دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

بالأخصّ في خصوص مثل الصلاة والصوم والحجّ وأمثال ذلك من الفروع التي كانت مورد ابتلاء عامّة المسلمين في كلّ سنة وشهر مرّات عديدة ، أو في يوم واحد كالصلاة اليومية التي تكون أكثر استعمالا من غيرها بالنسبة إلى بقيّة ألفاظ العبادات ، من دون أن يكون لطروء شكّ فيه مجال لأهل الفضل والكمال.

نعم يمكن التأمّل والتشكيك في إثباته في خصوص لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعدم العلم بأنّ الكثرة من الاستعمال في لسانه بتلك المثابة على حدّ حصول التعيّن من الوضع ، كما أشار إلى ذلك الإشكال المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره عند الأمر بالتأمّل (١).

فإذا عرفت ما تلونا عليك تعرف أنّ الروايات التي وردت عنهم عليهم‌السلام واشتملت على هذه الألفاظ واضحة المفاد ، وأنّها تكون معلومة المراد في انسباق هذه المعاني منها عند الاستعمال بلا وجود أيّ قرينة في المقام ، لأجل ثبوت الحقيقة المتشرعيّة في عصرهم عليهم‌السلام على ذلك الفرض ، ومع هذا الفرض فتكون الثمرة التي كنّا نطلبها سالبة من الأصل والأساس من هذا البحث باعتبار أنّ الروايات التي وصلت إلينا عن المعصومين عليهم‌السلام المشتملة على هذه الألفاظ كان المراد منها معلوما بلا شكّ وارتياب. فإذن لا تبقى ثمرة لهذا البحث في المقام ، بل لنا أن نقول : إنّه لا داعي لهذا البحث بعد ذلك إلّا تضييع جهود وأوقات الطلاب.

فنصيبنا من حيث النتيجة من هذا البحث المفصّل يتلخّص في الامور التالية :

الأوّل : أنّ الحقّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة بالوضع التعييني المتحصّل بنفس الاستعمال.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٧.

٣٢١

الثاني : أنّه لا ينبغي الشبهة في تحصّل الوضع التعيّني إن قلنا بعدم تحقّق الوضع التعييني في عصر الأئمة الطاهرين من ناحية كثرة استعمالات المتشرّعة تلك الألفاظ في تلك المعاني الحديثة الجديدة.

الثالث : أنّه لا تبقى ثمرة لهذا البحث عن هذه المسألة من الأصل والأساس ؛ فإنّ ألفاظ الكتاب والسنّة الواصلتين إلينا يدا بيد معلومتان من حيث المراد ، فلا نشكّ في المراد الاستعمالي منهما ، ولا نتوقّف في حملهما على المعاني الشرعية أصلا. وعندئذ ليس بمهمّ لنا أن نطيل البحث في أنّ الحقيقة الشرعيّة ثابتة أو لا ، فإنّ النتيجة المذكورة من حيث الثمرة لا تبتني على ثبوت الحقيقة الشرعية.

٣٢٢

الأمر العاشر

الصحيح والأعمّ

الأمر العاشر : وقع الكلام بين الأعلام في أنّ ألفاظ العبادات والمعاملات هل لها اختصاص بالأسماء الصحيحة دون الأعمّ ، أو أنّها تشمل الأعمّ فتكون أعمّ منها.

فلا بدّ لنا قبل التعرّض لبيان هذا المطلب من التنبيه على جهات لتنقيح موضوع البحث.

الجهة الاولى : لا ينبغي الإشكال في جريان البحث على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، لأنّه القدر المتيقّن في المسألة. وإنّما الإشكال كلّ الإشكال في جريان البحث على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، ولكن الظاهر عند التحقيق بل من المقطوع به جريان البحث والنزاع حتّى على هذا القول أيضا ، بتقريب أنّ الشارع المقدّس من حين نزول القرآن الكريم هل استعمل هذه الألفاظ في المعاني الصحيحة من جهة لحاظ علاقة بينها وبين المعاني اللغوية ، أو استعملها في الأعمّ من جهة لحاظ علاقة بينه وبين المعاني اللغوية ؟ فعلى

٣٢٣

الأوّل يكون الأصل في استعمالات الشارع الاستعمال في الصحيح إلّا مع القرينة على الخلاف ، وعلى العكس في الثاني.

بل النزاع يجري حتّى على القول بأنّ هذه الألفاظ استعملت في لسان الشارع في معانيها اللغويّة ، ولكنّه أراد المعاني الشرعية من جهة نصب قرينة تدلّ على ذلك بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ، كما نسب هذا القول إلى الباقلاني (١).

والوجه في ذلك هو أن يقع النزاع في أنّ الشارع عند إرادته المعاني الشرعيّة بالقرينة هل نصب القرينة العامّة على إرادة المعاني الصحيحة ، حتّى يحتاج الأعمّ إلى قرينة خاصّة ، أو أنّه نصبها على إرادة الأعمّ ، فإرادة الصحيحة تحتاج إلى قرينة خاصّة ؟

الجهة الثانية : أنّه لا شكّ في أنّ الصحيح عبارة عن تحقّق المأمور به في الخارج تامّ الأجزاء والشرائط ، كما أنّ الفاسد يكون على عكس ذلك الصحيح يعني غير تامّ من حيث الشرائط والأجزاء ؛ إذ الظاهر أنّ المتبادر من كلمة الصحيح والصحّة عند الاستعمال ليس إلّا التامّ من الامور والأشياء من حيث الشرائط والأجزاء التي يعبّر عنها في اللسان الفارسي ب (درست) و (درستى) وهي معناها لغة وعرف.

