دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

وبالجملة ، فإنّ كلّ واحد من الحروف لا وضع له في عالم المفاهيم في الخارج والذهن وعالم الاعتبار بوجه من الوجوه ، وإنّما يؤخذ في الكلام لإيجاد ربط خاصّ عند تركيب مخصوص عند التكلّم في المحاورة فقط ، وليس إلّا بمعنى أنّه لو لا وضع الحروف لم تحقّق وتوجد رابطة بوجه من الوجوه من هذه الخصوصية بين أجزاء الكلام ، وذلك من جهة أنّه من البديهي عدم شيء من الرابطة بين مفهوم «زيد» ومفهوم كلمة «دار» في حدّ ذاتهما بأنفسهما ، لأنّهما في عالم المفاهيم مفهومان متباينان بالحقيقة والذات ، فلا بدّ عند قضاء الحاجة من رابط ليرتبط أحدهما بالآخر ، وذلك منحصر في كلمة (في) كما أنّ الرابط بين المبتدأ به والمبتدأ منه منحصر في كلمة (من) ، وهكذا كلمة (على) بين المستعلي والمستعلي عليه ، إلى آخر سائر كلمات الحروف لما لها من الخصوصية الإيجادية في الكلام عند المحاورة.

والحاصل أنّ المعاني الحرفية بتمامها معان إيجاديّة في كلّ كلام عند كلّ محاورة من دون أن يكون لها كيان ومفهوم في أيّ موطن من الخارج والاعتبار والذهن إلّا في مقام الاستعمال والتخاطب في الكلام التامّ الذي اخذ الحرف في تركيبه.

وتكون من هذا القبيل صيغ العقود والإيقاعات حسب ما تقدّم عند المشهور من الأصحاب بأنّها أسباب لإيجاد مسبّباتها في مقام إنشائها بها كالملكية والزوجية وأمثالهما ، مع الفرق بينهما من جهة اخرى ، وذلك عبارة عن أنّ هذه الصيغ بالاستعمال موجدة لمسبّباتها في عالم الاعتبار فقط ، فيكون وعاؤها منحصرا في عالم الاعتبار ، بخلاف الحروف ، فإنّها موجدة للمفاهيم المخصوصة الغيرية في وعاء الاستعمال ، فتكون صيغ العقود والإيقاعات مستقلّة في موطنها ، بخلاف الحروف فإنّها لا استقلال لها ، وإنّما الفرق بينهما يكون من

١٤١

هاتين الجهتين وليس إلّا :

الاولى : أنّ المعاني الإنشائية إنّما تكون مستقلّة في ذاتها دون المعاني الحرفية.

والثانية : أنّها مفاهيم موجودة في عالم الاعتبار ، فيكون ظرفها ذلك العالم ، بخلاف الحروف فإنّ ظرفها منحصر في وعاء الاستعمال فقط ، ولأجل أنّ الرواية المنسوبة إلى عليّ عليه‌السلام تدلّ على أنّ الحرف عبارة عمّا أوجد معنى في غيره (١).

وقد أخذ بظاهر هذه الرواية شيخنا الاستاذ قدس‌سره وقال : إنّ هذا التعريف من أجود التعريفات في باب الحروف من جهة شمولها على كيان المعاني الحرفية بتمامها وكمالها.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ المعاني على قسمين :

الأوّل : إخطاريّة محضة مستقلّة بذاتها في وعاء مفهوميّتها.

والثانية : إيجادية غيرية لا استقلال لها كذلك في ذلك العالم من دون أن يزاحمهما ثالث ، وإنّما الإخطارية لا تنفكّ عن الاستقلالية في حدّ ذاتها والإيجادية منفكّة عن الاستقلال في حدّ ذاتها. فعلى ضوء هذا البيان فلا جرم أنّ حكمة الوضع ومصلحتها تكون هي الباعث إلى وضع الأسماء للقسم الأوّل من المفاهيم والمعاني ، ووضع الحروف والأدوات الغيرية للقسم الثاني منهما لإيجاد الارتباط المخصوص بين القسم الأوّل في اتّصال بعضها ببعض في النسبة المخصوصة في طريق تحصيل ذلك الغرض المخصوص الذي عبارة عن حكمة الوضع. ومن جهة إفهام تلك العناية أفاد أهل لسان العربية عند توضيح وتفسير معاني الحروف بأنّ كلمة (من) للابتداء و (في) للظرفية ولم يفسّروهما

__________________

(١) راجع تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٦٠.

١٤٢

بالظرفيّة ، وقد استقرّ اصطلاحهم في مقام التفسير عن المفاهيم الاسمية مثل كلمة الوعاء بذات الظرفية ، يعني يعبّرون عن الوعاء بأنّه الظرفيّة. نعم ، قد تسامحوا من ناحية ترك النسبة عند عدم التصريح بها عند تفسير كلمة (في) ولم يقولوا إنّها للنسبة.

ثمّ قال قدس‌سره : يكون كالمعاني الحرفية كلّ ما يكون اللحاظ فيه آليا كاحترام شخص لأجل عظمة شخص آخر ، وهكذا العكس بالنسبة إلى الإهانة للغير بالغير (١) ، فبالنتيجة المتلخّصة إنّ المستفاد ممّا أفاد قدس‌سره في المقام من البداية والنهاية امور متعدّدة :

منها : أنّ المفهوم الاسمي والحرفي متباينان في الكيان والحقيقة ، من دون وجه اشتراك بينهما في طبيعي المعنى من الأصل والأساس ، خلافا لصاحب الكفاية قدس‌سره (٢).

ومنها : أنّ المعاني الاسمية إنّما هي مفاهيم استقلالية في ذاتها بأنفسها ، والمعاني الحرفية غير استقلالية في أنفسها بحدّ ذاتها ، بل هي كما تقدّم متقوّمة بغيرها بالحدّ والهويّة بالضرورة والبداهة.

