دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

إلى الوضع لا محالة ؛ إذ من الواضحات أنّ الوضع أمر اعتباري جعلي نظير الامور التشريعية الاختيارية لا بدّ من أن يكون في دائرة الغرض والحكمة من المصلحة التي دعت الواضع إلى الوضع والاعتبار ، فيكون ذلك الجعل والاعتبار في اختيار من بيده الوضع والتعهّد والاعتبار ، فله كيف يشاء أن يجعله مقيّدا بما يريد من القيود عند قضاء الاحتياج إلى أخذ تلك القيود في جهة التفهيم ، ومن ناحية أنّ الغرض في ذلك المقام مختصّ بخصوص قصد التفهيم وليس إلّا ، فلا جرم تنحصر العلقة الوضعية بحصّة إرادة قصد التفهيم.

فلا يقال : إنّ هذه الحصّة من الدلالة الوضعية المنحصرة بالدلالة التصديقية مصادمة للدلالة البديهية التصوّرية التي هي عبارة عن انتقال المعنى إلى الذهن بمجرّد سماع اللفظ.

فإنّه يقال : إنّ هذا التوهّم مندفع بما تقدّم منّا من أنّ هذه الدلالة الانتقالية التصوّرية غير مربوطة بالوضع ، بل إنّما هي ناشئة من انس الذهن الحاصل من جهة كثرة الاستعمال وأمثال ذلك ، لا من ناحية الوضع والدلالة الوضعية. فهذا التصوّر والخطور والانتقال من الامور العادية الدارجة في عادات بني نوع الإنسان بما لها من المنشأ في انتزاعها ، فمنشأ هذا الأمر العادي الموجود غير القابل للإنكار هو انس الذهن ، لا الوضع والاعتبار.

والحاصل أنّ اختصاص الدلالة الوضعيّة بالدلالة التفهيمية التصديقية على جميع التقادير بالنسبة إلى تمام المذاهب والآراء في بيان تفسير تحكيم حقيقة معنى الوضع في جميع المحاورات واللغات لأهل اللسان والبيان ، من دون أيّ فرق بين مسلكنا وبقيّة الأقوال والآراء.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الاختصاص لازم حتمي بمسلك المختار على انحصار الوضع بالتعهّد ، لا على نحو الوضع بالنسبة إلى سائر الأقوال.

٢٦١

فلا يخفى عليك أنّه إلى ذلك المسلك المختار يرجع مراد العلمين المحقّق الطوسي قدس‌سره (١) والشيخ الرئيس قدس‌سره (٢) فيما نقل عنهما من أنّ الدلالة اللفظية تتبع الإرادة أي القصد الذي هو عبارة عن الحكمة من العلقة الوضعية المختصّة بصورة القصد وإرادة تفهيم المعنى في مقام التخاطب ، من دون أن يكون مرادهما من ذلك البيان أخذ الإرادة التفهيميّة بعنوان الجزء في المعنى الموضوع له ، لكي يقال : إنّ الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة ، ليرد عليهما ما أوردوا من الإيراد ؛ إذ صريح كلامهما عبارة عن أنّ الألفاظ من جهة الوضع تدلّ على إرادة اللافظ بها تفهيم معانيها في مبحث الدلالات.

فإذن لا وجه لما ذكره المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره من حمل الدلالة في كلامهما على الدلالة التصديقية غير الوضعية ، لأنّ تبعيّتها للإرادة في الواقع ونفس الأمر من الواضحات المسلّمات ، فلا مجال للكلام فيها بوجه من الوجوه أصلا وأبدا.

فانقدح من جميع ما ذكرناه في المقام بطلان ما أورده المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره على اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية بالوجوه الثلاثة المتقدّمة.

ولنقرأ عليك نصّ كلامه قدس‌سره : «لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي مرادة للافظها.

لما عرفت من أنّ قصد المعنى على أنحائها من مقوّمات الاستعمال ، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.

__________________

(١) حكى عنه العلّامة الحلّي رحمه‌الله في شرح التجريد : ٤.

(٢) راجع الشفاء ، قسم المنطق ، المقالة الاولى من الفنّ الأوّل ، الفصل الثامن : ٤٢.

٢٦٢

هذا مضافا إلى ضرورة صحّة الحمل والإسناد في الجمل ، بلا تصرّف في ألفاظ الأطراف ، مع أنّه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صحّ بدونه ، بداهة أنّ المحمول على «زيد» في «زيد قائم» والمسند إليه في «ضرب زيد» ـ مثلا ـ هو نفس القيام والضرب لا بما هما مرادان.

مع أنّه يلزم كون وضع عامّة الألفاظ عامّا والموضوع له خاصّا ، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين في ما وضع له اللفظ ، فإنّه لا مجال لتوهّم أخذ مفهوم الإرادة فيه ، كما لا يخفى ، وهكذا الحال في طرف الموضوع» (١) ، انتهى.

