دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

وأمثالها من الإضافات والملابسات ، وأمّا الموضوع بإزاء مفاهيمها فهو ألفاظ النسب والربط والإضافات والملابسات. ونحوها من الأسماء المحكيّة عنها بتلك الألفاظ ، لا بالحروف والأدوات.

هذا تمام الكلام منّا في بيان ملخّص ما أفاد شيخنا المحقّق قدس‌سره في بيان المعنى الحرفي.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا يمكننا المساعدة على ما أفاد في بيان المعنى الحرفي بوجه من الوجوه ، وذلك من جهتين :

أمّا الجهة الاولى : فلا يذهب عليك أنّ ما أتعب فيه نفسه من تصوير الوجود لا في نفسه في مقام الثبوت والتعقّل يكون أوّل الكلام ، وذلك من جهة أنّ مجرّد وقوع الاختلاف في وجود هذا السنخ من الوجود عند الفلاسفة لا يكون دليلا مثبتا له لذلك الوجود ليكون من النقود الممهّدة في الكيس لإثبات ما أفاد.

وذلك من جهة أنّ ما ذكره في المقام من البرهان بأنّ القضيّة المتيقّنة إنّما تغاير القضيّة المشكوكة ـ على وجه تكون القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة قضيّتين مستقلّتين ، بحيث يمكن أن يقال : وجود أحدهما ممتاز في قبال وجود الآخر ، على نحو يمكن أن يقال : أحدهما وجود في نفسه والآخر وجود لا نفسه ـ ليس من البراهين المسلّمة.

وذلك من جهة عدم تمامية لابدّيّة أن القضيّة المتيقّنة يجب أن تكون غير القضيّة المشكوكة ، بحيث يمكن لك لحاظ التباين بينهما في وعاء الوجود ؛ إذ لا ينبغي الريب في أنّ الكلّي ربما يكون متيقّن الحدوث ، مع أنّ الفرد الخاصّ إنّما يكون حدوثه في ظرف الشكّ والترديد.

وذلك مثل ما إذا كنّا على يقين بدخول الإنسان في الدار ولكن عرض لنا الشكّ في أنّ الداخل في الدار هل هو (زيد) أو (عمرو) ؟ مع أنّه من الضروري

١٦١

أنّ وجود الكلّي الطبيعي لا ينفكّ عن الأفراد أو الفرد ، بل يكون عين وجود الأفراد في الخارج. فإذن كيف يمكن أن يلتزم بالضرس القاطع بعنوان الاستدلال المسلّم بالمقايسة بين القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة ، بأخذ النتيجة من تلك البراهين التي هي أوهن من بيت العنكبوت ، لإثبات سنخ وجود لا في نفسه ، ليكون هو المفهوم للمعاني الحرفيّة ؟

على أنّ الأمر يكون على خلاف ذلك ؛ إذ ليس بين الفرد والكلّي الطبيعي في الخارج شيء من التعدّد والافتراق ، بل بينهما يكون كمال الملاءمة والاتحاد ، فهذه النظرية من أصلها لا أساس لها ؛ لأنّ وجود (زيد) في الخارج يكون عين وجود الكلّي ، كما أنّ وجود الكلّي في العين والخارج يكون بعينه عين وجود (زيد) و (عمرو) و (بكر) و (خالد) بالضرورة من الوجدان.

وأمّا الجهة الثانية من الاستدلال : فلا يخفى عليك أنّ ما اعتمد عليه من برهان التسلسل أيضا لا يسمن ولا يغني من جوع ؛ لعدم الدليل على بطلان التسلسل. هذا ، مع أنّا لو سلّمنا تحقّق مثل هذا النحو من الوجود الذي عبّر هو عنه بالوجود لا في نفسه ، لا يضرّنا بوجه من الوجوه ؛ إذ سنخ هذا الموجود في الوجود لو كان متحقّقا في الخارج إنّما يكون تحقّقه بتبع الغير ، لأنّ قوام هذا الوجود في الخارج يكون بوجود طرفيها ك (زيد) والقيام.

بخلاف مقامنا ، فإنّ كلامنا في المقام إنّما يكون في بيان مفهوم المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي الذي يشار به إلى الأفراد في الخارج بعنوان الدليل الكلّي العامّ.

وبعبارة أوضح : كلامنا في بيان المعنى الحرفي مسوق لبيان المعنى الحرفي من حيث إنّه مفهوم كلّي وضعت الحروف له في انطباقه على الكثيرين من الأفراد والمصاديق في الخارج ، كمفاهيم الأسماء التي تكون وجهة وكاشفة ودليلا وعنوانا في الدلالة لإراءة الأفراد والمصاديق عند السامع في مقام التخاطب. مع

١٦٢

أنّ ما التزم به قدس‌سره ليس إلّا عبارة عن موجود خارجي جزئي ، من دون أن يكون قابلا لأن يلحظ ويتصوّر بعنوان المفهوم الكلّي في الانطباق على الكثيرين من الأفراد والمصاديق ليكون صحيحا لأن يجعل هو موضوعا له للحروف في مقام الوضع والمفهوم الكلّي.

وبالجملة ، فإنّ ما ذكره قدس‌سره غير قابل لأن يكون ملحوظا ومتصوّرا بعنوان مفهوم كلّي ، حتّى يصحّ أن يكون هو الموضوع له لألفاظ الحروف بتمامها ، حتّى يصحّ أن يكون ذلك المفهوم الكلّي هو الوجه والعنوان للدلالة على الأفراد في عالم التخاطب الخارجي في مقام التفهيم والتفهّم في الحروف كالأسماء.

