دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

لعدم تحقّق صغرى هذه القاعدة الفلسفية على مسلك الأعمّي ، وبدون تحقّقها لا سبيل لنا إلى كشف الجامع من طريق آخر إليه كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره في تقريب بيان إمكان الوصول إلى تصوير الجامع على قول الصحيحي من حيث الثبوت والإثبات.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا يمكننا المساعدة له بوجه من الوجوه ، بل لم يكن من المترقّب عنه ذلك من جهات :

الاولى : أنّ وحدة الأثر الذي استفاد هو من هذه القاعدة الفلسفية وإن كانت تامّة وصحيحة في العلل الطبيعية التكوينية بلا إشكال أو ريب ، دون العوامل والفواعل الإرادية ، ولكن ذلك فيما إذا كان المعلول والمفعول والأثر واحدا حقيقيّا مقوليا حتميّا بوحدة شخصية قطعية ، فيكون الكشف صحيحا تاما في وحدة الحقيقة الشخصية ، دون الوحدة الاعتبارية العنوانية كالنهي عن المنكر والفحشاء. وفي المقام ليست الوحدة بتلك المثابة من الوحدانية ، بل إنّما تكون واحدا بوحدة نوعيّة ، فإذا كانت الوحدة نوعيّة فلا مجال لجريان هذه القاعدة.

فلا يكون المورد من موارد انطباق هذه القاعدة ، وقد فصّلنا الكلام والبحث في بيان ذلك عند البحث عن حاجة العلوم إلى وجود وحدة الموضوع ، والمراجعة لا تخلو عن الاستفادة.

فبما أنّ وحدة الأثر في المقام وحدة نوعية لا شخصيّة كالنهي عن الفحشاء ، فإنّ النهي عن الفحشاء عنوان كلّي له مصاديق عديدة وأفراد متكثّرة وحصص متشتّتة ، بعدد تعداد أفراد الصلاة وما لها من الحصص في الخارج من المنكرات والقبائح ، إذا فسّرت الفحشاء بما يقبّحه العقل ابتداء ، أو ما يحكم العقل بقبحه بعد أن يعدّه الشارع من الفحشاء التي نهى عن ارتكابها ، إذ ذلك عنوان عامّ له شمول من حيث المفهوم ينقسم إلى أقسام عديدة من الكبائر والصغائر. فإذن تحصّل أنّه

٣٤١

لا شيء هناك يكون هو الكاشف عن وجود جامع بين أفرادها ، مثلا صلاة الصبح يترتّب عليها نهي عن منكر ، وصلاة المغرب يترتّب عليها نهي ، وهكذا ، فلا كاشف عن جهة جامعة بين الأفراد والحصص بقانون أنّ الامور المتغايرة المتباينة لا تؤثّر أثرا واحدا أصلا وأبدا.

والثانية : لو تنزّلنا عن تلك الإشكالات وقبلنا تماميّة القاعدة حتّى في الواحد النوعي ، فإنّها غير تامّة في مثل المقام ؛ إذ لو كانت تامّة فإنّما تتمّ في الوحدات الذاتية الحقيقية المقوليّة ، لا فيما إذا كانت الوحدة وحدة بالعنوان ، ومن الضروري أنّ الوحدة هنا إنّما تكون وحدة عنوانية دون الواحدة الحقيقيّة المقولية الفلسفية. ولمّا كانت وحدة النهي عن الفحشاء وحدة عنوانية لا وحدة مقولية ؛ إذ من البديهي بالضرورة من الوجدان أنّ النهي عن الفحشاء عنوان ينتزع عن عدم ارتكاب الأعمال القبيحة أو من جهة النهي الشرعي ، فكلّ واحد من هذه الأعمال حصّة من الفحشاء والمنكر ، ويعبّر عن النهي عنه بالنهي عن الفحشاء ، ولا مانع من أن ينتزع الواحد بالعنوان عن الحقائق المختلفة والامور المتغيّرة المتباينة في الخارج.

وعلى ذلك البيان فلا كاشف عن جهة جامعة ذاتية مقولية ، ونهاية ما في الباب هناك وجود جامع عنواني بين الأفراد الصحيحة كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ، مع الاختلاف في الذات والحقيقة ، ومن البديهي بالضرورة من الوجدان عدم وضع لفظ الصلاة لنفس هذا العنوان.

والثالثة : أنّه غير خفي على الناظر البصير أنّ الأثر في مثل المقام لا يترتّب على الجامع بين المصاديق والأفراد ، بل إنّما هو مترتّب على أفراد الصلاة بخصوصيّاتها من الأجزاء والشرائط المعتبرة فيها ، إذ ترتّب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلاة ليس كترتّب وجود النهار على طلوع الشمس ، وترتّب

٣٤٢

الإحراق على النار ، وهكذا كترتّب بقية الآثار والمسبّبات والمعلولات على المؤثّرات وعللها ، فإنّ الأثر في تمام تلك الموارد مترتّب على الجامع من دون دخل لشيء من الخصوصيّات الخارجية الفردية فيها.