وملخّص الجواب عن جميع تلك الوجوه الثلاثة هو عبارة عن أنّها بتمامها مبنيّة على أخذ الإرادة التفهيمية في الموضوع له بعنوان القيد ، بحيث يكون المفهوم بعنوان الوضع متقيّدا بالإرادة ، بمعنى أنّ ذلك الذي أفاده قدس‌سره من الوجوه الثلاثة مبنيّ على أخذ الإرادة التفهيمية بعنوان الجزء في المعاني الموضوع لها ، مع أنّك واقف ـ حسب ما تقدّم منّا ـ على أنّ الإرادة غير مأخوذة فيها ، وأنّ الاختصاص والانحصار المذكور غير مبتن على ذلك ، بل إنّما هي مأخوذة في العلقة الوضعية ، فالعلقة مختصّة بصورة خاصّة ، وهي ما إذا أراد المتكلّم تفهيم المعنى باللفظ.

والحاصل إنّ النتيجة الحاصلة من هذا البحث في المقام هي عبارة عن أنّ جعل الإرادة من قيود العلقة الوضعية لا يبقى لتلك الإشكالات مجالا من الأصل والأساس ، لابتنائها بأجمعها على أخذ الإرادة التفهيمية في المعاني الموضوع لها ، وقد ظهر أنّ الأمر ليس بذلك المنوال ، بل يكون خلاف ذلك ، لعدم أخذ الإرادة في المعاني بوجه من وجوه القيدية والجزئية ، بل هي مأخوذة في العلقة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١.

٢٦٣

الوضعية. وإنّما تختصّ بصورة إرادة تفهيم تلك المعاني على نحو القضية الحقيقية في افق القوّة والتقدير ، وفي وعاء الاستعمال تخرج من القوّة والتقدير إلى التحقّق والفعلية ، وليس ببعيد أنّ ذلك الاختصاص صار سببا لأن يعبّر عن الموضوع له بالمعنى من ناحية كونه مقصودا بالتفهيم.

وبعبارة اخرى : إنّه على مسلكنا المحقّق من أنّ حقيقة الوضع ليس إلّا التعهّد والالتزام النفساني ، فالمفهوم والمدلول بالحقيقة والذات للّفظ هو نفس الإرادة التفهيمية المتعلّقة بالمعنى ، حيث إنّها هي المنكشف التصديقي باللفظ ، وفالمعنى متعلّق المدلول بالذات لا أنّه نفسه.

وفي الختام : فأنّ الدلالة الوضعية مختصّة بالدلالة التفهيمية التصديقية فقط ، فلا بدّ لنا من الالتزام بهذه النتيجة المسلّمة الواضحة في غاية الوضوح بلا تأمّل وريب وعدم شيء من الإيرادات المتقدّمة عليها بوجه من الوجوه.

هذا تمام كلامنا في بيان أقسام الدلالات الثلاث.

٢٦٤

وضع المركّبات

وقد انتهى كلامنا إلى بيان توضيح وضع المركّبات علاوة على وضع المفردات في اللغة والمحاورة في الألسنة الدخيلة في تمدّن البشرية في أنظمة الحياة الاجتماعية في أقطار العالم.

فلا يخفى عليك أنّه لا ينبغي التشكيك في عدم ثبوت وإثبات وضع للمركّبات في قبال وضع المفردات وهيئاتها.

وذلك من جهة أنّ النسبة إنّما تختلف باختلاف التقديم والتأخير من حيث تماميّة الجملة ونقصانها ؛ إذ النسبة ربما تكون تامّة من تمام الجهات كجملة (زيد قائم).

واخرى ليست بتلك المثابة ، بل تحتاج في تماميّتها إلى ذكر متعلّق آخر كجملة (زيد ضارب) ، بل وتحتاج في حسن كمالها وبلاغتها من حيث المعاني والبيان إلى الاقتران بإلحاق أداة التأكيد ، وغير ذلك من الخصوصيات التي لا بدّ أن يلاحظها المتكلّم البليغ والفصيح في الكلام في مطلق الجمل المركّبة الدخيلة في بيان مقصوده عند التخاطب بلحاظ التفهيم والتفهّم بمقتضى تناسب اختلاف الموارد التي لا بدّ للمتكلّم من زيادة كلمة فيها أو إسقاطها ، من دون أن يكون أخذ هذه الزيادة فيه مضرّا بالوضع ، كما أنّ إسقاطها عن الكلام غير مضرّ بالكلام والوضع من أوّل زمان تشكيل الكلام في اللغة والوضع والمحاورة.

مع أنّه لو كان للمركّبات في قبال وضع المفردات وضعا على حدّه وممتازا

٢٦٥

فلا بدّ من الالتزام بعدم صحّة أخذ زيادة في الكلام وإسقاطها إذا كانت تلك الزيادة والنقصان على خلاف الوضع الأوّلي للمركّبات عند الواضع الأوّل ، والحال أنّه من الصدر الأوّل إلى حدّ الآن لم يقل بذلك أحد من نخبة أهل الفنّ حتّى من قال بالوضع للمركّبات في عرض المفردات.

وبالجملة ، فلا يخفى عليك أنّه لا بدّ لنا في المقام من بيان مقدّمة لكي تتّضح لك حقيقة الحال في عدم ثبوت وضع من قبل الواضع للمركّبات غير وضع المفردات ، وهي : أنّه ما المراد من البحث في محلّ الكلام من الوضع للمركّبات في قبال الوضع للمفردات ؟

فلا يذهب عليك أنّ المراد بالوضع للمركّبات أنّ جملة (زيد ضارب) بذلك التركيب التأليفي بذلك الشكل المخصوص مع هذه الهيئة الكلامية وضعت لدلالة الإخبار بأنّ (زيد) في اعتقاد المتكلّم متلبّس بالقيام علاوة على وضع كلمة (زيد) بوحدها لشخص زيد وكلمة (ضارب) لمن صدر عنه الضرب بالوضع النوعي في لغة العرب من قبل الواضع.

