّ من الملاك كالشيء من هذه العناوين ، ولا تتّصف بالإنسانيّة أو الكلبيّة أو نحوها بحال من الأحوال. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من الجوامد.

بقي الكلام في بيان القسم الثاني من الجوامد ، وهو عبارة عمّا إذا كان منتزعا عن أمر خارج عن مقام الذات ، فلا ينبغي الريب في دخوله في محلّ النزاع ، كعنوان الزوج ، والرقّ ، والحرّ ، وأمثال تلك الأمثلة ، إذ الذات فيه بحالها باقية بعد انقضاء المبدأ عنها ، كما تقدّم مثاله في الزوجة الصغيرة.

وحينئذ يدخل في محلّ النزاع ، من جهة أنّ الإطلاق عليها حال الانقضاء حقيقة أو مجاز.

ويؤكّد ذلك ما ذكرناه من شمول النزاع لهذا القسم من الجامد أيضا ما ذكره فخر المحقّقين والشهيد الثاني قدس‌سرهما في الإيضاح والمسالك (١) ، من ابتناء الحرمة في المرضعة الثانية على النزاع في مسألة المشتقّ ، في من كانت له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة ، وقد أرضعت الكبيرتان الصغيرة ، فتحرم عليه المرضعة الاولى ، لصدق أمّ الزوجة عليها ، والصغيرة ، لصدق بنت الزوجة عليها.

وإنّما الكلام والإشكال في المرضعة الثانية ، فقد ابتنت الحرمة في هذه المسألة على النزاع في مسألة المشتقّ. فبناء على أنّه موضوع للأعمّ يصدق عليها عنوان أمّ الزوجة ، باعتبار أنّ المرتضعة كانت زوجة فتحرم ، وبناء على أنّه موضوع لخصوص المتلبّس بالمبدإ فعلا لا يصدق عليها هذا العنوان بالفعل ،

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ٥٣ ، ومسالك الإفهام ١ : ٣٧٩.

٤٧٦

فلا وجه في حرمتها كما لا يخفى.

وقد بقي هنا شيء لا بدّ لنا من الإشارة إليه ليتّضح لك عدم ورود إشكال شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) عليه ، وهو عبارة عن أنّ النزاع في هذه المسألة مختصّ بالهيئة في سعة مفهومها الاشتقاقي وضيقه ، من دون وجه اختصاص لها بمادّة دون مادّة ، من دون أن يكون له نظر إلى كيفية المادّة بأنّها ذاتيّة أو عرضية ، وأنّ بزوالها تنعدم الذات أو أنّها باقية ، إذ كلّ ذلك غير دخيل في محلّ البحث والنزاع.

نعم المادّة إذا كانت ذاتيّة لا يعقل فيها بقاء الذات عند زوال التلبّس ، ولكن لا ينبغي الغفلة في أنّ الهيئة غير مختصّة بها ، بل الحقّ والإنصاف يقضي بأنّها تعمّ ما يعقل فيه بقاء الذات عند زوال التلبّس.

مثلا المادّة في الناطق بالقطع واليقين تكون ذاتية ، ولكنّ الهيئة بالقطع واليقين لا يختصّ وضعها بها ، بل يشمل غيرها كالقائم ونحوه من الهيئات ، كما أنّ الأمر يكون كذلك في مادّة الحيوان ، فإنّها ذاتيّة ولا يعقل بقاء الذات بدونها ، إلّا أنّ الهيئة غير مختصّة بها ، بل تعمّ غيرها أيضا ، نظير العطشان وأمثاله ، وهكذا بالنسبة إلى بقيّة الهيئات.

وبالجملة : فإنّ لبّ المقصود عبارة عن أنّ النزاع هنا مختصّ بوضع الهيئة فقط ، وأنّها وضعت لمعنى وسيع عامّ ، أو أنّها موضوعة لمعنى ضيّق خاصّ فقط ، ولا ينظر إلى المادّة والمبدأ أصلا وأبدا.

