دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

خاصّة بخصوصيّاتها الفردية ، مثلا : لفظ الهرّة موضوع لطبيعي ذلك الحيوان الخاص الموجود في المنازل والبيوتات ، ثمّ يستعمل في المحاورة في كلّ فرد من أفراد هذه الطبيعة من دون أن تكون لأفرادها أسماء خاصّة مخصوصة موضوعة من قبل الواضع ، وهكذا لفظ الفرس والأسد والجمل والبقر وأمثالها.

نعم ، إنّ الإنسان في ذلك الميدان متمايز في مصاديقه وأفراده بأسماء موضوعة خاصّة لكلّ واحد واحد منه على حدّه بخصوصه.

فقد انقدح لك أنّ المعاني الكلّية متناهية فلا مانع من وضع اللفظ بإزائها بالوضوح والبداهة.

والرابع : أنّ الواضع إنّما يضع الألفاظ للمعاني المتناهية بعنوان الحقيقة ، وفي غير المتناهية نتمسّك بالاستعمالات المجازية في إبراز المقاصد الباقية غير المتناهية عند التفهيم ، لأنّ المجاز باب واسع في ميدان الإفادة والاستفادة لبيان المعاني اللازمة المحتاج إليها في المحاورة من قبل الواضع ، إذ المحذور المذكور إنّما يلزم لو كان اللفظ موضوعا من قبل الواضع بإزاء جميع المعاني غير المتناهية على نحو الحقيقة في جميع الاستعمالات.

بخلاف ما إذا كان موضوعا بإزاء بعض منها ويكون استعماله في البقيّة من باب المجاز ، فلا يلزم المحذور ، إذ باب المجاز مفتوح واسع ، فلا مانع من أن يكون لمعنى واحد حقيقي معان كثيرة متعدّدة مجازيّة.

فصار المتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّه لا وجه للالتزام بوجوب الاشتراك في اللغة بوجه من الوجوه.

ولا يذهب عليك أنّ ما أفاده قدس‌سره من امتناع الاشتراك بوضع اللفظ للمعاني غير المتناهية متين حقيقة ، لاستلزامه أوضاعا خارجة عن التناهي. وهكذا ما أفاده قدس‌سره ثانيا من أنّه لو أمكن الوضع إلى ما لا تناهي له فلا يقع في الخارج إلّا

٤٤١

بمقدار متناه ، فإنّ الوضع إنّما يكون بمقدار الحاجة إلى الاستعمال ، وهو محدود في دائرة التناهي لا محالة ، فالزائد عليه لغو ، فلا يصدر من الواضع الحكيم.

إلّا أنّ ما سلّمه قدس‌سره من تناهي الألفاظ فهو محلّ تأمّل وإشكال ، بل إنّه بعيد عن الصحّة ، وذلك من جهة أنّه يمكن لنا تصوير هيئات وتراكيب متعدّدة من الألفاظ بلحاظ كونها متشكّلة ومؤتلفة من الحروف الهجائية بعضها مع بعض إلى أعداد كثيرة خارجة عن حدّ التناهي إلى ما لا نهاية له ؛ إذ اللفظ الواحد يختلف باختلاف الحركات التلفّظية من الكسر والضمّ والفتح في أوّله وفي أوسطه أيضا بالضمّ والفتح والكسر ومن حيث التبديل في نقل حرف الأوّل إلى الوسط ، والوسط إلى الآخر ، والآخر إلى الأوّل ، وهكذا غير هذه الكلمات المفروضة من سائر الكلمات الموجودة في لسان أهل المحاورة بهيئات مختلفة تختلف الكلمة فيها عمّا كانت عليه قبل عروض هذا الاختلاف عليها ، فإنّها بجزئي تصرّف فيها من حيث التقديم والتأخير ، ومن حيث الإعراب بحركات مختلفة ، ومن حيث البناء وغير ذلك من التغييرات والإضافات والإلحاقات يتوارد على الكلام من حيث التأكيد والحصر والانحصار إلى ما لا نهاية في الإحصاء والأعداد.

فعلى هذا التقريب انقدح أنّه لا فرق بين المعاني والألفاظ من حيث اتّصافهما بعدم التناهي.

فإذا عرفت ما تلونا عليك من عدم الفرق بين المعاني والألفاظ ، فاعلم أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ المعاني بعناوينها الكلية متناهية أيضا بعيد عن الواقع ، فلا يمكننا المساعدة له في ذلك ، وذلك من جهة أنّه ليس المراد من الكلّيات المفاهيم الكليّة المحضة ، كمفهوم الشيء أو الممكن والواجب ، حتّى يكون المتكلّم بها متمكّنا من تعيينها بالقرينة المتّصلة أو المنفصلة عن الكلام. بل المراد من المفاهيم الكليّة عبارة عن مطلق المفاهيم ، كمفهوم الإنسان والشجر والحجر

٤٤٢

والمدر وغيرها من النجوم والأفلاك والمنظومات الشمسية الموجودة في السماوات والأرضين السبع ، وما فيهما إلى ما لا نهاية لها من المفاهيم غير المتناهية الأعداد والإحصاء لغير علّام الغيوب.

والحاصل أنّ موارد الألفاظ وإن كانت معدودة ومضبوطة في حدّ محدود من الواحد إلى ثمانية عشرين حرفا ، إلّا أنّ الألفاظ المؤتلفة منها والهيئات الحاصلة من ضمّ بعضها إلى بعضها الآخر تبلغ إلى غير النهاية ، فإنّ اختلاف الألفاظ وتعدادها بالهيئات والتقديم والتأخير والزيادة والنقصان والحركات والسكنات يوجب تعدّدها وكثرتها واختلافها إلى مقدار غير محصور وغير متناه.