وهذا بخلاف مثل مقامنا هذا ، فإنّ النهي عن الفحشاء والمنكر ممّا يترتّب على أفراد الصلاة وحصصها بما لها من الأجزاء والشرائط من الأقلّ والأكثر من الخصوصيّات المعتبرة في اتّصافها بالصحّة في الخارج عند امتثالها ، ولا ينبغي الريب في أنّ صحّة صلاة الغداة منوطة بخصوصيّة وقوع التسليمة في الركعة الثانية بعكس صلاة المغرب ، فإنّها منوطة بخصوصيّة وقوع التسليمة في الركعة الثالثة وعدم وقوعها في الركعة الثانية ، وصحّة الظهرين والعشاء مشروطة على خصوصيّة وقوع التسليمة في الركعة الرابعة ، ومنوطة بعدم وقوعها في الركعة الثالثة ، كما أنّ الأمر يكون كذلك بالنسبة إلى بقية الخصوصيّات التي اخذت في صحّة كلّ واحدة منها في قبال الاخرى. فانقدح بذلك البيان أنّ المؤثّر في جهة النهي عن الفحشاء إنّما بحسب الحقيقة والذات لا أصل عنوان الجامع ، ومع هذه الخصوصيّات كيف يمكن الالتزام بأنّ المؤثّر فيه الجامع بين الأفراد ؟ فإنّ القول بذلك ممكن فيما إذا احرز عدم دخالة تلك الخصوصيات في ترتّب الأثر عليها ، وهذا أمر غير معقول في أمثال المقام ؛ إذ كيف يعقل تصوير وجود جامع بين المشروط بشيء والمشروط بعدمه.

وبالجملة ، فإنّ الجامع الذاتي المقولي لو سلّمنا إمكان لحاظه وتصوّره في مرحلة التعقّل بين الأفراد الصحيحة ، لم يكن لنا سبيل إليه بالنسبة إلى مقام الإثبات.

الرابعة : إنّ ما ينطبق عليه الجامع المكشوف والمتصوّر بالآثار ليس هو حقيقة الصلاة ، فمفهوم الصلاة بحسب الحقيقة غير قابل لانطباق الجامع عليه في

٣٤٣

الخارج ، فيكون تصوير جامع قابل الانطباق على أفراد الصحيح عند القائل بذلك غير معقول.

والحاصل أنّ تصوّر الجامع على قول الصحيحي يدور أمره بين الإمكان وعدم الوقوع ، وذلك من جهة أنّ تصوير الجامع من باب الكشف عن الأثر على نحو الإشارة الإجمالية على نهج وضع العامّ والموضوع له الخاصّ وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه غير واقع في الخارج.

وأمّا على نحو الوضع العامّ والموضوع له العامّ فأمر غير معقول لا نتعقّل له وجها وجيها ؛ إذ الجامع الذي يكون محلّ الكلام والبحث إن كان مركّبا من الأجزاء والشرائط لا يمكن إطلاقه على الصحيح ، لأنّ كلّ مركّب يكون صحيحا بالنسبة إلى شيء وفاسدا بالنسبة إلى شيء آخر. وإن كان بسيطا يكون أشكل من الأوّل ، إذ كيف يعقل تصوّر جامع بسيط بحيث يصحّ إطلاقه على الأفراد المركّبة من الأشياء المختلفة الحقيقية.

هذا مع أنّ لازم هذا القول هو ترتّب الأثر على الطبيعة على أيّ نحو تحقّقت في الوجود ، والحال أنّ أحدا لم يلتزم بترتّب الأثر على صلاة الصبح لو أتى بها المكلّف في ضمن أربع ركعات ، إذ لا شكّ في أنّ صلاة الغداة التي تترتّب عليها الآثار عبارة عن إتيانها في ضمن الركعتين مع سائر الشرائط والأجزاء بشرط لا ، أي بشرط عدم الزيادة على هاتين الركعتين ، فإذا أتى بها مع الزيادة فلا جرم يمتنع عن ترتّب الأثر عليها ، فصارت النتيجة أنّ تصوير الجامع على هذا الفرض يكون غير متعقّل.

وأمّا معنى الآية الشريفة (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) فهو عبارة عن أنّ المصلّي الذي يحافظ على الصلوات الخمس اليوميّة في الأوقات الخمسة مع التفاته إلى ما تضمن الصلاة من التسمية عند القيام مع النيّة ، وقراءة الحمد

٣٤٤

والسورة ، وتلك الأذكار والأوراد مع التوجّه بما لها من المعاني البليغة عند تعليق الحمد بربّ العالمين يساوق الإقرار بوجود الصانع الحيّ القادر الخالق لجميع العالمين من السماوات والأرضين ، وما فيهما وبينهما من اللوح والقلم والعرش والملائكة والإنس والجنّ أجمعين ، وأنّه خالق لما سوى ذلك من العوالم الاخرى من البرزخ والجنّة والنار التي تكون عرض السماوات والأرضين ، بما لها من الدرجات بالنسبة للمطيعين والعاصين في يوم القيامة والدين ، وما لها من النظام والانتظام والإتقان في صنع العليم الحكيم. وأنّه يكون الرحمن الرحيم الذي منه المنّة والجود والمكرمة على العباد من التفضّلات الذاتية في الكتاب المبين ، بحيث إنّه يتفضّل ـ لا يزال ـ على مخلوقاته بالقطع واليقين على حدّ لا يعدّ ولا تحصى ، بما له من الكثرة والازدياد على العباد. واعتقد أنّ وعده ووعيده حقّ مسلّم الوجود والوقوع في يوم الدين ، وأنّه لا يخلف الميعاد ، وعرف بأنّ له الملك في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم ، وذلك عبارة عن المعاد في يوم الجزاء الذي وعد إحضار الناس فيه من الأوّلين والآخرين لجزاء الأعمال ونقاش الحساب. واعتقد بأنّ وعده ووعيده في جميع ذلك هو الحقّ المبين ، وأنّه لا يخلف الميعاد على نحو أنّه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، فلا محالة يترك جميع المعاصي من الكبائر والصغائر من الفواحش بالعلم واليقين ، وذلك يكون محقّقا لما أخبر الله تعالى بأنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر في القرآن الكريم بالضرورة في الدين.

وهذا الغرض الأقصى يكون المقصود من ناحية ما اعتبره الشارع من الأجزاء والشرائط في الطهارة من حلّية الماء والتراب ومكان المصلّي ولباسه ، وطهارة جسمه من الخبث والحدث ، وهكذا طهارة اللباس. ومن الواضح كالشمس في

٣٤٥

رابعة النهار أنّ المراعي لهذه الشروط المادّية مع مراعاته لشرائط التقوى التي أخبر الله تعالى في كتابه بأنّه (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(١) بالقطع واليقين لا يرتكب شيئا من المعاصي التي ينطبق عليها اسم الفحشاء والمنكر في الدين المبين.