وأمّا مفهوم النسبة ومفهوم الرابط فخروجهما عن محلّ الكلام إنّما يكون من الواضحات ، لأنّهما إنّما يكونان مستقلّين في المفهوميّة في الوجود كاستقلال الأسماء في المفاهيم من حيث عدم الاحتياج إلى الغير وفي الغير في الوجود في مقام الدلالة. فإذن تبيّن أنّ الالتزام بهذا النحو من المفهوم للمعنى الحرفي بذلك التقريب من الوجود ليس في محلّه.

على أنّا لو سلّمنا بثبوت هذا السنخ من الوجود الذي يمكن أن يتحقّق لا في نفسه ولا في المادّة أيضا ، لا موجب لأن يلزمنا بالتزام ذلك النحو من الوجود بعنوان أنّه يكون هو الموضوع له للحروف. وذلك من جهة أنّه لا شكّ ولا شبهة أنّ هذا النحو من الوجود لا مناص إلّا أن يتحقّق بين العرض والمعروض ك (زيد) و (البياض) ، فإذا كان هذا السنخ من الوجود هو الموضوع له للحروف ، فلا بدّ لك من الالتزام بعدم صحّة استعمال الحروف في الموارد التي لا يمكن أن يتصوّر فيها العرض والمعروض.

وذلك مثل استعمال كلمة (باء) في صفات الواجب نظير : «إنّ الله كان بكلّ شيء قديرا ، وأنّه تعالى على العرش استوى ، وأنّه تعالى يكون هو الواجب في

١٦٣

نفسه». والحال أنّ هناك لا يتصوّر الصفة والموصوف أو العرض والمعروض ؛ إذ من البديهي أنّ صفاته تعالى إنّما تكون عين ذاته ، وأنّه يكون واحدا أحدا صمدا من جميع الجهات ، مع أنّه لا ينبغي الشكّ في صحّة الاستعمال في جميع تلك الموارد بالضرورة من الوجدان ، بل ذلك واقع في آيات عديدة من القرآن.

بل الاستعمال صحيح حتّى في الموارد المستحيلة ، وذلك نظير قولك : إنّ اجتماع النقيضين من المستحيلات ؛ إذ لا شكّ أنّ كلمة (من) إنّما استعملت في المستحيل مع أنّه يكون غير ممكن الوقوع في الخارج فضلا من أن تلاحظ النسبة الموجودة فيها. فإذن لا مناص له إلّا الالتزام بعدم صحّة هذا المبنى وبطلانه.

والحاصل : فقد انتهى كلامنا إلى الجواب عمّا أفاد شيخنا المحقّق من الاستدلال لما ذهب إليه من المعنى الحرفي ، ويتلخّص مراده في جهتين :

الاولى : تثبيت الوجود للنسبة والربط في عالم الخارج في قبال وجود الجوهر والعرض.

والثانية : أنّ هذا السنخ من الوجود لا بدّ من أن يكون من المعاني الحرفيّة فقط ، وليس إلّا.

وفيهما من الاستدلال والجواب ـ كما وقفت عليه بالتفصيل في الأوّل ـ أنّ النسبة والربط لا وجود لهما في الخارج في قبال وجود الجوهر أو العرض وإن كان وجودهما مورد إصرار جماعة من الفلاسفة ، والعلّة في ذلك هو أنّه لا دليل على ذلك سوى البرهان المذكور وهو غير تامّ ، وذلك لأنّ صفتي اليقين والشكّ وإن كانتا صفتين متضادّتين فلا يكاد يمكن أن تتعلّقا بشيء في آن واحد من جهة واحدة ، إلّا أنّ تحقّقهما في الذهن لا يكشف عن تعدّد متعلّقهما في الخارج ، فإنّ الطبيعي عين فرده ومتّحد معه خارجا ، ومع ذلك يمكن أن يكون أحدهما متعلّقا

١٦٤

لصفة اليقين والآخر متعلّقا لصفة الشكّ.

كما إذا علم إجمالا بوجود إنسان في الدار ولكن شكّ في أنّه زيد أو عمرو ، فلا يكشف تضادّهما عن تعدّد متعلّقيهما بحسب الوجود الخارجي ، فإنّهما موجودان بوجود حقيقة ، وذلك الوجود من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلّق لليقين ، ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلّق للشكّ. أو إذا أثبتنا أنّ للعالم مبدأ ، ولكن شككنا في أنّه واجب ، أو شككنا في أنّه مريد أو لا ، إلى غير ذلك ، مع أنّ صفاته تعالى عين ذاته خارجا وعينا ، كما أنّ وجوبه كذلك. وما نحن فيه إنّما يكون من هذا القبيل ، فإنّ اليقين متعلّق بثبوت طبيعي العرض للجوهر ، والشكّ متعلّق بثبوت حصّة خاصّة منه له ، فليس هنا وجودان أحدهما متعلّق لليقين والآخر للشكّ ، بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهة ، ومتيقّن من ناحية اخرى.

وانقدح أنّ تضادّ صفتي اليقين والشكّ لا يستدعي إلّا تعدّد متعلّقهما في موطن النفس ، وأمّا في الخارج عنه فقد يكون متعدّدا وقد يكون متّحدا. وإن شئت فقل : إنّ الممكن في الخارج إمّا جوهر أو عرض ، وكلّ منهما زوج تركيبي ، يعني مركّب من ماهيّة ووجود ، ولا ثالث لهما. والمفروض أنّ الوجود الرابط سنخ وجود لا ماهيّة له ، فلا يكون من أقسام الجوهر ولا من أقسام العرض ، والمفروض أنّه ليس في الخارج موجود آخر لا يكون من أقسام الجوهر ولا العرض.

