دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

١
٢

٣

٤

تصدير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الطيّبين الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

أمّا بعد ، فإنّ الحديث عن اشتغالي بتحصيل الدروس الحوزويّة بدأ في قرية (أبرسيج) من قرى منطقة «بسطام» من توابع مدينة «شاهرود».

وهي قرية لها امتيازات من جهة قدمتها وشرافتها وعظمتها ، وفيها أبنية دينية من مساجد معمورة تزيد على أحد عشر مسجدا في محلّاتها المختلفة ، وفي واحد منها توجد كتابة على أحد أعمدته بأنّه بني قبل سبعمائة سنة.

وفيها مدرسة دينية قديمة ، وقد سمعت في النجف الأشرف من سيّدنا الاستاذ آية الله العظمى الحاجّ السيّد محمود الشاهرودي قدس‌سره أنّه قد درس في هذه المدرسة في بداية اشتغاله في تحصيل العلوم الدينية ، وقال : كانت تقام مجالس قراءة دعاء كميل في ليلة الجمعة في أكثر من أربعين بيتا.

وكان في هذه القرية المباركة حسينيتان ، إحداهما في المحلّة السفلى ، وقد تصدّى لتعميرها في زماننا هذا ثقة الإسلام الشيخ حسين المعصومي من أقربائي ، والاخرى في المحلّة العليا ، وهما من حيث البناء في نهاية الحسن ، وجدير بالذكر أنّهما معمورتان في أغلب ليالي الجمعة بالحديث والموعظة والدعاء ، لا سيّما في شهري : محرّم ، والصفر وشهر

٥

رمضان المبارك لأنّه يجتمع فيهما جمع كبير من الرجال والنساء عند حضور الخطباء من قم ومشهد المقدّستين.

وقد درست العلوم العربيّة في هذه المدرسة الموجودة في تلك القرية مع جمع من الأصدقاء عند المرحوم الاستاذ حجّة الإسلام الشيخ علي الواعظي البرجسته ، وله علينا حق مرّا ، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل سعيه مشكورا ، ويتغمّده في بحار مغفرته ورحمته ، واولئك الأصدقاء دامت إفاضاتهم كلّهم من رجال الدين في مشهد الرضا عليه‌السلام وقم وغيرهما من المدن.

وهذه القرية المباركة مضجعة عدد من العلماء الأعلام ، وقبورهم مزار للناس تكريما وتجليلا ، منهم ـ رحمهم‌الله ـ : جدّي الأعلى الملّا معصوم.

ومن أساتذتي : المرحوم آية الله العظمى شيخنا الاستاذ المعظّم الحاجّ الشيخ عباسعلي المظفّري الشاهرودي ، وكان من أكابر المدرّسين في قم ، وهو ذات حافظة غريبة ، وكان عند ما يبحث عن المسائل الفهمية يقرأ الأحاديث المرتبطة بكلّ باب من دراساته عن ظهر قلب ، وكان من الزهّاد والمتّقين.

وكان من تلاميذه الشيخ الجليل آية الله الشيخ الهاشمي الرفسنجاني وهو من أبطال الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني قدس‌سره وفي الوقت الحاضر رئيس «مجمع تشخيص مصلحة النظام» باختيار من السيّد القائد آية الله العظمى الخامنئي متّع الله المسلمين بطول بقائه.

ومنهم : المرحوم آية الله العظمى الحاجّ السيّد عباس الشاهرودي الأبرسيجي ، وهو إمام جماعة المسجد الجامع (گوهرشاد) ، وكان من أكابر العلماء في الحوزة المباركة في مشهد الإمام الرضا عليه آلاف التحيّة والثناء. وكان وحيد دهره وفريد عصره ، في الزهد والتقوى وهو عمّ آية الله الحاجّ الآغا حسين الشاهرودي الأبرسيجي ، وهما مدفونان في جنب الحرم الشريف لثامن الأئمة عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام.