والثانى ـ وهو فرض الجامع بسيطا ـ أيضا غير معقول ، والوجه في ذلك هو أنّ الجامع المقولي الذاتي لا يعقل أن ينطبق على مركّب من حقيقتين متباينتين ذاتا ، وإلّا فلا تكونان متباينتين بل هما مشتركتان في حقيقة واحدة ، وهذا خلف. ومقامنا من هذا القبيل بعينه ، لأنّ الصلاة مركّبة وجدانا من مقولات متباينة بحدّ ذاتها كمقولة الوضع والكيف ونحوهما ، وقد برهن في محلّه أنّ المقولات متباينات بتمام ذاتها وذاتياتها ، فلا اشتراك لها في حقيقة واحدة ، ومن هنا كانت المقولات أجناسا عالية ، فلو كانت مندرجة تحت مقولة واحدة لم تكن أجناسا عالية ، ومع ذلك كيف يعقل جامع مقولي بين الأفراد الصحيحة ، بل لا يعقل فرض جامع لمرتبة واحدة منها فضلا عن جميع مراتبها المختلفة ، والمركّب بما هو مركّب لا يعقل أن يكون مقولة على حدة ؛ إذ من الواضح الضروري اعتبار الوحدة الحقيقية في المقولة ، وإلّا لم تنحصر المقولات ، بل لا يعقل تركّب حقيقي بين أفراد مقولة واحدة فضلا عن مقولات متعدّدة.

وقد تلخّص من جميع ذلك كلّه أنّه لا يعقل تصوّر الجامع الذاتي الحقيقي البسيط لمرتبة واحدة من الصلاة فضلا عن جميع مراتبها ، كما مضى الأمر كذلك في الجامع التركيبي.

الخامسة : لا يخفى عليك أنّه حسب ما ذكرنا في ما تقدّم أنّ الصحّة في

__________________

(١) المائدة : ٢٧.

٣٤٦

المورد عبارة عن تماميّة معنى ومفهوم الشيء في حدّ نفسه وذاته ، يعني التمامية بلحاظ التحقّق في الخارج عند الامتثال من حيث الأجزاء والشرائط. وقد مضى أنّ الصحّة من جهة قصد القربة ـ أو من جهة عدم الابتلاء بالمزاحم أو من ناحية عدم النهي ـ خارجة عن محلّ البحث والنزاع وغير داخلة في الموضوع له والمسمّى ؛ إذ من الواضح أنّها تكون في مرتبة متقدّمة قد يوجد لها مزاحم وقد يقصد به التقرّب وقد ينهى عنه.

ولكنّ الإنصاف بالنظر إلى واقع النفس مع ذلك كلّه أنّ لهذه الامور دخل في اتّصاف المأمور به بالصحّة بالقطع واليقين بلا ترديد في البين ، كما أنّها دخيلة في فعليّة الأثر عند أهل النظر. فلو كان للصلاة مثلا مزاحم واجب ، أو أنّها تعلّق بها النهي ، أو أتى بها المكلّف من دون قصد القربة ، لم يترتّب عليها الأثر من حيث الصحّة. وعليه فما يترتّب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ يقينا ، وما وضع له اللفظ ليس إلّا ما يكون مقتضيا وقابلا لترتّب الأثر عليه ، وهذا كما يمكن صدقه على الأفراد الصحيحة يمكن صدقه على الأفراد الفاسدة ، لأنّها أيضا قد تقع صحيحة بالإضافة إلى شخص أو زمان أو حالة لا محالة.

وعلى الجملة ، فإنّ ما يترتّب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ قطعا ، وما يترتّب عليه الأثر بالاقتضاء جامع بين الأفراد الصحيحة وغير الصحيحة من الفاسدة جميعا.

وقد تلخّص من ذلك كلّه أنّ ترتّب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلوات الصحيحة بالفعل لا يفي بإثبات القول بوضع الألفاظ للجامع بين الأفراد الصحيحة بخصوصها ، فإنّه سواء قلنا بذلك القول أم لم نقل فترتّبه متوقّف على اعتبار شيء زائد على المسمّى لا محالة.

السادسة : لا يخفى عليك أنّ الجامع لا بدّ من أن يكون أمرا عرفيا ، وما ذكره

٣٤٧

من الجامع على تقدير تسليم وجوده ، والإغماض عن جميع ما تكلّمنا به في وجه عدم إمكانه ووجوده ، لا يكون معنى عرفيا مأنوسا لعامّة المكلّفين حتّى يمكن إفهامه لهم ، إذ عرفان هذه المعاني والمفاهيم التي وضعت لها هذه الألفاظ ليس مختصّا بجماعة خاصّة من الفقهاء والمجتهدين المتبحّرين في الحكمة والفلسفة ، نظير المحقّق صاحب الكفاية ليكون في سعة من الانس والعرفان والاطّلاع على مثل تصوير ذلك الجامع المكشوف بالأثر عمّا يترتّب على هذه المعاني ، بل المكلّفون هم عامّة الناس من أهل عرف العرب والعجم في شعاع ملّة الإسلام الذين لا بدّ لهم من الوقوف على الأوضاع والمفاهيم بالسهولة والانس ، ولا يمكن ذلك إلّا إذا كان ذلك سهل التناول لهم كسائر المفاهيم العرفية بخلاف مثل الجامع.