فيكون محلّ الكلام هنا في وضع المركّب بما هو مركّب ، أي وضعه بمجموع أجزائه من الهيئة والمادّة ، مثلا في قولنا (زيد ضارب) قد وضعت كلمة زيد لمعنى خاصّ ، وكلمة (ضارب) للمعنى الآخر ، والشكل والهيئة القائمة بهما للمعنى الثالث ، فكلّ ذلك لا إشكال فيه ، وإنّما محلّ الإشكال والبحث إنّما هو في وضع مجموع المركّب من هذه الموادّ على حدة.

وأمّا وضع هيئة الجملة التأليفية فلا كلام في وضعها لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع ، أو مع إفادة خصوصيّة اخرى أيضا ، أو لإظهار أمر نفساني غير قصد الإخبار والحكاية.

فإذا عرفت هذه المقدّمة فقد اتّضح لك أنّ الحقّ عدم ثبوت وضع للمركّب

٢٦٦

بما هو مركّب من حيث المجموع في طول المفردات أو عرضها ، وذلك من جهة أنّ كلّ جملة ناقصة كانت أو تامّة ـ حسب ما تقدّم ـ لها أوضاع متعدّدة باعتبار جعل كلّ جزء جزء منها من ناحية القلّة والكثرة ، إذ أقلّها ثلاثة باقتضاء ما تطلب الحاجة إليه من الغرض.

فمن باب المثال (زيد ناطق) ينحلّ إلى ثلاثة أوضاع : الأوّل : وضع زيد ، والثاني : وضع ناطق ، والثالث : الهيئة القائمة بهما ، بخلاف جملة (الإنسان متعجّب) فإنّها تنحلّ إلى أربعة أوضاع : الأوّل : وضع الإنسان ، والثاني : وضع المتعجّب من حيث المادّة ، والثالث : وضع الهيئة ، والرابع : وضع الهيئة القائمة بالجملة المركّبة المجموع من حيث المجموع.

كما أنّ جملة (زيد ضارب عمرو) تنحلّ إلى ستّة أوضاع :

الأوّل : وضع زيد.

والثاني : وضع ضارب من حيث المادّة.

والثالث : وضعه من حيث الهيئة.

والرابع : وضع الهيئة القائمة بجملة (زيد ضارب).

والخامس : وضع عمرو.

والسادس : وضع الهيئة القائمة بالمجموع.

وهكذا مع التأكيد والحصر والتقديم والتأخير إلى أن يبلغ إلى عشرة أو عشرين وأزيد منهما في عرض وصول الأغراض المختلفة الموجبة لاختلاف الجملة التركيبية من الكلام المركّب من حيث الزيادة والنقصان في تركيبها ، إذ الغرض قد يتعلّق بالمركّب من شيئين ، وقد يتعلّق بالمركّب من أشياء ثلاثة أو أربعة أو خمسة حسب ما هو الموجود في المحاورة من القديم إلى زماننا هذا بالضرورة من الوجدان.

٢٦٧

وغير خفي عليك أنّ هذه الأوضاع المتقدّمة المتعلّقة بالمركّبات التي وقفت عليها بالتفصيل كافية للدلالة على إفادة تلك الأغراض والمقاصد في الدهور والعصور وفي عصرنا وما بعده إلى يوم القيامة ، بلا فرق بين ما كان الغرض منه قصد الحكاية عن الواقع أو إظهار أمر نفساني غير قصد الحكاية ، ولا يبقى أيّ غرض بوجه من الوجوه لا تكون تلك الأوضاع قائمة بكفايته ، حتّى نحتاج إلى وضع المركّبات في عرض وضع المفردات أو طولها بما هو واقع في سبيل دفع الحاجة في الوصول إلى الأغراض بما هو على حدّه للدلالة على ذلك الغرض.

إذ من الواضحات لمن له أدنى اطلاع على اللغة والمحاورة أنّ من قصد الحكاية عن تلبّس زيد بالضرب يقول : (ضرب زيد) ، فتلك الجملة تدلّ على قصد الحكاية عن حدوث تلبّس زيد بمبدإ الضرب في الخارج. كما أنّ جملة (ما جاءني القوم إلّا زيد) تدلّ على حصر المجيء بزيد ، زائدا على دلالتها على قصد الإخبار عن تلبّس القوم بذلك المجيء. وهيئة : (إنّ زيدا عادل) تدلّ على التأكيد. وهيئة (ضرب موسى عيسى) تدلّ على أنّ موسى فاعل من دون الاحتياج إلى دالّ آخر وعدم وجود دالّ آخر هنا غير هذه الهيئة ، وهلمّ جرّا بالنسبة إلى بقيّة المقاصد والأغراض.

وبالجملة إنّ المتكلّم متى ما قصد تفهيم خصوصيّة من الخصوصيّات وإظهارها في الخارج متمكّن من ذلك ببركة هيئة من الهيئات ، فبذلك القيّم الأصيل الكافي لا يبقى لنا وجه حاجة إلى وضع المركّبات بما هي مركّبات ، على أنّ ذلك الوضع خارج عن حكمة الوضع ، لأنّه لغو وعبث في عرض وضع الموادّ بجملتها.