ويكون هذا نظير الأعداد ، فإنّ موادّها وإن كانت آحادا معيّنة من الواحد إلى العشرة ، إلّا أن تركّبها منها يوجب تعدّدها إلى عدد غير متناه ، مع أنّه لم يزد على كلّ مرتبة من مراتبها إلّا عدد واحد ، وتتفاوت كلّ مرتبة من مرتبة اخرى بذلك الواحد ، فإذا اضيف إليها ذلك صارت مرتبة اخرى ، وهكذا تزيد المراتب إلى غير النهاية كالمعاني. فتكون النتيجة أنّ الألفاظ كالمعاني والأعداد خارجة عن دائرة التناهي على الحتم واليقين.

ففي نهاية الجواب إنّه قد تقدّم فيما أفاده ثالثا من أنّ جزئيات المعاني وإن كانت غير متناهية ، إلّا أنّ كليّاتها التي تنطبق عليها متناهية.

ويشكل عليه بأنّه قدس‌سره إن أراد بكليات المعاني المفاهيم العامة ، كمفهوم الشيء والممكن ، فكان الأمر كما أفاده صحيحا ، فإنّها محصورة متناهية.

ولكنّ الإنصاف كما عليه أهله أنّ تمام الألفاظ لم توضع بإزائها يقينا على نحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، أو الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، إذ من الضروري أنّه لا يمكن تفهيم جميع المعاني والأغراض التي تتعلّق الحاجة بإبرازها بواسطة الألفاظ الموضوعة بإزائها لو لم تكن لأنفسها أسامي خاصّة يقع

٤٤٣

التفهيم والتفهّم بها عند الحاجة ، بل المسلّم أنّ ذلك من المستحيلات العادية على الظاهر كما لا يخفى.

وإن أراد بها المراتب النازلة منها ـ كالإنسان والحيوان والشجر والحجر ، وما شاكل ذلك ـ فيردّه أنّها غير متناهية باعتبار أجزائها من الجنس والفصل ، وعوارضها من اللازمة والمفارقة المتصوّرة لها ، وهكذا تصل إلى غير النهاية. بل يكفي لعدم تناهي هذه المعاني نفس مراتب الأعداد ، فإنّك علمت فيما تقدّم أنّ مراتبها تبلغ إلى حدّ غير متناه ، وكلّ مرتبة منها معنى كلّي لها مصاديق من الأفراد والحصص غير المحصورة وغير المتناهية في الخارج والواقع النفس الأمري.

فمن باب المثال كما مثّلنا لك سابقا أنّ العشرة مرتبة منها ، والحادي عشر مرتبة اخرى ، والثاني عشر مرتبة ثالثة ، وهكذا ، ولكلّ واحدة منها في الخارج أفراد تنطبق عليها انطباق الطبيعي على مصاديقه وأفراده الخارجيّة ، لأنّ كلّي الطبيعي إنّما يكون بمعنى وجود أفراده ومصاديقه في الخارج ، فلا يخفى عليك أنّ الأفراد والمصاديق الخارجية غير محصورة ، وأنّها بالحتم واليقين تكون غير متناهية.

فانقدح لك أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ المعاني الكلّية إنّما تكون متناهية بعيد عن التصديق والصحّة ، مع أنّ التفهيم بها في جميع الموارد محلّ إشكال وتأمّل ، كما هو الظاهر بلا ترديد وخفاء ، وعلى كلّ حال قد ظهر وبان لك من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ الاشتراك ليس بواجب بوجه من الوجوه وإن صدّقنا إمكان وضع الألفاظ للمعاني غير المتناهية ، لعدم تناهي الألفاظ أيضا.

هذا تمام الكلام في بيان تقريب وجوب الوضع بنحو الاشتراك ، والجواب عنه بالتفصيل المتقدّم بعون الله الملك العلّام.

٤٤٤

ومنهم من ذهب إلى استحالة الاشتراك في الوضع من قبل الواضع في اللغة.

وقد استدلّ عليه بأنّ الغرض والحكمة في الوضع عبارة عن إبراز المعاني وإظهارها والدلالة عليها عند التخاطب في مقام المفاهمة والتفهيم والتفهّم بالألفاظ الواضحة الدلالة من دون إجمال وإبهام وشبهة ، في قبال الإيماء والإشارات المبهمة والمجملة في إيصال السامع إلى المعاني عند الحاجة بالسهولة والوضوح ، ولا شكّ أنّ ذلك غير ممكن التحقّق من ناحية الاشتراك ، إذ الاشتراك موجب للإجمال والإبهام في مقام إبراز المعنى. ومن البديهي الواضح أنّ إيجاد الإجمال والإيهام في المحاورة واللغة بالتصدّي لوضع الاشتراك من قبل الواضع يكون نقضا للغرض من حكمة الوضع ، فهو لغو محض ، بل مخلّ بنظام الدلالة الذي هو من أهمّ الامور العقلائية الدخيلة في جميع كيان المجتمع البشرية ، فيستحيل أن يصدر من الواضع الحكيم.