وما ذكره من الجامع على فرض تسليم وجوده ومع صرف النظر عن جميع ما تقدّم من إقامة الدليل على عدم إمكانه وتعقّله لا يكون معنى عرفيا مأنوسا عند العرف ، حتّى يمكننا أن نقول : إنّ ذلك عبارة عن مسمّى الصلاة ، وإنّ لفظ الصلاة موضوع لذلك المسمّى ، وهو مورد الخطابات التكليفية ، ضرورة أنّ اللفظ لا يوضع لمعنى خارج عن المتفاهم العرفي ، ولا يكون مثله متعلّقا للخطاب الشرعي ، فإنّ الخطابات الشرعية كلّها منزّلة على طبق المفاهيم العرفيّة ، فلو فرض معنى يكون خارجا عن المتفاهم العرفي لم يقع موردا للخطاب الشرعي أو العرفي ، ولا يوضع اللفظ بإزائه. وحيث إنّ الجامع في مقامنا هذا ليس أمرا عرفيا فلا يكون مسمّى بلفظ الصلاة مثلا ؛ إذ من البديهي بالضرورة من الوجدان أنّ محلّ النزاع ليس في تصوير الجامع كيف ما كان ، بل في تصوير جامع مأنوس سهل التناول العرفي يمكن أن يكون متعلّقا للخطاب والأمر والامتثال بالنسبة إلى عامّة المكلّفين باليسر والسهولة ، لا في جامع عقلي فلسفي بسيط يكون

٣٤٨

خارجا عن المتفاهم العرفي والشرعي لا تناله يد العرف العامّ من المكلّفين في أقطار العالم الإسلامي.

وبعبارة اخرى : قد تقدّم البحث مفصّلا في بيان حكمة الوضع بأنّ المصلحة الداعية إلى وضع الألفاظ للمفاهيم والمعاني إنّما هي الحكاية والإرشاد والدلالة على قصد الواضع والمتكلّم والمستعمل تفهيم معنى ما ، فتلك الحكمة والمصلحة إنّما تبعث إلى وضعها للمفاهيم والمعاني التي يفهمها أهل العرف والمحاورة ، وأمّا ما كان خارجا عن دائرة التفهيم فلا مصلحة تدعو إلى وضع اللفظ بإزائه ، بل الوضع بإزائه غير جائز عند الحكيم ؛ لأنّه لغو محض ، والحكيم لا يقدم على اللغو بالقطع واليقين.

ولمّا لم يكن الجامع الذي فرضه بين الأفراد الصحيحة جامعا متعارفا عرفيا ، لأنّ العامّة من الناس غافلة عن كون الصلاة ناهية عن المنكر وأنّ لها تأثير في النهي عن الفحشاء والمنكر ، فضلا عن كونهم عالمين بالكشف عن جامع ذاتي مقولي ، لم يكن ذلك الجامع موضوعا له لمثل كلمة (الصلاة) وأمثالها ، بل المتفاهم منها عرفا في قول المولى : فلان صلّى صلاته ، أو يصلّي ، أو نحو ذلك ، غير ذلك الجامع المقولي الفلسفي بالضرورة من الوجدان.

فصارت النتيجة الحاصلة من تمام ما ذكرناه في المقام أنّ تصوير جامع مقولي ذاتي بين الأفراد الصحيحة ليس أمرا موجّها متعارفا معقولا حتّى يمكننا أن نلتزم به.

إن قلت : إنّ لزوم الترادف يبتني على أنّ يكون لفظ الصلاة موضوعا لذات العنوان المذكور ، وأمّا إذا فرضنا أنّه موضوع لواقع ذلك العنوان ومعنونه فلا يلزم ذلك.

إن أردت بالمعنون ما يكون جامعا بين الأفراد الخارجيّة ليكون الوضع

٣٤٩

من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فهو باطل قطعا وجزما ، وذلك من جهة أنّ إطلاق كلمة (الصلاة) على جميع أقسامها بشتّى أنواعها وأشكالها على نهج واحد ونسق فارد ، وليس استعمالها في نوع أو صنف أو فرد مغايرا لاستعمالها في نوع أو صنف أو فرد آخر ، بل يكون كلّ ذلك على شاكلة واحدة.

ومن هنا يكون حمل كلمة (الصلاة) بما لها من المعنى المرتكز في أذهان عرف المتشرّعة على جميع أنواعها وأقسامها ، بالنسبة إلى جميع الأفراد من طور حمل الكلّي على أفراده والكلّي الطبيعي على مصاديقه ، فوحدة النسق في إطلاق الكلمة ، وكون الحمل شائعا صناعيّا يكشفان كشفا قطعيّا عن أنّ المعنى الموضوع له عامّ لا خاصّ.

وفي الجملة ، فإنّ القول بكون الموضوع له خاصّا يشترك مع القول بالاشتراك اللفظي في البطلان ، بل لا فرق بحسب النتيجة ، حيث إنّ الموضوع له متعدّد على كلا القولين ، وليس الفرق بينهما إلّا في وحدة الوضع وتعدّده.

والنتيجة من جميع ما تقدّم أنّ تصوير الجامع الذاتي المقولي على القول بالصحيح خارج عن التعقّل ، ولحاظ جامع عنواني وإن كان تعقّله بمكان من الإمكان ، إلّا أنّ اللفظ غير موضوع بإزائه ، لأنّه أمر غير متعارف لغو لا يصدر من الواضع الحكيم ، ولا لمعنونه كما عرفت.

هذا تمام الكلام في ما ذهب إليه المحقّق صاحب الكفاي ة وجوابه.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى ما في تقريرات بعض الأعاظم قدس‌سره (١) وقد ذكر فيه بيانا آخر في مقام تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة ، وإجماله عبارة عن أنّ الجامع غير منحصر بالجامع الذاتي المقولي الفلسفي ، ولا بالجامع العنواني ،

__________________

(١) انظر نهاية الأفكار ١ : ٨٢.