وبالجملة ، إنّ هذه القرية لها فضائل لا تحصى ، ومن يريد الاطّلاع بأزيد من ذلك فليراجع كتاب (مطلع الشموس) المكتوب في تاريخ سفر ناصر الدين شاه من طهران إلى

٦

مشهد الرضا عليه‌السلام حين وروده بأبرسيج في أثناء سفره إلى مشهد.

فلا يخفى عليك أنّي ـ بتوفيق من الله تبارك وتعالى ـ تركت قرية الأبرسيج مع جماعة من أصدقائي ـ وكلّهم من هذه القرية المباركة ـ مهاجرا إلى مدينة شاهرود ، ودخلت في «مدرسة العلقة» ، وكانت حوزة شاهرود في ذلك الزمان عامرة برئاسة آية الله العظمى الأشرفي والتوحيدي والدانش پژوه والنجفي والنمازي رحمهم‌الله جلّ جلاله.

وبقيت في هذه المدرسة مدّة أربع سنوات ، وفي تلك الفترة درست الصرف والنحو عند أساتذة الأدب رحمهم‌الله.

ولمّا استكملت المدّة كنت متلهّفا لزيارة ثامن الأئمة عليه آلاف التحيّة والثناء ، وبتوفيق من الله عزوجل شملتني ألطاف علي الرضا عليه‌السلام ، فسافرت إلى مشهد ، وبعد زيارة مضجع الإمام الثامن سكنت في المدرسة المباركة للميرزا جعفر رحمه‌الله ، وحضرت دروس أساتذة الأدب في السيوطي والمغني والمطوّل ، منهم : حجّة الإسلام أديب النيشابوري قدس‌سره.

ثمّ بعد إتمام المعالم والقوانين درست اللمعة عند الآية المدرّس اليزدي رحمه‌الله تعالى.

وبعد إكمال اللمعتين بتوفيق من الله تبارك وتعالى حضرت درس الرسائل لشيخنا الاستاذ آية الله الحاجّ الميرزا هاشم القزويني تغمّده الله بغفرانه ، وكان عديم النظير في التدريس ، وكنت مشمولا لعنايته الخاصّة ، وكان منزله في عقد «آب ميرزا» المحلّة المعروفة في مشهد ، وكنّا كثيرا ما نزوره في بيته الشريف. وبالجملة ، فقد كمّلت دراسة الرسائل والمكاسب والكفايتين في محضره المبارك الشريف. وعندي ذكريات من أخلاقه العالية وله حقّ عليّ وإنّي قاصر عن تأديته ، ونسأل الله عزوجل أن يوفّقني أن أكتب هذه الحكايات في كتاب مستقلّ.

وكيف كان ، فبعد إتمام المجلد الثاني من الكفاية في محضر شيخنا العلّامة الاستاذ آية الله العظمى الحاج ميرزا هاشم القزويني رحمه‌الله ، ورد سيّدنا الاستاذ آية الله العظمى الحاج السيّد محمد هادي الميلاني قدس‌سره إلى مشهد الرضا عليه‌السلام في بيت حجّة الإسلام المرحوم الحاج الشيخ مهدي النوغاني رحمة الله عليه ، وصار هذا الورود محفّزا جديدا لفضلاء حوزة خراسان ، وكان ذلك البيت الشريف محلّا عزيزا لجماعة العلماء والمجتهدين والفضلاء ،

٧

وكانوا كلّهم مصرّين على بقاء السيّد لإلقاء الدروس الخارجية في حوزة خراسان ، وكان السيّد يجيب بأنّ هذه المهمّة لا بدّ أن تتعيّن من قبل الله تبارك وتعالى ، وفي النهاية أجمعوا على طلب الخير من الله تعالى (الاستخارة) وخرج مثبتا فصمّم سيّدنا الاستاذ على التوطّن عند الرضا عليه‌السلام وقبول التدريس.