وبعبارة اخرى : إنّ الاشتراك بعنوان الوضع في الوضع يكون من المستحيل ؛ إذ الغرض المقصود الباعث على الوضع إنّما يكون عبارة عن رفع الإجمال والإبهام عن الكلام في مقام الدلالة والإبراز ، لأجل أن يترتّب عليه حصول التفهيم والتفهّم بالسهولة والوضوح في مقام التخاطب ، ولا شكّ أنّ صدور ذلك النحو من الوضع من الواضع مخالف لحكمة الوضع ، لأنّه يوجب الإجمال ، ويختلّ نظام الدلالة ، فيكون نقضا للغرض من الوضع ، ونقض الغرض غير ممكن الحصول والصدور من الواضع الحكيم الذي يمشي على نظام الحكمة والمصلحة في اللغة والمحاورة.

والحاصل : المقصود من الاستدلال على بطلان الاشتراك على استحالة الاشتراك في اللغات هو منافاته للحكمة والمصلحة الباعثة للواضع إلى الوضع ، وهي ليست إلّا التفهيم والتفهّم في مقام الحاجة ، من جهة أنّ إبراز المقاصد

٤٤٥

لا يمكن في جميع الموارد إلّا بوضع اللفظ دون غيره من الإشارة والإيماء ونحوهما ، فإنّهما غير كافيين في المحسوسات فضلا عن المعقولات.

وعلى ضوء هذا البيان صار الوضع ضروريا ، لضرورة الحاجة إلى التفهيم والتفهّم ، فالاشتراك بما أنّه مخلّ بذلك الغرض الأقصى ويوجب الإجمال في المراد من اللفظ فهو مستحيل الصدور من الواضع الحكيم ، لكونه لغوا محضا.

وقد أجاب عنه المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بوجهين :

الأوّل : أنّ هذا الإجمال ليس بمانع عن الدلالة ، لأنّه إنّما يلزم في مقام التخاطب عند التفهيم والتفهّم ، ولكنّه يرتفع بأخذ القرينة المعيّنة المتّصلة أو المنفصلة في الكلام في مقام الدلالة ، من دون أن يترتّب عليه خلاف حكمة الوضع من اللغو المحض ونقض الغرض ليكون صدوره قبيحا من الواضع الحكيم ، لحفظ إمكان التفهيم والتفهّم من اللفظ المشترك بمساعدة القرائن الواضحة الدالّة على مقصود المتكلّم من هذا اللفظ المشترك. ومن الواضحات أنّ الغرض المقصود من الوضع يتحصّل بتلك الواسطة بالنسبة إلى مقام الدلالة ، من دون أن يبقى إجمال مانع عن التفهيم والتفهّم ليكون مناقضا لحكمة الوضع وليكون من هذه الناحية إشكالا على الواضع الحكيم.

والثاني : أنّ الغرض والحكمة من الوضع ليس منحصرا في خصوص وضوح الدلالة وإحضار المعنى إلى ذهن المخاطب لأجل تحصّل التفهيم والتفهّم عند المخاطبة بالسهولة من وضع التعييني بالنسبة إلى جميع الألفاظ ، ليكون وضع المشترك عاريا عن المصلحة والحكمة ، إذ كثيرا ما يتّفق أنّ المصلحة والحكمة تطلب الإجمال والإبهام في الكلام في بدء الأمر ، لما فيه من الأغراض الكثيرة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٢.

٤٤٦

على طبق مقتضيات الأحوال ، فللواضع والمتكلّم أن يتكلّم بما فيه الإجمال والإبهام لحفظ تلك الجهات المكنونة في تلك المجالات حسب ما تقتضيها الأحوال.

ويدلّ على ما ذكرناه في المقام ما نزّله الله تعالى بحسب الظاهر في القرآن من المتشابهات.

فعلى ضوء هذا البيان كيف يمكن للعاقل فضلا عن العالم أن يلتزم بأنّ الإجمال والإبهام عن طريق الاشتراك وغيره يكون مطلقا موجبا لنقض الغرض من الوضع في الكلام.

وكيف كان ، فإنّا لا نصدّق أن الاشتراك فاقد للغرض من الوضع ، بل نمنع كونه يوجب الإخلال بالغرض من الوضع ، إذ الحكمة والغرض من الوضع كما يتعلّق بالدلالة والتفهيم والتفهّم ، كذلك كثيرا ما يتعلّق بالإجمال والإهمال ، وهما يبعثان الواضع في اللغات إلى الاشتراك في سبيل تحصيل ذلك الغرض الأقصى في المحاورات واللغات الدارجة في الألسنة المختلفة في جميع أقطار العالم الإنساني الواسعة.

ولكنّ الإنصاف بحسب التحقيق أنّ ما أفاده المحقّق صاحب الكفاية من عدم الوجوب وعدم استحالة الاشتراك ، بل الصحيح وقوعه فضلا عن إمكانه ، متين جدّا ، فلا تناله يد الاستحالة بوجه من الوجوه على مسالك القوم في كيفية الوضع كما تقدّم التعرّض لها مفصّلا في باب الوضع بأنّه ـ أي الوضع ـ إنّما يكون بحسب الدقّة عبارة عن اعتبار الملازمة بين اللفظ والمعنى ، أو تنزيل اللفظ منزلة المعنى ، أو جعل اللفظ فانيا فيه ، وأمثال ذلك ، لأنّ في جميع تلك المسالك يكون تصوّر الوضع سهل التناول ، لا سيّما بالنسبة لخصوص مسلك من ذهب إلى أنّ الوضع عبارة عن الأمر الاعتباري السهل المئونة.