وأمّا الثاني فلا يخفى عليك أنّه على تقدير تسليم أنّ النسبة والرابط وجودا في الخارج في مقابل الجوهر والعرض فلا نصدّق أنّ الحروف والأدوات موضوعة لها ؛ إذ قد بيّنّا في ما تقدّم بالتفصيل أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المفاهيم والماهيات لا للموجودات الخارجية ولا الذهنية ؛ إذ الاولى غير قابلة

١٦٥

للإحضار في الذهن وإلّا فلا تكون خارجية ، والثانية غير قابلة للإحضار ثانيا ، فإنّ الموجود الذهني لا يقبل وجودا ذهنيا آخر. والمفروض أنّ الغرض من الوضع التفهيم والتفهّم ، وهو لا يجتمع مع الوضع للموجود الذهني أو الخارجي ، بل لا مناص إلّا من أن يكون الوضع لنفس ذات المعنى القابل لنحوين من الوجود الذهني والخارجي.

وبعبارة أوضح : قد ذكرنا كرارا أنّ الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني بعنوان اللابشرط ، سواء كانت موجودة في الخارج أو معدومة ، من الممكنات أو الممتنعات ، وقد يعبّر عنها بالصور المرتسمة العلمية أيضا. وعلى ذلك فلا يمكن أن تكون الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط ، لأنّها كما عرفت سنخ وجود لا ماهيّة لها ، فلا تكون قابلة للإحضار في الذهن عند التخاطب والتفاهم. وأمّا مفاهيم ذات نفس النسب والروابط فلا ريب في أنّها مفاهيم اسمية وليست ممّا وضعت الحروف والأدوات لها.

وعلى فرض التنازل والتسليم لإمكان وضع اللفظ للموجود بما هو ، ولكنّا نعلم بأنّ الحروف ما وضعت لأنحاء النسب والروابط ، وذلك من جهة صحّة استعمالها بلا رعاية أيّ عناية من العنايات المجازية في موارد يستحيل فيها نسبة ما حتّى بمفاد هل البسيط فضلا عن المركّبة.

فإذا لا فرق بين قولنا : الوجود للإنسان ممكن ، ولله تعالى جلّت عظمته ضروري ، ولشريك الباري مستحيل ؛ إذ كلمة (اللام) في جميع تلك الموارد إنّما تستعمل في معنى واحد فارد متفرّد وهو تخصّص مدخولها بخصوصيّة ما في عالم المفهوم والمعنى على نسق واحد بلا لزوم رعاية عناية في شيء منها في كلام المخلوق والخالق من الكتاب والسنّة والعرف والمحاورة ، بل بلا لحاظ شيء من نسبة في الخارج حتّى بمفاد (كان) التامّة ، فإنّ تحقّق النسبة بمفاد

١٦٦

(كان) التامّة إنّما هو بين ماهيّة ووجودها كقولك : زيد موجود. وأمّا في الواجب تعالى وصفاته وفي الانتزاعيات والاعتبارات فلا يعقل فيها تحقّق أيّة نسبة من الأصل والأساس.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في المقام بعنوان الجواب أنّ صحّة استعمال الحروف في الموارد التي يستحيل فيها ثبوتا تصوّر ثبوت أيّ شيء من النسبة الخارجية ـ كما مثّلنا صحّة استعمال الحروف فيها بلا لحاظ رعاية عناية من العلائق المجازية كما في صفات الواجب تعالى وغيرها ـ يكون بمنزلة الكشف اليقيني في أنّ الحروف غير موضوعة لأنحاء النسب والروابط في الخارج بتلك المثابة التي ذهب إليها شيخنا المحقّق قدس‌سره.

ومن هنا يظهر لك ـ ولجميع من يكون طالبا لكشف الحقيقة ـ أنّ حكمة الوضع والغرض الأقصى منه لا تجبر الواضع على أن يضع الحروف بإزاء تلك النسب ، بل إنّما تبعثه إلى وضعها لكلّ ما يصحّ استعمالها فيها في جميع الموارد التي تقدّم صحّة استعمال الحروف في المحاورة والكتاب والسنّة ، وإلّا فإن هذا القول لو تمّ يكون أخصّ من المدّعى ، بل لو تمّ فإنّما يتمّ في خصوص الجواهر والأعراض من الموارد التي يمكن فرض تصوّر تحقّق النسبة الخارجية بمفاد هل البسيطة فيها ، وأمّا بالنسبة إلى غيرها من الموارد التي تقدّم ذكرها من استحالة فرض تحقّق النسبة فيها في الخارج فلا ، أصلا وأبدا.

القول الخامس : الذي ذهب إليه بعض الأعاظم قدس‌سره (١) من أنّ الحروف والأدوات إنّما وضعت للأعراض النسبيّة الإضافيّة مثل مقولة الأين والإضافة

__________________

(١) بدائع الأفكار للمحقّق العراقي قدس‌سره ١ : ٤٩.

١٦٧

وأمثالهما ، ولبّ ما دعاه إلى اختيار هذا المسلك عبارة عن أنّ الموجودات في الخارج تكون على أشكال ثلاثة :

الشكل الأوّل : ما يكون وجوده وجودا لنفسه ، كالجوهر بما له من الاتصاف.

الشكل الثاني : ما يكون وجوده في نفسه وجودا لغيره ، كالأعراض التسعة التي ربما عبّر عنها في مقام التوضيح عن شرح وجودها بالوجود الرابطي ، وأنّها تكون على صنفين :

أحدهما : ما يحتاج في تحقّقه إلى محلّ وموضوع واحد منفرد في عالم الخارج وبذلك يصير مستغنيا عن شيء آخر ك (الكمّ) و (الكيف) ونحوهما.

وثانيهما : ما يحتاج في تحقّقه في الخارج إلى موضوعين ليتقوّم بهما ، كالعرض الأيني والإضافي وغير ذلك من الإضافات والملابسات.