فعلى هذا ظهر أنّ تفسير الفقهاء الصحّة بمعنى إسقاط القضاء والإعادة ، والمتكلّمين بمعنى موافقة الشريعة ، فكلاهما من باب التعبير باللازم ، فإتيان الصلاة مثلا إذا كان تامّ الأجزاء والشرائط فلا محالة تكون موافقة للشريعة ومسقطة للإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، وليس شيء منهما معنى

__________________

(١) قوانين الاصول : ٣٨ ، في حاشية منه.

٣٢٤

الصحيح من حيث الحقيقة بمعنى اللفظ والكلمة ، ولا من الفصول التي تتمّ بهما حقيقة الصحّة في حدّ نفسها ، بل الأمر على هذا المنوال في سائر المركّبات العرفيّة والشرعيّة.

فانقدح بما ذكرناه في المقام فساد ما التزم به شيخنا المحقّق قدس‌سره (١) حيث أفاد ما هذا لفظه : «أنّ حيثية إسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ليست من لوازم التماميّة بالدقّة والتحقيق ، بل من الحيثيات التي تتمّ بها الحقيقة في حدّ نفسه من جهة التمامية حيث إنّه في وعاء التحقيق لا ينوجد واقع للتمامية والدرستي إلّا التماميّة من حيث إسقاط القضاء ، أو من حيث موافقة الأمر في وعاء إتيان المأمور به تامّ الأجزاء والشرائط أو من ناحية ترتّب الأثر بتلك الحيثية المتقدّمة وغير ذلك إلى آخر الحيثيات ، واللازم ليس من متمّمات معنى ملزومه فتدبّر» ، ثمّ ذكر في هامش كتابه أنّه إشارة إلى أنّ اللازم إن كان من لوازم الوجود صحّ ما ذكر ، وإن كان من لوازم الماهيّة فلا ، إذ لا منافاة في لازم الماهية وعارضها بين اللزوم وكونه محقّقا لها كالفصل بالإضافة إلى الجنس ، فإنّه عرض خاصّ له مع أنّ تحصّل الجنس بتحصّله.

وجه الظهور هو : أنّ إسقاط القضاء والإعادة وموافقة الشريعة وغيرهما جميعا وكلّا من سنخ آثار التماميّة ولوازمها ، وهي كما تقدّمت (التماميّة من حيث الأجزاء والشرائط) وليست من متمّمات حقيقتها ؛ ضرورة أنّ لها واقعية مع قطع النظر عن هذه الآثار واللوازم. والظاهر أنّه وقع الخلط في كلامه قدس‌سره بين تماميّة الشيء في حدّ نفسه أعني بها تماميّته من حيث الأجزاء والشرائط ، وتماميّته بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء ، فإنّه لا واقع لهذه التمامية مع قطع

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٥٠.

٣٢٥

النظر عن هذه الآثار واللوازم. أو وقع الخلط بين واقع التمامية وعنوانها ، فإنّ عنوان التماميّة عنوان انتزاعي منتزع عن الشيء باعتبار أثره ، فحيثيّة ترتّب الآثار من متمّمات حقيقة ذلك العنوان ، ولا واقع له إلّا الواقعية من حيث ترتّب الآثار.

ولكنّه خارج عن محلّ الكلام ، فإنّ كلمة (الصلاة) مثلا لم توضع بإزاء ذلك العنوان ضرورة ، بل إنّما هي موضوعة بإزاء واقعه ومعنونه ، وهو ليس بحسب الواقع ونفس الأمر إلّا نفس الأجزاء والشرائط. ومن الظاهر أنّ حيثية ترتّب الآثار ليست من متمّمات حقيقة تماميّة هذه الأجزاء والشرائط بوجه من الوجوه. وكيف كان فلا أساس لما ذكره قدس‌سره من الأصل والأساس.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّه لا تنافي بين كون شيء لازما لماهيّة وكونه محقّقا لها ، فإنّ الفصل لازم لماهيّة الجنس ، مع كونه محقّقا لها في الخارج. فهو وإن كان الحقّ والصحيح ، إلّا أنّ اللازم بما هو لا يعقل أن يكون من متمّمات معنى ملزومه ، من دون فرق بين لازم الوجود ولازم الماهيّة ، فماهيّة الفصل بما هي من لوازم ماهيّة الجنس لا يعقل أن تكون من متمّماتها بالضرورة. نعم ، الفصل بحسب وجوده محصّل لوجود الجنس ومحقّق له ، ولكنّه بهذا الاعتبار ليس لازما له ، فإطلاق قوله قدس‌سره : إنّ ذلك ـ أي اللازم ـ ليس من متمّمات معنى ملزومه ، إنّما يتمّ في لازم الوجود دون لازم الماهيّة ، غير تامّ وصحيح.

وعلى كلّ حال إنّ الأمر ظاهر كالشمس في رابعة النهار بلا خفاء فيه ولا سترة.

وقد تحصّل من ذلك أنّ الصحّة بمعنى تماميّة المركّب في حدّ نفسه وذاته أعني بها (تماميّته من حيث الأجزاء والشرائط والقيود) غير قابلة للإنكار ، ومن هنا تبيّن أنّ البسيط لا يتّصف بالصحّة والفساد ، بل يتّصف بالوجود أو العدم.