ومنها : أنّ المعاني الاسمية بتمامها مفاهيم إخطارية ، ومعاني الحروف إنّما تكون إيجادية لا غير ، بل لا يعقل أن تكون إخطارية كما التزم بذلك صاحب الكفاية قدس‌سره كالمفاهيم الاسمية ، كيف لا ؟ إذ لو كانت مثلها لكانت مفتقرة إلى وجود رابط في سبيل ارتباطها بغيرها فترتّب على ذلك الالتزام أن يكون في مثل قولك : زيد في الدار ، ثلاث دلالات إخطارية : كمفهوم زيد ، ومفهوم الدار ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦ ـ ٢٥.

(٢) كفاية الاصول : ٤٢.

١٤٣

ومفهوم الظرفيّة من دون أن تكون هناك رابطة بين هذه المفاهيم الثلاثة التي لا يرتبط بعضها ببعض ، فعند ذلك لا يتحقّق التركيب ولا يصحّ الاستعمال ، لتوقّف صحّته على وجود الرابط بين المفاهيم الاستقلالية ، ومن الضروري أنّه منحصر في الحروف وشبهها.

ومنها : أنّ حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدويّة حال الألفاظ في مرحلة الاستعمال ، فكما أنّ الألفاظ في حال الاستعمال ملحوظة آلة ، والمعاني ملحوظة استقلالا ، فكذلك المعاني الحرفية ، فإنّها في مقام الاستعمال ملحوظة آلة ، والمعاني الاسمية ملحوظة استقلالا.

ومنها : أنّ جميع ما يكون النظر إليه آليا يشبه المعاني الحرفية ، كالعناوين الكلّية المأخوذة معرّفات وآليات لموضوعات الأحكام أو متعلّقاتها.

هذا تمام ما أفاد شيخنا الاستاذ قدس‌سره في بيان المعاني الحرفية بالتفصيل وبالتلخيص منّا.

وإذا نظرنا بعين الإنصاف : فإنّ ما ذكره قدس‌سره في تلك الامور المتقدّمة فبالنسبة إلى الأوّل والثاني من أنّ المعاني الحرفيّة والاسميّة بينهما تباين بالذات والحقيقة ، لأجل أنّ المعاني الاسميّة مستقلّة في حدّ ذاتها في عالم المفهومية وأنّ الحروف ليست كذلك من حيث المفهوم ، غير قابل للإنكار ، فيكون في نهاية الصحّة والقبول والمتانة إلى حدّ لا مناص من التسليم بذلك ، حسب ما تأتي الإشارة إليه قريبا بحول الله تعالى عزوجل.

وأمّا الأمر الثالث : الذي هو عبارة عن أنّ المعاني الاسميّة إخطاريّة بخلاف المعاني الحرفية ، فإنّها إنّما تكون إيجادية محضة ، ففيه أنّ الإيجادية بهذا المعنى الذي أفاده قدس‌سره في بيان المعنى الحرفي ، وبهذا المعنى الذي جعله ضدّ المعنى الاسمي مورد للنظر والإشكال ، بل المنع ، لأنّ الإيجادية بذلك البيان الذي

١٤٤

بيّنه قدس‌سره لا تنطبق على المعنى الحرفي ، بل يكون المعنى الحرفي حسب ما نتعرّض له لا ربط له بما أفاده قدس‌سره وذلك من جهة أنّه إذا كان المعنى الحرفي بهذا النحو من التفسير والإيجاد التكويني صحيحا ، فلا بدّ من أن يكون استعمال كلّ واحد من الحروف في مورد الآخر محكوما بالصحّة ، كما إذا جعلت كلمة (كاف) في مقام كلمة (في) بأن يقال : زيد كالدار ، في مكان زيد في الدار. والحال أنّ هذا القبيل من الاستعمال يعدّ من الأغلاط في مقام الإخبار والاستعمال عند أهل اللغة واللسان.

بل هذا المعنى الذي التزم به هو من الإيجادية حيث يسقط الحرف عن درجة الاعتبار ويلحقه بالمهملات التي ليس لها مفهوم في الواقع والحقيقة ، وكيف لا ينقضي تعجّبي من مثله ؟ مع أنّ للحروف معان مخصوصة ـ كما سيأتي كلامنا في بيان ذلك المعنى المخصوص عن قريب مفصّلا ـ فإنّ المعنى الحرفي إنّما يكون عبارة عن الخصوصيّة التي توجب الارتباط بين المفهومين المستقلّين ، بحيث لو لا وضع الحروف لهذه الخصوصية لما تحقّق شيء من الارتباطات بين المفاهيم المتباينة في المحاورة بوجه من الوجوه عند لزوم تلك الارتباطات ، نظير رفع الذي يدلّ على خصوصيّة الفاعلية بمعنى صدور الفعل عنه ، والنصب الذي يدلّ على المفعوليّة أي بمعنى وقوع الفعل عليه ، فيكون من هذا القبيل من حيث البطلان ما ذكره قدس‌سره من تشبيه الحروف من حيث عدم المفهوم لها بمن يكون احترامه بالغير.

بيان ذلك أنّ المقايسة غلط محض ؛ لأنّ من يكون احترامه بالغير ليس له احترام لو لا وجود هذا الغير ، بخلاف الحروف ، فإنّها وإن كانت غير مستقلّة في المفهوم إلّا أنّها تدلّ على ما لها من الخصوصية في الغير ، بخلاف وجود التبعي ، فإنّه تبعي محض بحيث لو لا وجود المتبوع فلا يبقى للتابع وجود من أصل.