الشكل الثالث : ما يكون وجوده لا في نفسه ، كأقسام النسب والروابط.

فإذا علمت تلك الأقسام فلنا أن نقول : إنّ وضع الألفاظ ليس بلا علّة وحاجة ، بل الحاجة إنّما بعثت العقلاء في كلّ لغة ومحاورة إلى وضع الألفاظ التي تدور على مدارها الإفادة والاستفادة عند التفهيم والتفهّم في مقام التخاطب ، فلا يذهب عليك أنّا بعد الفحص والتتبّع وجدنا أنّهم وضعوا الأسماء للجواهر ولعدّة من الأعراض ، وإنّما وضعوا الهيئات من المركّبات والمشتقّات للنسب والروابط.

وأمّا الحروف فوضعوها لخصوص الأعراض النسبية الإضافية ، فكلمة (في) مثلا في قولك : زيد في الدار ، إنّما تدلّ على العرض الأيني العارض على موضوعه كزيد ، والهيئة تدلّ على ربط هذا العرض بموضوعه ، وهكذا.

وإن شئت قلت : إنّ المعاني منحصرة بالجواهر والأعراض وربطها بمحلّها فقط وليس إلّا ، من دون أن يكون هنا شقّ رابع لها.

١٦٨

ومن الواضح المعلوم بالضرورة من الوجدان أنّ الحروف ليست موضوعة للقسم الأوّل ، كما ليست موضوعة لبعض الأقسام الثانية ؛ إذ من البديهي أنّ الموضوع لها إنّما تكون هي الأسماء فقط ، كما أنّها غير موضوعة للثالث ؛ إذ الموضوع له إنّما تكون هي الهيئات ، فلا جرم أنّها ـ أي الحروف ـ إنّما تكون موضوعة للأعراض النسبية الإضافية وليس إلّا.

ولأجل ذلك الذي بيّنّاه في المقام يصحّ لنا أن نقول : إنّ كلمة (في) موضوعة للأين الظرفي ، كما أنّ كلمة (من) موضوعة للأين الابتدائي ، وكذا (على) و (لام) إلى آخر سائر الحروف في كلّ لغة ولسان ، من دون أيّ فرق في ما ذكرناه في المقام بين أقسام الحروف والأدوات مطلقا من حيث ورودها على المركّبات الناقصة أو دخولها على المركّبات التامّة ، كأحرف التمنّي والترجّي والتحقيق والتشبيه وأمثالها من بقيّة الحروف الدارجة في كلّ المحاورات واللغات عند أرباب اللسان.

فصار المتحصّل من كلامه مع تفسير منّا أنّ المعنى الحرفي إنّما هو عبارة عن لحاظ وضعها لإحراز النسبة ، دون النسبة الخارجية ، بتقريب أنّ النسبة الخارجية إنّما تستفاد من هيئات الجمل التركيبية ، كقولك : زيد قائم ؛ إذ من الواضحات أنّ مفردات هذه الجملة الحملية عبارة عن كلمة (زيد) وكلمة (قائم) ، ولا ينبغي الشكّ والريب في أنّ كلّ واحد من هاتين الكلمتين إنّما تدلّ على مفهوم مستقلّ ؛ إذ من الضروري أنّ كلمة (زيد) إنّما تدلّ على شخص خارجي يكون ذلك الشخص هو المسمّى ب (زيد) ، كما أنّ كلمة (قائم) لا تدلّ إلّا على مفهوم القائم الذي هو عبارة من الأعراض التسعة التي تتشكّل من حيث مقولة الوضع الخارجي بصورة القيام الاستوائي في قبال الهيئات الوضعية المقولية الفرضية التي تتشكّل بصورة الانحناء الركوعي والسجودي

١٦٩

والقعودي وأمثالها.

بخلاف النسبة الخارجية ، لأنّها لا تستفاد من هاتين الكلمتين بما هما كلمتان مستقلّتان ، بل النسبة الخارجية ـ أيّ اتّصاف (زيد) بالقيام ـ إنّما تستفاد من تركيب الهيئة التأليفية الكلامية. وبقي هنا إحراز هذه النسبة ، فلا يذهب عليك أنّ الحروف إنّما وضعت لإحراز هذه النسبة الأينية.

ويتجسّم لك ذلك المعنى ـ الذي ليس هو إلّا مفهوم الحروف في عالم الوضع لمطلق الحروف والأدوات ـ في هذا المثال الذي نذكره لطالب الحقيقة من المعنى الحرفي ، وذلك كقول المخبر بأنّ زيد في الدار ، إذ لا شكّ لأحد في أنّ كلمة (زيد) تدلّ على من يكون مسمّى ب (زيد) كما أنّ كلمة الدار تدلّ على هذا المكان الأيني الظرفي المعلوم المشخّص في الخارج ، في قبال السوق والشوارع وسائر الأمكنة التي تكون من المفاهيم الاسمية الأينية المكانية ، بخلاف كلمة (في) في هذا الاستعمال الخبري ، فإنّها إنّما تدلّ على إحراز اتصاف (زيد) بهذا التحيّز الخاصّ الثبوتي والإثباتي فقط ، فيكون المعنى الحرفي بهذا التفحّص التامّ الحقيقي من حيث الوضع عبارة عن هذا الإحراز النسبي الخاصّ وليس إلّا.

وفيه : أنّ هذا القول إنّما يكون أظهر بطلانا من القول السابق ، وذلك من جهة أنّ المعنى الحرفي إذا كان منحصرا في ما أفاد هو قدس‌سره من إحراز النسبة في وعاء الخارج بصورة الاتصاف الموصوف بالصفة ، فلا بدّ من أن يلتزم بعدم جواز استعمال الحروف فيما ليس له مجال للاتصاف وإحراز النسبة في الخارج لاستحالة الإحراز والاتصاف في تلك الموارد ، والحال أنّه قد تقدّم أنّ صحّة استعمالها فيها يكون أظهر من الشمس وأبين من الأمس.