٤٤٧

بخلاف مسلكنا المختار في الوضع بأنّه عبارة عن التعهّد والالتزام ، فإنّ الاشتراك بالنحو المتقدّم على مذاقنا محلّ تأمّل وإشكال ، لعدم تعقّل أن يتعهّد الإنسان بأنه في جميع الأوقات مطلقا متعهّد بالتعهّد الحتم والمسلّم إذا ذكر لفظ الحنطة في مقام المفاهمة إنّما يريد تفهيم ذلك المعنى المعروف من طبيعي الحنطة ، وليس إلّا ، وهكذا لفظ الشعير والتمر والذهب والعين وأمثال ذلك ، ثمّ بعد ذلك أن يتعهّد هذا اللفظ بعينه بلا زيادة ونقصان فيه بذلك النحو المتقدّم موضوع لمعنى آخر في قبال الحنطة.

ومن البديهي أنّه عند ما تعهّد الإنسان الواضع أو المتكلّم بأنّ كلمة (زيد) اسم مخصوص لهذا الشخص الخارجي بعنوان العلامة والاختصاص في مقام الإبراز والدلالة عليه في جميع الأزمان والأوقات على نحو الإطلاق ، كيف يمكن ويعقل أن يتعهّد بأنّ ذلك اللفظ وكلمة (زيد) بذلك النحو المتقدّم اسم موضوع لشخص آخر في مقابل الشخص الأوّل بعنوان الإبراز والدلالة بالنسبة إلى التفهيم والتفهّم ؟ ومن الواضحات الأوّلية أنّه لو تعهّد ثانيا بمثل ذلك التعهّد يقول أهل المحاورة إنّه رجع عن تعهّده الأوّل إلى التعهّد الثاني بالقطع واليقين.

وبالجملة لا يجوز عند التعقّل التعهّد والالتزام على خلاف التعهّد الأوّل إلّا بالنقل والانتقال عنه إلى التعهّد الثاني. ومن الضروري أنّ الاشتراك بهذا المعنى المذكور يكون من المستحيلات الأوّلية على مسلكنا المختار ، إلّا أن يفسّر الاشتراك بأنّه عبارة عن الإعراض عن المعنى الأوّل إلى الثاني ، فذلك بمكان من الإمكان ، إلّا أنّه بحسب الحقيقة لا يسمّى بالاشتراك ، بل إنّما يسمّى بالنقل والانتقال.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الاشتراك بهذا المعنى غير معقول ومستحيل على مسلكنا المختار.

٤٤٨

نعم ، إذا كان المراد من الاشتراك ما نحن نفسّره ، وهو عبارة عمّا إذا قال المتعهّد لأهل المحاورة : كلّما تكلّمت بكلمة زيد أردت واقع هذين الفردين من الشخصين ، لا مفهومهما على البدل بعنوان أحدهما الذي يعيّن بالقرينة المعيّنة. فذلك لا مانع من الالتزام به حتّى على مسلكنا المختار بلا لزوم استحالة وإشكال ، بل هذا المعنى من الاشتراك بعد وقوعه في محاورة العرف والعقلاء ووجوده في القرآن الكريم صحيح بلا مانع عنه وإشكال.

وإن شئت قلت : أنّ الوضع على ما اخترناه عبارة عن ذلك التعهّد المجرّد عن الإتيان بأيّة قرينة ، وعليه فلا يمكن للواضع أن يجمع بين العهدين والتعهّدين كذلك أو أزيد في لحاظ لفظ واحد وكلمة فاردة ، فإنّ الثاني مناقض للأوّل ، ولا يمكن أن يجتمع معه إلّا أن ينصرف الواضع عن الأوّل ويرفع اليد عنه إلى الثاني ، وأن يتعهّد ويلتزم ثانيا بأنّه متى ما تكلّم بذلك اللفظ الخاصّ يقصد منه تفهيم أحد المعنيين الخاصّين ، أو أحد المعاني ، فالذي يمكن من الاشتراك هو عبارة عن هذا المعنى ، أعني به رفع اليد عن الالتزام الأوّل والالتزام من جديد بأنّه متى ما تكلّم بذلك اللفظ فهو يريد منه تفهيم أحد المعنيين على شكل من وضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

نعم ، في مقام الاستعمال لا بدّ من نصب قرينة على إرادة تفهيم أحدهما المعيّن بالخصوص ، فإنّ اللفظ غير دالّ إلّا على إبراز أحدهما لا بعينه ، فهذا المعنى لا محصّل له من حيث النتيجة إلّا الاشتراك اللفظي من ناحية تعدّد الموضوع له وكون استعمال اللفظ في كلّ واحد من المعنيين أو المعاني استعمالا حقيقيا ومحتاجا إلى نصب قرينة معيّنة.

نعم ، إنّما يتصوّر الافتراق بينهما من ناحية الوضع فقط ، فإنّه متعدّد في الاشتراك بالمعنى المشهور والمتنازع فيه وواحد في الاشتراك على مذاقنا.

٤٤٩

فصارت النتيجة الحاصلة من بحثنا هذا في بيان كيفية الاشتراك في المحاورة أنّ الاشتراك بالمعنى المعروف على مذاقنا في كيفية الوضع أمر غير معقول ، وعلى مذاق الأصحاب كالمحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره لا مانع عنه.

نعم ، يمكن على مذهبنا أن تكون نتيجته نتيجة الاشتراك وهو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، ولا مانع منه ، فإنّ الوضع فيه واحد ، ومحذور المحال والامتناع إنّما حدث من ناحية تعدّد الوضع.

وفي الختام لو قلنا بإمكان الاشتراك فلا مانع من وقوعه في المحاورة في كلمات العلماء والفصحاء والبلغاء ، ومن استعمال اللفظ المشترك عند أرباب اللغة والمحاورة.

