دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

دون أيّة واسطة خارجية ، فلا حاجة إلى إبرازها وإحضارها فيها إلى واسطة بها تظهر وتكشف وتشخّص ؛ ضرورة أنّها لو لم تبرز ولم تحضر بنفسها في الذهن واحتيج في إحضارها فيه إلى آلة وواسطة اخرى فتلك الواسطة والآلة إمّا أن تكون نفس ذلك اللفظ ، فثبت المطلوب والمقصود ، وإمّا أن تكون لفظا أو غير اللفظ من الإيماء والإشارة بأقسامهما ، وإمّا غير اللفظ ، فأنت واقف على عدم كفايته في إبراز المقصود في تمام موارد الحاجة.

وأمّا اللفظ فلنا أن ننقل الكلام إلى ذلك اللفظ ونقول : إنّه إمّا أن يحضر في الذهن بنفسه أو لا يحضر ، وعلى الأوّل فلا فرق بين لفظ دون لفظ بالضرورة ، وعلى الثاني فإن احتاج إلى لفظ آخر فلنا أن ننقل الكلام إلى ذلك اللفظ وهكذا فيتسلسل.

وأمّا المعنى فهو يحضر فيه بتوسّط اللفظ ، فالحاضر الموجود أوّلا في الذهن هو اللفظ وبتبعه يحضر المعنى ، فكلّ سامع في مقابل المتكلّم ينتقل إلى اللفظ أوّلا ، وإلى المعنى ثانيا وبالتبع بالضرورة من الوجدان.

فصارت النتيجة الحاصلة من صدر هذا البيان إلى ذيله أنّ استعمال اللفظ وإطلاقه وإرادة شخصه أو نوعه أو صنفه أو مثله لا يعدّ من سنخ استعمال اللفظ في المعنى ، لا بالوضع النوعي ، ولا بالوضع الشخصي ، اللذين تقدّمت الإشارة إليهما فيما تقدّم عند بيان أقسام الأوضاع في اللفظ والمحاورة بوجه من الوجوه.

بيان ذلك : أنّ الوضع إنّما هو مقدّمة للاستعمال في طريق إبراز المقاصد به عند الاحتياج إلى ذلك الإبراز في مقام التخاطب ؛ إذ لولاه لاختلّ انتظام الحياة كلّها من المادية والمعنوية في المعاش والمعاد.

ومن الضروري أنّ تنظيمهما وتشكّلهما بالنسق المطلوب ـ في مسير الإنسان

٢٤١

إلى نحو التكامل والسعادة في الدنيا والآخرة بجامع شتات أشكالهما وألوانهما ـ موقوف على الوضع ؛ إذ المعاني المكنونة في عالم النفس التي تترتّب عليها الأغراض والأهداف المادّية والمعنوية لا يمكن بيانها وحكايتها وإبرازها وإحضارها في الأذهان من المخاطبين عند التخاطب والمفاهمة إلّا من ناحية الجعل والوضع الذي هو عبارة ـ بحسب الواقع ـ عن التعهّد بذكر الألفاظ عند إرادة بيان المعاني لأجل التفهيم الذي هو غير ممكن إلّا بهذا الافق المبين ، وبلحاظ هذه الحكمة العظيمة فإنّ الوضع والبيان يكون من النعم المهمّة الضرورية.

فتحصّل أنّ البحث باستعمال اللفظ في نفسه ونوعه وصنفه ومثله متوقّف على ترخيص الواضع ، أو أنّ ذلك يدور مدار حسن الطبع كما اختار ذلك صاحب الكفاية قدس‌سره إنّما يكون متفرّعا على ثبوت الاستعمال بعنوان الوضع والتعهّد بالتقريب المتقدّم ، فقبل إثبات الاستعمال في تلك الموارد لم تبلغ النوبة إلى هذا البحث الذي ذكر في الكفاية بأنّه يكون من باب المجاز بالطبع لا من باب الترخيص من قبل الواضع.

الحقّ والإنصاف أنّ هذه الموارد الأربعة من إطلاق اللفظ في شخصه ونوعه وصنفه ومثله ليس من باب الاستعمال المجازي المتعارف في المحاورة حتّى نقول إنّه من باب حسن الطبع أو بالإذن من الواضع ، أو نقول بعدم ثبوت المجاز في الكلمة كما التزمنا بذلك في استعمال اللفظ في المعنى المجازي ؛ إذ لا نحتاج إلى سنخ تلك الاستعمالات المتعارفة في المحاورة في مثل المقام في شيء بوجه من الوجوه ، لعدم الاحتياج وكفاية هذا اللفظ الواقع في كلام المتكلّم لإراءة نفسه بالتكوين والملازمة من دون لزوم إلى دخالة الواسطة من الاستعمال في إبراز ذلك المعنى ؛ إذ هذا الإطلاق إنّما يكون من قبيل إلقاء نفس ذات المعنى وإحضاره

٢٤٢

بين يدي الناظر في عالم التكوين والخارج. فعلى ضوء هذا البيان يكون هذا البحث ملحقا في سلك السالبة بانتفاء الموضوع.