وكان أوّل درسه الشريف في محلّة المهديّة بطلب من المرحوم الحاج العابدزاده ، وأجاب سيّدنا الاستاذ قدس‌سره هذه الدعوة بيمن التبرّك من ناحية صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف ، وكان بحوث الأوامر ، من أصول الفقه بداية درست ووفّقت لدرك دراساته إلى آخر الأوامر والنواهي ، وله علينا المنّة والتقدير والشكر.

إلى أنّ وفّقني الله للتشرّف بزيارة العتبات العاليات ، وبعد إتمام دورة الزيارة وزيارة مولى الموحّدين وإمام المتّقين عليّ بن أبي طالب عليه وعلى أولاده صلوات المصلّين ، حضرت دورة بحوث فقه الحجّ لسيّدنا الاستاذ آية الله العظمى الحاج السيّد محمود الحسيني الشاهرودي ، وكتبت بحوثه الدقيقة بمقدار وسعي ، ودفاترها لدي موجودة ، وكان هو قدس‌سره قد شاهد بعضها وقال لي : حفظتها كلّها من دون إسقاط ، وكان محلّ بحوثه في المسجد الهندي صباحا.

كما حضرت دراسات اصول سيّدنا الاستاذ العلّامة النقّاد آية الله العظمى الحاجّ السيّد أبي القاسم الخوئي في الليل بعد صلاتي المغرب والعشاء في المسجد الخضراء في إحدى الدورتين ، وهو ـ قدّس الله تبارك وتعالى نفسه الزكيّة ـ يصعد المنبر لإلقاء الدرس على المجتمع الكبير من الفضلاء والآيات ، كالمرحوم الآغا علي الشاهرودي والحاجّ السيّد علي السيستاني والوحيد الخراساني والعلّامة الشهيد الصدر والشهيد المدني والتبريزي والكوكبي وغيرهم من العلماء والمشتغلين من العرب والعجم في ذلك المجتمع الكبير.

وله إشراق من حيث البيان والتدريس الدقيق على قلوب الحاضرين كالشمس في الافق المبين ، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحشره مع سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله المنتجبين.

وبعد إتمام الدورتين بدّلت بحوث اصوله باصول سيّدنا الاستاذ آية الله العظمى

٨

الشاهرودي وحضرت دروسه الفقهيّة من أوّل الطهارة من كتاب العروة لآية الله العظمى السيّد محمّد كاظم اليزدي.

وكان من إدامة فضل الله عزوجل عليّ توفيق الحضور لمحاضرات دروس الفقه من الوصيّة والنكاح لسيّدنا الاستاذ المعظّم آية الله العظمى الحكيم قدس‌سره ، وقد كان يدرّس في مسجد شيخ الطائفة المرحوم آية الله العظمى الطوسي طهّر الله مرقده الشريف.

وكان من دأب سيّدنا الاستاذ الحكيم عند الدخول في مسجد الطوسي للتدريس أداء ركعتين من الصلاة لتحيّة المسجد ثمّ يصعد المنبر لإلقاء البحث لذلك المجتمع العظيم الذي كان مليئا بالأكابر من شيوخ علماء النجف والفضلاء من العرب والعجم ، وإنّه كمثل البحر يتموّج على الحضّار من المجتهدين والمحصّلين من حيث البيان والتحقيق ، وكان له تبحّر في ذلك الميدان أنسى من قبله وأتعب من بعده ، وله قدس‌سره عند الله تبارك وتعالى صدقة جارية في شرح العروة الوثقى باسم مستمسك العروة.

ولا يخفى أنّه كان من حظّي الوافر من قبل الله تعالى حضوري لبحث خارج المكاسب لشيخنا الاستاذ العلّامة آية الله الحاج ميرزا باقر الزنجاني قدس‌سره ، وكذلك بحث فقه الرضاع للسيّد الاستاذ آية الله العظمى الحاج ميرزا حسن البجنوردي قدس‌سره ، وبحث مسائل العلم الإجمالي في العروة الوثقى لشيخنا الاستاذ آية الله العظمى الحاج ميرزا هاشم الآملي قدس‌سره.