١٤٥

وبالجملة ، فإنّ الفرق بين من ليس له احترام من أصل وبين المفهوم الغير المستقلّ ، يكون أظهر من الشمس وأبين من الأمس ؛ إذ الحروف لها مفاهيم في الوجود إلّا أنّها غير مستقلّة في المفهوميّة بخلاف احترامات التبعية المحضة ، إذ لا هويّة لها إلّا بتبع المتبوع ، وذلك لأنّ المعاني الحرفيّة وإن كانت غير مستقلّة في أنفسها ، بل هي متعلّقة بالمفاهيم الاسمية بحدّ ذاتها وبعالم مفهوميّتها على نحو لو لم يكن ذلك الغير لم يكن لها أيّ وجه من الاستقلال في أيّ وعاء فرض في عالم الوجود من الذهن أو الخارج أو الاعتبار ، ولكن لا يخفى عليك أنّها مع ذلك كلّه لا يلزم كونها إيجادية محضة بالمعنى المتقدّم كالوجود التبعي بالضرورة من الوجدان.

وبالجملة ، فإنّ معاني الحروف وإن كانت ليست بإخطارية كمفاهيم الأسماء ، ولا تخطر في الأذهان كما تخطر مفاهيم الأسماء عند التكلّم بألفاظها مركّبا أو انفرادا ، ولكنّها ليست بإيجاديّة بالمعنى الذي اختاره قدس‌سره. وذلك من جهة أنّ المعاني الحرفية وإن كانت غير مستقلّة بحدّ ذاتها إلّا أنّها متعلّقة بالمفاهيم الاسمية في حدّ ذاتها وفي عالم مفهوميّتها ، بحيث لا مكان لها من الاستقلال في أيّ ظرف من الظروف من المفهومية الذهنية والخارجية والاعتبارية.

ولكن مع ذلك كلّه لا ملزم لكونها بذلك المعنى من الإيجاديّة التي فسّرها هو قدس‌سره ؛ إذ ربط الحروف بين المفاهيم الاسمية والتراكيب الأدبية الكلاميّة في اللغة والمحاورات التي لا ربط لبعضها بالبعض الآخر إنّما هي من جهة دلالتها على معانيها التي وضعت بإزائها ، لا من ناحية إيجادها المعاني الربطيّة في وعاء الاستعمال والشكل التركيبي الكلامي الأدبي.

فبما أنّ كلمة (زيد) وكلمة (دار) من دون التركيب متباينتان بلا ربط بينهما ، وكلمة (في) إذا وقعت في الوسط يحصل التركيب بعنوان (زيد في الدار) تدلّ

١٤٦

كلمة (في) على ربط زيد بالدار لا بالدكّان والفندق ، وهذا المعنى من المفهوم وضعي دلالي ، لا أنّه إيجادي محض بلا وضع ومفهوم.

وبتقريب آخر : إنّ كلمة (في) في جملة (زيد في الدار) ـ باعتبار دلالتها على ما وضع له في اللغة العربية لهذا المعنى الخاصّ من الظرفيّة ـ رابطة بين جزئي هذا الكلام الذي لا ربط لأحدهما بالآخر في حدّ ذاتها قبل تحقّق هذا الشكل من التركيب المشاهد.

فانقدح بما ذكرناه في المقام أنّه كما أنّ الأسماء حاكية عن مفاهيمها الاستقلالية في كيانها بحدّ ذاتها بأنفسها في وعاء المفهومية ، كذلك يكون أمر الحروف من حيث الحكاية عن المفاهيم غير المستقلّة ، ومن حيث الحكاية لا فرق بينهما ، والفرق إنّما يكون بالاستقلال في الأوّل وعدمه في الثاني ، فالحاكي في الإثبات والدلالة عن تعلّق قصد المتكلّم في مقام الثبوت عند التخاطب بإبلاغ المعاني الاستقلالية هو الأسماء ، والحاكي عن تعلّق القصد كذلك بإبلاغ المعاني غير الاستقلالية هو الحروف وأمثالها.

فصارت النتيجة عند ذلك عدم الفرق بين الاسم والحرف إلّا في نكتة واحدة ، وهي عبارة عن أنّ المعنى الاسمي مستقلّ بحدّ ذاته في عالم المفهوم والمعنى ، ولأجل ذلك يتّصف المفهوم الاسمي بالإخطاريّة ، والمعنى الحرفي غير مستقلّ كذلك فليس بإخطاريّ ، فلا يخطر إلى الذهن إلّا في ضمن المفاهيم الاستقلالية ، وهذا المقدار من التبعية لا يوجب أن يكون إيجاديا محضا ويكون مفهومها الموجود المسلّم في معرض الغفلة والتجاهل.

وقد تبيّن بما ذكرناه بطلان ما أفاده قدس‌سره من أنّ المفهوم والمعنى إمّا إخطاري وإمّا إيجادي غير مستقلّ ولا ثالث لهما ، وإنّما الأوّل معنى اسمي والثاني معنى حرفي.

١٤٧

وتوضيح الفساد هو أنّ المعنى الحرفي وإن لم يكن إخطاريا في نفسه لعدم استقلال له في نفسه ، إلّا أنّه ليس بإيجادي كما تقدّم. ولا يجوز التجاهل والتغافل عن ثبوت المفهوم لجميع الحروف في تجاه المفاهيم كالمفاهيم الاسميّة ، بل الحقّ أنّه إنّما يتحقّق ذلك بالتدبّر والتعقّل.

فظهر لك من جميع ما ذكرناه في المقام جهتان :

الاولى : عدم صحّة القول بأنّ المعاني الحرفيّة والمفاهيم الأدويّة إيجادية فقط بحدّ المهملات من دون أن يكون لها نحو ثابت في شيء من الظروف إلّا في موطن الاستعمال ، بل الحقّ أنّ للحروف معان مساوية للمعاني الاسميّة بلحاظ ثبوت المفهوم لها بالوضع المقرّر الثابت في المحاورة واللغة في عالم المفهوم والتصوّر والتعقّل لمن كان له تدبّر في تشخيص المفاهيم بالتأمّل والتفكّر.