وملخّص لبّ الكلام بالنسبة إلى جميع تلك الأقسام أنّا لا نحتاج إلى إبراز المعنى وإحضاره في الأذهان إلى واسطة للبيان ، إذ المعنى محرز ومبرز فيها بنفسه عند تعلّق الأغراض بها من دون حاجة إلى دخالة الوضع والاستعمال فيه من الأصل والأساس ، بل ذلك يصبح من العبث واللغو ، إذ اللفظ في نفسه إنّما يكون قابلا للحضور في ذهن المخاطب ـ كالشمس في رابعة النهار وكالنار على المنار ـ من دون لزوم أيّ احتياج إلى زجاجة وسراج ، وبالنتيجة فإنّ الوضع والاستعمال في أمثال تلك الموارد لغو لا محالة وخارج عن مورد الابتلاء والاحتياج.

هذا ملخّص إجمال بيان الردّ بالنسبة إلى جميع تلك الأقسام في البحث في ذلك المقام.

وقد بقي الكلام من حيث التفصيل بالنسبة إلى كلّ واحد من تلك الأقسام :

أمّا القسم الأوّل : فلا ينبغي الشكّ في أنّه غير معقول ، إذ يلزم من صحّة ذلك الإطلاق والاستعمال اتّحاد الدالّ والمدلول ، مثل ما إذا اطلق اللفظ واريد منه شخصه بعينه ، كقولك : زيد ثلاثي ، أو اريد ذات شخص ذلك اللفظ ، ولأجل ذلك المحذور قلنا : إنّ أمثال هذه الإطلاقات الواقعة في تكلّم أهل اللسان ليس من باب الاستعمالات والإطلاقات بعنوان حكمة الوضع والتعهّد بالتقريب المتقدّم بوجه من الوجوه ، لعدم الاحتياج إلى ذلك ، لحضور المعنى عند السامع بنفس ذلك اللفظ.

فلا يخفى عليك أنّه مع هذا التقريب لا نحتاج إلى جواب المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ اتحاد الدالّ والمدلول لا يضرّ في الإطلاق والاستعمال

٢٤٣

في المقام ، لإمكان فرض تعدّدهما باعتبار تقيّدهما بالحيثيّتين الواقعيّتين باعتبار أنّه لفظ صادر من اللافظ ليكون دالّا ، ومن حيث إنّ ذاته وشخصه يكون متعلّق الإرادة للمتكلّم فيكون مدلولا ، لعدم الدليل على اعتبار تعدّد الدالّ والمدلول ذاتا.

بل التعدّد الاعتباري يكفي في إثبات معقولية الإطلاق والاستعمال والدلالة ، وذلك من جهة أنّ هذه الدلالة ليست من سنخ دلالة الدالّ والمدلول المسبّب من حكمة الوضع بتعهّد الواضع من باب الإطلاق والاستعمال المتعارف عند المحاورة.

بل الدلالة الموجودة هنا ـ كما تقدّمت الإشارة إليها ـ أجنبيّة عن دلالة اللفظ على المعنى من الأصل والأساس ، بل هي دلالة حضورية عقلية ترفع موضوع ذلك الدلالة الاستعمالية ، وهي موجودة في جميع الأفعال الاختيارية ، وتكون من سنخ دلالة المعلول على علّته ، إذ من البديهي أنّ كلّ فعل صادر من الفاعل المختار بالاختيار يدلّ على أنّه مراد للفاعل لا محالة ، ومن الضروري المحسوس في الوجدان لزوم تقدّم الإرادة على الفعل الاختياري في جميع الأفعال الاختيارية.

فصارت النتيجة أنّ هذه الدلالة ليست من مقولة دلالة الألفاظ على مدلولاتها بوجه من الوجوه.

ولأجل ذلك ذهب شيخنا المحقّق قدس‌سره إلى جواب آخر حيث قال : التحقيق أنّ المفهومين المتضايفين ليسا بمتقابلين على نحو الإطلاق ، بل إنّما التقابل يكون في قسم خاصّ من التضايف وهو عبارة عمّا إذا كان بينهما تعاند وتضادّ في الوجود كالعلّية والمعلولية والابوّة والبنوّة التي حكم البرهان بامتناع اجتماعهما في وجود واحد ، لا في مثل العالمية والمعلومية والمحبّية والمحبوبية ، فإنّهما

٢٤٤

يجتمعان في الواحد غير ذي الجهات كما لا يخفى. والحاكي والمحكي والدالّ والمدلول كاد أن يكون من قبيل القسم الثاني حيث لا برهان على امتناع حكاية الشيء عن نفسه كما قال عليه‌السلام : يا من دلّ على ذاته بذاته ، وقال عليه‌السلام : أنت دللتني عليك (١).