٣٥٠

بل يمكن هنا فرض جامع ثالث وهو عبارة عن مرتبة خاصّة من الوجود الساري المنتزع عن الأفراد المتشتّتة. وذلك من جهة أنّ الصلاة من باب المثال مركّبة من مقولات متشتّتة متباينة ، وتلك المقولات وإن لم تندرج تحت جامع مقولي حقيقي ذاتي ، إلّا أنّها مندرجة تحت مرتبة مخصوصة من الوجود الساري إليها. وهذه المرتبة الخاصّة البسيطة عبارة عن وجود سار إلى جملة من المقولات ، وهو محدود من ناحية القلّة بحدود الأركان على سعتها ، وأمّا من ناحية الكثرة والزيادة فهو مطلق بعنوان لا بشرط ، وهذه جهة جامعة تدخل جميع الأفراد الصحيحة تحتها ، فالصلاة عبارة عن تلك المرتبة الخاصّة من الوجود. وبذلك التقريب انقدح أنّ الصلاة عبارة عن أمر بسيط خاصّ يصدق على القليل والكثير ، والصغير والكبير ، وصلاة المضطرّ والمختار ، والقويّ والضعيف ، إلى نهاية الأفراد.

وفيه أوّلا : أنّه قد تقدّم أنّ لكلّ مقولة من المقولات وجود يختصّ بها في حدّ نفسها وذاتها في وعاء وجودها وعالم العين. فحينئذ فكما أنّه غير معقول أن يكون بين مقولتين أو ما زاد جامع مقولي واحد بأن تندرج تحت ذلك الجامع ، فكذلك غير معقول أن يكون لهما وجود واحد في الخارج ؛ إذ من البديهي والضروري استحالة اتّحاد مقولة مع مقولة اخرى في الوجود.

وبالجملة ، فكلّ مركّب اعتباري عبارة عن نفس الأجزاء فقط بالحصر ، وإنّما الوحدة بين أجزائه وحدة اعتبارية ، ومن البديهي أنّه ليس لمجموع تلك الأجزاء المتباينة بالذات والحقيقة حصّة خاصّة من الوجود حقيقة سارية إليها. فالصلاة من باب المثال مركّبة من مقولات متباينة كمقولة الوضع ، والكيف ، ونحوهما ـ حسب ما تقدّم بيانها مفصّلا بما لا مزيد عليه ـ وليست هذه المقولات مشتركة في مرتبة خاصّة بسيطة من الوجود لتكون وجودا للجميع.

٣٥١

وعلى هذا البيان فإنّه رحمه‌الله تعالى إن أراد اشتراك تلك المقولات في مفهوم الوجود فهو لا يختصّ بالصلاة بل يعمّ كلّ الأشياء. وإن فرض به اشتراكها في حقيقة الوجود فالأمر أيضا كما تقدّم. وإن تصوّر أنّ لتلك المقولات وحدها مرتبة خاصّة من الوجود ، ففيه أنّه خارج عن التعقّل كما تقدّم ، وقد قام البرهان في محلّه بأنّ الاتحاد الحقيقي في الوجود بين الأمرين المتباينين أو الامور المتحصّلة من المستحيلات الواضحة ولو اعتبر الوحدة بينهما أو بينها بأزيد من ألف مرّة. وعلى كلّ حال فلا نتعقّل لذلك المعنى الذي أفاده قدس‌سره معنى صحيحا من الأصل والأساس ، كما لا يخفى ، هذا أوّلا.

وثانيا : لو سلّمنا ذلك فلا يخفى عليك أنّ (الصلاة) ليست عبارة عن تلك المرتبة الخاصّة الوجودية ؛ إذ كلّ من له وجدان يجد بالضرورة أنّ المتفاهم والمتعارف من استعمال لفظ (الصلاة) عند عرف المتشرّعة ليس هذه المرتبة المشتركة ، بل إنّها عبارة عن نفس تلك المقولات في وعاء الخارج والأجزاء والشرائط فقط ، بل إنّ هذا المطلب في حدّ ذاته بمكان من الوضوح لا يحتاج إلى تأمّل وبيان.

هذا مع أنّا قد بيّنا في ما تقدّم أنّ الألفاظ غير موضوعة للموجودات الخارجية ، بل موضوعة للماهيّات القابلة لأن تختلج في الأذهان عند الاستعمال. وعليه فلا يعقل أن يوضع لفظ (الصلاة) لتلك المرتبة الخاصّة من الوجود ، فإنّها غير قابلة لأن تحضر في الذهن.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى ما أفاده شيخنا المحقّق قدس‌سره في المقام بيانا ثالثا في توضيح تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة ، وأنّه ذكر في مقام البيان : «والتحقيق أنّ سنخ المعاني والماهيّات ، وسنخ الوجود العيني الذي هو حيثية ذاته حيثيّة طرد العدم في مسألة السعة والإطلاق متعاكسان ، فإن كان سعة سنخ

٣٥٢

الماهيّات من جهة الضعف والإبهام في المعنى أكثر كان الإطلاق والشمول أوفر ، وكلّما كان الوجود أشدّ وأقوى كان الإطلاق والسعة أعظم وأشمل وأتمّ. فإن كانت الماهيّة من الماهيّات الحقيقية كان ضعفها وإبهامها بلحاظ الطوارئ وعوارض ذاتها مع حفظ نفسه ، كالإنسان من باب المثال ، فإنّه لا إبهام فيه من حيث الجنس والفصل المقوّمين لحقيقته ، وإنّما الإبهام فيه من حيث الشكل وشدّة القوى وضعفها ، وعوارض النفس ، والبدن ، حتّى عوارضها اللازمة لها ماهية ووجودا. وإن كانت الماهيّة من الامور المؤتلفة المتركّبة من عدّة امور بحيث تزيد وتنقص من حيث الكمّ والكيف ، فبمقتضى الوضع لها بحيث يعمّها مع تفرّقها وشتاتها أن تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام بمعرفيّة بعض العناوين الغير المنفكّة عنها.