والثانية : أنّها غير مستقلّة في المفهومية في حدّ ذاتها بل تكون متقوّمة بالمفاهيم الاسمية ، ولكن ذلك لا يضرّ بثبوت المفهوم لها في ذلك الوعاء ـ كما يأتي بأنّ هذا هو الحقّ المبين ـ من دون أن يكون مستلزما لصيرورة الحروف من الأدوات الإيجادية المحضة في موطن الاستعمال بالقطع واليقين ، إذ من الممكن أن يكون المعنى المتصوّر غير مستقلّ في نفسه وكان له مفهوم بالوضع المعيّن من دون أيّ شاهد ودليل على كونها إيجاديّة في موطن الاستعمال.

وأمّا الأمر الرابع الذي التزم به قدس‌سره من أنّ المعاني الحرفية إنّما تكون مغفول عنها في حال الاستعمال دون المفاهيم الاسمية ، فهو من أصله لا أساس له ، بل كلّ منهما يشرب من عين واحدة من هذه الجهة ، إذ كما أنّ اللحاظ مستقلا يتعلّق بإظهار المعاني الاسمية عند اقتضاء الحاجة إلى إبرازها كذلك ، فكذلك اللحاظ غير الاستقلالي قد يتعلّق بالمفاهيم الحرفيّة لما فيه من تلك الخصوصية التي لا بدّ من الإخبار عنها في مقام التخاطب عند المحاورة ، من دون وجدان فرق بينهما

١٤٨

في ذلك ؛ على أنّ كثيرا ما قد يتعلّق اللحاظ الاستقلالي بالمفاهيم الحرفية ، وإنّما يؤتى بغيرها في الجملة التركيبية في الكلام مقدّمة لإفادة تلك الخصوصية والتضييق عند جواب السائل ، فيقال في جواب السائل عن كيفية مجيء زيد مع العلم بأصله : إنّه جاء في يوم كذا أو على حالة كذا ومركوب كذا. ومع ذلك كيف يمكن القول بأنّ المفاهيم الحرفيّة ملحوظة آلة في حال الاستعمال ومغفول عنها في تلك الحال.

فقد انقدح ممّا أوضحناه لك في المقام أنّ الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي هو استقلال المعنى بالذات في الاسم وعدم استقلاله في الحرف ، وأمّا بالنسبة إلى سائر الجهات فلا فرق بينهما بوجه من الوجوه أصلا وأبدا ، ومن هنا اتّضح لك بطلان ما ذكره قدس‌سره من أنّ الفرق بينهما في أركان أربعة ، وبيان البطلان أنّ الامور التي جعلها جهة الفرق في الامتياز بينهما بتمامها باطلة ولا أساس لها بالقطع واليقين.

أمّا الأمر الأوّل : فلا يذهب عليك أنّه مبنيّ على المقابلة بين إيجادية المعاني وإخطاريّتها ، فبنفي الثاني يتحقّق الأوّل ، مع أنّك قد عرفت أنّه لا مقابلة بينهما أبدا وأصلا ، ومع هذا اللحاظ لا يستلزم نفي الإخطاريّة عن المعاني الحرفية إثبات إيجادية لها ، فإنّ ملاك إخطاريّة المعنى الاستقلال الذاتي ، فإذا كان كذلك يخطر في الذهن عند التعبير عنه ، بلا فرق بين ما إذا كان في ضمن تركيب من الكلام التأليفي أم لم يكن ، ومعيار عدم الإخطارية عدم الاستقلال بذلك العنوان ، ولأجل ذلك لا يخطر بالبال عند التكلّم به بالانفراد في ميدان المقال. ومن البديهي أنّ عدم الخطور بالبال عند التكلّم بها منفردا في ميدان المقال غير ملازم لكونها إيجادية ، فانقدح بهذا التقريب أنّه لا مقابلة بينهما بوجه من الوجوه.

١٤٩

وأمّا الأمر الثاني : فهو عبارة عن أنّه لا كيان للمعنى الحرفي بما هو معنى حرفي إلّا في ضمن كلام تركيبي ، فلما أنّك قد عرفت بما لا مزيد عليه ـ عمّا ذكرناه في المقام من البيان ـ أنّها كالمعاني الاسمية المتحقّقة الثابتة المتقرّرة في عالم المفهوميّة ، بلا فرق في ذلك بين ما إذا استعملت الحروف والأدوات فيها أم لم تستعمل. نعم ، مع الاعتراف بأنّه لا استقلال لها في حدّ ذاتها ، ولكن قد عرفت أنّ ذلك لا يضرّ بكونها ذا مفهوم في ذلك الحال.

وأمّا الأمر الثالث : فلا يخفى عليك أنّه عبارة عن الفرق بين الإيجاد في الإنشاء والإيجاد في الحروف حسب ما تقدّم ، فقد وقفت على بطلانه من الأساس بما أوضحناه في المقام من أنّ المعاني الحرفيّة ليست بإيجادية حتّى نحتاج إلى بيان الفرق بينها وبين المعنى الإيجادي في باب الإنشائيات بمثل ما ذهب إليه هو قدس‌سره على أنّه لا وعاء لها في غير موطن الاستعمال من الكلام التأليفي ، بخلاف الإيجاد في الإنشائيات ، فإنّ لها وعاء مناسبا وهو عالم الاعتبار.

وأمّا الأمر الرابع : فهو عبارة عن أنّ الحال في المعاني الحرفيّة كحال الألفاظ عند استعمالها ، فبطلانه قد اتّضح بما تقدّم بما لا مزيد عليه.

ومن العجيب أنّه قدس‌سره جعل هذا الأمر الرابع هو الركن الركين في المقام على مدّعاه ، إذ قال في مقام التأكيد بأنّ بانهدامه تنهدم الأركان كلّها من الأساس ، وذلك من جهة أنّ المعنى الحرفي لو كان ملحوظا وملتفتا إليه ينقلب عن المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي وليكون إخطاريا ، فلا جرم يكتسب مكانا واقعيا في غير الكلام التركيبي في ذلك ، من جهة أنّ المعيار ـ مضافا إلى ما بيّنّاه من أنّ المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي مقصود بالإفهام في مقام التفهيم ـ في إخطارية المعنى استقلاليّته بالذات في حدّ نفسه كما عرفت مفصّلا لا اللحاظ والالتفات

١٥٠

إليه مستقلّا ، ومن البديهيّ أنّ اللحاظ والالتفات إلى المعنى لا ينقلب إلى الإخطارية إذا لم يكن مستقلا بحدّ ذاته ، بحيث كلّما يستعمل يتبادر إلى البال في ذهن السامع عند الانفراد وإن لم يكن في ضمن كلام تركيبي.