٣٢٦

كما تبيّن أنّ الصحّة والفساد أمران إضافيان يختلفان باختلاف حالات المكلّفين ، مثلا الصلاة قصرا صحيحة مقبولة من المسافر وفاسدة من الحاضر. كما أنّها إذا وقعت إلى ما بين المشرق والمغرب صحيحة لمن لم يتمكّن من تشخيص القبلة ، وباطلة غير صحيحة للمتمكّن من ذلك التشخيص ، وهكذا بالنسبة إلى الحالات الاخرى المذكورة في الفقه.

فتحصّل أنّ الصحّة التي هي داخلة في المسمّى على أحد القولين في المسألة ـ من حيث الأجزاء والشرائط والقيود فيه مع قطع النظر عن أيّ أثر يترتّب عليها ـ في مرتبة سابقة على ترتّب الآثار.

ومن جميع ما ذكرناه في المقام ظهر أنّ الصحّة الفعليّة ـ التي هي منتزعة من انطباق المأمور به على المأتي به خارجا ـ خارجة عن محلّ الكلام بلا خفاء فيه ولا كلام ؛ إذ من البديهي أنّها تكون في مرتبة متأخّرة عن الأمر ، فكيف يتصوّر أخذها في المسمّى وفي متعلّق الأمر ، ومن الواضحات أنّ المراد من الوضع للصحيح أو الأعمّ الوضع لما هو واقع في حيّز الأمر.

وعلى ذلك فلا وجه للترديد والقول بأنّ الصحّة والفساد المبحوث عنهما في هذه المسألة ، هل هي بمعنى التماميّة وعدمها من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث إسقاط القضاء والإعادة ، أو من حيث استجماع الأجزاء والقيود والشرائط ، أو من حيث ترتّب الأثر وعدمه ، أو أمثال ذلك ؟ فإنّك قد عرفت أنّ المبحوث عنه لا يمكن أن يكون إلّا التمامية وعدمها بالإضافة إلى الأجزاء والشرائط ، وأمّا بقية الحيثيات فهي أجنبيّة عن معنى كلمة الصحّة بمعنى التماميّة بالكلّية والذات ، بل هي من الآثار واللوازم المترتّبة عليها في مرتبة متأخّرة ، فلا وجه لإطالة البحث والكلام في ذلك كما عن شيخنا المحقّق قدس‌سره.

٣٢٧

الجهة الثالثة : أنّ المراد بالصحّة هل يختصّ بالشرائط والأجزاء أو أنّه يعمّ غيرهما ، بحيث لا بدّ من أن لا يكون المكلّف مأمورا بشيء في عرض الأمر بالصلاة ، لأنّ الصلاة الصحيحة مشروطة بعدم الأمر بالشيء في عرضها ، إذ الأمر بالشيء إذا كان مقتضيا للنهي عن ضدّه فتكون هذه الصلاة منهيّا عنها ، فيكون النهي في العبادة موجبا لفسادها ، فتكون الصلاة عندئذ باطلة.

وبالجملة ، لا ينبغي الريب في دخول الأجزاء بتمامها في محلّ النزاع ، بلا فرق بين الأركان كالركوع والسجود والتكبيرة وبين غيرها ، كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى دخول شرائط المأمور به في محلّ النزاع.

وتوهّم عدم دخولها في محلّ البحث والنزاع بادّعاء أنّ مرتبة الأجزاء مرتبة المقتضي ، ومرتبة الشروط متأخّرة عن المقتضى ، إذ الشروط دخيلة في فعليّة التأثير ـ كما في تقريرات شيخنا العلّامة الأنصاري قدس‌سره (١) ـ ولا يمكن أخذها في المسمّى ، لعدم كونها في رتبة الأجزاء فلا تكون متساوية الرتبة مع الأجزاء ليمكن أخذها في المسمّى في عرض الأجزاء ، بل إنّها متأخّرة عن الأجزاء من حيث الرتبة فكيف يمكن أخذ المتأخّر في رتبة المتقدّم في المسمّى والموضوع له مع عدم كونه في عرضه بل في طوله !.

مندفع ، مندفع ، إذ تأخّر الشرائط رتبة عن الأجزاء لا يستلزم عدم إمكان وضع اللفظ بإزاء المجموع من حيث المجموع عند تمامية الأجزاء والشرائط ، مع أنّ الوضع يكون سهل التناول ، لأنّه كما تقدّم يكون وادي الاعتبار والتعهّد ، والامور الاعتبارية الوضعية التعهّدية قوامها يكون بيد الواضع والمعتبر. ومن

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار : ١٧ ، مبحث الصحيح والأعمّ.

٣٢٨

البديهي بالضرورة من الوجدان أنّ الوضع بإزاء المتقدّم والمتأخّر رتبة ، بل المتقدّم زمانا من الامور السهلة السمحة الواضحة ، بل من الواضحات الأوّلية كما هو المشاهد الواقع في الشرعيّات والعرفيات فضلا عن الإمكان والثبوت من دون خفاء وإشكال ، فالتأخّر في مقام العلّية لا يوجب التأخّر في التسمية التي تكون من الامور الاعتبارية ، لأنّ أحد المقامين أجنبي عن المقام الآخر بالكلّية.