فكما أنّ الخمر من باب المثال مائع مبهم من حيث اتّخاذه من العنب والتمر وغيرهما ، ومن حيث اللون والطعم والريح ، ومن حيث مرتبة الإسكار ، ولأجل ذلك لا يمكن وصفه إلّا لمائع خاصّ بمعرّفية المسكريّة من دون تصوّر الخصوصية ولحاظها تفصيلا ، بحيث لو أراد المتصوّر تصوّره لم يوجد في ذهنه إلّا مصداق مائع مبهم من جميع الجهات إلّا حيثيّة المائعيّة بمعرفيّة المسكريّة. كذلك لفظ (الصلاة) مع أنّ هذا الاختلاف الشديد بين مراتبها كمّا وكيفا لا بدّ من أن يوضع لسنخ عمل معرّفه النهي عن الفحشاء ، أو غيره من المعرّفات ، بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظ (الصلاة) إلّا سنخ عمل خاصّ مبهم إلّا من حيث كونه مطلوبا في الأوقات الخاصّة. ولا دخل لما ذكرناه بالنكرة ، فإنّه لم تؤخذ فيه الخصوصيّة البدليّة كما اخذت فيها.

وبالجملة ، الإبهام غير الترديد وهذا الذي تصوّرناه في ما وضع له الصلاة بتمام مراتبها من دون الالتزام بجامع ذاتي مقولي ، وجامع عنواني ، ومن دون الاشتراك

٣٥٣

اللفظي ممّا لا مناص عنه بعد القطع بحصول الوضع ولو تعيّنا.

ثمّ أيّد ذلك بقوله قدس‌سره : وقد التزم بنظيره بعض أكابر فنّ المعقول في تصحيح التشكيك في الماهية جوابا عن تصوّر شمول طبيعة واحدة لتمام المراتب الزائدة والمتوسّطة والناقصة ، حيث قال : نعم الجميع مشترك في سنخ واحد مبهم غاية الإبهام بالقياس إلى تمام نفس الحقيقة ، ونقصها وراء الإبهام الناشئ فيه عن اختلاف في الأفراد بحسب هويّاتها ، انتهى. مع أنّ ما ذكرناه أولى به ممّا ذكره في الحقائق المتأصّلة والماهيّات الواقعية كما لا يخفى.

ثمّ قال قدس‌سره : وأمّا على تصوّرنا الجامع فالصحيحي والأعمّي في إمكان تصوير الجامع على حدّ سواء ، فإنّ المعرّف إن كان فعليّة النهي عن الفحشاء فهي كاشفة عن الجامع بين الأعمّ ، هذا.

وقد انقدح لك أنّ ما أفاده قدس‌سره يتلخّص من حيث النتيجة في امور :

الأوّل : أنّ الماهيّة والوجود متعاكسان من ناحية السعة والإطلاق ، فالوجود كلّما كان أشدّ وأقوى كان الإطلاق والشمول فيه أوفر ، والماهية كلّما كان الضعف والإبهام فيها أكثر كان الإطلاق والشمول فيها أوفر.

الثاني : أنّ الجامع بين الماهيّات الاعتبارية كالصلاة ونحوها سنخ أمر مبهم في غاية الإبهام ، فإنّه جامع لجميع شتاتها ومتفرّقاتها ، وصادق على القليل ، والكثير ، والزائد ، والناقص ، مثلا الجامع بين أفراد الصلاة سنخ عمل مبهم من جميع الجهات إلّا من حيث النهي عن الفحشاء والمنكر ، أو من حيث فريضة الوقت.

الثالث : أنّ الماهيّات الاعتباريّة نظير الماهيّات المتأصّلة التشكيكية من جهة إبهامها ذاتا ، بل إنّ ثبوت الإبهام في الاعتباريّات أولى من ثبوته في المتأصّلات.

٣٥٤

الرابع : أنّ القول بالصحيح والأعمّ في تصوير الجامع المزبور على حدّ سواء (١).

هذا تمام الكلام في ما أفاده قدس‌سره.

أمّا الأمر الأوّل ، فهو وإن كان متينا ، إلّا أنّه خارج عن محلّ الكلام.

وأمّا الأمر الثاني فيردّه أنّ الأمر في الماهيّات الاعتبارية لا يكون مبهما بوجه من الوجوه أصلا ، ضرورة أنّ للصلاة مثلا حقيقة من قبل مخترعها وجاعلها ، وهي أجزاؤها الرئيسة التي هي عبارة عن مقولة الكيف والوضع وأمثالهما ، ومن الواضح المعلوم أنّه ليس فيها أيّ إبهام وغموض ، كيف ، فإنّ الإبهام لا يعقل أن يدخل في تجوهر ذات الشيء ، فالشيء بجوهر ذاته متعيّن ومتحصّل لا محالة من دون أيّ إبهام فيه من هذه الناحية ، وإنّما يتصوّر الإبهام فيها بلحاظ الطوارئ وعوارضها الخارجيّة كما صرّح هو قدس‌سره بذلك في الماهيات المتأصّلة.

فحقيقة الصلاة حقيقة مشخّصة متعيّنة يتحصّل ويتجوهر ذاتها في حدّ نفسها ، وإنّما الإبهام فيها بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجيّة ، وعليه فالعمل المبهم إلّا من حيث النهي عن الفحشاء ، أو فريضة الوقت لا يعقل أن يكون جامعا ذاتيا ومنطقيا على جميع مراتبها المختلفة زيادة ونقيصة انطباق الكلّي على أفراده ، ومتّحدا معها اتّحاد الطبيعي مع مصاديقه ضرورة ؛ إذ قد عرفت أنّ (الصلاة) مركّبة من عدّة مقولات متباينة ، فلا يمكن أن تدخل وتندرج تحت جامع ذاتي حقيقي فلسفي ، فلا محالة يكون ما فرض جامعا عنوانا عرضيّا لها ومنتزعا عنها ، إذ لا ثالث بين الذاتي والعرضي ، ومن الواضح جدّا أنّ لفظ الصلاة لم يوضع بإزاء هذا العنوان ، وإلّا لترادف اللفظان وباطل حتما ويقينا.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٦٢.