وأمّا أظهرية البطلان : فلا يخفى عليك أنّ من البديهي أنّ إحراز النسبة إنّما يكون من المعاني الاسمية ، فله مفهوم مستقلّ في عالم المفاهيم على نحو إذا

١٧٠

سألنا عن بيانه وتفسيره فنجيب : هو هذا ، من دون وجه فرق ظاهر في ذلك بين الظرف الأيني أو الكيفي ، بل كلّ المعاني من التمنّي والترجّي والتشبيه يكون من هذا القبيل ، لأنّ الموضوع لهذه المعاني والمفاهيم ليس إلّا لفظ كلمة (أين) وهكذا كلمة (كيف) وكلمة التمنّي والترجّي ، فمع ذلك إذا كان المعنى الحرفي هو هذا المعنى فما الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي ؟ فهذا الكلام منه قدس‌سره يدلّ على عدم الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي بوجه من الوجوه.

فتكون نتيجة هذا الكلام كون المعنى الحرفي من سنخ المعنى الاسمي من دون فرق بينهما إلّا بلحاظ الآلية والاستقلالية في الأسماء ، والحال أنّه منكر لتصوير مثل هذا المفهوم للحروف ، بل ملتزم بتباين المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي في عالم الوضع والمفهوم بالحقيقة والذات.

وبالجملة ، فقد انقدح لك أظهريّة بطلان هذا القول عن القول السابق ، إذ مضافا على ما أجبنا عن القول السابق ـ الذي يكون مشاركا من حيث الجواب لهذا القول ، بل ذلك الجواب جار هنا طابق النعل بالنعل ـ هنا أجوبة خاصّة في نهاية المتانة :

منها : أنّا نقطع بعدم صحّة كون الحروف موضوعة لإحراز الأعراض النسبية والإضافية الملابسية ، وذلك لصحّة استعمالها في ما لا يمكن لحاظ هذا المعنى فيه ، بل تصوّر أعراض النسبة في تلك الموارد يكون من المستحيل ، مع أنّه لا ينبغي الشكّ في صحّة استعمالها في ما يستحيل فيه تحقّق عرض نسبي كما إذا استعملت في موارد صفات الواجب جلّ جلاله ، بل في الاعتبارات والانتزاعيات ، إذ العرض إنّما هو صفة للموجود في الخارج ، فلا يتصوّر تحقّقه بلا تحقّق موضوع مشخّص في الخارج ، مع أنّه يكون مستحيل التحقّق في تلك الموارد.

١٧١

فعلى هذا لا ينبغي لأحد الترديد في بطلان هذا القول ؛ إذ من البديهي لمن يطّلع على استعمالات الحروف في المحاورة صحّة استعمالها في الواجب والممكن والممتنع في سياق واحد على نحو الحقيقة ، بلا لحاظ عناية من العلاقات والقرائن في جميع تلك الموارد.

فبذلك الاستعمال نستكشف على وجه القطع واليقين أنّ الموضوع لها ليس إلّا المعنى الجامع المحقّق بعنوان الحقيقة دون المجاز في تمام تلك الموارد بجميعها ، لا خصوص الأعراض النسبيّة الإضافية الإحرازية الاتصافية.

ومنها : ما قد تقدّم ، وهو العمدة في الجواب وتظهر به أظهريّة بطلانه من القول السابق ، وذلك الجواب عبارة عن أنّ لكلّ من الأعراض التسعة بأجمعها مفاهيم مستقلّة في حدّ ذاتها بأنفسها في ظرف مفهوميّتها ، من دون أيّ فرق بين الأعراض النسبية وغيرها إلّا من جهة أنّ الأعراض النسبيّة تتقوّم في وجودها بأمرين ، وغير النسبية لا تتقوّم إلّا بموضوعها ، وذلك من ناحية أنّ الأعراض بتمامها موجودات في حدّ أنفسها ، وإن لم يمكن تحقّق وجودها بلا تحقّق موضوعاتها.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ الحروف والأدوات لم توضع للأعراض النسبية الإضافية ، بل لها صيغ خاصّة وهي في اللغة موضوعة لها ، وهي عبارة عن الأسماء الموجودة في اللسان والمحاورة ، مثل كلمة الظرفية وأمثالها من الاستعلائية والابتدائية. هذا تمام الكلام بالإضافة إلى تحقيق معاني الحروف.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره بالإضافة إلى مدلول ومعاني الهيئات من أنّها موضوعة لأنحاء النسب والروابط ، فمردود بعين ما أوردناه على القول السابق ، وذلك من جهة عدم وجدان الدليل على وجود النسبة في الخارج في قبال وجود مفهوم الجوهر والعرض أوّلا وبالذات. وثانيا لو سلّمنا وجودها في مقابل مفهوم

١٧٢

الجوهر والعرض لا نصدّق وضع الألفاظ لها. وثالثا عدم وجودها وثبوتها في جميع الموارد من الاستعمال ، كما مثّلنا بالواجب والمستحيل وشريك الباري ، بالتفصيل المتقدّم.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ النتيجة الحاصلة لحدّ الآن عدم وجدان البرهان القاطع على صحّة تلك الأقوال المتقدّمة والآراء الماضية ، بل بطلانها هو المختار لوجود الدليل عليه. فإذن لا يمكننا المساعدة عليها بوجه من الوجوه ، فلا جرم لا بدّ لنا من اختيار المسلك الآخر في قبال هذه المسالك والأقوال وعلى الله الاتكال ، وهو الهادي العليم الحكيم في جميع الأحوال.