كما لا إشكال أيضا في أنّ كلّ ما لم يؤخذ في المأمور به جزءا أو شرطا فهو غير داخل فيه بل خارج عن المسمّى بالقطع واليقين وإن كان له دخل في الصحّة ، وذلك نظير قصد القربة والأمر وقصد الطاعة وهكذا ، كما تقدّم عدم كون العبادة مزاحمة لواجب آخر كمزاحمة الصلاة مع الواجب الفوري كإزالة النجاسة عن المسجد ، لسقوط أمره عند ذلك ، وهكذا عدم كونه منها عنه كالمثال المتقدّم في الأمر بالشيء الذي يقتضي النهي عن ضدّه العبادي ، وهذا تمام.

ولكن لا من الناحية التي ذهب إليها شيخنا الاستاذ قدس‌سره من استحالة أخذ هذه الامور بتمامها في المسمّى ، لأنّه أفاد في وجهها بما يكون محصّله عبارة عن أنّ الصحّة من جهة عدم المزاحم وعدم النهي ومن ناحية قصد القربة والطاعة في المرتبة المتأخّرة عن المسمّى وفرع وجوده وتحقّقه ، ليمكن أن يتعلّق بها النهي أو يوجد لها مزاحم ، أو يقصد بإتيانها التقرّب. وعليه فكيف يعقل اعتبارها في الموضوع له والمسمّى وأخذها واعتبارها فيه عند الوضع ، فيكون من قبيل أخذ ما هو متأخّر رتبة في المتقدّم كذلك ، مع أنّه لا ينبغي الشكّ في بطلانه ، لأنّه أمر غير معقول عند أهل الدراية والاصول.

ولأنّه مردود ، إذ وضع لفظ بإزاء شيئين طوليين رتبة ، بل زمانا ـ كما تقدّم آنفا ـ بمكان من الإمكان من دون أن يكون فيه أيّ إشكال ومحذور أبدا وأصلا بوجه من الوجوه ، ومقامنا من هذا القبيل ، لأنّ مجرّد كون قصد الطاعة والقربة

٣٢٩

وعدم المزاحم وعدم النهي في طول الأجزاء المأمور بها وشرائطها لا يوجب عدم المعقولية واستحالة أخذها في مسمّى لفظ الصلاة مثلا ، ولا يوجب تقدّم الشيء على نفسه ووجوده ، وغير ذلك من الإشكالات والمحاذير عند أهل التدبير.

ومن الغريب والعجيب استدلاله قدس‌سره على استحالة أخذ هذه الامور في المسمّى بكونها من حيث الوجود في الرتبة المتأخّرة ، فتكون متفرّعة على تحقّق المسمّى قبلها بدون هذه الامور من دون أن يكون لها دخل في وجوده وتحقّقه. وأمّا إذا فرض أنّها مأخوذة فيه كالأجزاء والشرائط فلا تحقّق له قبل وجود هذه الامور فيه حتّى يوجد له مزاحم أو غيره. وعلى ذلك فلو فرض مزاحم للمأمور به ، أو فرض النهي عنه ، أو أنّه لم يقصد القربة به لم يتحقّق المسمّى ، ضرورة انتفاء المركّب بانتفاء أحد أجزائه.

نعم ، غاية ما يلزم على هذا هو كون المسمّى غير ما تعلّق به الأمر ، وليس بمحذور امتناع عقلي ، بل لأنّ دخل هذه الامور في المسمّى واضح البطلان بالضرورة من الوجدان ، ومن ثمّ لم يحتمل أحد دخل هذه الامور في المسمّى حتّى على القول بأنّ الألفاظ موضوعة للصحيحة فقط.

والحاصل من جميع ما ذكرناه أنّ الأجزاء والشرائط المأمور بها جميعا داخلتان في محلّ البحث والكلام من دون شبهة وإشكال ، كما أنّه لا نزاع في خروج هذه الامور عن محلّ الكلام والنزاع.

الجهة الرابعة : وهي عبارة عن البحث في إمكان تصوير القدر الجامع على كلّ من قولي الصحيح والأعمّ ، حتّى يكون ذلك القدر الجامع بعد إمكان تصويره هو العنوان المشير والموضوع له لجميع مصاديق ذلك المفهوم والأفراد المختلفة

٣٣٠

من حيث الكمّية والكيفية المتركّبة المتشكّلة من المقولات المتعدّدة مع ما لها من الطوارئ والحالات المتكثّرة ، من الاختيار والاضطرار بما لها من الأحوال من الحضر والسفر ، ليكون هو المنطبق عليها كانطباق اسم الجنس على جميع أفراده ومصاديقه ؛ إذ أسماء العبادات والمعاملات على القول بالوضع فيها تكون من قبيل أسماء الأجناس التي يكون سنخ الوضع من قبيل الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، بل على القول بأنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ أيضا يحتاج إلى تصوير الجامع ، ليكون هو العنوان المشير إلى تلك المصاديق الخاصّة.

وبالجملة ، فإنّه لا بدّ على كلا القولين من تصوير جامع وحداني في البين ، ليكون هو الموضوع له الحقيقي الذي يشترك فيه جميع الأفراد والمصاديق.

أمّا بناء على أن يكون الموضوع له لأسماء العبادات والمعاملات عامّا كوضعها ، كما أنّ هذا هو الصحيح فالأمر واضح ، لأنّ لفظ «الصلاة» أو «البيع» وأمثالهما من سائر العبادات والمعاملات من قبيل أسماء الأجناس ، وقد مضى أنّ الموضوع له فيها عامّ ، نهاية الأمر أنّ ذلك الجامع على أحد القولين حصّة خاصّة ، وعلى القول الآخر طبيعة سارية جارية مطلقة ، وهذا المقدار من الفرق لا يوجب التفاوت في المقام بلا بحث ولا كلام.