وقد توهّم عدم إمكان استعماله في القرآن الحكيم ، وذلك لأنّ الله تعالى إمّا أن يعتمد في بيان المراد منه على القرائن الدالّة على ذلك ، فيلزم التطويل بلا طائل ، وإمّا أن يعتمد على شيء في ذلك ، فيلزم الإهمال والإجمال المتقدّم ، وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى ، ولكنّه فاسد :

أمّا أوّلا : فلمنع لزوم التطويل بلا طائل إذا كان الاتّكال على القرائن الحاليّة ، فإنّ القرائن لا تنحصر بالمقالية ، ومنع كونه بلا طائل إذا كان الإتيان بها لغرض آخر زائد على بيان المراد.

وأمّا الثاني : فلمنع كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى ، فإنّ الغرض قد يتعلّق بالإجمال والإهمال ، كما أخبر الله تعالى شأنه بوقوعه في كلامه بقوله عزوجل : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(١) ، وليست المتشابهات إلّا عبارة عن المبهمات والمجملات ، وقد وقع في القرآن العزيز في

__________________

(١) آل عمران : ٧.

٤٥٠

غير مورد ، ولا مانع منه أصلا إذا تعلّق الغرض به ودعت الحاجة إلى الإتيان بذلك.

وقد بقي الكلام في كيفية منشأ حدوث الاشتراك في اللغة والمحاورة ، ولا يخفى عليك أنّ ذلك عبارة عن الجهة الثانية من البحث في الاشتراك ، وإنّما المشهور بين الأصحاب أنّ منشأ حدوث الاشتراك في اللغة يكون هو الوضع فقط تعيينا كان أو تعيّنا.

ولكن قد نقل شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) عن بعض المحقّقين من أهل التاريخ في الأزمنة المتأخّرة ، وهو المؤرّخ المعروف باسم جرجي زيدان أنّه قال في كتابه : إنّ سبب حدوث الاشتراك كانت شتات اللغات في البلدان المختلفة في الزمان الأوّل ، إذ أبناء أهل اللسان بما أنّهم كانوا متباعدين في أماكن بعيدة من دون تشكيل اجتماعات بينهم كزماننا هذا ، كانت كلّ طائفة منهم مختصّة باسم مخصوص لمعنى خاصّ.

فلفظ (عين) مثلا في لغة الحجاز كان اسما للعين الجارية ، وهذا اللفظ بعينه في لغة اليمن أو العراق كان اسما للعين الباكية ، وفي البحرين والكويت كان اسما للذهب ، وبعد تحصيل التجمّع والتمدّن الجديد والحديث وجمع اللغات بالكتابة من قبل المتفحّصين من أرباب التخصّص في هذا الفن من المصنّفين خلطت اللغات وحدث الاشتراك عند فقدان الامتيازات التي كانت مختصّة بطائفة دون اخرى.

فيقولون : إنّ لفظ العين بوضع الواضع وضعت لتلك المعاني الثلاثة باشتراك اللفظ ، مع أنّ الأمر في الواقع ليس كذلك ، بل كان لفظ العين بالوضع المعيّن

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٥١.

٤٥١

غير المشترك في لغة الحجاز لخصوص العين الجارية فقط ، وفي اليمن لخصوص العين الباكية فقط ، وهكذا نحوهما بالنسبة إلى سائر بلاد العربيّة ، وإن كانوا مشتركين في مهمّات أصل اللسان وأغلب الألفاظ ، إلّا أنّهم كانوا مختلفين في بعض الألفاظ بالنسبة إلى بعض المعاني.

وبالجملة فإنّ منشأ الوجود الاشتراك وتحصّله في اللغة العربية ـ بل كلّ لغة ـ منحصر في جمع اللغات بالتقريب المتقدّم وخلط بعضها ببعض ، وإلّا فلا اشتراك في البين من الأصل والأساس ، هذا.

وإنّ ما أفاده هذا القائل وإن كان ممكنا وقريبا إلى التصديق في حدّ نفسه ، إلّا أنّ تصديق الجزم والحتم مشكل جدّا ، ولا سيّما بنحو الموجبة الكلّية ، لعدم الدليل على ذلك من الخارج ، لعدم ذكره في كتب التاريخ وغيره. ومجرّد نقل مؤرّخ بحسب حدسه واجتهاده لا يصحّ الاعتماد عليه بعنوان الدليل مع عدم نقل غيره من بقيّة المؤرّخين لهذا المطلب ، على أنّ ذلك بعيد من ناحية وقوع الاشتراك في الأعلام الشخصيّة كما تقدّم مفصّلا ، فإنّ شخصا واحدا كالأب مثلا يضع لفظا واحدا لأبناء متكثّرين لمناسبة توجد في تلك التسمية ، كما أنّ مثل ذلك موجود في أولاد الإمام الحسين عليه‌السلام فإنّه قد وضع لفظ (علي) لثلاثة من أولاده ، فيكون كلّ واحد منهم مسمّى بعلي على نحو الاشتراك فيه ، وأمّا التميّز بينهم في مقام الإفهام والتفهّم كان بإتيان كلمة (أكبر) في الأوّل و (الأوسط) في الثاني و (الأصغر) في الثالث الصغير ، وعلى كلّ فلا يهمّنا التحقيق بأزيد من ذلك في هذا المطلب الواضح ، لأنّه تطويل بلا طائل فيه بعد فرض إمكان الاشتراك في اللغة في حدّ نفسه ، بل تحقّق وقوعه في الأعلام الشخصيّة وأعلام الأجناس.