وحضرت درس فقه بيع الفضولي لإمام المجتهدين وزعيم الثورة الإسلامية الإمام الخميني قدس‌سره في مسجد الشيخ الأنصاري في النجف الأشرف ، وكان حظّي من التوفيق في خدمته في النجف قليلا حيث سافرت إلى إيران لأجل المعالجة ولم تتيسّر لي العودة إلى النجف الأشرف من جهة تراكم الموانع وفاتت عنّي تلك الفرصة القيّمة.

ولكن أشكر الله تبارك وتعالى حيث أبقاني في خطّ الإمام قدس‌سره في إيران كما في النجف الأشرف على مشرّفه آلاف التحيّة والسلام ، والإطاعة للسيّد القائد آية الله العظمى الخامنئي دام ظلّه على رءوس المسلمين ، وقد شاهد بعض دفاتر تلك التقريرات في سفره إلى التربة الحيدرية في أيام رئاسته للجمهورية ، وقد منّ عليّ بوفوده الشريف في تلك السفرة في البيت الذي كنت ساكنا فيه.

٩

وأمّا في إيران فقد منّ الله عزوجل عليّ حيث وفّقني للتوطّن في مشهد الرضا عليه آلاف التحيّة والثناء.

واغتنمت الفرصة بتدريس الرسائل والمكاسب والكفاية مع حضوري لدراسات سيّدنا الاستاذ آية الله العظمى الحاج السيّد محمد هادي الميلاني في طول حياته وإفاضاته الفقهيّة والاصولية الدقيقة ، وكنت اقرّر دراساته الفقهيّة في مدرسة الإمام الصادق في أكثر من خمسين تلميذا من تلامذة بحوثه العالية إلى أن قضى نحبه ودخل في رحمة الله الخالدة ، ونسأل الله تعالى أن يحشره مع جدّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله الطاهرين.

وقد حالت مشاغلي العائلية والعامّة دون تنقيح ما كتبته من الدراسات المذكورة ، فقد كنت في خدمة الثورة والإمام الخميني قدس‌سره في طول حياته المباركة من حضوري في جبهة الدفاع المقدّسة ، وإمامة الجمعة في (التربة الحيدرية) بدعوة من الإمام الخميني قدس‌سره ، مع تأكيد آية الله الطبسي ممثل الإمام وآية الله العظمى الخامنئي دام ظلّه في خراسان للاشتراك في انتخابات مجلس خبراء القيادة ، وأمثال ذلك من المشاغل الكثيرة الاخرى التي لا مجال لذكرها.

ولو لا عون الله تبارك وتعالى وتوفيقه في جميع تلك المراحل لما تمكّنت من تحمّل أعبائها ، وأسأله أن لا يكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا ، وأن لا يكون ما أظهرته من العجب والرياء بل إظهاري لها كان لأجل الشكر لله على تلك العنايات التي تفضّل بها عليّ وعلى أمثالي ؛ إذ لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، وإنّما إليه إيابنا وحسابنا.

وفي الختام أتوجّه بالشكر الجزيل والثناء الجميل للأديب البارع أسعد الطيب ؛ على المراجعة النهائية ، وإلى الفاضلين حجّة الاسلام الشيخ مرتضى الواعظي والشيخ صادق الگلزاده ، لمساعدتهما في التصحيح وإخراج الكتاب بهذه الحلّة القشيبة.

والحمد لله ربّ العالمين

أقلّ الطلبة

علي أصغر المعصومي الشاهرودي الأبرسيجي

١٠

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وأهل بيته الطيّبين الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد ، فهذه قطرة وقعت في ذاكرتي من دراسات سيّدنا الاستاذ والبحر الموّاج ، الذي أنسى من قبله وأتعب من بعده ، آية الله العظمى الحاجّ السيّد أبي القاسم الموسوي الخوئي في النجف الأشرف في أيّام الشباب بمقدار الدورتين.