وأمّا بناء على أن يكون الموضوع له فيها خاصّا فالأمر أيضا كذلك ، إذ من الضروري أنّ تصوّر جميع الأفراد والمصاديق تفصيلا غير ممكن وغير معقول عادة ، لعدم تناهيها بما لها من الكثرة ، فلا بدّ حينئذ من تصوّرها بجامع يكون هو المسيطر عليها بحيث يكون ذلك الجامع هو معرّفها إجمالا وبوجه حتّى يكون من الممكن وضع اللفظ له بإزائها.

وبالنتيجة فأنّ تصوّر الجامع على كلا القولين لا مناص منه بل يكون لا بدّ منه بلا فرق بين أن يكون الموضوع له عامّا أو خاصّا. وأمّا الاشتراك اللفظي أو كون

٣٣١

الألفاظ حقيقة في بعض الأصناف ومجازا في البواقي فذلك متيقّن البطلان من دون الاحتياج إلى البرهان ، على ما هو الظاهر من إطلاق لفظ الصلاة والبيع مثلا على تلك الأصناف من الأفراد في تلك الأطراف بمنهج واحد ونسق فارد من دون لحاظ أيّة عناية مجازية في شيء منها بما لها من الكثرة من الأفراد الصحيحة وغير الصحيحة فيها ، كما لا يخفى على صاحب الدراية والتأمّل في ذلك الميدان.

ثمّ نقول بعد ذلك : إنّ الكلام واقع في ذلك البحث بين الأصحاب في مقامين :

المقام الأوّل : لا بدّ لنا من البحث فيه بالنسبة إلى ألفاظ العبادات.

والمقام الثاني : في بيان أسماء المعاملات.

أمّا البحث في المقام الأوّل : فيقع في تصوير الجامع بين أفراد العبادات ، وقد علمت أنّ تصوير الجامع بينها لا بدّ منه ولا مناص عنه ، بلا فرق بين قولنا بكونها موضوعة فيها لخصوص الصحيح منها أو للأعمّ.

وبالجملة ، فقد انتهى بحثنا إلى أنّ إثبات قدر الجامع في المقام الأوّل ، أعني في العبادات على كلّ من قولي الصحيح والأعمّ ، هل يكون ممكنا حتّى يكون الموضوع له لتلك الألفاظ في العبادات ذلك القدر الجامع الذي يكون هو العنوان المشير إلى تمام تلك الأفراد والمصاديق ، بما لها من الأنواع والأصناف من حيث الصحيح والأعمّ منه ، ومن حيث عدد الركعات من الرباعيّة والثلاثية والثنائية ، ومن حيث الوجوب والندب والجمعة والجماعات والعيدين والآيات ، ومن حيث الاختيارية والاضطراريّة.

أو أنّ تصوير ذلك الجامع بذلك العنوان العامّ ـ الذي يشمل جميع تلك الأقسام على نسق واحد بعنوان الوضع والحقيقة لجميع تلك الأفراد ـ خارج عن دائرة

٣٣٢

التصوّر والإمكان ، كما اختار ذلك شيخنا الاستاذ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) ؛ لأنّه التزم بعدم لزوم ذلك العنوان حتّى على القول بأنّ هذه الألفاظ موضوعة للأعمّ منها.

وذلك من جهة عدم الاحتياج إلى ذلك الوضع بتلك الخصوصيّة بتلك الجامعية ، لأنّ هذه الألفاظ على القول بثبوت الحقيقة الشرعية يكفي وضعها لأوّل درجة من هذه المعاني ، وهي عبارة عمّا تكون واجدة لجميع الأجزاء والشرائط دون غيرها من الأفراد النازلة عن تلك الدرجة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط من الصلوات غير الصحيحة ، فإنّها غير داخلة في الموضوع له من حيث الحقيقة ، بل إنّما يطلق عليها هذه الألفاظ بلحاظ تنزيل الفاقد منزلة الواجد من باب المجاز ، أو أنّ إطلاقها على الفاقد إنّما يكون باعتبار الاشتراك في الأثر الذي يترتّب عليها ، نظير إطلاق أسامي المركّبات التي وضعت للدرجة الاولى التي تتركّب من عشرة أجزاء على المركّب من التسعة منها ، من باب اشتراكهما في طبيعي الأثر المقصود منهما.

فانقدح بذلك التقريب وجه عدم الاحتياج إلى تصوير ذلك الجامع العامّ المنطبق على جميعها لو فرض إمكان تصويره وتعقّله.

والحاصل : قد خالف في ذلك المقام شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) وقال بعدم الاحتياج المبرم الضروري حتّى يكون هو الداعي إلى الالتزام بهذا السنخ من تصوير الجامع التامّ في مقام الوضع ، إذ لا ضرورة للالتزام بلزوم تصوير من هذا السنخ من الجامع الوحداني الذي يشترك فيه جميع الأفراد ، وذلك من جهة كفاية

__________________

(١) أجود التقريرات : ٣٦.

(٢) أجود التقريرات : ٣٦.