فصارت النتيجة أنّ القول بوضع المركّب علاوة على وضع المفردات وهيئات المفردات يكون بلا وجه ولا علّة ومن أظهر مصاديق اللغو الذي لا يحتاج بطلانه

٢٦٨

إلى البيان ، بل الموضوع في اللغة والمحاورة إنّما يكون منحصرا في وضع المفردات بما لها من الهيئات المفردة ، وهذا الوضع يكفي لإفادة المقاصد المتقدّمة عند المخاطبة في التفهيم والتفهّم بالنسبة إلى جميع تلك الخصوصيات من الكلام في المحاورة ، فإذن يصبح وضع المركّبات لغوا.

ومن الدليل على ذلك مضافا على ما تقدّم ـ أي على عدم وجود وضع مستقلّ للمركّبات بما هي مركّبات ـ أنّ القول بالوضع للمركّبات في مقابل وضع المفردات مستلزم لإراءة المعنى الواحد وإفادته مرّتين وانتقاله إلى الذهن بانتقالين ، مرّة بالإجمال من جهة وضع المركّبات ، ومرّة بالتفصيل من جهة وضع مفردات الكلام ، إذ من الضروري أنّ فرض تعدّد الوضع لا ينفكّ عن تعدّد الانتقال والإفادة والدلالة.

وذلك مثل ما إذا تكلّم الإنسان بلفظ الدار مرّة وبكلمات الحائط والغرفة والساحة اخرى ، إذ من الضروري هاهنا أنّ الانتقال إلى المعنى يكون مرّتين ، غايته أنّهما طوليّان ، بخلاف مقامنا هذا ، فإنّه لو التزمنا بتعدّد الوضع يلزمنا أن نلتزم بعرضيّة الإفادتين والانتقالين.

بيان ذلك أنّ المركّبات بما هي لو كان لها وضع فلا جرم كان وضعها للدلالة والإفادة لما يستفاد من مجموع الهيئة والمادّة في الجملة ، لعدم إمكان تصوّر معنى آخر على الفرض ، مع أنّه من الضروري أنّ فرض تصديق هذا السنخ من الوضع المستقلّ للمركّبات يلزمنا الالتزام بعرضيّة الإفادتين والانتقالين ، لقيام كلّ من الدالّين في عرض تحقّق دالّ آخر بالوضع في المحاورة ، مع أنّ أحدا من الأصحاب لم يلتزم بذلك ، بل الوجدان حاكم بعدم استفادة أزيد من معنى واحد من جميع الاستعمالات الموجودة في المحاورة بالبداهة والضرورة ، وأنّ ما نسب ابن مالك إلى بعض الأصحاب من الالتزام بذلك من المحتمل أنّ هذا

٢٦٩

البعض أراد من الوضع وضع الهيئة المركّبة لا هو نفسه وعينه ، فيكون النزاع لفظيا لا معنويا كما لا يخفى على المتأمّل.

والحاصل أنّ ما تعرّض له علماء المعاني والبيان من أنّ المجاز يكون على قسمين : الأوّل : المجاز في المفرد ، والثاني : المجاز في المركّب (١) ليس كما ينبغي ، إذ فرض المجاز في المركّب متوقّف على فرض تحقّق الوضع في المركّبات في المحاورة واللغة ، وقد عرفت عدم تحقّق ذلك ، فإذا كان تحقّق الوضع للمركّبات ضروري البطلان بعنوان الحقيقة والمجاز فيها يكون منتفيا بانتفاء الموضوع.

نعم لا بأس بإيراد جملة مركّبة من هيئة خاصّة مكان هيئة اخرى من باب تشبيه المركّب بالمركّب كما في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(٢) ، ومثل : (كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ)(٣) ، كما تجوز الكناية في المركّب ، وذلك نظير المثل المعروف عند الحكاية عن حالة تحيّر الشخص المردّد بأنّه : «يقدّم رجلا ويؤخّر اخرى».

هذا تمام الكلام في بيان عدم ثبوت الوضع للمركّبات في قبال وضع المفردات.

__________________

(١) راجع مفتاح العلوم : ١٧٥ ، الأصل الثاني من علم البيان.

(٢) البقرة : ١٧.

(٣) البقرة : ١٩.

٢٧٠

الوضع النوعي والشخصي

وقد انتهى كلامنا إلى بيان الوضع النوعي والشخصي.

فاعلم أنّ الوضع يكون على قسمين :

الأوّل : الوضع الشخصي ، وذلك مثل وضع موادّ الألفاظ بهيئاتها المفردة لمعانيها المفردة ، مثل : كلمة (زيد) المركّبة من حرف (زاء وياء ودال) ، ومثل كلمة (إنسان) المركّبة من كلمة (ألف ونون وسين وألف ونون) التي يتحصّل من تركيبها بالترتيب هيئة الإنسان ، وهيئة كلمة زيد.