٣٥٥

ومن هذه الناحية انقدح بطلان قياس المقام بمثل كلمة (الخمر) ونحوها ممّا هو موضوع للعنوان العرضي دون الذاتي.

على أنّ الكلام في هذه المسألة ـ كما تقدّم ـ إنّما هو في تعيين مسمّى لفظ الصلاة ، الذي هو متعلّق للأمر الشرعي ، لا في تعيين المسمّى كيف ما كان ، ومن الظاهر أنّ الجامع المزبور لا يكون متعلّق الأمر ، بل المتعلّق للأمر هو نفس الأجزاء المتقيّدة بقيود خاصّة ، فإنّها هي الواجدة للملاك الداعي إلى الأمر بالصلاة كما هو واضح بلا تأمّل واختفاء.

ومن أجل ذلك يكون المتبادر المتعارف عند العرف من سماع لفظ (الصلاة) عند الاستعمال هذه الأجزاء والشرائط المتقيّدة ، لا ذلك الجامع.

ومن الغريب أنّه قدس‌سره قال : إنّ العرف المتعارف لا يخطر بذهنه من استعمال لفظ (الصلاة) إلّا سنخ عمل مبهم إلّا من حيث كونه مطلوبا بالأمر بها في تلك الأوقات المخصوصة ، كيف فإنّ العرف لا يفهم من استعمال لفظ (الصلاة) إلّا كميّة خاصّة من الأجزاء والشرائط التي تعلّق الأمر بها وجوبا أو ندبا ، وفي تلك الأوقات الخاصّة أو في غيرها ؛ ولأجل ذلك كان إطلاق لفظ (الصلاة) على صلاة العيدين وصلاة الآيات إطلاقا حقيقيا من دون استخدام العناية ورعاية العلاقة المجازيّة.

وأمّا الرابع : ففيه ما تقدّم من أنّ النهي عن الفحشاء إنّما يترتّب فعلا على ما يتّصف بالصحّة بالفعل ، وهو غير المسمّى قطعا ، فلا يمكن أن يكون ذلك جامعا بين الأفراد الصحيحة.

والمتلخّص من كلّ ما بيّناه في المقام أنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة إمّا أنّه خارج عن محيط التعقّل ، أو هو أمر معقول ، ولكنّ اللفظ غير موضوع بإزائه ، لأنّه لغو محض بالنسبة إلى حكمة الوضع في قبال عامّة المكلّفين.

٣٥٦

إيقاظ :

اعلم أنّه إذا كان الجامع بين الأفراد الصحيحة غير معقول فما هو المؤثّر في النهي عن الفحشاء والمنكر ، ليتمّ معنى الآية الشريفة (إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) ؟

ويمكن الجواب عنه بأنّ الآية وحديث كيفية تأثير (الصلاة) في الانتهاء عن الفحشاء من ناحيتين :

الاولى : أنّ ماهيّة الصلاة وتأثيرها في النهي والانتهاء عنهما ـ أي عن الفحشاء والمنكر ـ ليستا ناظرتين إلى مسمّى الصلاة ، بل هما ناظرتان إلى لوازم الأجزاء والشرائط ، مأخوذة فيها من حيث الكمّية والكيفية بتلك الكيفية ومشتملة على عروج المؤمن برعايتها في مسير أرقى معاني العبودية والرقّية التي لا يبقى مجال لارتكاب الفحشاء والمنكرات مع مراعاتهما ؛ ولأجل ذلك تكفّ النفس عن كثير من المنكرات وتنصرف عنها. وهذه الرعاية تؤثّر في تهيئة النفس واستعدادها لمدارج التقوى في القرب إليه تعالى والبعد عن المعاصي والفحشاء والمنكرات ، وبذلك المعنى ينتقل الذهن من قوله عليه‌السلام : (الصلاة معراج المؤمن) و (قربان كلّ تقيّ) ، من التنازع والتضادّ الذي يتّفق بين كلّ جزء من أجزائها وشرائطها لارتكاب المنكرات الخاصّة.

بيان ذلك : أنّ المصلّي الحاضر في جنب الله تعالى في مقام الإطاعة ، ويعلم أنّه تعالى إنّما يتقبّل من المتّقين ، مع توجّه إلى وجود المبدأ والمعاد عند قراءة قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ينوجد في وجدانه التفات إلى أنّ لهذه العوالم مبدعا وخالقا هو ربّهم في جميع النشآت ، وأنّه ليس إلّا الرحمن الرحيم. وإذا قرأ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يتذكّر أنّه تعالى يسأله ويعاقبه عمّا ارتكب من

٣٥٧

الفحشاء والمنكرات وقبائح الأعمال في ذلك اليوم.

وإذا قرأ قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) التفت إلى أنّ العبادة والاستعانة منحصرتان به تعالى وتقدّس ، وغيره ليس أهلا للاستعانة والعبادة بوجه من الوجوه. وإذا بلغ إلى جملة : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) توجّه إلى أنّ طائفة من الناس قد خالفوا الله وعصوه طغيانا ، وأدركهم لأجل ذلك العناد والطغيان غضبه تعالى وسخطه ، أو أنّهم عصوه بغير عناد ، فصاروا من المنحرفين الضالّين ، وهنا طائفة اخرى قد أطاعوا الله ورسوله فصاروا في فيض من نعمائه تعالى ورضاه.