ولأجل ما بيّنّا لك أنّ المعنى الحرفي مع كونه ملحوظا وملتفتا إليه غير متّصف بالإخطارية لعدم استقلاله في عالم المفهوميّة بخلاف المعنى الاسمي ، لاستقلاله في تلك الجهة ، ولأجل ذلك تكون له إخطاريّة محضة.

وقد بقي الكلام في ما ذكره قدس‌سره خامسا من أنّ كل ما كان النظر إليه آليا دون الاستقلالي فهو يشبه الحروف ، ففيه :

أوّلا : ما ذكرناه آنفا من أنّ النظر إلى المعنى الحرفي إنّما يكون كالنظر إلى المعنى الاسمي من الاتّصاف بالاستقلالية.

وثانيا : لو سلّمنا ذلك وقلنا : إنّ النظر إليه آليّ لا استقلالي ، إلّا أنّ ذلك لا يكون معيارا لصيرورة المعنى حرفيّا ، كما أنّ اللحاظ عند الاستقلالي لا يكون مدركا لحرفية المعنى ، كما أنّ اللحاظ الاستقلالي لا يكون ملاك الاسميّة ، بل ملاك المعنى الحرفي كما تقدّم إنّما يكون في التبعية الذاتيّة التي تكون بنفسها تعليقية فقط ، وملاك المعنى الاسمي ليس إلّا استقلاليّته الذاتية ، بمعنى أنّه في حدّ ذاته لا يتقوّم بالغير.

وبعبارة أوضح : إنّه على المسلك الصحيح ـ كما سلك هو قدس‌سره إليه ـ المعنى الحرفي والاسمي متمايزان بالذات والحقيقة ، بل هما لا يدوران في المعنى الحرفي والاسمي بما هما حرفي واسمي مدار اللحاظ الآلي والاستقلالي ، وذلك لبداهة أنّ المعنى حرفيّ وإن لوحظ استقلالا ، واسمي وإن لوحظ آلة ، فبما أنّهما غير متقوّمين بهاتين الجهتين فلا يكون ذلك منشأ لاختلافهما.

هذا تمام الكلام في بيان القول الثالث.

١٥١

القول الرابع من المعنى الحرفي : وهو قول بعض مشايخنا المحقّقين قدس‌سره (١) ، وهو عبارة عن أنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الأدويّة ليست إلّا كالنسب والروابط الخارجيّة التي لا استقلال لها في حدّ ذاتها ، بل هي عبارة عن عين الربط ، لا أنّها ذات ثبت لها الربط. وقد أفاد هو قدس‌سره في وجه ذلك أنّ المعنى الحرفي يباين المعنى الاسمي ، بمعنى أنّ المعاني الاسميّة مستقلّة في وعاء المفهوم ، بخلاف المعاني الحرفيّة ؛ فإنّها لا استقلال لها بل هي قائمة بالغير. وقد بيّن في تقريب مراده كيفيّة أقسام المعاني من الجواهر والأعراض مع التعرّض لتوضيح معنى الواجب والممكن في سبيل تفسير ما اختاره في المقام من المعاني الحرفيّة.

وحاصل ما ذكره في تقريب ما يريده من اختياره من المعاني الحرفيّة في مقابل المعاني الاسميّة عبارة عن بيان كيفيّة شكل جهة أقسام الموجودات بأنّه كما تختلف الموجودات الخارجية من الواجب والممكن والجوهر والعرض من حيث العلّة في الوجود ، ومن حيث الاستقلال وغير الاستقلال في عالم العين والوجود ، كذلك يكون الأمر بالنسبة إلى كيفية المفاهيم الاسمية والحرفية من حيث الاستقلال في الأوّل وعدمه في الثاني.

توضيح ذلك : أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ الجوهر إذا وجد في الخارج يوجد في نفسه لا في الموضوع ، بخلاف وجود العرض فإنّه لا يمكن أن يتحقّق إلّا في موضوعه ، بل وجود العرض وتحقّقه لا في الموضوع في عالم الخارج يكون من المحالات المسلّمة ؛ إذ وجود العرض في الخارج تابع لوجود المتبوع

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٣.

١٥٢

والموضوع ، فيكون وجوده متّحدا مع وجود موضوعه في الخارج ، ولا يمكن أن يتحقّق العرض في الخارج منفكّا عن الموضوع ؛ لأنّ ثبوت شيء لشيء إنّما يكون فرع ثبوت مثبت له.

وبالجملة ، فإنّه قدس‌سره ذكر لتوضيح مقصده ما ملخّصه عبارة عن أنّ المعاني الحرفية متمايزة عن المعاني الاسمية في حدّ ذاتها ، فيكون بينهما تباين واقعي بحدّ لا يكون بينهما جهة اشتراك في طبيعي معنى واحد ؛ إذ من الواضح أنّ الفرق بين الاسم والحرف لو كان بمجرّد اللحاظ الآلي والاستقلالي وكانا متّحدين في المعنى ، لكان قابلا لأن يوجد في الخارج على نحوين كما يوجد في الذهن كذلك ، مع أنّ المعاني الحرفيّة كسائر أنواع النسب والروابط لا توجد في الخارج إلّا على نحو واحد وهو الوجود لا في نفسه ، بل إنّه يوجد في الغير فقط لا في نفسه.