ولكنّ الإنصاف أنّ هذا الجواب كجواب المحقّق صاحب الكفاية ليس بصحيح ولا يمكننا المساعدة عليه أيضا ؛ إذ من الواضح أنّ ما ذكره من أنّ التقابل إنّما يكون في قسم خاصّ من التضايف لا في مطلق المتضايفين وإن كان حقّا صحيحا ، إلّا أنّه غير مربوط بالجواب عن الإشكال المتقدّم في المقام من عدم تعقّل اتحاد الدالّ والمدلول في محلّ الكلام بالكلّية من الأصل والأساس ، فإنّ استخدام اللفظ بعنوان الوضع والتعهّد للدلالة على المعنى بعنوان أنّه دالّ ، والمعنى الذي يكون غير اللفظ مدلول ذلك اللفظ ومستفاد من ذلك اللفظ ، بمعنى أنّ الدالّ شيء والمدلول المستفاد من الدالّ شيء آخر ، وهو قسم خاصّ من الدلالة التي لا يمكن أن تجتمع في شيء واحد ، إذ قد بيّنا لك عند توضيح الدلالة أنّها بحسب الحقيقة عبارة عن وجود اللفظ وحضوره في ذهن السامع والمخاطب في المرحلة الاولى ، ثمّ حضور المعنى ووجوده في ذهنه بتبعه في المرحلة الثانية.

ومن الضروري لكلّ واحد من العارفين بالاستعمال والدلالة في كلّ محاورة من المحاورات الدلالية أنّ كلّ سامع أو مخاطب عند سماع اللفظ من الناطق المستعمل في معناه ينتقل إلى الدالّ واللفظ في الرتبة الاولى ، وإلى المعنى في الرتبة الثانية ، فحضور اللفظ في الرتبة الاولى علّة لإحضار المعنى في ذهن

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٣١.

٢٤٥

السامع في الرتبة الثانية. ومن الواضحات البديهية المبيّنة أنّ ذلك لا يتمشّى عقلا من شيء واحد ، إذ من الضروريات والبديهيات الوجدانية أنّ العلّيّة تقتضي التعدّد والاثنينية ، فغير معقول علّيّة حضور شيء في الذهن لحضور نفس ذاته وشخصه بعينه ، بل إنّ ذلك ملحق بأظهر مصاديق تحصيل الحاصل بالمقايسة إلى السامع والمخاطب.

وأمّا بالمقايسة إلى المتكلّم والمستعمل فيحتاج إلى توضيح ، وهو عبارة عن أنّ حقيقة الاستعمال إمّا أن تكون عبارة عن اعتبار اللفظ وجعله عين المفهوم والمعنى ، بحيث يعبّر بذلك عن إفناء اللفظ في المعنى ، فكأنّه بهذا الاستعمال يجعل المعنى في كفّ يد السامع والمخاطب ، وكأنّ السامع من أوّل الأمر ينظر إلى ذات المعنى ، كما أنّ هذا هو المعروف والمشهور بينهم.

أو ليس الأمر بتلك الحسّاسية والدقّة غير المتعارفة لأذهان عامّة أهل المحاورة ، بل هو عبارة عن اعتبار اللفظ وجعله واسطة لإحضار المعنى وعلامة عليه في مقام الآلة والإبراز ، كما أنّ هذا هو الحقّ الصحيح المختار.

فعلى أيّ حال لا ينبغي التأمّل في عدم تعقّل استعمال الشيء في نفسه وذاته ؛ إذ الضرورة تنادي باستحالة فناء الشيء في نفسه وجعله علامة لنفسه وذاته ، فإنّهما غير معقولين إلّا بين شيئين متغايرين في الوجود.

فانقدح بما ذكرنا في المقام أنّ اتحاد الدالّ والمدلول في الدلالات اللفظية الاستعمالية الوضعية التعهّدية ليس بأمر معقول في المحاورة ، ولأجل ذلك وقفت على عدم صحّة مقايسة المقام بدلالة ذاته تعالى على ذاته ، لأنّه قياس مع الفارق ؛ إذ لا سنخية بين هاتين الدلالتين بوجه من الوجوه ؛ إذ ذلك بالنسبة إلى ذات القدّوس الحقّ ظهور ذاتي من ناحية تجلّي ظهور ذاته بذاته ، فيكون ظهور جميع الكائنات بشتّى ألوانها وتطوّر أشكالها المادّيات والمجرّدات بذاته تعالى

٢٤٦

شأنه ، وأين التراب وربّ الأرباب ؟ وكيف يجوز مقايسة ذلك بالدلالات اللفظية في مقامنا هذا ، فإنّها تكون بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء آخر.

وقد وقفت ممّا مرّ على أنّ الاستعمال وإطلاق اللفظ في ذات شخصه لا يكون من سنخ الاستعمال في شيء بوجه من الوجوه من الأصل والأساس ، إذ من الواضحات أنّ الناطق والمتكلّم بقوله : زيد ثلاثي ـ مثلا ـ لم يقصد إلّا إحضار شخص ذلك اللفظ وذاته في ذهن السامع ، وهو بنفسه متحقّق الحضور فيه ، ومعه لا يبقى احتياج إلى الواسطة ، بل الواسطة تبقى لغويّة وتكون أشبه شيء بطلب تحصيل الحاصل كما ذكرنا مرارا.

ويرد علينا على هذا إشكال بأنّ لازم ذلك هو تركّب القضية الواقعية من الجزءين ، وذلك من جهة أنّ القضية اللفظية في المحاورة الحكائية تخبر بموضوعها ومحمولها ونسبتها عن القضية الواقعية ، وحيث قد فرض أنّه لا موضوع في المقام للقضية الواقعية في قبال القضية اللفظية ، فليس عندئذ بحسب هذا الفرض غير المحمول والنسبة. ومن الواضحات أنّ تحقّق النسبة بدون الطرفين من المحالات المبيّنة الواضحة.