فالواضع يتعهّد أن يجعل هذه الكلمة ـ أعني كلمة (زيد) وكلمة (إنسان) ـ لذينك المعنيين من زيد والإنسان بما لهما من المعنى المخصوص ، من غير فرق بين علم الشخص أو علم الجنس ، ولكن بعنوان طبيعي هذه المادّة من غير تقييد بزمان خاصّ ومكان وحالة خاصّة ، بل من غير تقيّد بوقوعها حين الوضع في تلفّظ الواضع ، لأنّ تكلّم الواضع بها كان لمجرّد إعلان وضع طبيعي المادّة للمسمّى والموضوع له ، بلا فرق بين الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس ، وإنّما الواضع وضع لفظ (ض ، ر ، ب) بهيئة (ضرب) لمن صدر منه الضرب بالعنوان الكلّي ، بحيث إنّ الواضع يكون كالغير بالنسبة إلى تلك المادّة والهيئة من ذلك اللفظ.

فكلمة (زيد) و (إنسان) و (بكر) و (خالد) إذا كانت مقيّدة بما تلفّظ بها الواضع حين الوضع ، أي كونها متقيّدة بوقوعها في كلام الواضع فبالتكلّم

٢٧١

انعدمت ، لأنّها تكون من الامور التصرّميّة ، تجدّ وتنعدم ، فلا يجوز بعد انعدام ذلك اللفظ استعمال مثلها ، حتّى إذا كان المستعمل هو شخص الواضع ، إذ الموضوع بالوضع الأوّل ذلك الوضع ، وإذا فرض أنّ الوضع كان في انحصار لفظ الأوّل ولفظ الثاني يكون غير لفظ الأوّل ولم يوضع لهذا المعنى فلا يجوز استعماله لشخص الواضع ، فضلا عن غير الواضع من المستعملين في طول وضع الأوّل الصادر من الواضع حين الوضع وقبيله.

وبالجملة ، فإنّ الاصوليين قسّموا الوضع إلى نوعي ، كوضع الهيئات ، وإلى الوضع الشخصي ، كوضع الموادّ المتقدّمة.

ولا يذهب عليك أنّ المقصود بالوضع الشخصي ليس وضع شخص اللفظ الصادر من الواضع المتكلّم بذلك اللفظ حين إعلان الوضع ، إذ قد علمت أنّ شخص ذلك اللفظ قد انعدم وتصرّم ، فليس له معاد إلّا في ضمن لفظ آخر مثله في تكلّم آخر كالأوّل ، فيكون الصادر بعد من المتكلّم ثانيا هو مثله لا عينه ولو كان المتكلّم هو نفس الواضع الأوّل لا غيره من المستعملين ، بل المراد منه وضع اللفظ بعنوان وحدته الطبيعية وشخصيّته النفسية الذاتية في قبال وضع اللفظ بعنوان الجامع العنواني ووحدته الاعتباريّة.

فإذن لا يخفى عليك أنّ اللفظ في الوضع الشخصي لا يكون جزئيا ، بل اللفظ إنّما يكون من حيث الوضع عند ذلك نوعيا ، لأنّ الواضع إنّما وضع لفظ زيد نوعيّا دالّا على ذلك الشخص الذي يكون ابن عمرو في الخارج ، لا خصوص اللفظ الذي وقع في كلام الواضع حين الوضع بهذا العنوان المخصوص.

فكأنّ الواضع قال : إنّي وضعت لفظ (زيد) بالعنوان الكلّي اسما موضوعا لهذا الرجل الخاصّ الخارجي بالنسبة إلى الأعلام الشخصية ، وللمفهوم الكلّي في أسماء الأجناس والمفاهيم الكلّية ، بلا فرق بين ما إذا تكلّم بهذا اللفظ في مقام

٢٧٢

الاستعمال شخص الواضع أو غيره من أبناء المحاورة من زيد وعمرو وبكر وخالد ؛ إذ لو لا ذلك اللحاظ العامّ في ناحية اللفظ بعنوان الطبيعة لما كان لفظ زيد اسما لهذا الشخص بالنسبة إلى الاستعمالات البعدية ؛ إذ اللفظ الأوّل بما أنّه من الامور التصرّمية انقضى وانعدم بمجرّد تكلّم الأوّل حين الوضع بالضرورة من الوجدان ، والألفاظ التي يتكلّم بها المتكلّم بعنوان الاستعمال في ذلك المعنى تكون غير اللفظ الأوّل مماثلا له ولا عينه.

ولو كان المستعمل هو شخص الواضع الأوّل فيلزم أن لا يكون لفظ (زيد) الذي تكلّم به غير الواضع أو شخص الواضع في مرحلة البعد في الأزمنة المتأخّرة عن التكلّم الأوّل من حين الوضع اسما لذلك الشخص الخاصّ ، إذ المفروض أنّ الاسم لشخص زيد كان منحصرا في خصوص اللفظ الذي وقع في كلام الواضع حين الوضع فقط ، فذلك انعدم بالتلفّظ ، والألفاظ المتلفّظ بها بعد زمان الوضع سواء كان المتكلّم بها شخص الواضع أو غيره من أبناء المحاورة تكون غير اللفظ الأوّل ، فيكون خارجا عن الوضع وليس باسم لهذا الشخص حتّى يجوز استعماله فيه. ومن الضروريات والبديهيات أنّ هذا الالتزام في باب الوضع خلف من الأباطيل الواضحة يعرفها الفضلاء فضلا عن العلماء.

وقد بقي الكلام في بيان الوضع النوعي.