فلا يخفى عليك أنّ النتيجة المترتّبة على هذا البحث في الاشتراك تتلخّص

٤٥٢

في امور :

الأوّل : إمكان الاشتراك على مسلك القوم في الوضع ، وعدم إمكانه بمسلكنا فيه إلّا على الوجه الذي تقدّم منّا ذكره.

الثاني : جواز استعمال لفظ المشترك في القرآن ، فضلا عن غيره في اللغة والمحاورة.

الثالث : أنّ منشأ الاشتراك أحد أمرين : إمّا الوضع كما هو المشهور ، أو الجمع بين اللغات كاحتمال المتقدّم على نحو منع الخلوّ.

استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد

يقع الكلام فيه من وجهين :

الأوّل : في إمكان استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد.

الثاني : على فرض إمكانه وجوازه ، فهل أنّ ذلك الاستعمال على خلاف الظهورات العرفيّة أم لا ؟

أمّا الكلام في الجهة الاولى ، فقد ذهب المشهور من المتأخّرين إلى الاستحالة وعدم الإمكان ، وأنّ هذا السنخ من الإطلاق والاستعمال مستحيل عقلا.

وقبل بيان ذلك وتحقيقيه لا بدّ لنا من تحرير محلّ النزاع ليكون موضوع البحث معلوما مشخّصا لطالب الحقيقة.

واعلم أنّ محلّ البحث والكلام بين الأعلام هو عبارة عمّا إذا استعمل لفظ واحد في معنيين مستقلّين على نحو يكون الإطلاق والاستعمال الواحد في الواقع ونفس الأمر في حكم الإطلاقين والإبرازين والدلالتين مستقلّتين ، فيكون استعمال الواحد في حكم الاستعمالين على نحو يكون كلّ واحد من المعنيين مرادا على حياله واستقلاله.

٤٥٣

فانقدح بذلك أنّ استعمال اللفظ الواحد في مجموع المعنيين بما هو كذلك خارج عن محلّ الكلام والبحث ، لأنّ مثل هذا السنخ من الاستعمال يكون في حكم استعمال الواحد في المعنى الواحد من حيث هو هو بعينه ، وإن كان مجازا في اصطلاح المحاورة ، إذ اللفظ ليس موضوعا بإزائه ، كما أنّ استعماله في أحدهما لا بعينه خارج عن محلّ الكلام والنزاع.

فمحلّ النزاع والبحث منحصر فيما إذا كان كلّ واحد من المعنيين مرادا من اللفظ بنحو الاستقلال والانفراد في الدلالة والإبراز كما عرفت.

فإذا عرفت محلّ النزاع بذلك التحرير فاعلم أنّ المشتهر بين أصحابنا الاصوليين قدس‌سره الاستحالة.

وتبعهم على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) لأنّه استدلّ على استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، بما تقريبه عبارة عن أنّ حقيقة الاستعمال لا مفهوم له إلّا إيجاد المعنى باللفظ وتحويله في ذهن المخاطب والسامع خارجا. ولأجل ذلك فإنّ المخاطب لا ينظر إلّا إلى المعنى من اللفظ ، بل إنّه لا يرى إلّا المعنى من ذلك اللفظ ، إذ المعنى يكون هو الملحوظ بعنوان المقصد الأصلي أوّلا وبالذات لا اللفظ ، وإنّما اللفظ ملحوظ بالتبع في إراءة المعنى بعنوان فناء ذي الوجه في الوجه ، والعنوان في المعنون.

فانقدح لك بهذا التقريب أنّ لازم هذا السنخ من الاستقلال في الاستعمالات اللفظية في المعنيين بالاستقلال تعلّق لحاظ الاستقلالي بكلّ واحد منهما في آن واحد ، فكأنّما اللفظ لم يستعمل إلّا فيه بالخصوص.

وهو بديهيّ كالنار على المنار في أنّ نفس المتفكّر العاقل ليس في وسعه

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ١ : ٥١.

٤٥٤

واستطاعته أن يجمع بين هذين اللحاظين المستقلّين المتغايرين في آن واحد ولحظة فاردة ، ولا مجال للريب والتشكيك في أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد يستلزم ذلك. ومن الواضحات الأوّلية أنّ المستلزم للمحال محال لا محالة.

وملخّص الاستدلال على عدم الإمكان عبارة عن أنّ محلّ الكلام مخصوص فيما إذا كان المعنيان مستقلّين باللحاظ من هذا الاستعمال بلحاظ واحد ، كالاستعمال على نحو يكون اللفظ قد استعمل في كلّ واحد منها كأنّه لم يستعمل إلّا فيه فقط ، وفي الآخر كذلك ، وفي الثالث هكذا بالاستقلال ، لا كما إذا كان المعنيان ملحوظين بلحاظ واحد ولكن لا بالاستقلال بل أحدهما منضمّ إلى الآخر بعنوان المجموع من حيث المجموع ، إذ لا شكّ في أنّ مثل هذا القسم من الاستعمال في أكثر من معنى واحد بلفظ واحد في آن واحد خارج عن محلّ الكلام والبحث.

وإنّما محلّ الكلام فيما إذا كان المعنيان ملحوظين بالاستقلال في لحاظ واحد ، كما إذا كانا منفردين ، كفناء الوجه في ذي الوجه وفناء العنوان في المعنون.

فإذا كان كلّ من المعنيين في لفظ واحد في استعمال واحد في آن واحد ملحوظا بلحاظ واحد ولكن مستقلّين فلا شكّ في أنّ بطلان ذلك من حيث الاستحالة مشاهد بالعين كالشمس في قبال العين ، إلّا إذا كان اللاحظ والناظر أحول العينين ، إذ كيف يعقل أن يكون لفظ واحد في آن واحد بلا تفكيك في البين فانيا في المعنيين المتباينين المستقلّين كما إذا كانا منفردين.