فنقول ـ كما تقدّم مفصّلا بما لا مزيد عليه في التكرار ـ : إنّ المعنى الحرفي الذي يكون من المرتكزات في الأذهان لكلّ واحد من أهل المحاورة واللسان في جميع لغات البلدان في أقطار العالم من العرب والإيرانيين معلوم بالإجمال بالضرورة من الوجدان ، ولأجل ذلك تستعمل تلك الحروف في تلك المفاهيم إذا اقتضت الحاجة إلى بيانها وتفهيمها في مقام التخاطب بالقطع واليقين ، فهذا المعنى الإجمالي يكون من المرتكزات المسلّمة من دون أن يكون محتاجا إلى البحث والبيان وإقامة البرهان.

إلّا أنّ السبب الباعث لنا إلى البحث عنها في علم الاصول عبارة عن الاطلاع عليها بالعلم التفصيلي ، فلا يخفى عليك أنّ المعنى الحرفي ـ كما تقدّم تفصيله ـ إنّما يباين المعنى الاسمي في ذاته وحقيقته من حيث المفهوم بينونة ذاتية على حدّ التضادّ من حيث المفهوم ، بحيث لا وجه اشتراك بينهما في أصل طبيعي من المفهوم والمعنى الواحد.

وقد تقدّم بيان ذلك التباين بأنّ المعنى الاسمي إنّما يكون من المفاهيم الإخطارية المستقلّة ، بخلاف المعنى الحرفي ، فإنّه يكون من سنخ المفاهيم

١٧٣

الإيجادية ، إذ قد أثبتنا أنّه لا مفهوم للحروف إلّا إيجاد اختصاص النسبة بين المفهومين المستقلّين لأجل التفهيم والتفهّم في مقام التخاطب ، ولكن لا على المنهاج الذي ذهب إليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره بنحو الانحصار في خصوص الإيجاد على وجه يكون المعنى الحرفي مختصّا بالإيجاد فقط ، حتّى لا يكون للحروف مفهوم إلّا كما أفاده هو قدس‌سره من الإيجاديّة.

بل المراد من الإيجادية في المعنى الحرفي عبارة عن أنّ المعنى الحرفي ليس إلّا من سنخ المفاهيم والمعاني التي لا تكون متحقّقة ولا متحصّلة إلّا بين المفهومين المستقلّين ، ومن هنا ذكروا أنّ الحروف إنّما تدلّ على المعنى في الغير. فمعنى ذلك أنّ للحرف مفهوم وضع هو له ، وإنّما ظرف ذلك المفهوم الحرفي الذي وضع له الحرف ويدلّ عليه يكون في الغير.

وذلك من جهة أنّه لا شكّ في لزوم وجود مفهوم متصوّر في الغير ليكون الحرف بالتصديق الحقيقي دالا عليه ، إذ لو لم يكن ذلك المفهوم في الغير متحقّقا لما صدق أنّ الحرف يدلّ على المعنى في الغير.

وعبارة أوضح : إنّه لو لم يكن للحرف من أصله مفهوم متحقّق في الغير ، كيف يعقل أن يقال : إنّ الحرف يدلّ على المعنى في الغير ؟ فعلى هذا لا مناص لنا إلّا الالتزام بوجود مفهوم مسلّم للحرف في الغير حتّى يصحّ أن نقول بأنّ الحرف يكون دالا عليه في ذلك الظرف ، فلا جرم يكون الغير هو المحقّق لمفهوم الحرف ، والحرف يدلّ عليه في ذلك الوعاء والظرف.

وعلى كلّ حال : إنّ تحقّق المعنى الحرفي في الغير في الجملة غير قابل للإنكار ، بل الحقّ أنّ هذا المقدار من المعنى للحروف يعدّ من الضروريات والارتكازيات المسلّمة في كلّ محاورة من اللغات المتعارفة بين العرف والعقلاء والخالق والمخلوق.

١٧٤

المسلك المختار في المعنى الحرفي

وكيف كان ، فهنا لا بدّ لنا في المقام من تمهيد مقدّمة حتّى يتّضح لك الحال في كيفية المعنى الحرفي على وجه التفصيل ، حتّى لا يبقى للإجمال في ذلك الميدان شيء من المجال ، وعلى الله الاتّكال.

فنقول : بعد ما عرفت المباينة بين معاني الحروف والأسماء من حيث الحقيقة والذات ، فلا يذهب عليك أنّ الحروف على نوعين :

الأوّل : ما يرد على الجمل المركّبة الناقصة والمعاني الإفرادية ، نظير كلمة (من) و (إلى) و (على) وأمثالها.

والثاني : ما يدخل على الجمل المركّبة التامّة ومدلول الجملة ، كحروف النداء والتشبيه والتمنّي والترجّي ، وغير ذلك من الحروف المختلفة الكثيرة بما لها من المعاني.

فاعلم أنّ القسم الأوّل موضوع لتضييق المفاهيم الاسمية في وعاء المفهوم والمعنى وتقييدها بقيود خارجة عن ذاتها وحقيقتها ، من دون أن يكون لها نظر إلى النسب والروابط الخارجية ، ومن دون أن يكون لها نظر إلى النسبيّة الإضافية ، إذ التخصيص والتضييق إنّما هو متحقّق في ذات المعنى ونفسه من حيث هو ، بلا فرق بين ما كان موجودا في الخارج أم لم يكن.

بيان ذلك : أنّ المفاهيم الاسمية ـ في كلّيتها وجزئيّتها وعمومها وخصوصها وإطلاقها وتقييدها ، وما لها من الإضافات والملابسات والحالات من القيام

١٧٥

والقعود والركوع والسجود ، في الأمكنة والأزمنة ، من السنوات والشهور والأسابيع والساعات والدقائق والآنات ـ قابلة للتقسيمات العديدة إلى ما لا نهاية له باعتبار تلك الخصوصيات والإضافات والملابسات والحصص والحالات التي تتضمّنها عند اقتضاء الحاجة بيانها في مقام الإفهام عند التخاطب لأجل التفهيم والتفهّم.