ولا يخفى عليك أنّ سنخ الوضع في الأفعال والمشتقّات يكون على خلاف وضع الأعلام الشخصية ، لأنّها فيها تكون نوعيّة لا شخصية من حيث المادّة والهيئة ، فتكون كلّيا ونوعيا ، لا خاصّا وشخصيا من قبيل وضع الأعلام الشخصية. فيكون الوضع في المشتقّات كلّيا نوعيّا بعنوان وضع الطبيعي الكلّي من حيث المادّة والهيئة ، فكأنّ الواضع في المشتقّات أعلن حين الوضع أنّ مادّة (ض ، ر ، ب) بشكل الهيئة التأليفية (ضرب) وما يكون بهذا الوزان من أفعال

٢٧٣

الماضي موضوع للفعل الماضي كفعل ونصر ومنع وكأكرم وافعل من سائر أفعال الثلاثي المزيد. وهكذا مثل هيئة (يضرب) في الفعل المضارع وهيئة (ضارب) في أسماء الفاعل وهيئة (مفعول) في أسماء المفعول إلى آخر المشتقّات من فعل الأمر والنهي والجهد والنفي والاستفهام. فكأنّ الواضع أعلن في وضع المشتقّات بأنّ هيئة فعل ـ وكلّ ما يكون بهذا الوزان كأكل ونصر وقعد وأمثالها ـ وضعتها نوعيّا للدلالة على حدوث المبدأ في الزمان الماضي ، ومثل يضرب ويأكل ويفعل ـ وما يكون بمثابة هذه الهيئة من أفعال المضارع ـ وضعتها للدلالة على أنّ المبدأ يوجد في الحال أو سيوجد في الاستقبال. وهكذا هيئة الفواعل والمفاعيل كالضارب والمضروب ، وهكذا.

ولكن قد يشكل بأنّ وضع الهيئات كما يكون نوعيّا كذلك وضع الموادّ أيضا كما تقدّم آنفا يكون نوعيّا ؛ لأنّ الواضع حين الوضع كأنّه التزم بأنّ هيئة تركّب زيد من «ز ، ي ، د» ـ من أيّ شخص في نوعه وفي أيّ مكان وفي أيّ زمان تكلّم به بعنوان الاستعمال في ذلك الرجل الموجود في الخارج ـ وضعتها اسما له في اللغة والمحاورة.

فعلى هذا التقريب لا فرق من ناحية الوضع بين أسماء الأعلام وأسماء المشتقّات والأفعال من حيث النوعيّة والشخصية بين الموادّ والهيئات.

وبعبارة اخرى : ملخّص الإشكال أنّ ملاك شخصيّة الوضع في المواد إن كان وحدة كلّ واحدة منها ذاتا ونفسا وطبيعة وتشخّصها وتميّزها عن مادّة اخرى بذاتها في تخلّقها التكويني ، فهو هي بعينها موجودة في الهيئات أيضا بالقطع واليقين ؛ إذ كلّ هيئة بذاتها وتشخّصها متمايزة عن هيئة اخرى في الوجود الخارجي ؛ إذ من الضروري من باب المثل أنّ هيئة فاعل ممتازة بذاتها عن مثل هيئة ضارب وآكل وشارب وصابر إلى آخر الهيئات المشتقّة عن المبادئ

٢٧٤

المتعدّدة ؛ إذ لكلّ واحد منها وحدة تكوينية طبيعيّة وشخصيّة وجوديّة ذاتيّة في قبال وجود الآخر عند التكلّم بها.

وإن كان ملاك نوعيّة الوضع في الهيئات عدم حصر الهيئة بمادّة دون اخرى فهو موجود بعينه في الموادّ ، ومن البديهي عدم اختصاص المادّة بهيئة دون هيئة اخرى ، فمن باب المثال مادّة (ض) و (ر) و (ب) كما هي موجودة في (ضرب) ، كذلك موجودة في مثل (ضارب) و (مضرب) و (يضرب) وأمثال ذلك من الأوزان ، فإذن أيّ فرق يوجد بين المادّة والهيئة ليكون الوضع في الاولى شخصيّا وفي الثانية نوعيا.

وقد أجاب عن ذلك الإشكال شيخنا المحقّق قدس‌سره من جهتين :

أمّا الجهة الأولى : فهي عبارة من أنّ التحقيق في جوهر الكلمة ومادّتها ـ أعني الحروف الأصلية المترتّبة الممتازة عن غيرها في نفسها ذاتا أو ترتيبا ـ أمر ممكن القبول للحاظ الواضع بنفسه في حدّ ذاته ، فله أن يلاحظه بوحدته الطبيعية وتوضع المعنى المسمّى بخلاف هيئة الكلمة ، فإنّ الزنة لمكان اندماجها في المادّة لا يعقل أن تلاحظ بنفسها لاندماجها غاية الاندماج في المادّة ، فلا استقلال لها في الوجود اللحاظي كما في الوجود الخارجي كالمعنى الحرفي ، فلا يمكن تجريدها ولو في الذهن عن الموادّ ، فلذا لا جامع ذاتي لها كحقائق النسب ، فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنواني مثل قولهم : (كلّ ما كان على وزن الفاعل موضوع لمن صدر عنه مبدأ الفعل) ، وهذا هو معنى نوعيّة الوضع ، أعني الوضع لها ـ أي للهيئة ـ بجامع عنواني لا بشخصيّتها الذاتية.