ففاتحة الكتاب بمجموع آياتها تكون عبرة وعظة للمصلّين الملتفتين إلى هذه الآيات.

ثمّ إذا وصل المصلّي إلى حدّ الركوع والسجود فركع ثمّ سجد التفت إلى عظمة مقام ربّه الجليل ، وأنّ العبد لا بدّ أن يكون في غاية التذلّل والخضوع والخشوع ناظرا إلى مقامه الأقدس تعالى وتقدّس ، فإنّهما حقيقة العبودية ، وأرقى معانيها ، ومن هنا كانت عباديتهما ذاتية.

ومن هنا كان في الركوع والسجود مشقّة على العرب في صدر الإسلام فالتمسوا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرفع عنهم هذا التكليف ويأمرهم بما شاء ، وذلك لتضادّهما مع الكبر والنخوة ، وبما أنّ الصلاة تتكرّر في كلّ يوم وليلة عدّة مرّات فالالتفات إلى معانيها في كلّ وقت أتى بها لا محالة تؤثّر في النفس ، وتصرفها عن الفحشاء والمنكر.

والثاني : أنّ الصلاة باعتبار أنّها معتبرة في صحّتها عدّة شرائط فهي معها لا جرم تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فإنّ الالتزام بإباحة المكان ، واللباس ، وبالطهارة من الحدث والخبث مثلا يصرف المكلّف عن كثير من المحرّمات

٣٥٨

الإلهية ، وقد نقل عن بعض السلاطين أنّه كان يمتنع عن شرب الخمر لأجل الصلاة ، وعلى كلّ حال فالصلاة باعتبار هاتين الجهتين ناهية عن عدّة من المنكرات لا محالة كما هو ظاهر.

وفي الختام إنّما تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ تأثير الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر من ناحية هذين الاعتبارين واضح عند من يكون له تأمّل ودراية.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى المقام الأوّل.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى المقام الثاني ، فلا يخفى عليك أنّه محلّ وقوع نزاع بين أهل التحقيق ، وقد وقع الكلام في طريق إيضاح التصوير الجامع على القول بالأعمّ عند المحقّقين من الوجوه العديدة.

الأوّل : ما التزم به المحقّق القمّي صاحب القوانين قدس‌سره بأنّ طريق إمكان تصوير الجامع يتلخّص في أنّ الصلاة إنّما وضعت من قبل الشارع لخصوص الأركان ، وأمّا بقيّة الأجزاء والشرائط فليست داخلة في مسمّى الصلاة كدخول الأركان في المفهوم والموضوع على نحو الركنية ، بحيث يكون المسمّى منتفيا عند الإخلال بها ، إذ الركن دخيل في صدق مسمّى الصلاة ، فإذا عدم ينعدم المسمّى ، بخلاف سائر الأجزاء والشرائط ، فإنّها دخيلة في صحّة المأمور به في مرحلة الامتثال من دون دخل في المسمّى. فإذن لا نحتاج إلى تصوير جامع بالنسبة إليهما ؛ لأنّ لابدّية تصوير الجامع إنّما يكون لازم المراعاة بالنسبة إلى مسمّى الصلاة ، ومسمّى الصلاة في وعاء الصدق يدور مدار تحقّق الأركان ، فالمسمّى يتحقّق عند تحقّق الأركان.

فيرجع ما حصل ممّا أفاده قدس‌سره إلى أمرين :

الأوّل : أنّ غير الأركان من بقيّة الأجزاء والشرائط بتمامها غير دخيلة في

٣٥٩

صدق المسمّى ، بل هي خارجة عن المسمّى ودخيلة في المأمور به.

الثاني : أنّ الأركان إنّما تكون هي الموضوع له فقط منحصرا فحسب ، وليس إلّا (١).

وقد أورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره بأنّ مسمّى الصلاة إذن حقيقة منحصرة في خصوص تحقّق الأركان دون سائر الأجزاء والشرائط ، فلا بدّ من أن يكون استعمال لفظ الصلاة في الجامع للأجزاء والشرائط بتمامها وكمالها مجازا ، لأنّه يكون من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، ومن الواضحات المسلّمة أنّ هذا السنخ من الاستعمال ملحق بالمجاز ، مع أنّ الأعمّي بالقطع واليقين في مثل هذا الاستعمال ملتزم بالحقيقة لا بالمجاز.

وثانيا : إنّ مراده قدس‌سره من هذا الكلام إن كان أنّ الأجزاء والشرائط داخلتان في المسمّى عند الإتيان ، وغير داخلتين عند الإخلال بها ، ففيه أنّه كلام لا محصّل له ، إلّا التناقض والتضادّ ، إذ لا ينبغي الشكّ في أنّ الأجزاء والشرائط إمّا أن تكونا داخلتين في ماهيّة الصلاة ، وإمّا أن تكونا خارجتين عنها ، وأمّا دخولهما مرّة وخروجهما مرّة اخرى فأمر لا وجه له عند التعقّل ، بل إنّه أمر غير معقول.

وثالثا : إنّ الأركان ليست ملحوظة على نسق واحد بالنسبة إلى جميع أحوال المصلّي من الصحّة والمرض ، بحيث تكون بمنهج واحد دائما على جميع الأحوال والأزمان ، بل هي تختلف باختلاف الأشخاص والمكلّفين من حيث الصحّة والمرض ، ومن ناحية الاختيار والاضطرار ؛ إذ من الواضحات أنّ مقولة الركن تختلف بعروض هذه الحالات للمصلّي ، بحيث تنتهي مقولة الركن في بعض الموارد إلى الإيماء والإشارة ، فعلى هذا كيف يمكن فرض جامع يكون

__________________

(١) انظر قوانين الاصول : ٤٣.

٣٦٠