٣٣٣

وضعها (أي وضع كلمة لفظ الصلاة) مثلا لأوّل فرد منها واجدة للأجزاء والشرائط لأقصى المرتبة العليا ؛ إذ للصلاة ـ كما تقدّم ـ باعتبار مراتبها سعة كثيرة في عرض عريض من المراتب العليا كصلاة المختار ، والدنيا وهي كصلاة الغرقى ، وبين المرتبتين متوسّطات ، فلفظة (الصلاة) من أوّل الأمر موضوعة للمرتبة العليا على كلا القولين ، واستعمالها في غيرها من المراتب الدانية النازلة من باب المجاز والادّعاء ، وتنزيل الفاقد منزلة الواجد بلحاظ الاشتراك في الأثر.

فالصحيحي يدّعي أنّ استعمال لفظ (الصلاة) في بقيّة المراتب الصحيحة لا إشكال فيه ، إمّا بلحاظ الادّعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد من باب المسامحة فيما يصحّ فيه التنزيل ، أو من باب لحاظ الاشتراك في الأثر المهمّ الذي ينبغي أن يكتفي الشارع به في مقام الامتثال ، كالاكتفاء بصلاة الغرقى عند الامتثال ، إذ لا يمكن فيها إلّا الالتزام بذلك التنزيل المذكور.

والأعمّي يدّعي أنّ استعمالها في بقيّة مراتبها ودرجاتها الأعمّ من الصحيحة والفاسدة من باب العناية والتنزيل ، أو من باب الاشتراك في الأثر ، فكلّ واحد من الأمرين موجب لجواز الاستعمال حتّى في فاسد (صلاة) الغرقى من باب تنزيله منزلة الواجد منها المنزّل منزلة التامّ الأجزاء والشرائط من ناحية الاشتراك في الأثر.

ولكنّه التزم بخروج القصر والإتمام عن ذلك ، فأفاد أنّهما يكونان بنسق واحد في لزوم تصوير الجامع المشترك عند الوضع بينهما ، ولأجل ذلك ترتّب بطلان ثمرة النزاع بين قولي الأعمّي والصحيحي وهي عبارة عن جواز التمسّك بالإطلاق على الأعمّي ، دون الصحيحي ، فإنّه بناء على كون الصلاة مثلا موضوعة لخصوص المرتبة العليا لم يجز التمسّك بالإطلاق ولو فرض وجود

٣٣٤

مطلق في العبادات ، لعدم العلم بالتنزيل والمسامحة في مقام الامتثال ، ومعه يصبح اللفظ في مقام الإجمال في ذلك المجال لا محالة ، ثمّ التزم أنّ الحال يكون كذلك في سائر المركّبات الامتزاجيّة الاختراعية ، يعني أنّ اللفظ فيها موضوع ابتداء للمرتبة العليا ، واستعماله في بقيّة مراتبها إنّما يكون من باب الادّعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد ، أو من جهة الاشتراك في الأثر.

وما أفاده هو قدس‌سره من حيث النتيجة يلخّص في امور :

الأوّل : أنّ الموضوع له هو المرتبة العليا على كلا القولين ، نهاية الأمر الصحيحي يدّعي صحّة الاستعمال في خصوص المراتب الصحيحة بين بقيّة المراتب ، والأعمّي يدّعي صحّته على الإطلاق.

الثاني : أنّه لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركّبات الامتزاجية الاختراعيّة.

الثالث : أنّ الصحيحي والأعمّي كلّ منهما محتاج إلى تصوير الجامع بين صلاتي القصر والإتمام ، ليكون اللفظ موضوعا بإزاء ذلك الجامع.

الرابع : بطلان ثمرة النزاع بين القولين. لا خصوص المرتبة العليا ، بلا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركّبات ، فيكون الاستعمال في جميع المراتب عند الشارع والمتشرّعة في نهج واحد على سبيل الحقيقة في المراتب النازلة دون المجاز والتنزيل والاشتراك والعناية ، فكلامه كما لا يتمّ في العبادات كذلك لا يتمّ في سائر المركّبات.

أمّا الأوّل : ففيه أنّ إطلاق ألفاظ العبادات على جميع مراتبها الدانية والعالية بعرضها العريض على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها ، مثلا إطلاق لفظ «الصلاة» على المرتبة العليا ، وهي «صلاة» المختار الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ، وعلى بقيّة المراتب كصلاة المضطرّ ونحوه على نسق واحد ،

٣٣٥

بلا لحاظ عناية تنزيلها منزلة الواجد ، أو اشتراكها مع المرتبة العليا في الأثر.

فلو كانت لفظة الصلاة موضوعة لخصوص المرتبة العليا كان استعمالها في غيرها من المراتب النازلة كالصلاة بلا قيام أو إلى غير القبلة ـ مثلا ـ محتاجا إلى لحاظ تنزيل أو اشتراك في الأثر ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، ضرورة أنّ المتشرّعة يطلقون لفظ الصلاة على كلّ مرتبة من مراتبها غافلين عن لحاظ التنزيل ، أو اشتراك هذه المرتبة مع المرتبة العليا في الأثر ، ولا يرون التفاوت في مرحلة الاستعمال والإطلاق بينها وبين بقيّة المراتب أصلا.

فهذا يكشف كشفا مسلّما عن أنّ الموضوع له هو الجهة الجامعة بين جميع المراتب لا خصوص المرتبة العليا ، من دون فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركّبات.