فانقدح بذلك التحقيق أنّه لا فرق بين أن يكون المبدأ ذاتيّا أو عرضيا ، فإنّ ذاتية المبدأ غير مضرّة بوضع الهيئة للأعمّ ، إلّا أنّه إذا كان وضع الهيئة مختصّا بذلك المبدأ كما في العناوين الذاتية ، فبما أنّ الوضع فيها شخصي فالنزاع

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٣.

٤٧٧

غير جار فيها أصلا وأبدا.

فالمقصود الحاصل من هذه المقدّمة عبارة عن أنّ الخارج عن محلّ الكلام والبحث العناوين الذاتية من الجوامد والأفعال والمصادر من المشتقّات.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ لشيخنا الاستاذ قدس‌سره هنا كلاما وإشكالا في جريان نزاع المشتقّ فيما إذا كان المبدأ فيه منتزعا عن مقام الذات ، من دون أن يحاذيه شيء في الخارج ، مثل ما إذا كان من سنخ خارج المحمول كالعلّة والمعلول ، والممكن وما يقابله من الواجب والممتنع ، فإنّه خارج عن محلّ البحث.

وذلك من جهة أنّ في تلك الموارد من هذه العناوين لا يعقل بقاء الذات وزوال التلبّس ، فتكون من سنخ العناوين الذاتية ، فإنّ الإمكان مثلا منتزع عن مقام ذات الممكن وهو الإنسان ، أو الملك والجنّ ، لا عن أمر خارج عن مقام ذاته وحقيقته ، إذ لو لا ذلك فلا محالة يكون الممكن في مرتبة ذاته خاليا عن الإمكان ولا يكون متّصفا به ، فعند ذلك يلزم انقلاب الممكن إلى الواجب أو الممتنع ، لاستحالة خلوّ شيء عن أحد الأقسام الثلاثة ، أو الالتزام بأنّ الموادّ الثلاثة أي الوجوب والإمكان والامتناع وإن كانت خارجة عن ذات الشيء وذاتيّاته ، لأنّها نسبة إلى وجود الشيء الخارج عن مقام الذات ، إلّا أنّها منتزعة عن ذلك المقام ، فلا تعقل أن تخلو ماهيّة من الماهيّات عن أحد هذه المواد الثلاثة في حال من الأحوال. وهكذا العلّية والمعلوليّة ، فإنّهما منتزعتان عن نفس ذاتهما ، لا عن خارج مقام الذات ، وإلّا يلزم اتّصاف ذات العلّة وذات المعلول بغيرهما ، وهو بديهيّ البطلان.

ولكنّ المنصف المتأمّل فيما ذكرناه في المقام ينقدح له الجواب عن إشكال شيخنا الاستاذ قدس‌سره ، وذلك من جهة أنّ البحث في المشتقّ ـ كما أشرنا إليه آنفا بالتفصيل ـ ليس إلّا وضع الهيئة فقط ، من دون أيّ ربط بمادّة دون مادّة ، إذ قد

٤٧٨

عرفت فيما تقدّم أنّ وضع الهيئات نوعي لا شخصي ، فمن باب المثال : هيئة (فاعل) وضعت لمعنى ، وهيئة (مفعول) وضعت لمعنى ، وزنة (مفعل) بضمّ الميم وكسر العين وهي (اسم فاعل من باب الإفعال) وضعت لمعنى ، وهكذا إلى آخر الهيئات من المجرّد والمزيد فيها ، إذ من البديهيات أنّ عدم جريان النزاع في بعض أفراد الهيئة من جهة عدم إمكان بقاء الذات فيها مع زوال المبدأ ، لا يوجب عدم جريانه في كلّي الهيئة التي تعمّ ما يعقل فيه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ ، ولا يكون البحث حينئذ من سعة مفهوم هذه الهيئة وضيقه لغوا بعد ما كانت الذات باقية حال الانقضاء في جملة من المواد.