والحقّ والإنصاف أنّ دراساته كانت في افق أعلى وأجلى من أن يحضرها مثلي ، والحمد والمنّة والشكر لله تبارك وتعالى أن تفضّل عليّ بهذا التوفيق العزيز في حضوري ودراستي ، وفي حفظها وضبطها وتقريرها وهي بحمد الله في مجموعة من المجلدات وهذا أوّلها وهو بمقدار استعدادي ووسعي ، وسمّيتها ب (دراسات الاصول) وكان ذلك في أيّام الشباب في النجف الأشرف عاصمة الإمامة والولاية لمولى الموحّدين والمتّقين عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام على ضوء أبحاث سيّدنا الاستاذ والبحر الموّاج آية الله العظمى الحاجّ السيّد أبي القاسم الموسوي الخوئي (ره) وهو خاض في لجج بحار العلوم من الحكمة والفلسفة والتفسير والكلام والرجال ، لا سيّما الاستنباط والفقه في الشرع المبين ، كثّر الله أمثاله بحقّ محمّد وآله الطاهرين.

١١
١٢

دراسات الأصول

فى أصول الفقه

١٣
١٤

التمهيد

من الواضحات الضروريّة التي لا ينبغي التشكيك لأحد فيها من آحاد المسلمين أنّ الدين والشريعة الإسلامية المقدّسة مشتملة على أحكام إلزاميّة : من الواجبات والمحرّمات ، المتضمّنة لتأمين سعادة البشر في مسير مصالحهم الماديّة والمعنويّة ، ومن البديهيّات التي لا ينبغي الريب في وجوب امتثالها والخروج عن عهدتها وتحصيل الأمن من العذاب والعقوبة من ناحيتها بحكم الشرع والعقل ؛ إذ يؤدّي تركها إلى المخالفة والعصيان.

ومن الضروري أنّ هذه الأحكام ليست من البديهيات والضروريّات الواضحة المبيّنة لكلّ أحد ، بحيث يكون الكلّ في مظانّ الاطّلاع عليها من دون حاجة إلى التمسّك بدليل وبرهان لإثباتها ، حتّى يكون في غنى عن التكلّف بمئونة استنباطها وإقامة البرهان عليها ، بل كلّها لا بدّ من النظر إلى مداركها في الكتاب والسنّة وغيرهما من سائر الأدلّة. وذلك صعب يحتاج إلى التكلّف والمئونة في إثباتها. نعم قسم منها أحكام واضحة ضروريّة ، بل قطعيّة تكون في مظانّ الاطّلاع لجميع المكلّفين بلا حاجة منهم إلى تكلّف مئونة الإثبات وإقامة البرهان والاستدلال.

ولكن ذلك أقلّ قليل بالنسبة إلى الكلّ والجلّ ، لأنّها أحكام نظريّة تتوقّف

١٥

معرفتها وبيانها على مداركها وتشخيص مواردها ـ في تمييز جهة ثبوتها من موارد عدمها ـ على البحث والاستدلال الدقيق المقرون بالواقع ، ومن الواضحات أنّ ذلك يتوقّف على تحمّل الزحمات الشاقّة في سبيل معرفة قواعدها ومبادئ تلك القواعد حتّى يتحصّل منها بحسب النتيجة عرفان الوظيفة الفعليّة وتشخيصها في مورد العمل بها.

ولا يخفى عليك أنّ تلك المبادئ والقواعد هي القواعد الاصوليّة ، وهذه هي المبادئ التصديقية غير المنفكّة عن علم الفقه الذي يتضمّن بيان تشخيص الوظيفة الفعليّة في كلّ مورد بالاجتهاد والنظر والدليل ، ولا يذهب عليك أنّ أبحاثنا الاصوليّة ممهّدة ومؤسّسة لمعرفة تلك القواعد وبيان تنقيحها ، خذ واغتنم.