وأمّا الثاني : ففيه أنّا لو سلّمنا بأنّ أسامي المركّبات من المعاجين والأدوية والأغذية والأمكنة والبيوت موضوعة لأوّل الدرجة والمرتبة العليا منها من الأفراد الصحيحة الكاملة من حيث الأجزاء والشرائط من حيث تماميّة التركيب فيها دون غير التامّ منها من الأفراد النازلة ، فإنّ الاستعمال فيها والإطلاق عليها إنّما يكون بلحاظ التنزيل والعناية والاشتراك في الأثر. فلا نسلّم ذلك المسلك في إطلاق واستعمال أسامي العبادات كلفظ الصلاة في تلك المراتب الشرعية التي تقدّمت الإشارة إليها من المعاني الشرعية.

وذلك من جهة الاختلاف في خصوص أوّل مرتبة ودرجة منها ، إذ أوّل مرتبة ودرجة منها غير مضبوطة ، لكثرة التفاوت في المرتبة العليا منها ، لأنّ المرتبة العليا من صلاة الغداة غير المرتبة العليا من المغرب ، وهكذا الظهر والعصر بالنسبة إلى الصبح والمغرب ، وهكذا ظهر الحاضر بالنسبة إلى ظهر المسافر ، وكلّ ذلك بالنسبة إلى الجماعة والانفراد والجمعة والعيدين من المختار والمضطرّ ، وهكذا

٣٣٦

كلّ ذلك بالنسبة إلى الصلاة المستحبّة والنوافل وصلاة حضرة جعفر وحضرة سلمان. كما تختلف كلّ تلك الأفراد المذكورة في حال الاختيار والصحّة مع حال المرض والاضطرار بما لها من المراحل المنتهية إليها من حيث القيام والقعود والإشارة والإيماء من المراتب والدرجات المتكثّرة غير المتناهية.

فانقدح بهذا التقريب أنّه ليس أوّل درجة من هذه الأفراد الصحيحة تحت ميزان مشخّص وضابط معيّن حتّى نلتزم بأنّ الموضوع له في ألفاظ العبادات وأسمائها متعيّن في تلك المرتبة ، ويكون إطلاقها واستعمالها في غير ذلك المقام بالتنزيل والعناية أو الاشتراك في الأثر ، بخلاف مركّبات الأدوية والأغذية والمعاجين وأمثالها ، فإنّ أوّل مرتبة منها مشخّص مضبوط فيكون استعمالها في غيره بالتنزيل والعناية أو الاشتراك في الأثر بلا إشكال.

وبالجملة فمع الإغماض عما أجبنا به عن الأمر الأوّل يرد عليه أنّ هناك فرق بين المركّبات الشرعية وغيرها ، وذلك أنّ للمراتب العليا من المركّبات غير الشرعية حدودا خاصّة وأجزاء معيّنة لا تطرأ عليها الاختلافات بالزيادة والنقيصة وتنعدم بفقدان واحد منها ، كما إذا فرض أنّها ذات أجزاء ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو عشرة ، أو أقلّ ، أو أزيد على اختلافها باختلاف المركّبات ، فحينئذ يمكن دعوى أنّ اللفظ موضوع لخصوص المراتب العليا منها ، وإطلاقه على بقيّة المراتب من باب التنزيل والادّعاء ، أو من باب الاشتراك في الأثر.

وهذا بخلاف العبادات ، فإنّ المراتب العليا منها ليست لها أجزاء خاصّة بحيث لا تختلف زيادة ونقيصة ، فإنّها في حدّ ذاتها مختلفة ومتشتّتة من ناحية الكمّية أو الكيفيّة ، مثلا المرتبة العليا من صلاة الغداة والصبح غير المرتبة العليا من صلاة الظهرين ، وكلتاهما غير المرتبة العليا من صلاة المغرب ، وكلّ ذلك غير المرتبة العليا من صلاة العشاء بحسب الكمّية أو الكيفية ، وهي بأجمعها غير المرتبة العليا

٣٣٧

من صلاة الآيات والعيدين ، وغيرها من الأنواع من الجماعة والانفراد.

وعلى كلّ حال فلا إشكال في أنّ للصلاة عرضا عريضا وسيعا باعتبار أصنافها العديدة ، ولكلّ واحد من أصنافها أيضا عرض عريض بلحاظ مراتبها الطولية ، ومن المعلوم بالضرورة من الوجدان أنّ المرتبة العليا من كلّ صنف من أصنافها مباينة للمرتبة العليا من صنف آخر وهكذا.

فتحصّل أنّ المراتب العالية أيضا غير مضبوطة وأنّها تكون متعدّدة ومتكثّرة ، فلا بدّ هنا من تصوير جامع بينها ليكون اللفظ موضوعا بإزاء ذلك الجامع ، للقطع بانتفاء الاشتراك اللفظي.

فقد انقدح أنّ الالتزام بالوضع لخصوص المرتبة العليا لا يغني عن لزوم تصوير الجامع ، فهو لازم التصوّر في مقام الوضع ، بل إنّما يكون ممّا لا بدّ منه بلا فرق بين ما إذا قلنا بأنّ الموضوع له المرتبة العليا ، أم قلنا بأنّه الجهة الجامعة بين تمام المراتب بأجمعها.

وبهذا البيان ظهر وبان الجواب عن الأمر الثالث ، وهو أنّ الحاجة إلى التصوير الجامع لا تختصّ بالقصر والإتمام ، بل لا بدّ من لحاظه وتصويره بين جميع المراتب العالية ، وقد علمت أنّها كثيرة وليست منحصرة في القصر والإتمام.