وقد تصدّى للجواب عن هذا الإشكال المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأنّ الاحتياج إلى الموضوع والواسطة مسلّم في الإطلاقات المتعارفة في المحاورة في القضية الحقيقية التي هي في وجودها وحضورها في الأذهان محتاجة إلى واسطة كإطلاق اللفظ بالإضافة إلى بيان المعنى والموضوع له ، لا بالنسبة إلى حضور نفسه وذاته فإنّه لا يحتاج إلى ذلك ، إذ نفس ذاته تكون بمنزلة الموضوع في حضوره في حدّ ذاته ، فلا يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة ، بل كان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩ ـ ٣٠.

٢٤٧

حاله حال بقيّة الأفعال الخارجية والموجودات الفعلية من دون لزوم محذور تركّب القضية من جزءين.

ومن البديهي أنّ ما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، إذ الموضوع في مثل قول القائل : «زيد ثلاثي» إذا أراد به شخصه شخص ذلك اللفظ الذي هو من مقولة الكيف المسموع ، لا أنّه لفظه. ومن الواضحات كالنار على المنار أنّ اللفظ لا يحتاج في وجود نفسه في الذهن إلى شيء من الوسائط ، لإمكان إيجاده على ما هو عليه وإثبات المحمول له ، فإذن إنّ القضية لا نقص فيها من حيث التركّب من الأجزاء الثلاثة : الموضوع وهو ذات اللفظ ونفسه وشخصه ، والمحمول وهو ثلاثي ، مع النسبة بينهما.

وبالجملة إنّ كون الشيء موضوعا في القضية باعتبار أنّ المحمول ثابت له ، قد يكون المحمول ثابتا لما يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة كالمعنى. كما أنّ الأمر يكون كذلك في القضايا المتعارفة في المحاورة ، وقد لا يكون كذلك ، بل يكون ثابتا لما لا يحتاج في وجوده إلى الواسطة كاللفظ ، فبما أنّ الموضوع كان في المقام شخص اللفظ من ناحية أنّ المحمول ثابت له فإنّه سنخ حكم محمول عليه دون المعنى ، فلا يلزم المحذور المذكور ، فإنّ لزومه هنا مبتن على أن لا يكون الموضوع هو نفس اللفظ ، وعند فرض أنّ الموضوع في القضية يكون ذات نفس اللفظ والحكم ثابت له فلا محذور.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى القسم الثاني ، وهو عبارة عمّا إذا كان إطلاق اللفظ بلحاظ إرادة نوعه منه لا ذاته وشخصه ، وذلك مثل ما إذا قيل : زيد لفظ ثلاثي ، بمعنى أنّه اريد منه طبيعي ذلك اللفظ ، فليس ذلك أيضا من سنخ الاستعمال المتعارف في شيء بوجه من الوجوه ، بل إنّما هو من قبيل إحضار الطبيعي وإبرازه في ذهن المخاطب بإرادة فرده ، مثل إذا جعل شخص فردا خارجيا من

٢٤٨

أفراد الإنسان مرآة لإراءة الكلّي الطبيعي للإنسان بعنوان أنّه لا ينفكّ عنه في الخارج ، وحينئذ فإنّ المتكلّم بذلك قد قصد ثبوت الحكم للطبيعي ليسري منه إلى أفراده ، كما مثّلنا لذلك بتماثيل متعدّدة في أوّل هذا المبحث.

فالناطق بهذا اللفظ قد قصد ثبوت الحكم للطبيعي بداعي السراية منه إلى تمام مصاديقه ، فهو إنّما أوجد بذلك التكلّم من ناحية ذلك اللفظ أمرين في ذهن المخاطب ، أحدهما : شخص اللفظ الواقع في التكلّم ، والثاني : طبيعي ذلك اللفظ الجامع بينه وبين غيره. ولمّا لم يمكن إيجاده على ما هو عليه في الخارج إلّا بإيجاد فرده فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء بوجه من الوجوه ، إذ وجوده في الخارج عين وجود فرده ، وإيجاده عين إيجاد فرده في الخارج.

وعلى ذلك التقريب فغير معقول أن يجعل وجود الفرد فانيا في وجوده أو مبرزا له وعلامة عليه كما تقدّم ؛ إذ كلّ ذلك غير معقول إلّا بين وجودين خارجا ، والمفروض أنّه لا تعدّد ولا اثنينية في المقام ، فإذن لا يمكن أن يكون وجود الفرد واسطة لإحضار الطبيعي في الأذهان ، فإنّ الواسطة مقتضية للتعدّد في الوجود ، وبين الطبيعي وفرده اتّحاد في الخارج لا تعدّد بوجه من الوجوه من الأصل والأساس.

فصار المتلخّص من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ معيار الإطلاق والاستعمال ليس بمتحقّق في أمثال تلك المقامات ، بل الحقّ أنّ الاستعمال غير معقول في أمثال تلك الموارد ، كما عرفت فيما تقدّم.