وبيان ذلك : أنّهم في الفلسفة العالية تعرّضوا لأقسام الوجود وقسّموها على أربعة أقسام :

الأوّل : وجود الواجب عزوجل ، فإنّ سنخ وجوده إنّما يكون في نفسه ولنفسه وبنفسه ، بمعنى أنّه موجود قائم بذاته وليس بمعلول لغيره والممكنات الكائنات التي هي عبارة عن كلّ ما سوى الله بتمامها في الأشكال المختلفة ـ وأنحائها من الأجرام والأفلاك ، والسماوات السبع ، والأرضين السبع ، وما فيهن وما بينهنّ من الإنس والجنّ ، والملائكة والشياطين ، والشمس المضيئة ، والقمر المنير والأنجم والبحار والأنهار والحيتان في شتات أنواعها واختلاف ألوانها ـ مخلوقات بيد قدرته ومعلولات في عزّة وجوده جلّ جلاله وعزّ شأنه ، فإنّه تعالى يكون هو مسبّب الأسباب وإليه يرجع بديع الخلقة ، وبذاته تختم وتنتهي سلاسل العلل والأسباب في مختلف أنواعها وبشتّى ألوانها وصورها ، وأنّه تعالى عزوجل

١٥٣

يكون هو الخالق لها بالإبداع ، فقال لها : كن ، فيكون.

والثاني : وجود الجوهر ، وهو عبارة عن وجوده في نفسه وبغيره ، يعني كما ذكرناه أنّه مخلوق ومعلول لغيره ولأجل ذلك يقول أهل المنطق العالي في تعريف وجود الجوهر : إنّه ما يوجد في نفسه لنفسه بغيره.

والثالث : عبارة عن وجود العرض ، ولا شكّ أنّه وجود في نفسه ولغيره ، بمعنى أنّه غير قائم بذاته في الوجود الخارجي ، بل في الوجود العيني الخارجي متقوّم بالموضوع الذي في ظرف تحقّقه في الخارج يتحقّق العرض في ضمنه ويكون من أوصافه وصفته.

وذلك من جهة أنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فمن المستحيل تحقّق العرض بلا تحقّق موضوع موجود في موطن الخارج والعين ، ولأجل ذلك يقول أصحاب الفلسفة : إنّ العرض ما يوجد في نفسه لغيره ، ومثل هذا الوجود موسوم بالوجود الرابطي عند اصطلاح أهل الفلسفة.

الرابع : الوجود الرابط في قبال الوجود الرابطي ، وهو عبارة عن الوجود الغير المستقلّ ، بمعنى أنّه وجود لا في نفسه ، وذلك من جهة أنّ حقيقة الربط والنسبة لا توجد في الخارج إلّا بتبع وجود المنتسبين من دون كيان له في نفسه ومن دون استقلال له أصلا وأبدا ، فهو بذاته متقوّم بالطرفين لا في وجوده ، وهذا بخلاف العرض فإنّ ذاته غير متقوّم من حيث المفهوم بموضوعه ، بل لزوم القيام به ذاتي لوجوده وتحقّقه في الخارج.

وقد انتهى كلامنا إلى بيان القول الرابع الذي ذهب إليه في المعنى الحرفي بعض مشايخنا المحقّقين قدس‌سره بأنّ للحروف مفهوم مسلّم في قبال من أنكر مفهوم المعاني الحرفيّة.

وقد تقدّم حاصل ما أفاده على مدّعاه في المقام ، وهو عبارة عن أنّ الوجود

١٥٤

تارة : يتحقّق في نفسه لنفسه بنفسه ، وذلك كوجود الواجب ، وذلك لأنّ وجوده يكون موجودا في نفسه ، ويصدّق ذلك صحّة الحمل كما تقول : إنّه تعالى موجود.

وأمّا وجوده لنفسه بنفسه ؛ إذ من البديهي أنّه تعالى ليس صفة للغير بالضرورة من الوجدان.

وأمّا أنّه موجود بنفسه ، فمن الواضحات أنّه ليس في موجوديّته معلولا للعلّة التي هي أثر في وجوده وتحقّقه.

واخرى : ليس الأمر كذلك ، بل الموجود يكون في نفسه لنفسه ولكن بغيره ، وذلك مثل وجود الممكن من الجواهر دون الأعراض ؛ لأنّ وجوده إنّما يكون في نفسه ، لأجل صحّة الحمل حيث يصحّ أن يقال : إنّ الماء والحجر والمدر والسماء والأرض موجودة. وأمّا أنّه موجود لنفسه بغيره ، فمن جهة عدم كونه صفة للغير على ما هو المشاهد في العين والخارج. وأمّا عدم وجوده بنفسه ، لأنّه يكون موجودا بالغير ، فيكون الغير هو العلّة لوجوده وإيجاده وخلقته ، بخلاف الوجود والموجود لنفسه ، لأنّه في موجوديّته لا يكون معلولا لغيره كوجود الواجب ، لأنّ وجوده وموجوديّته في ذاته لذاته بذاته يكون في نفسه بنفسه لنفسه.

وثالثة : يكون وجود الموجود أيضا لنفسه ، إلّا أنّه يكون في غيره وبغيره ، وذلك مثل وجود الأعراض ؛ إذ لا شكّ في أنّ الأعراض إنّما سنخ وجودها ليس إلّا في نفسه ، وذلك من جهة صحّة الحمل على ما هو المشاهد بالوجدان كقولك : إنّ البياض موجود ، ولكنّها موجودات بالغير وفي الغير ، فيكون الغير هو الخالق لها ، فتكون من المعلولات والمسبّبات التي تحتاج في الوجود إلى العلل والأسباب ، لأنّها إنّما تكون من سنخ الأوصاف المحمولة على الغير الذي يكون هو الموصوف بتلك الأوصاف. وأمّا أنّها موجودات في غير نفسها ، فلأنّها

١٥٥

محتاجة في وجودها إلى علّة لإيجادها في عالم العين.