وأمّا الأمر الرابع : فقد انقدح من بياننا المتقدّم أنّ ثمرة النزاع بين الأعمّي والصحيحي تظهر على هذا المسلك أيضا ، وذلك من جهة أنّ الأعمّي لا محالة يدّعي وضع اللفظ للجامع بين تمام المراتب بأجمعها من المراتب العليا صحيحة كانت أو فاسدة ، والصحيحي يدّعي وضعه لخصوص الصحيح منها.

فعلى ذلك إذا فرض وجود مطلق في البين وشكّ في اعتبار شيء ما جزءا أو شرطا في المأمور به فبناء على الصحيحي لا يجوز التمسّك بإطلاقه ، لأنّ الشكّ في اعتباره واشتراطه مساوق للشكّ في صدق المسمّى ، ومعه لا يمكن التمسّك

٣٣٨

بالإطلاق ، وبناء على الأعمّي لا مانع من التمسّك به ، لأنّ صدق المسمّى محرز بالوجدان من الوضع ، والشكّ إنّما هو يكون في اعتبار أمر زائد ، فيدفع بالتمسّك بالإطلاق بعد فرض صدق المسمّى على المأتي به كما لا يخفى.

وقد بقي الكلام في التمسّك بالإطلاق بالنسبة إلى بقيّة المراتب ، والحقّ أنّه لا يمكن بالنسبة إليها ، لعدم إحراز الإطلاق من جهة عدم العلم بالتنزيل والادّعاء ، كما ذكره قدس‌سره فلا يتمسّك بإطلاق ما دلّ على وجوب الصلاة لإثبات وجوبها على المضطرّ أو نحوه ، وذلك من جهة عدم إحراز التنزيل والادعاء بعد فرض أنّ الموضوع له لا يعمّ المشكوك فيه ، لأنّه خصوص المرتبة العليا.

فتحصّل أنّ تصوير الجامع على كلّ من القولين يكون كإشراق الشمس في افق الصبح من البديهيّات الضرورية ، فعندئذ إذا أمكن تصويره بالنسبة إلى مقام الثبوت على كلا القولين ، فللنزاع بالنسبة إلى مقام الإثبات مجال. وإن لم يمكن تصويره إلّا على أحد القولين دون الآخر فلا مناص من الالتزام بذلك القول ، وعلى كلّ حال فلا بدّ لنا من البحث في إمكان تصوير الجامع في مقام الثبوت ، فإذا كان ذلك في مجال من الإمكان والتصوّر واللحاظ والتعقّل بالنسبة إلى مقام الثبوت نصرف عنان الكلام إلى إثباته بالنسبة إلى مقام الإثبات ، بخلاف ما إذا لم يمكن تصوير ذلك في مقام الثبوت ، فإنّه يبقى مجال للبحث عنه بالنسبة إلى إثباته ووقوعه في مقام الإثبات ، بل ذلك المقام يكون في طول المقام الأوّل ، وعند عدم إمكان تصوير الأوّل يكون الثاني من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وهذا أظهر من أن يخفى.

أمّا الكلام بالنسبة إلى مقام الثبوت ، فقد ذهب المحقّق صاحب الكفاية (١) إلى

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٩.

٣٣٩

وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة ممّا لا بدّ منه على مسلك الصحيح ، وجعل الدليل على ذلك قاعدة فلسفيّة وهي عبارة من (أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد) إذ لا بدّ من فرض السنخيّة بين العلّة ومعلولها ، والواحد بما هو واحد ليس له سنخيّة مع الكثرة والكثير ، بل بما أنّه واحد في وعاء الوحدانيّة لا يعقل مسانخته للكثير بما هو كثير في وعاء الكثرة. إذن لا بدّ هنا من التعقّل والالتزام بأنّ العلّة أيضا تكون واحدة ، وهو ليس إلّا الجامع بين الكثير ، وذلك الجامع هو أمر واحد بالقطع واليقين ، وبذلك التقريب تتحصّل المسانخة بين العلّة والمعلول.

ثمّ جعل قدس‌سره موردنا هذا من موارد انطباق هذه القاعدة بتقريب أنّ الأفراد الصحيحة من الصلاة مثلا تشترك جميعها في أثر وحداني وهو النهي عن الفحشاء والمنكر ، بمقتضى قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١) ، كما أنّها تشترك في كونها «عماد الدين» و «معراج المؤمن» حسب ما ورد ذلك في غير واحد من الروايات (٢). وليس بمعقول أن يكون المؤثّر في ذلك الأثر البسيط الوحداني جميع الأفراد الصحيحة مع كثرتها المتقدّمة الإشارة إليها ، بما لها من الأنواع والأصناف المتقدّمة ، لما علمت من أنّ الواحد لا يسانخ الكثير ، فلا جرم يستكشف كشفا قطعيا عن وجود جامع أصيل وحداني مقولي بينها يكون هو المؤثّر الحقيقي بين تلك المصاديق والأفراد الصحيحة ، فيكون هو المؤثّر ـ ليس إلّا ـ في ذلك الأثر الوحيد الوحداني.

ولأجل ذلك التزم هو قدس‌سره أنّ تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة في فسحة من الإمكان ، بل هو ضروري ببداهة الوجدان مع ذلك البرهان ، بخلاف الأعمّي ،

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

(٢) انظر جامع أحاديث الشيعة ٤ : ٣ ـ ٢٨ ، باب فضل الصلاة.

٣٤٠