فانقدح لك أنّ حال المقام يكون نظير حال ما إذا أشار شخص إلى حيّة فقال إنّها سامّة ، فإنّ هذا المشير بإشارته أوجد في ذهن المخاطب أمرين ، أحدهما شخص هذه الحيّة ، والثاني الطبيعي الجامع بينها وبين غيرها من الأفراد

٢٤٩

الموجودة في الشرق والغرب ، فحكم على الطبيعي بسنخ حكم يسري إلى تمام أفراده ، فعندئذ يكون مقامنا من ذاك السنخ بعينه.

فصارت النتيجة إلى حدّ الآن أنّ إيجاد الطبيعي على ما هو عليه في الخارج أو الذهن بلا واسطة شيء من الوسائط في نهاية الإمكان ، بلا أيّ احتياج في تفهيمه إلى دالّ عليه أو مبرز له.

هذا تمام الكلام في بيان تفصيل القسم الثاني.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى القسمين الآخرين ، وهما عبارة عن القسم الثالث والرابع ، فلا يخفى عليك أنّ حالهما أيضا حال القسمين المتقدّمين في عدم الاحتياج إلى الاستعمال والواسطة.

وكيفما كان فهما عبارة عمّا إذا اطلق اللفظ واريد منه صنفه أو مثله ، والمشهور عندهم بالأخصّ في القسم الرابع أنّهما يكونان من قبيل استعمالات المتعارف في المحاورة ، لا سيّما الأخير حيث يحتاج إلى الواسطة في الحضور في ذهن المخاطب والسامع.

وعلى كلّ حال : الصحيح عندنا أنّ حال هذين القسمين الأخيرين حال القسمين الأوّلين في عدم الاحتياج إلى الاستعمال والواسطة ، من دون أيّ فرق بينهما من الأصل والأساس ، وذلك من جهة أنّ ما ذكرنا من الاستدلال في الأوّلين جار فيهما طابق النعل بالنعل.

وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان تقديم مقدّمة ، وهي عبارة عمّا وقفت عليه فيما تقدّم من أنّ الحروف والأدوات موضوعة لتضييق دائرة سعة المفاهيم الاسميّة وتقييدها بقيود خارجة عن حريم حقيقتها وذواتها ، إذ الغرض ربما يتعلّق بإفهام طبيعي المعنى الاسمي على إطلاقه وسعته ، واخرى ليس الأمر كذلك ، بل يتعلّق بإفهام حصّة خاصّة منه. وقد تقدّم أنّ بطل الدلالة في هذا الميدان منحصر في

٢٥٠

الحروف أو ما يجري مجراها ، وقد عرفت أنّ الموجود الذهني ليس من سنخ الموجود الخارجي ، فإنّه بنحو الإطلاق من أيّ مقولة كان لا ينطبق على أمر آخر وراء نفسه وذاته ، بخلاف المفهوم الذهني ، فإنّه بالنسبة إلى الخارج عن وعاء الذهن قابل لأن ينطبق على عدّة من الحصص الكثيرة ، ولكنّ الغرض الحتمي ربّما يتعلّق في نفس المواقع بحصّة خاصّة لا بدّ للمتكلّم من إفهامها واستخدام الدالّ الذي يكون هو المبرز لها عند المخاطبة. وأنت عارف حسب ما تقدّم أنّ ذلك الدالّ منحصر في الحروف وما يحذو حذوها من أمثالها من الأدوات الدلالية.

ومن هذا البيان انقدح أنّ الناطق والمتكلّم ربّما يقصد تفهيم حصّة خاصّة من المعنى يجعل مبرزه الحرف أو ما يقوم مقامه ، كذلك إذا قصد تفهيم حصّة خاصّة من اللفظ يجعل كاشفة ومبرزه ذلك.

فالحرف كما يدلّ على تضييق المعنى وتخصيصه بخصوصية ما ، كذلك يدلّ على تضييق اللفظ وتقييده بقيود ما ، فإنّ الغرض كما قد يتعلّق بإيجاد طبيعي اللفظ على ما هو عليه من الإطلاق والسعة ، فإنّه يتعلّق بتفهيم حصّة خاصّة من ذلك الطبيعي كالصنف أو المثل ، فالمظهر والمبرز لذلك ليس إلّا الحرف أو ما يشبهه ، إذ من الواضحات أنّه لا فرق في إفادة الحروف التضييق بين الألفاظ والمعاني.

فكلمة (في) في قولك «زيد في ضرب زيد فاعل» تدلّ على تخصّص طبيعي لفظ زيد بخصوصيّة ما من الصنف أو المثل ، كما أنّها في قولك : «الصلاة في المسجد حكمها يكون كذا» تدلّ على أنّ المراد من الصلاة ليس هو الطبيعة المطلقة السارية إلى كلّ فرد ، بل خصوص حصّة منها ، وهي عبارة عن الصلاة في خصوص المسجد.

٢٥١

وبالجملة ، فلا فرق بين قولنا «الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في الدار» وقولك «زيد في ضرب زيد فاعل» ، فكلمة (في) كما تدلّ في المثال الأوّل على أنّ المراد من الصلاة ما يقع منها في المسجد ، كذلك تدلّ في المثال الثاني على أنّ المراد من لفظ «زيد» ليس هو الطبيعة المطلقة ، بل حصّة خاصّة منه من الصنف والمثل.