وأمّا الجهة الثانية : فهي أنّ المقصد عبارة عن أنّ المادّة حيث يمكن تصوّرها ولحاظها في حدّ نفسها بمجرّدها فقط عند الوضع فوضعها شخصي ، بخلاف الهيئة حيث لا يمكن لحاظها بمجرّدها فقط إلّا في ضمن مادّة ، وإنّما الوضع لها

٢٧٥

يوجب اقتصاره عليها فيجب أن يقال : إنّه لهيئة الفاعل وما يشبهها ، وهذا معنى نوعيّة الوضع أي لا لهيئة شخصيّته واحدة بوحدته الطبيعية ، بل لها ولما يشبهها من الأنواع والأمثال في وزنها الهيوية التي تكون على وزن الفاعل (١).

والحقّ أنّ جوابه قدس‌سره متين في نهاية المتانة ، وحاصله مع توضيح منّا أنّ كلّ مادّة يمكن للواضع أن يلاحظها بشخصها وبوحدتها الطبيعية كلفظ (الإنسان) أو مادّة (ضرب) يمكن أن يلاحظ بشخصه وبوحدته ، ويصحّ أن يوضع للمعنى الموضوع له ، فالوضع عند ذلك لا جرم يوجب الانحصار والاقتصار على تلك الحالة المادّية أو ذلك اللفظ من دون أن ينحلّ إلى أوضاع متعدّدة ، فهذا السنخ من الوضع يكون من قبيل وضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ في الاصطلاح. ولكن بخلاف الوضع في الهيئة ، فإنّها حيث لا يمكن أن تصوّر وتلاحظ بشخصها ووحدتها الذاتية منفكّة عن مادّة ما ، فلا محالة يجب أن توضع لجامع عنواني شامل لجميع الهيئات المتشابهة المتوازنة ، ولأجل ذلك فإنّ هذا السنخ من الوضع ينحلّ إلى أوضاع كثيرة متعدّدة ، فيثبت لكلّ هيئة وضع خاصّ مستقلّ ، نظير الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

وهذا السنخ من الوضع عبارة عن الوضع النوعي في قبال الوضع الشخصي ، أعني أنّ الملحوظ والمتصوّر حال الوضع إنّما يكون هو الجامع العنواني الشامل لجميع الهيئات المتشاكلة في الوزان ، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى وضع الموادّ ، لأنّ شخص كلّ مادّة إنّما يكون موضوعا بإزاء معنى ما خاصّ فقط ، ومن ناحية ذلك الانحصار قالوا : إنّ الوضع فيها كان شخصيا لا نوعيا.

هذا تمام الكلام في بيان كيفيّة الوضع النوعي والشخصي.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٣٨.

٢٧٦

الأمر الثامن

علامات الحقيقة والمجاز

الأمر الثامن : في بيان علامات الحقيقة والمجاز.

فلا يخفى عليك أنّهم ذكروا للحقيقة علامات :

منها : التبادر ، لا شكّ في أنّ من المشهورات المسلّمة عند الاصوليين تبادر المعنى من استعمال اللفظ إلى الذهن في المحاورة ، بمعنى أنّهم يحاسبون تبادر المعنى من اللفظ المجرّد من القرائن الحالية والمقالية إلى الذهن عند الاستعمال علامة ودليلا على أنّ هذا اللفظ في اللغة موضوع لهذا المعنى حقيقة ، فيكون المعنى المتبادر منه هو الموضوع له لذلك اللفظ بعنوان الحقيقة في اللغة والمحاورة لا المجاز.

وقبل الشروع في البحث لا بدّ لنا من التذكير على مقدّمة دخيلة في توضيح البحث عند الطالب ، وهي أنّه قد تقدّم أنّ دلالة اللفظ على المعنى ليست معلولة عن الخصوصيّة الذاتيّة بين اللفظ والموضوع له بالضرورة من الوجدان.

وقد تقدّم البحث عن ذلك بالتفصيل على نحو لا مزيد عليه ؛ إذ لو كانت الدلالة

٢٧٧

متولّدة عن خصوصية مخفيّة في ذات اللفظ والمعنى ، فلا بدّ من أن يعرف كلّ شخص من الأشخاص كلّ لغة من اللغات ، والحال أنّ ذلك الالتزام ضروريّ البطلان ، لأنّ أهل كلّ لغة ولسان لا يعلمون أكثر ألفاظ اللغات الأخرى ومعانيها في محاورتهم ولسانهم الذي ولدوا فيه وعاشوا أزيد من أربعين سنة مع ما لهم من الحاجة والابتلاء بها فيها ، فكيف يصح لغيرهم من أهل غير هذه اللغة أن يعرف جميع هذه المعاني بالدلالة الذاتية.

فهذا السنخ من الدلالة الوضعية بطلانه من الواضحات ؛ إذ الواضع لكلّ لغة ربما لا يعرف بعض المعاني منها من ألفاظها ، فكيف بحال غير الواضع ، لا سيّما إذا كان من غير أهل هذا اللسان ، كما إذا كان أعجميا يريد أن يعرف اللغة العربيّة ، وهكذا بالنسبة إلى غير العجم من أبناء سائر اللغات والمحاورات إذا قصدوا عرفان لغة من اللغات.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا تنبيه آخر ، وهو عبارة عن أنّه لا ينبغي لأحد أن يلتزم بأنّ المعاني بتمامها إنّما تستفاد من الألفاظ ببركة القرائن في جميع المحاورات واللغات في تمام الأزمان والأعصار ، لا من حاقّ الألفاظ بحيث لا يبقى لأحد مجال للاستفادة من الألفاظ الموضوعة في الوصول إلى المعاني إلّا لخصوص الواضع ، فإنّ ذلك الالتزام يكون في نهاية البطلان بحيث تضحك منه الثكلى ، على أنّه يكون على خلاف الغرض والحكمة من الوضع ، كما أنّ المقدّمة الاولى كانت على خلاف الوجدان والواقع.