وفيه : أنّه لو كان دليل الاستحالة منحصرا فيما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره فالظاهر أنّه بعيد عنه التصديق ولا يمكننا المساعدة عليه ، بل الحقّ يكون في

٤٥٥

خلافه ، وذلك من جهة أنّ لحاظ المعنيين في استعمال واحد لا محذور فيه ، لأنّ عالم النفس والتعقّل والتصوّر واللحاظ له سعة أوسع ممّا تخيّله هو قدس‌سره ، إذ لوح النفس قابل لأن تنعكس فيه صور أشياء كثيرة من الموضوع والمحمول والنسبة في الاستعمال.

بل إنّ ذلك مضى عن مرحلة الإمكان ووصل إلى مرحلة الوقوع والتحقّق الخارجي في جميع الاستعمالات في تمام المحاورات كما في اللغة العربيّة ، مثل قولك : زيد قائم ، إذ لو لا لحاظك الموضوع الذي هو عبارة عن (زيد) والمحمول الذي هو عبارة عن قيامه ، ولحاظ نسبة القيام إليه وانتسابه له واتّصافه بهذه الهيئة ، فكيف يمكنك أن تقول : زيد قائم ، وتسند (زيد) إلى القيام والقيام إلى (زيد) في استعمال واحد وفي لحظة واحدة ، بل المخبر بالقيام بالضرورة من الوجدان لاحظ الموضوع والمحمول والنسبة التي تكون بينهما ، ثمّ بعد اللحاظ حمل المحمول على الموضوع.

بل يفيدنا بأزيد ممّا ذكرناه من التوضيح في المقام ما ذكرناه في الدورة السابقة من المثال الذي ذكرناه هناك بأنّ من يريد تعلّم اللغة العربية إذا قال : اسقني الماء ، فلا محالة بالقطع واليقين يكون لاحظ المعنيين المستقلّين في لحاظ واحد ، أحدهما يكون لحاظ تعلّم اللغة العربيّة ، والثاني لحاظ مفهوم الماء. فعلى ضوء التقريب انقدح أنّه لا وجه لتخيّل استحالة لحاظ المعنيين المستقلّين في استعمال واحد على نحو الاستقلال بالنحو المتقدّم الذي تصوّره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من المحالات.

وبالجملة فقد انتهى كلامنا إلى بيان كلام شيخنا الاستاذ قدس‌سره من استحالة مثل هذا السنخ من الاستعمال في أكثر من معنى واحد وجوابه بالتفصيل المتقدّم ، وملخّصه بالإجمال عبارة عن أنّ الأمر ليس كما تخيّل ، إذ النفس بما أنّها جوهر

٤٥٦

بسيط ولها صفحة واسعة لقوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) قادرة بالفعل على أن تجمع بين تعقّلين وتصوّرين ولحاظين مستقلّين في صفحتها الواسعة في آن واحد باستعمال واحد على نحو الاستقلال بلا شكّ ولا إشكال ، ويدلّك على ذلك امور متعدّدة :

الأوّل : ما تقدّم من المثال المتقدّم من حمل شيء والحكم بثبوته له كقولك : زيد قائم ـ مثلا ـ يستدعي لحاظ كلّ من الموضوع والمحمول والنسبة في آن واحد وهو آن الحكم ، وإلّا لكان الحكم من النفس ممتنعا ، ضرورة أنّ مع الغفلة لا يمكن الحكم بثبوت شيء لشيء ، إذ لا مانع من الجمع بين اللحاظين المستقلّين في آن واحد ، فإنّ الجهل والحكم دائما يستلزمان ذلك ، كيف فإنّ المتكلّم حين الحكم لا يخلو إمّا أن يكون غافلا ، وإمّا أن يكون ملتفتا إلى كلّ واحد من الموضوع والمحمول والنسبة ، ولا ثالث في البين ، وحيث إنّ الأوّل غير معقول فتعيّن الثاني. وهذا معنى استلزام الحمل والحكم الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين.

الثاني : أنّه قد يصدر من شخص واحد فعلان أو أزيد في آن واحد ولو بأن يكون أحدهما بآلة والآخر بآلة اخرى ، مثلا الإنسان يشتغل لسانه بالكلام ويحرّك يده في آن واحد ، ومن الواضح البيّن أنّ كلّا منهما فعل اختياري مسبوق بالإرادة واللحاظ ، وعلى ذلك فالإتيان بفعلين في آن واحد لا محالة يستلزم لحاظ كلّ واحد منهما بلحاظ استقلالي في آن واحد كذلك.

الثالث : أنّا إذا نظرنا في وجداننا وإلى أنفسنا وجدناها قادرة على تصوّر امور متباينة ومتضادّة أو متماثلة بلحاظات وتصوّرات مستقلّة في آن واحد من دون وجود مانع عنه.

فحاصل الكلام أنّ اجتماع اللحاظين المستقلّين في استعمال واحد مع تعدّد

٤٥٧

المعنى أمر واضح ، كالقطرتين النازلتين في صفحة بحر النفس في آن واحد ، بل قابلية النفس لتعقّل اللحاظات المتباينات تكون أوسع من البحار والأرضين والسماوات.

وقد استدلّ المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) على امتناع ذلك بوجه آخر وهو : أنّ حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نفسه كأنّه الملقى ، ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى. ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلّا لمعنى واحد ، دون المعنيين أو المعاني ، ضرورة أنّ لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر ، حيث إنّ لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه ، كفناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد ، مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه لذلك في هذا الحال.