فصار المتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ الوجود من ناحية الحمل وصحّته مشترك في جميع تلك المراتب الثلاثة ، لصحّة قولك : إنّ الواجب موجود ، والجوهر موجود ، والعرض موجود.

وبعبارة موجزة : إنّ حمل الوجود كما يصحّ على الواجب ، كذلك على الممكنات بجميع أقسامها من الجواهر والأعراض.

فإذا علمت ما بيّنّاه في المقام من تلك المراتب الثلاث المشتركة في الوجود ، فاعلم أنّ هنا وجود آخر يكون موجودا لا في نفسه ، بل إنّما يكون موجودا في غيره ، وذلك مثل وجود الرابط دون وجود الرابطي ، وإنّما وجود الرابط يكون كوجود النسبة التي لا تكون من الوجودات في نفسها ، بل إنّما تكون من الوجودات في غيرها ، إذ من اليقين والضرورة ـ بلا مجال شكّ وارتياب ـ أنّه عند التفسير والسؤال عنها لا يعبّر بكلمة : «ما هو ؟» بخلاف الموجودات في نفسها ، إذ يصحّ أن يسأل عنها بكلمة : «ما هو ؟» في مقام الشرح والتفسير للاطلاع على بيان حقيقتها ، فيكون المعنى الحرفي من هذا السنخ من المفهوم في عالم الوجود ، لكن لا في نفسه ، بل إنّما يوجد في غيره ، نظير وجود الرابط والنسبة التي تحقّق بين المنتسبين.

نعم ، لا يخفى عليك أنّ هذا النحو من المفهوم والمعنى ليس مرادفا لمفهوم الرابط ومفهوم ذات كلمة النسبة ، وذلك من جهة أنّ كلمة الرابط وكلمة النسبة لهما مفهوم في حدّ ذاتهما كالمفاهيم الاسمية وأنّهما بما لهما من المفهوم إنّما يكونان موجودين في عالم التصوّر والمفهومية كموجوديّة مفاهيم الألفاظ من الأسماء ؛ إذ عالم المفهوم لا يقاس بعالم الواقع والخارج والعين ، نظير مفهوم المتناقضين ؛ إذ لا شكّ أنّ المتناقضين يستحيل تحقّقهما في الخارج والعين ، مع

١٥٦

أنّ لهما مفهوم معقول في عالم المفهومية والتصوّر.

ويكون من هذا القبيل مفهوم المستحيل ، ومفهوم شريك الباري ، إذ من الواضح والبديهي أنّ المحال من هذه الأمثلة في جميع تلك الصور عبارة عن وقوعها وتحقّقها الواقعي في عالم العين والخارج من شريك الباري والمتناقضين إلى آخر الأمثلة ، لا تصوّرها وتعقّل مفهومها في وعاء المفهوم لعدم استحالتها في عالم المفهوم والتصوّر ، بل بينهما فرق كالفرق بين العنوان والمعنون ، لعدم المنافاة بين إمكان تصوّر مفهوم العنوان مع استحالة وقوع المعنون في عالم العين والخارج ، إذ ربما يكون المعنون مستحيل الوجود في عالم الخارج مع إمكان تصوّر العنوان وثبوته في عالم المفهوم والمعنى.

فيكون مرادنا من الرابط والنسبة هو واقعهما لا مفهومهما ؛ إذ المعنون ليس في مرتبة العنوان حتّى يمكن أن يقال : إنّهما من حيث المفهوم يكونان من سنخ المترادفين ، بل هذه النسبة تختلف باختلاف الملابسات بالمكان والزمان والصدور والوقوع وغير ذلك من كيفيات الوقوع والصدور من الحالات والصفات والمتعلّقات.

فإذن لا مانع من تصوّر المعنى والمفهوم للحروف في عالم الثبوت كتصوّر مفهوم الرابط والنسبة في وعاء الواقع ، فيكون هذا التصوّر من سنخ تصوّر المعنى والمفهوم للحروف. فهذا التصوّر يكون بمنزلة الاستدلال بالنسبة إلى مقام الإثبات ، مع كونه من طرق التعقّل في سبيل تصوير المفهوم للمعاني الحرفية في عالم الإمكان والثبوت.

وإذا علمت ما ذكرناه في شرح مقصده قدس‌سره بالنسبة إلى إمكان تصوّر سنخ مفهوم المعنى الحرفي في مقام الثبوت :

فقد استدلّوا على الإثبات والوقوع ـ أي وقوع وجود الرابط في قبال وجود

١٥٧

الرابطي وهو عبارة عن وجود العرض ـ بتقريب : أنّا غالبا نعلم بوجود الجوهر والعرض على نحو اليقين في الخارج والعين ، ولكن نشكّ في ثبوت العرض له في مقام الاتّصاف ، فتوجد هنا قضيّتان : القضيّة المتيقّنة ، والقضية المشكوكة. ومن البديهي أنّه لا يمكن أن تكون القضية المتيقّنة بعينها هي القضيّة المشكوك فيها ؛ إذ من الواضح عدم إمكان تعلّق صفة اليقين والشكّ معا بشيء واحد في وقت وزمان واحد ، لما بينهما من التضادّ في نهاية الضدّية.

وبهذا البيان نستكشف أنّ للربط والنسبة وجود في مقابل وجود الجوهر والعرض ، وهو مشكوك فيه ، بخلاف وجودهما في الخارج. أمّا كيفية وجوده فإنّ وجوده وجود لا في نفسه ؛ إذ النسبة والربط إن وجدت في الخارج بوجود نفسي يلزمه أن لا يكون مفاد القضيّة الحملية ثبوت شيء ، بل إنّما يكون ثبوت أشياء ثلاثة ، فلا جرم نحتاج عند ذلك إلى الرابط بين هذه الموجودات الثلاثة ، فانقدح لك هنا أنّه إذا كان موجودا في نفسه فلا محالة نحتاج عند ذلك إلى الرابط ، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

ويترتّب على ذلك أنّ الأسماء بما لها من الألفاظ إنّما هي موضوعة للماهيّات القابلة للوجود المحمولي ، أعني الوجود في نفسه بجواهرها في حدّ ذاتها وأعراضها على النوعين والنحوين ، كما تلحظ وتوجد في الذهن بذلك المنوال كذلك ، والتي تقع في جواب «ما هو» إذا وقع السؤال عن حقيقتها. والحروف والأدوات موضوعة للنسب والروابط الموجودات لا في أنفسها ، المتقوّمة بالغير بحقيقة ذاتها لا بوجوداتها فقط ، ولا تقع في جواب «ما هو» ، فإنّ الواقع في جواب «ما هو» ما كان له ماهية تامّة في الخارج.