ومن هنا يظهر لك ملاك القول في أنّ هذين القسمين ليسا من قبيل الاستعمال أيضا ، إذ قد تقدّم بيان ذلك من إمكان تمشّي إيجاد اللفظ بنفسه وإحضاره في ذهن المخاطب بلا وساطة أيّ شيء من الاستعمال وغيره ، فحينئذ إذا تعلّق الغرض بتقييده بخصوصيّة ما ، يجعل الدالّ عليه الحرف أو ما يحذو حذوه مثلا طابق النعل بالنعل.

كما لو قال أحد : «زيد في ضرب زيد فاعل» فقد أوجد طبيعي لفظ «زيد» وأحضره بنفسه في ذهن المخاطب ، وقد دلّ على تقييده بخصوصيّة ما من الصنف والمثل بكلمة (في) من دون أن يكون هناك استعمال لفظ في مثله أو صنفه.

والحاصل أنّ شيئا من الإطلاقات والأمثلة المتقدّمة ليس من سنخ الاستعمال المتعارف في المحاورة ، بل الحقّ والصحيح أنّها من قبيل إيجاد ما يمكن إراءة ذات شخصه مرّة ، ونوعه اخرى ، وصنفه ثالثة ، ومثله في المرحلة الرابعة بلا ريب ولا خفاء.

وفي الختام ، لا يخفى عليك أنّ ما ذكره المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره في آخر كلامه في هذا المقام بقوله : «وفيها ما لا يكاد يصحّ أن يراد منه ذلك ممّا كان الحكم في القضية لا يكاد يعمّ شخص اللفظ ، كما في مثال ضرب فعل ماض» (١)

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١.

٢٥٢

غريب منه وعجيب.

وذلك لأنّ الفعل الماضي أو غيره لا يقع مبتدأ إذا استعمل في معناه الموضوع له واريد منه ذلك لا مطلقا حتّى إذا لم يستعمل فيه ولم يرد معناه ، وحيث إنّ ما نحن فيه لم يرد معناه بل اريد به لفظه لا بما له من المعنى ، فلا مانع من وقوعه مبتدأ ، ولا يخرج بذلك عن كونه فعلا ماضيا ، غاية ما في الباب أنّه لم يستعمل في معناه ، وهذا لا يوجب خروجه عن ذلك.

وهذا نظير قولنا : ضرب وضع في لغة العرب للدلالة على وقوع الضرب في الماضي. فهل يتوهّم أحد أنّه لا يستعمل نفسه لأنّه مبتدأ ؟ هذا.

٢٥٣
٢٥٤

الأمر السابع

أقسام الدلالة

وقد انتهى كلامنا إلى بيان أقسام الدلالة ، ومن البديهي أنّ الإنسان بعد نعمة الخلقة والوجود ـ من ناحية الله جلّ جلاله ـ مكرّم بكرامة البيان على سائر خلق الله تعالى.

ولأجل ذلك عظّم الله تعالى قدره وبيّن فضله في الآية الشريفة حيث قال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(١) ، لما في ذلك من الحكمة لتمشية النظام في الوصول إلى السعادة في مقام الإفهام والتفهيم عند اقتضاء الحاجة إلى البيان في إبراز المقاصد في تنظيم الحياة الأكمل والأحسن بالنسبة إلى الأمور المادّية والمعنوية الدخيلة في كيان المجتمع ، لأنّ مدنيّة الإنسان في طبعه تقتضي احتياجه المبرم إلى البيان في سبيل إبراز مقاصده المتعلّقة بالمادّيات والمعنويات في وعاء الخارج بأسهل طريق من الكلام ، من دون أن يبتلى باختلال النظام في المعيشة والحياة ، ولأجل هذه الحكمة الله تعالى أقدره على إبراز حوائجه بالتكلّم

__________________

(١) الرحمن : ٣ ـ ٤.

٢٥٥

والبيان ، وأنّه هو المنّان بإتمام نعمة البيان على الإنسان.

فإذا وقفت على ذلك فلا يخفى عليك أنّ الدلالة على ثلاثة أقسام : التصوّرية والتصديقية والجدّية ، فلا بدّ لنا من البحث في كلّ من هذه الأقسام الثلاثة بالتفصيل بعون الله الملك الجليل.

القسم الأوّل ـ الدلالة الانتقالية والتصوّرية ، وهي عبارة عن خطور المعنى إلى الذهن بسماع لفظه وانتقال السامع إليه بمجرّد وصول صوته إلى اذنه بعد علمه بالوضع ، ويسمّى هذا القسم من الدلالة بالدلالة التصوّرية وهي غير منفكّة عن اللفظ بعد العلم بالوضع وإن كان موجد هذا الصوت هو اصطكاك الحجر على الحجر فضلا عن الاستعمال في معناه عند المحاورة بالقصد والإرادة ، بل هذا القسم من الدلالة لا يحتاج إلى الاستعمال ، بل بأيّ وجه وجد اللفظ بما له من الصوت بعد علم السامع بوضعه لذاك المعنى ، كما إذا صدر من النائم والمغشيّ عليه.