والحاصل لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين وفانيا في الاثنين إلّا أن يكون اللاحظ أحول العينين. فاتّضح لك بذلك التقريب البديهي امتناع استعمال اللفظ مطلقا مفردا كان أو غيره في أكثر من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز.

فلا يخفى عليك أنّ ما أفاده قدس‌سره إنّما يتمّ على ما هو المشهور بين المتأخّرين من أنّ حقيقة الاستعمال ليست مجرّد جعل اللفظ علامة لإراءة تفهيم المعنى ، بل إيجاد للمعنى باللفظ وجعل اللفظ فانيا فيه ووجها وعنوانا له كفناء العنوان في المعنون والوجه في ذي الوجه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٣.

٤٥٨

وعلى ذلك فلا يمكن استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال ، لأنّ لازمه فناء اللفظ في كلّ منهما في لحظة فاردة وآن واحد ، وهو من المحالات الأوّلية. كيف لا ، مع أنّ إفنائه في أحدهما وجعله وجها وعنوانا له يستحيل أن يجتمع مع إفنائه في الآخر وجعله وجها وعنوانا له ، فاللفظ الواحد لا يعقل أن يكون وجودا لمعنيين مستقلّين في وقت واحد. وهذا مبتن على أن تكون حقيقة الوضع عبارة عن جعل وجود اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، ولكن قد تقدّم بما لا مزيد عليه مفصّلا بطلان ذلك كالشمس عند الزوال.

بخلاف مسلكنا المختار بأنّ الوضع في الحقيقة عبارة عن التعهّد والالتزام النفساني بإراءة ما في النفس والاعتبار باللفظ في مقام التفهيم والتفهّم ، فلا مانع من ذلك ، لأنّ الاستعمال ليس إلّا فعليّة ذلك التعهّد وجعل اللفظ علامة لإبراز ما قصد المتكلّم تفهيمه ، لأنّ الواضع تعهّد والتزم بأنّي كلّما قصدت تفهيم المعنى الفلاني أتكلّم بهذا اللفظ من الكلام على نحو يكون اللفظ مرآة وعلامة للمعنى ، ولا مانع حينئذ من جعله علامة لإراءة المعنيين المستقلّين.

فاللفظ على هذا المسلك لا يكون إلّا علامة لإبراز ما في افق النفس من المعنى ، كما يكون نصب العلم والمنار والتحجير على رأس الفرسخ علامة لإبراز هذا المقدار من المسافة في افق الأرض ، وهو أي (ما في الافق) قد يكون معنى واحدا ، فاللفظ علامة لإبرازه ، كعلاميّة نصب المنار والعلم لإبراز معنى واحد ، وقد يكون مجموع المعنيين ، وقد يكون أحدهما لا بعينه ، كما عرفت بيان ذلك عند تفسير الاشتراك. وقد يكون كلّ من المعنيين مستقلا ، فيكون الاستعمال بالمقايسة إلى الوضع بمنزلة الفرد إلى الكلّي من حيث الفعلية.

فإذن لا مانع من أن يكون اللفظ الواحد علامة لعدّة من المعاني بحسب الإمكان ، كما لا مانع من أن يجعل لفظ واحد علامة لإرادة تفهيم كلّ واحد منها

٤٥٩

على نحو الاستقلال والعموم الاستغراقي ، إذ ليس شأن اللفظ على هذا إلّا علامة في مقام الإثبات والإراءة ، كما كتب صاحب نقد الفلسفة في ردّ (داروين) كتاب شعره في مقام الاستشهاد على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بالوقوع فضلا عن الإمكان ، ولكن لا يذهب عليك أنّ نسخة هذا الكتاب غير موجودة عندي ولكنّني حافظ من ذلك الكتاب مثالا يفيدنا في ما نحن فيه.

وعين ذلك المثال عبارة عن نظير شخص يريد بلدا يكون فيه محبوب له فيها مسمّى بحسن ، كما أنّ ذلك البلد أيضا يكون اسمه حسن ، فمن الواضح أنّ مثل هذا الشخص إذا قال : أردت حسنا من طيّ هذه المسافة ينطبق مراده على المحبوب والبلد كلاهما معا بلا شكّ وريب ، ولا نجد أيّ محذور في جعل شيء واحد علامة لإرادة تفهيم معنيين أو أزيد.

ولقد تقدّم مفصّلا أنّه لا مانع من أن يراد بلفظ واحد تفهيم معناه وتفهيم أنّه عارف باللغة التي يتلفّظ بها في المحاورة ، وحاصل البرهان يرشدنا إلى وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلا عن الإمكان.

فإذن انقدح أنّ الوضع على هذا المسلك لا يقتضي إلّا التكلّم بلفظ خاصّ عند الاستعمال ، مع قصد المتكلّم تفهيم معنى مخصوص في افق النفس وجعله علامة لإراءته وإبرازه خارجا عند الحاجة إلى البيان والإبراز نحو المخاطب ، من دون بقاء مجال للفناء والوجه والعنوان الذي بيّنه قدس‌سره بل كلّ ذلك لا يكون قابلا للتصديق بالنظر الدقيق.

وقد اتّضح لك بذلك التقريب أنّ تفسير الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ، أو بجعل اللفظ على المعنى في عالم التعهّد والاعتبار أيضا لا يقتضي فناء اللفظ في مقام الاستعمال. نعم ، تفسيره بجعل اللفظ وجودا للمعنى تنزيلا يستدعي ذلك ، إلّا أنّك عرفت بطلانه.

٤٦٠