فتحصّل أنّ وجود الرابط سنخ وجود لا ماهية له ليسأل عنه بما هو ، ولأجل ما ذكرناه في شرحه لا يدخل تحت شيء من المقولات ، بل إنّما يكون من حيث

١٥٨

الوجود من سنخ أضعف مراتب الوجودات المتقدّم ذكرها.

وقد انقدح من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ تنظير المعنى الحرفي والاسمي بالجوهر والعرض ليس بواقع في محلّه ، لأنّ العرض إنّما يكون موجودا في نفسه لغيره.

فيكون حاصل الاستدلال إثبات الوجود لا في نفسه بل في غيره ، بتقريب أنّ الشخص تارة يكون عالما بوجود زيد والبياض في العين والخارج ، ولكن يشكّ في أنّه متّصف بالبياض أو أنّه متلبّس بالسواد والأبيض يكون هو (عمرو) دون (زيد) ، فهنا يكون سنخان من القضيّتين : الاولى القضية المتيقّنة ، وهي عبارة عن تحقّق العلم بوجود (زيد) و (البياض) في الخارج ، والثانية القضية المشكوكة التي هي عبارة عن الترديد بأنّ الأبيض يكون هو (زيد) أو لا ؟ بل (زيد) أسود من حيث الوجه ، والأبيض يمكن أن يكون هو (عمرو).

فإذا عرفت ذلك فلا يخفى عليك بالضرورة من الوجدان أنّ القضية المتيقّنة بالقطع واليقين تغاير القضية المشكوكة ، فإذا صدّقت أنّ القضيّة المشكوكة مغايرة للقضية المتيقّنة فلا مناص لك من الالتزام بأنّ هنا يكون وجودا رابعا لا في نفسه ، بل إنّه يكون في غيره ، هذا الذي ذكرناه في المقام إنّما يكون بالنسبة إلى إثبات الوجود لا في نفسه في مقام الإثبات.

وأمّا البرهان على الالتزام بذلك الوجود وأنّه إنّما يكون لا بدّ من القبول من جهة أنّ المنكر إذا قال باحتياج هذا السنخ من الوجود أيضا إلى رابط فنحن نقول : إنّ وجود الثالث أيضا يحتاج إلى الرابط ، وهكذا الرابع والخامس والسادس إلى ما لا نهاية له ، فلا جرم لا مناص له إلّا الالتزام بوجود سنخ من الوجود لا في نفسه.

هذا غاية ما يمكننا تقريره في مقام التوضيح لكلامه قدس‌سره في المعنى الحرفي.

١٥٩

ثمّ بقي هنا كلام ينبغي التنبيه عليه ، وهو عبارة عن أنّ الحروف والأدوات لم توضع لمفهوم النسبة والربط ـ كما تقدّمت الإشارة إليه بالإجمال ـ لأنّ ذلك إنّما يكون من المفاهيم الاسمية المستقلّة في وعاء مفهوميّتها ، بل إنّما الذي وضعت له الحروف ـ ليس إلّا ـ واقع النسبة والربط ، بمعنى أنّ الحروف من حيث المفهوم عبارة عمّا هو بالحمل الشائع نسبة وربط الذي تكون نسبة ذلك المفهوم إليه نسبة العنوان إلى المعنون ، لا نسبة الطبيعي إلى فرده ، فإنّ الطبيعي متّحد مع أفراده ذهنا وخارجا ، بخلاف العنوان فإنّه لا يتعدّى عن مرحلة الذهن إلى العين والخارج ، بل إنّما يكون مغايرا للمعنون من حيث الذات والوجود كمثل مفهوم العدم وشريك الباري عزوجل واجتماع النقيضين ، بل مفهوم الوجود على القول بأصالته ؛ إذ نسبة هذه المفاهيم لا تتعدّى عن مرحلة الذهن إلى العين والخارج ، ومن أجل ذلك لا يصحّ حملها على واقعها بالحمل الشائع الصناعي.

فإذن مفهوم النسبة والربط نسبة وربط بالحمل الأوّلي الذاتي لا بالحمل الشائع الصناعي ؛ لأنّ ما كان متّصفا بهذا الحمل هو نسبة وربط معنون هذا العنوان وواقعه. ومن هنا كان المتبادر من إطلاق لفظ الربط والنسبة واقعه لا مفهومه ؛ فإنّ إرادته تحتاج إلى عناية ، كما يكون الأمر كذلك في قولهم : شريك الباري يكون ممتنع الوجود ، واجتماع النقيضين كذلك ، والمعدم المطلق غير مخبر عنه ، إذ المحكوم به بهذه الأحكام إنّما يكون معنونات هذه الامور لا مفاهيمها ، لأنّها غير محكوم بها ، كيف وإنّها موجودة من دون أن تكون معدومة ولا ممتنعة.

فصار المتحصّل من جميع ما بيّنّاه في المقام أنّ الحروف وضعت لجميع الأنحاء من النسب والروابط بنحو الإطلاق ، بلا فرق بين ما إذا كانت بمفاد هل المركّبة أم البسيطة ، أو كانت من قبيل النسب الخاصّة المقوّمة للأعراض النسبيّة ككون الشيء في الزمان المخصوص وفي الحال المخصوص وفي أمكنة مختلفة

١٦٠