ولا يذهب عليك أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ النزاع إنّما يكون في وضع هيئة مفعل ، وهيئة فاعل ، وهيئة مفعول ، ولا ريب أنّ هذه الهيئات لا تختصّ بالمواد التي لا يعقل فيها بقاء الذات مع زوالها ، كالممكن والواجب والممتنع والعلّة والمعلول ، وما شاكل ذلك ، لئلّا يجزي النزاع فيها ، بل تعمّ ما يمكن فيه بقاء الذات مع زوال التلبّس وانقضاء المبدأ عنها ، كالمقيم والمنعم والقائم والضارب والمملوك والمقدور وأشباه ذلك. ومن البيّن أنّ عدم مجيء النزاع في بعض المصاديق والأفراد لا يوجب لغويّة النزاع عن الكلّي ، بعد ما كانت الذات بالنسبة إلى أكثر مصاديقها قابلة للبقاء مع زوال المادّة.

نعم لو كانت الهيئة في مثل لفظ الممكن وما يقابلانه موضوعة بوضع على حدة ، لكان لما أفاده هو قدس‌سره مجالا واسعا ، ولكان البحث عن سعة مفهومهما وضيقه حينئذ لغوا محضا ، إلّا أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ الهيئة فيها موضوعة في ضمن وضع لفظ جامع بينها وبين غيرها بوضع نوعي ، وهو عبارة عن هيئة مفعل مثلا.

ما ذكره هو قدس‌سره فيه خلط بين جريان النزاع في الهيئات العامّة التي لا يختصّ

٤٧٩

وضعها بمادّة.

فانقدح بما ذكرناه في المقام أنّ الخارج عن مورد البحث أمران :

أحدهما : العناوين الذاتية.

وثانيهما : الأفعال والمصادر المجرّدة والمزيد فيها.

وقد بقي الكلام في دخول هيئة اسم الزمان في محلّ الكلام ، إذ مع اعتبار بقاء الذات بعنوان الركن الثاني الذي قد تقدّم اعتباره في محلّ البحث يشكل دخولها في النزاع ، لعدم شموله لما إذا لم تبق الذات.

وبالجملة ، فقد أشكل في جريان النزاع في مثل أسماء الزمان ، إذ الذات بعنوان الركن الثاني لا بدّ من أن تكون باقية ، فبما أنّه لا شكّ بأنّ الزمان يكون من الامور المتصرّمة ينعدم وينوجد ، فإذن لا قرار للزمان من حيث الثبوت والبقاء حتّى يمكن أن يقال : إنّ المقتل وضع لخصوص حال بقاء الذات ، أو أنّه موضوع للأعمّ من المتلبّس بالبقاء وعدمه.

فعلى هذا ليس للزمان إلّا فرد واحد ، بخلاف سائر أسماء المشتقّات ، كالقائم ، والضارب والمضروب ، أو الفاعل والمفعول والمفعل ، الذي يكون محمولا على الذات الذي يسمّى بزيد ، لأنّ زيدا بعد انقضاء القيام عنه بعروض القعود بذاته باق ، فيصحّ أن يبحث أنّ في هذا الحال أيضا يصحّ إطلاق القائم عليه كالأوّل ، أو هو مختصّ بالأوّل دون الثاني ، إذ أنّ زيدا بعد انقضاء القيام عنه بمجيء الجلوس يكون موجودا كوجوده في حال تلبّسه بالقيام في الخارج ، فإذا كان هو موجودا فللنزاع مجال بأن يقال : هل القائم وضع بعنوان الاسم لخصوص أن يكون زيد بحالة الاستواء ، أو بعد عروض الجلوس وانقضاء حال الاستواء أيضا يصحّ ، فيكون اسما لكلا الحالتين ، وليس الأمر كذلك في أسماء الأزمنة ؛ إذ الزمان ليس له قرار وثبات ، بل إنّما ينوجد وينعدم آناً فآنا.

٤٨٠