ولا ينبغي الشكّ أنّ لها إطلاق وشمول وسعة بالملاحظة إلى هذه الخصوصيّات والحصص والحالات ، بلا فرق بين ما كان الإطلاق بالمقايسة إلى الحصص المنوّعة كشمول وإطلاق الحيوان مثلا بالملاحظة إلى أنواعه التي تحته ، أو بالقياس إلى الحصص المصنّفة أو المشخّصة المميّزة نظير إطلاق الإنسان بالنسبة إلى أصنافه وأفراده ومصاديقه.

أو بملاحظة حالات شخص واحد من حيث الكمّية والكيفيّة وما يعرض له من سائر الطوارئ والأعراض من الصفات والكمالات المختلفة المتبدّلة في وعاء الدهر من الأزمنة والإفادة والاستفادة ، كما يتعلّق بتفهيم المعنى الكلّي على إطلاقه وسعته ، كذلك يتعلّق بتفهيم حصّة خاصّة منه ، فيحتاج عندئذ إلى مبرز لها في الخارج ودليل ناطق عليها في ذلك الميدان.

ولمّا لم يمكن ذلك بأخذ لفظ خاصّ في الكلام ليدلّ على تلك الخصوصيّات والحصص بأجمعها ، لخروجها عن دائرة الحصر والتناهي ، لكثرة تلك الحصص والحالات حتّى بالنسبة إلى مفهوم واحد فضلا عن جميع المفاهيم بالنسبة إلى جميع الحصص والخصوصيّات والحالات ، فلا جرم يحتاج الواضع في كلّ محاورة بمقتضى حكمة الوضع إلى تعيين وضع ما يدلّ على تلك الحالات والخصوصيّات إذا اقتضت الحاجة بيانها في مقام الدلالة عند التفهيم والتفهّم والإفادة والاستفادة ، ولم يجد في هذا الميدان وسيلة أحسن وأفضل وأسهل

١٧٦

ـ لإيفاء تلك المقاصد المتكثّرة الغير المتناهية أجوب وأنطق ـ من وضع الحروف والأدوات ونظائرها من الجمل المركّبة والهيئات الدالّة على هذه النسب الناقصة ، مثل هيئات المشتقّات ، وهيئة الإضافات والتوصيفات بما لها من الملابسات بالأمكنة والأزمنة ، ومن تبدّل الحالات من حيث التلبّس بالقيام والجلوس والركوع والسجود والتشهّد والسلام في باب الصلاة والحجّ ، وأمثال ذلك من العبادات المطلوبة في حالة خاصّة دون اخرى.

وبالجملة ، فقد انقدح لك بما ذكرناه في المقام من تمهيد المقدّمة في توضيح بيان محلّ مفهوم المعنى الحرفي الذي يتحقّق فيه الذي نسمّيه بالغير ، وأنّ الحروف وضعت في كلّ محاورة من قبل واضع تلك اللغة والمحاورة على ذلك المفهوم في ذلك الغير ، على مسلك المختار من أنّ المفاهيم الكلّية والجزئية بما يكون لهما من الوجودات المتبادلة المختلفة المتحصّصة بالحصص الكثيرة الغير المتناهية من حيث التلبّس بالزمان والمكان والقيام والجلوس والركوب والمشي ، ومن حيث الاتّصاف بالأوصاف المعنوية من العلم والحلم والحكمة والصبر ، ومن الماديّة في الأشكال المختلفة في أبعاد الألوان من الأقمشة والألبسة من حيث السواد والبياض وغيرها من الخصوصيات والحالات والحصص الطارئة عليهما الدخيلة في المقصود بما تترتّب عليها الأغراض الدنيويّة والاخرويّة.

بل تلك الحالات والخصوصيات إنّما تكون من الأهداف دون المفاهيم الكلية الاسميّة ، فبما أنّ تلك الخصوصيات دخيلة في حكمة الوضع في المحاورة بالجبر الزماني ، لأنّها تكون موردا للاحتياج الضروري الوجداني الارتكازي في جميع أبعاد التمدّن من الاقتصادي والسياسي والعسكري والانتظامي والعبادي.

١٧٧

فبما أنّها كثيرة بحدّ غير متناه على نحو لا يفي شيء آخر لإفادتها عند الإفهام والتفهيم لتصدّي تلك الوظيفة الخطيرة غير الحروف من وسائل الإفهام بالقطع واليقين ، وإلّا فليختار ذلك الغير ، فلا محالة اختار الواضع في كلّ لغة من المحاورة الحروف بعنوان الوضع لهذا الموضوع المهمّ ، ولكن في الغير لا في نفسه.

فإذن تحصّل أنّ الدالّ الجامع لجميع تلك الخصوصيات في كلّ محاورة ولسان ـ بأفضل الفصاحة والبلاغة بأسهل منطق لا يترتّب عليه شيء من العسر والمشقّة ـ ليس إلّا وضع الحروف ، بل قيام غير الحروف بهذا المقام بعنوان الوضع من قبل الواضع لا يخلو عادة عن الاستحالة ، كما بيّنّا لك ذلك غير مرّة في معنى واحد فضلا عن المعاني المتكثّرة.

وذلك نظير الصلاة بما لها من الحالات المطلوبة في الشريعة المقدّسة من البرّ والبحر والصحّة والمرض والواجب والمستحبّ في المسجد والجماعة والجهر والإخفات والسفر والحضر والليل والنهار ، ومن الحالات الاضطرارية والكيفيّات والكمّيات ، إلى أن تبلغ إلى الإيماء والإشارة والخطور في القلب ، إذن لا نحصر الوظيفة في مقام الامتثال بذلك الخطور.