وينبغي التنبيه على امور لا بدّلنا من الإشارة إليها.

١٦

الأمر الأوّل

أقسام قواعد الاصول

لا ينبغي الريب في أنّ هذه المبادئ والقواعد على أقسام وأنواع :

القسم الأوّل : ما يدلّ على معرفة الحكم الشرعي باليقين والعلم الوجداني بنحو البتّ والجزم.

ويؤخذ هذا القسم من مباحث الاستلزامات العقليّة في مباحث مقدّمة الواجب ، ومبحث الضدّ ، وأبحاث اجتماع الأمر والنهي ، ومن بحث النهي في العبادات وأبحاث المفاهيم ؛ إذ بعد إثبات القول بثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته يحكم الوجدان السليم بعدم انفكاك وجوب المقدّمة عن وجوب ذي المقدّمة ، وذلك غير قابل للإنكار ، فلا محالة يترتّب عليه العلم الوجداني بوجوب المقدّمة في ظرف وجوب ذيها عند ترتّب الصغرى على الكبرى ، وذلك بعينه جار في حصول اليقين ، والعلم اللبّي بفساد الضدّ العبادي عند الأمر بضدّه الآخر عند ضمّ تلك الكبرى ، مع ثبوت الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه.

١٧

القسم الثاني : ما يوصل إلى الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي باليقين والعلم الجعلي التعبّدي ، ويمكنك أن ترى ذلك عند مباحث الحجج والأمارات ، وعليك أن ترى بيان هذا المطلب في مباحث الألفاظ كلّها ؛ إذ الكبرى في مثل هذه المباحث وهي مسألة حجّية الظهورات مسلّمة عند الكلّ ، بل محرزة ومفروغ عنها ، ولا ينبغي الشكّ لأحد فيها من حيث الإثبات لبناء العقلاء على العمل بها وتحقّق قيام السيرة القطعية عليها بلا خلاف من أحد فيها ولا يرى البحث فيها في علم من العلوم ، ولأجل ذلك أرى أنّها خارجة عن المسائل الاصوليّة.

ولكن لنا بحث في موارد ثلاثة منها ، فلا بدّ من الإشارة إليها :

الأوّل : في أنّ حجّيتها مشروطة بعدم الظنّ على خلافها أم بالظنّ بالوفاق أولا ذا ولا ذاك ، بل حجّة مطلقا.

الثاني : في ظواهر الكتاب بأنّها حجّة أولا ؟

الثالث : في أنّ حجّية الظواهر تعمّ أو تختصّ بمن قصد إفهامه فقط.

ولكنّ الحقّ فيها حسب ما تراه منّا في ما يأتي بيانه عموميّة حجّيتها مطلقا من دون وجه خصوصية اختصاص بالظنّ بالوفاق وبعدم الظنّ بالخلاف ، ومن دون وجه اختصاص بمن قصد إفهامه ، وبلا وجه فرق بين ظواهر الكتاب وغيرها من الظواهر العقلائيّة.

ولكن لا يخفى عليك أنّ البحث في هذا النوع له جهتان :

الاولى : يقع الكلام في أنّ إثبات ظهور حجّية الألفاظ في حدّ ذاتها بما هو هو في حدّ نفسها مع إغماض النظر عن ملاحظة وجود أيّ ضميمة خارجية إليها أو داخليّة ، نظير مباحث الأوامر والنواهي والمفاهيم ، ومعظم مباحث العموم

١٨

والخصوص والمطلق والمقيّد ، نظير البحث بأنّ الجمع المحلّى بالألف واللام بنفسه ظاهر في العموم أو لا ؟ أو أنّ النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي لها ظهور في العموم في حدّ ذاتها ، وكذلك المفرد المعرّف باللام هل له إطلاق في حدّ نفسه بلا معونة قرينة خارجيّة مع تماميّة مقدّمات الحكمة أم لا ؟

والجهة الثانية : في إثبات ظهورها مع ملاحظة المعونة الخارجيّة ، كبعض أبحاث العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ، مثل البحث بأنّ العامّ والمطلق إذا ورد عليهما التخصيص والتقييد المنفصلان هل لهما ظهور في تمام الباقي مثل قبل ورود التخصيص والتقييد أم لا ؟ وكالبحث بأنّ المخصّص والمقيّد المنفصلين المجملين هل يسري إجمالهما إلى العامّ والمطلق أم لا ؟ وأمثالهما.