فإذا وقفت على بطلان هاتين المقدّمتين بالتفصيل المتقدّم ، ينقدح لك أنّ تبادر المعنى من حاقّ اللفظ في ظرف فقدان القرينة إلى ذهن السامع من الاستعمال كاشف عن أنّ ذلك اللفظ وضع في اللغة لذلك المعنى المتبادر منه بعنوان الحقيقة ، كشف المعلول عن علّته ، الذي يعبّرون عن تلك الدلالة ببرهان

٢٧٨

اللمّ ، إذ لو لم يكن اللفظ موضوعا لهذا المعنى والموضوع له حقيقة ، لما تبادر هذا المعنى منه إلى الذهن عند فرض فقدان تمام القرائن الحالية والمقالية والعهديّة على الدلالة والكشف.

فتلخّص أنّ هذا البرهان لا يحتاج إلى أزيد من هذا البيان في نظر من يكون له أدنى تأمّل في المحاورة لاستظهار المعاني من الألفاظ الموضوعة لها في كلّ لغة ولسان.

فإن قلت : إنّ تبادر المعنى من اللفظ متوقّف على العلم بالوضع ، فإذا كان العلم بالوضع أيضا موقوفا على التبادر يلزم الدور.

قلت أوّلا : إنّ الدور عند المستعمل ليس متوقّفا على العلم بالوضع ، بل الوضع عند المستعلم يكون متوقّفا على التبادر في المحاورة ، وعلم أهل المحاورة بالوضع يكون موقوفا على الوضع.

وثانيا : إنّ علم أهل المحاورة بالوضع يكون على نحو الارتكاز ، ولكن لا يذهب عليك أنّ ذلك لا يخلو من الإجمال والاندماج ، واخرى يكون على نحو التفصيل ، بمعنى أنّ المستعلم بنحو الإجمال والاندماج عالم بمعنى ما للّفظ ، ولكنّه يريد أن يطّلع على كنه المعنى بالتفصيل ببركة التبادر ، فيكون بين العلمين فرق من حيث الإجمال والتفصيل ، والأوّل علم إجمالي ، والثاني علم تفصيليّ لا ربط له بالعلم الأوّل ، بل هو حاصل من ناحية التبادر.

هذا ملخّص الجواب الذي أجاب به عن الإشكال في الدور الذي ذكر في المقام المحقّق صاحب الكفاية (١) ، هذا.

فلا يخفى عليك أنّ هذا التبادر لا يقدر أن يثبت أنّ اللفظ الذي أفاد هذا المعنى

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٣٣.

٢٧٩

في عالم الدلالة والظهور حقيقة في هذا المعنى بوضع من الواضع وضعا حقيقيا لغويّا ؛ ليكون هذا اللفظ في اللغة موضوعا من قبل الواضع لذلك المعنى من أوّل الأمر ، بل التبادر إنّما يثبت بأنّ ما يكون هو المتبادر من هذا اللفظ من المعنى عند العرف مقبول ، وهو متّبع من حيث الاعتبار والظهور والدلالة وإن كانت تلك الدلالة معلولة لوضع الثانوي دون الوضع الأوّلي الذي تحقّق بيد الواضع.

فبهذا التقريب لا يترتّب على أمثال هذه التبادرات ثمرة في تعيّن الوضع الحقيقي اللغوي الأوّلي لا على القول الذي ارتضاه علم الهدى قدس‌سره حيث إنّه قدس‌سره التزم بأنّ الظهورات حجّة من باب أصالة الحقيقة التعبّدية. بخلاف مسلك المشهور بأنّ أصالة الظهور إنّما تكون حجّة بلحاظ الظهور لا من ناحية التعبّد بأصالة الحقيقة.

فعلى هذا لو شكّ في أنّ هذا الظهور هل هو محصول القرينة أو محصول دلالة نفس اللفظ في حدّ ذاته لا يمكن إثباته من ناحية ذات اللفظ إلّا ببركة استصحاب العدم الأزلي على القول بحجّية اللوازم العقلية في الاصول المثبتة ، مع أنّ هذه اللوازم من آثار نفس ذات المستصحب.

نعم ، يمكن إثبات ذلك ببناء العقلاء لأنّ العقلاء لا يعتنون بأمثال هذه الاحتمالات عند الاعتماد بالظهورات المشرقة العقلائية بمجرّد حدوث الاحتمالات البدويّة ، أو الباقية من ناحية احتمال دخالة قرينة مخفيّة عليهم ، لأنّها اخفيت من جهة طول الزمان.

فصار المتحصّل أنّه لا يجوز الاعتماد على أصالة عدم وجود القرينة في الكلام لإثبات أنّ هذا الظهور والدلالة يكون معلول نفس ذات اللفظ في لغة العرب.

٢٨٠