فإذن لا يبقى مجال للتشكيك لأحد في أنّ التصدّي للوضع بتعيين اللفظ لكلّ واحد واحد من هذه الخصوصيات ـ ليكون ذلك اللفظ الموضوع المعيّن من قبل الواضع هو الدالّ عليها ـ من المحالات الواضحة العاديّة ، بل ذلك أمر غير ممكن عادة.

فعلى هذا لا مناص عند ضرورة الحاجة إلى بيان تلك الخصوصيات ـ في مقام التخاطب لأجل التفهيم والتفهّم ـ من استخدام الحروف في ذلك الظرف فيما إذا كان المقصود من الكلام الكلّي الذي تكلّم به المتكلّم لهذا المقصود

١٧٨

المضيّق الخاصّ.

فالواضع إنّما أتى بالحرف في مقام الوضع في الكلام لإفهام ذلك المقصود الخاصّ المضيّق لا بما له من السعة والانطباق على كلّ زمان ومكان ، وكلمة (زيد) بما لها من المفهوم قابلة لأن تكون في كلّ مكان على البدل ، فإذا قيل : إنّه في الدار ، فكلمة (في) تدلّ على أنّه متحيّز بذلك الحيّز الخاصّ في زمان خاصّ. وهكذا إذا قيل : إنّ زيدا يكون في الكوفة في يوم الجمعة. وهكذا السير ، إذ السير من حيث الصدور من الفاعل يمكن أن يتعلّق على البدل بالبلاد المختلفة ، فإذا قلت : أنت سرت من البصرة إلى الكوفة ، فتلك السعة من الانطباق الوسيع على البدل تتضيّق بإدخال كلمة «من» على البصرة وكلمة «إلى» على الكوفة لهاتين المدينتين المعروفتين في العراق دون إيران ومصر والحجاز ولبنان.

فبما أنّ المقاصد تختلف عند قضاء الحاجة إلى بيانها ، فلا جرم يحتاج الواضع الحكيم والمتكلّم العليم إلى وضع ما يدلّ عليها ويكون وسيلة لإفهامها عند قصد الناطق تفهيم تلك الخصوصية ، وليس وعاء وسعة نظره وإشرافه على المعاني والألفاظ الدالّة على المفاهيم المتكثّرة في مقام الوضع أوفى وأمكن وأسهل وأفضل وأبلغ وأفصح من الحروف ، وإلّا لاختار ذلك دون الحروف. ولأجل ذلك اختار الحروف والأدوات وأمثالهما من الهيئات الدالّة على تلك النسب الناقصة ، نظير هيئات المشتقّات ، وهيئة الإضافات والملابسات والتوصيفات.

فكلّ واضع ومتكلّم إنّما هو متعهّد في نفسه وتصوّره بأنّه متى أراد وقصد تفهيم مطلب خاصّ أو حصّة خاصّة من تلك الحصص المتقدّمة من المعنى والمفهوم الذي يكون متعلّق حاجته أن يعيّن ويجعل دالّا ومبرزا في مقام التخاطب ، وهو في المقام حرف من تلك الحروف الموضوعة في اللغة

١٧٩

والمحاورة أو ما يشابهه على نحو القضيّة الحقيقيّة ، لا بمعنى أنّه جعل بإزاء كلّ حصّة أو حالة من الحالات حرفا مخصوصا وبهذا المنوال طابق النعل بالنعل ، أو ما يحذو حذوه على نحو الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ؛ إذ قد عرفت أنّ ذلك يكون من المستحيل بحسب العادة من ناحية عدم تناهي الحالات والخصوصيات والحصص.

فكلمة (في) في جملة : «الصلاة في المسجد حكمها كذا» ، تدلّ على أنّ المتكلّم والشارع أراد بيان مطلوبيّة حصّة خاصّة من الصلاة عند المفاهمة ، وليس إلّا في مقام بيان حكم هذه الحصّة ، لا الطبيعي الشامل لكلّ فرد من الأفراد التي تنطبق عليها طبيعة الصلاة المطلقة من دون أن تكون كلمتي الصلاة والمسجد دالّتان على شيء من ذلك غير ما لهما من المفهوم المطلق اللابشرط ، وهذا التضييق والتخصيص إنّما يكون مستفادا من الحرف المأخوذ في الكلام بلا أيّ ربط بهما بما لهما من المفهوم بالوضوح والإشراق.

وبالجملة ، فقد انقدح من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ مفهوم الصلاة كلّي قابل للانطباق على الكثيرين من الأفراد والمصاديق والحصص من حيث الأمكنة والأزمنة كسائر المفاهيم الكلّية ، فإذا كان المطلوب والواجب منها عند الشارع فرد خاصّ كالصلاة في المسجد فبإبراز كلمة (في) في كلامه يتقيّد بالمسجد ، إذ من دون ذلك التقييد لا يستفاد من إطلاق كلمة الصلاة ذلك التقييد والتخصيص ، إذ مفهوم الصلاة موسّع قابل للتخصيص بغير المسجد من الأمكنة.

فبما أنّ بيان هذا المقصود من التضييق والتقييد لا يمكن إفهامه من إطلاق لفظ الصلاة ، فلا بدّ للشارع ـ بل كلّ من يطلب شيئا خاصّا من الطبائع الكلّية من المكلّفين ـ من أخذ لفظ خاصّ في الكلام ليكون هو المفهم لهذا المقصود الخاصّ من الكلام المركّب ، كقولك للمكلّف : صلّ في المسجد ، إذ من الواضح

١٨٠