النوع الثاني ـ في البحث عن الكبرى فقط ، كمباحث الحجج ـ بعد إحراز حجّية الصغرى والفراغ عنها ـ مثل حجّية خبر الواحد ، والإجماعات المنقولة ، والشهرة الفتوائية ، وظواهر الكتاب ، ويشمل ذلك البحث الظنّ الانسدادي بناء على الكشف ، ومبحث التعادل والتراجيح ، إذ البحث فيه بحسب الحقيقة يرجع إلى حجّية أحد الخبرين المتعارضين في ذلك الحال.

القسم الثالث : وهو عبارة عن بحث الوظيفة العمليّة الشرعيّة للمكلّفين في صورة العجز عن وجدان الدليل على معرفة الحكم الواقعي واليأس عن الظفر بأيّ دليل اجتهادي ، بعد التفحّص عن وجدانه في مظانّ وجوده من العموم أو الإطلاق فيما إذا كان الفحص بالمقدار الكافي واللازم والواجب وما هو وظيفة العبوديّة في مقام الامتثال ، وذلك متعيّن في الرجوع إلى المباحث الاصوليّة العمليّة الشرعيّة كالاستصحاب والبراءة والاشتغال الذي نتعرّض للبحث عنها في محلّه.

١٩

القسم الرابع : البحث عن الوظيفة العمليّة العقليّة في مرحلة الامتثال ، وهو عبارة عمّا وقع البحث فيه عند الوظيفة العلميّة عن البراءة العقليّة في مقام الامتثال إذا لم نجد الدليل الاجتهادي على الحكم الشرعي من قبل الشارع المقدّس ، وهي عبارة عن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان على التكليف إذا نجرّ إلى خلاف الشرع عند العمل به.

بعبارة اخرى : إنّ ملخّص القسم الرابع عبارة عن بحث الوظيفة العمليّة العقليّة الشرعيّة في مرحلة الامتثال عند فقدان الدليل الموصل إلى الوظيفة الشرعية من دليل اجتهادي أو أصل عملي شرعي ، وهو ليس إلّا مباحث الاصول العمليّة العقليّة ، كالبراءة والاحتياط العقليّين ، ويشمل ذلك البحث مبحث الظنّ الانسدادي على الحكومة.

والحاصل أنّ المسائل الاصوليّة وقواعدها على أنواع أربعة :

الأوّل : وجدان ما يوصلنا إلى الحكم الشرعي بعلم يقينيّ وجداني.

والثاني : ما يثبت الحكم بالعلم الجعلي التعبّدي ، وهذا النوع على صورتين كما تقدّم.

الثالث : ما يعيّن الوظيفة العمليّة الشرعيّة بعد اليأس عن وجدان الدليل بنحو القسمين المتقدّمين.

الرابع : ما يعيّن الوظيفة العمليّة من ناحية حكم العقل في مقام فقدان الوظائف الشرعيّة ، وهي عبارة عن الأقسام الثلاثة المتقدّمة ، وعدم الظفر بشيء منها.

وفي النهاية أنّك ستقف من جميع ما ذكرناه في المقام على فائدة علم الاصول ونتيجته ، وهي ليست إلّا تعيين الوظيفة عند العمل ، وهو موجب لوقوع المكلّف في سفينة النجاة والأمن من تبعات العذاب الإلهي إذا انجرّ إلى المخالفة عند

٢٠