فهذه الدلالة التصوّرية إنّما تكون معلولة للوضع لمن يكون عالما به وهي لازمة له وغير منفكّة عنه حتّى عند وجدان القرينة في الكلام بأنّ اللفظ لم يستعمل في معناه الظاهر فيه ، فتكون هذه الدلالة بعد العلم بالوضع من الامور القهريّة الخارجة عن الاختيار ، فتكون مترتّبة على سماع اللفظ ولو كان اللافظ نائما بلا شعور واختيار من حيث التكلّم والمقال حتّى لو حدث من اصطكاك الأحجار.

القسم الثاني ـ عبارة عن دلالة اللفظ على كون المتكلّم بهذا اللفظ في مقام الاستعمال والتخاطب وقصد تفهيم السامع والمخاطب وتفهّمه ، ويقال لهذه

٢٥٦

الدلالة : الدلالة التفهيمية ، التي سمّيت بالدلالة التصديقيّة أيضا.

فالمراد من هذه الدلالة عبارة عن تصديق المخاطب المتكلّم بأنّه أراد تفهيم المعنى للغير ، وهي في الحقيقة عبارة عن ظهور اللفظ في كون المتكلّم به قصد تفهيم معناه ، بمعنى أنّ المتكلّم بهذا اللفظ إنّما يكون في مقام تفهيم المعنى ، لا في مقام الهزل والسخرية أو الاشتباه وأمثال ذلك.

ولا يذهب عليك أنّ هذا المعنى من الدلالة لا بدّ من أن يحرز من الخارج ، فتكون هذه الدلالة ـ زائدة على العلم بالوضع ـ متوقّفة على إحراز كون المتكلّم في مقام التفهيم ولم تكن هناك قرينة متّصلة بالكلام ، على خلاف ما يكون اللفظ ظاهرا فيه بالوضع ، بل عدم كون الكلام مقرونا بما يصلح للقرينية على خلاف ظاهره ، إذ مع الاقتران ينتفي الظهور ويبقى الكلام مجملا لا محالة ، وإذا لم يكن الناطق في ذلك المقام فلا يبقى للكلام ظهور ودلالة على الإرادة التفهيمية التصديقية بوجه من الوجوه أصلا وأبدا ، كما أنّ وجود القرينة المتّصلة ـ كما تقدّم ـ تمنع عن الظهور والدلالة التصديقيّة.

وملخّص الكلام أنّ تلك الدلالة متقوّمة بكون المتكلّم في مقام التفهيم ، وبعدم وجود قرينة متّصلة بالكلام لتصدّ وتمنع من هذه الدلالة.

القسم الثالث من الدلالة التصديقية : لا يخفى عليك أنّ هذه الدلالة عبارة عن دلالة اللفظ على أنّ المدلول من هذا اللفظ إنّما يكون مرادا جدّيا للمستعمل والمتكلّم بهذا الكلام في جميع مصاديقه وأفراده ، وذلك مثل ما إذا كان اللفظ عامّا وكان جميع أفراده مقصودا للمتكلّم ، فهذه الدلالة التصديقية عبارة عن دلالة اللفظ على أنّ إرادة الجدّية متّحدة مع إرادة الاستعمالية.

بخلاف ما إذا كان المراد من العامّ بعض الأفراد ، وذلك مثل ما إذا كان المراد

٢٥٧

من قوله : (أكرم العلماء) العدول منهم ، فإنّه عند ذلك الاستعمال ليس تمام مدلول اللفظ مرادا جدّيا للمتكلّم ، بل المراد الجدّي عبارة عن خصوص العلماء العدول ، فتكون الإرادة الجدّية غير مطابقة للإرادة الاستعمالية التي كان اللفظ ظاهرا فيها بالوضع العامّ في اللغة والمحاورة.

نعم ، إذا أوقع التكلّم ذلك اللفظ في وقت الحاجة بلا قرينة على التخصيص فإنّ أهل المحاورة يعاملونه معاملة الجدّ ما دام عدم وجدان القرينة على خلاف ظهور الكلام ، وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء.

ولكن قد عرفت أنّها متوقّفة زائدا على ما تقدّم على إحراز عدم وجود قرينة منفصلة على خلاف ظهور اللفظ في مفهومه الوضعي ، وإلّا فلا يبقى ظهور ليكون كاشفا عن الإرادة الجدّية في مقام الثبوت ، وذلك من جهة أنّ وجود القرينة المنفصلة مانع عن الحجّية ، والمتحصّل أنّ بناء العقلاء في المحاورات قد تحقّق على أنّ الإرادة التفهيمية مطابقة للإرادة الجدّية ما لم تقم قرينة على عدم التطابق.

فإذا عرفت ما بيّنا لك من أقسام الدلالات الثلاثة.

فنقول : هنا كلام بين الأصحاب والأعلام في أنّ الدلالة الوضعيّة هل هي عبارة عن القسم الأوّل من الدلالة التصوّرية ، أو أنّها منحصرة في القسم الثاني من الدلالة التصديقية ؟

ذهب المعروف والمشهور إلى الأوّل ، وتقريبه أنّ المعنى إنّما ينتقل إلى الذهن بمجرّد سماع اللفظ بالضرورة من الوجدان ، وهذا الحضور والانتقال المسلّم لا بدّ من أن يكون معلول الدلالة أو القرينة ، والثانية مفقودة يقينا ، فيكون السبب الدالّ على ذلك هو اللفظ وليس إلّا ، فتكون الدلالة التصوّرية مسبّبة عن الوضع عند استعمال اللفظ.

٢٥٨

وهذا التقريب منهم من البراهين المسلّمة الواضحة على أنّ حضور المعنى في الذهن من اللفظ إنّما يكون من البديهيات بلا احتياج إلى التفكّر ، بل هذا الانتقال والتصوّر من اللفظ عند سماعه بلغ من الوضوح إلى حدّ المحسوسات غير القابلة للإنكار ، فيكون المعنى في الذهن معلول مجرّد سماع اللفظ عند الاستعمال فقط.

خلافا لجماعة من المحقّقين حيث ذهبوا إلى الثاني ، أعني انحصار الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقية (١) ، والحقّ أنّ هذا القول أقرب إلى التصديق عند صاحب النظر الدقيق لا القول الأوّل.

وتقريب ذلك على ما تقدّم من مسلكنا في بيان معنى الوضع ـ بأنّه عبارة عن التعهّد والالتزام ـ لا يحتاج إلى البرهان والاستدلال ، بل هو من أوضح الواضحات ؛ إذ من البديهي أنّه لا مفهوم للالتزام بكون اللفظ دالّا على معناه ولو وقع في كلام من لا شعور له بكلامه ، كما إذا صدر منه في حال النوم والغشية بلا قصد واختيار ، بل نظير ما إذا صدر هذا الصوت من ذلك اللفظ من وقوع حجر على الآخر ؛ إذ من البديهي أنّ هذا السنخ من الدلالة خارج عن حيطة الاختيار ، فكيف يعقل أن يكون متعلّقا للعهد والالتزام.

فعندئذ لا مفرّ إلّا بالالتزام بانحصار علقة الوضعية بالدلالة التفهيمية والتصديقية التي تنطبق على خصوص صورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته منه عند استعماله ، بلا فرق بين ما كانت الإرادة تفهيمية مختصّة فقط ، أم جدّية معها أيضا ، إذ أنّ ذلك المعنى إنّما يكون أمرا اختياريا قابلا لأن يتعلّق به العهد والالتزام بالوضوح والإشراق. وقد تقدّم أنّ اختصاص الدلالة الوضعية

__________________

(١) منهم المحقّق الحائري قدس‌سره في الدرر ١ : ٢٤ ، الطبعة الجديدة.

٢٥٩

بالدلالة التصديقية غير منفكّة عن القول بكون الوضع ليس إلّا عبارة عن التعهّد والالتزام.

وأمّا الدلالة التصوّرية التي هي عبارة عن الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ فهي غير مستندة إلى الوضع ، بل هي من جهة الانس الحاصل من كثرة الاستعمال أو من أمر آخر ، ولأجل ذلك هذه الدلالة موجودة حتّى عند تصريح الواضع بانحصار العلقة الوضعية بالتعهّد والالتزام المتقدّم ذكره مرّات عديدة.

على أنّ الأمر يكون كذلك حتّى على مسلك الأصحاب في مسألة الوضع من أنّه أمر اعتباري جعلي ، إذ الجعل والاعتبار يكون تابعا للغرض الداعي إليهما من حيث السعة والضيق ، فلا ينبغي الريب في أنّ الزائد على ذلك الغرض لغو محض ، فلا بدّ من أن يكون خارجا عن مدار علقة الوضعية ، وذلك من جهة أنّ الغرض الباعث للواضع في المحاورة على الوضع لمّا كان قصد تفهيم المعنى من اللفظ وجعله آلة لإحضار وإخطار معناه في الذهن عند قصد تفهيمه ، فلا وجه لجعل العلقة الوضعية واعتبارها أوسع من تلك الحكمة على نحو الإطلاق ، حتّى تشمل اللفظ الصادر عن اللافظ والناطق من غير التفات وشعور واختيار كالغافل والساهي والمغشيّ عليه والمجنون والنائم ونظائرها ؛ إذ من البديهيات أنّ الجعل والاعتبار في أمثال تلك الأمثلة المتقدّمة من العبث واللغو الباطل من الأصل والأساس عند أهل التأمّل والإحساس.

وملخّص الكلام : إذا تأمّلت في ما ذكرنا سابقا في بيان حكمة الوضع حيث قلنا : إنّ الغرض الباعث لجعل الإنسان متنعّما بنعمة البيان والوضع والتكلّم من قبل الله تعالى ليس إلّا أن يكون الإنسان قادرا على إبراز مقاصده وأغراضه في الخارج بالدلالة التصديقيّة من حيث الإفهام والتفهيم بالنسبة إلى مقام التخاطب.

فهذا الغرض يطلب أن لا يكون الوضع أزيد سعة من سعة ذلك الغرض الداعي

٢٦٠