دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

أنّ مفهوم الصلاة يستفاد من هيئة صلّ ، والقيد إنّما يستفاد من إتيان كلمة (مسجد) في الكلام.

وأمّا تقييد الصلاة بخصوص المسجد فمبرزة ليس إلّا كلمة (في) ، فصارت كلمة (في) هي السبب لتحصّل هذا التضييق في ذلك المفهوم الوسيع القابل للانطباق على الكثيرين.

وهذا الذي استفدته من هذا البيان الذي أوضحناه في المقام الطالب الحقيقة يكون مراد من يقول في مقام تعريف الحرف بأنّ الحرف يكون هو الذي يدلّ على المعنى في غيره.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ الحروف في المحاورة إنّما وضعت للدلالة على تضييق سعة دائرة المفاهيم عند إفهام الحصص الخاصّة في مقام التخاطب إذا كانت هي المقصودة من كلام المتكلّم ، وأمّا كلمتا الصلاة والمسجد فهما مستعملتان في معناهما المطلق واللابشرط من دون أن تدلّا على شيء من التضييق والتخصيص بوجه من الوجوه ، كما لا يخفى.

ومن هنا انقدح أنّ تعريف الحرف بما دلّ على معنى قائم بالغير من أحسن التعاريف وأجودها ، بل هذا المعنى ليس إلّا المفهوم الواقعي الحقيقي للحروف في الذات وفي نفس الأمر المرتكز في أذهان أهل كلّ من المحاورات من أرباب اللغات والبيان ، من أنّ المعنى الحرفي هو هذا الشكل الخاصّ القائم بالغير بما له من الحالة الخاصّة المتقيّدة.

وبعبارة أوضح : إنّ الأسماء بجواهرها وأعراضها وغيرهما ـ حسب ما تقدّم ـ إنّما تدلّ على الطبيعة المطلقة والمعاني اللابشرطية ، وشيء منها لا يدلّ على تضييقات تلك المعاني المتحصّصة والمتخصّصة بالخصوصيات المتقدّمة ، فبالجبر الزماني الموجود في المحاورة الدالّ عليها يكون منحصرا في الحروف

١٨١

أو ما يقوم مقامها وليس إلّا. إذ قد تقدّم أنّ كلمة الدور موضوعة لمعنى جامع شامل وسيع ودالّة عليه ، ولكن قد يتعلّق الغرض بتفهيم حصّة خاصّة منه وهي خصوص الحصّة المستحيلة مثلا ، فلا بدّ من أخذ حرف في الكلام ليدلّ على ذلك ؛ إذ المفروض أنّ غير الحرف وما يشابهه لا يدلّ على تلك الخصوصية بوجه من الوجوه.

وملخّص الكلام أنّ وضع الحروف لذلك المعنى إنّما يكون من فوائد ونتائج وثمرات مسلكنا المختار في مسألة وضع الحروف في باب الوضع ، إذ القول بالتعهّد لا ينفكّ عن وضعها لذلك ، لأنّك عرفت أنّ الغرض قد يتعلّق بتفهيم المطلق والطبيعي ، واخرى يتعلّق بتفهيم الحصّة الخاصّة المضيّقة ، والمفروض أنّ الدالّ على ذلك إلى حدّ الآن لم يوجد في تمام المحاورات إلّا الحروف وملحقاتها ، فلا جرم لا مناص للواضع إلّا ذكرها أو ذكر ملحقاتها عند التخاطب في مقام التفهيم والتفهّم إذا اقتضت الحاجة تفهيم الحصّة الخاصّة المضيّقة من الطبيعة.

فإذا أراد المتكلّم إفهام وتفهيم حصّة خاصّة من طبيعي الماء مثلا ـ كالماء الجاري أو الكرّ أو ما له المادّة كالبئر ـ فإنّه يبيّنه ويظهره ويبرزه بقوله : إنّي اريد الماء الذي له مادّة عاصمة لا ينفعل بالملاقاة بالنجس ، أو الماء الجاري كذلك ، فكلمة (اللام) في الأوّل وهيئة الإضافة في الثاني تدلّان على أنّ المراد من الماء المأخوذ في الكلام ليس هو الطبيعة المطلقة الشاملة لجميع أفراد الماء ، بل المراد مضيّق في خصوص حصّة خاصّة وهي عبارة عن حصة الماء العاصمة عن الانفعال ، وذلك المقصد الخاصّ إنّما يستفاد من كلمة (اللام) في الأوّل ومن الإضافة في الثاني لا غير.

ومن هنا وقفت على عدم الفرق في ذلك بين أن تكون تلك الحصص المضيّقة

١٨٢

ـ التي نسمّيها بالمفهوم الحرفي ومدلولات الحروف وتوابعها ـ موجودة في الخارج أو معدومة من الممكنات أو الممتنعات ، ولأجل ذلك لا إشكال في صحّة استعمالها في صفات الواجب جلّ شأنه والامور الانتزاعية ، وفي الإمكان والامتناع ونظائرهما من الاعتباريات كالأحكام الشرعية والعرفية والعقلية من دون أيّ شيء من لحاظ العنايات المجازية فيها.

ومن البديهي أنّ تحقّق النسبة في تلك الأوعية حتّى بمفاد هل البسيطة غير ممكن ، بل يكون من المستحيلات المسلّمة. ووجه الصحّة ليس إلّا من ناحية أنّ الحروف إنّما وضعت لإفادة إفهام تضييق المعنى في وعاء المفهومية من دون أيّ نظر ولحاظ إلى كونه موجودا في الخارج أو معدوما أو ممكنا أو ممتنعا ؛ لأنّها على جميع التقادير تدلّ على تضييقه وتخصيصه بخصوصيّة ما على نهج واحد بلا أيّ جهة فرق بين قولك : ثبوت السواد أو البياض والقيام لزيد ممكن ، وبين قولك : ثبوت القدرة والعلم والعدالة لله تعالى ضروري ، وبين قولنا : ثبوت الوجود لشريك الباري ممتنع ؛ إذ لا ينبغي الشكّ في أنّ كلمة (اللام) في جميع تلك الأمثلة إنّما استعملت بنسق واحد وفي معنى فارد من حيث التحصّص والتضييق ، فيكون معناها في جميع ذلك واحد ، وهو تخصّص مدخولها بخصوص حصّة خاصّة مضيّقة في عالم المفهوم والمعنى بلا أيّ لحاظ ونظر إلى كيفية كون المعنى محكوما بالإمكان أو الوجوب في عالم التحقّق والخارج أو بالضرورة والامتناع ، لأنّ كلّ ذلك أجنبي وخارج عن مفهومها ومدلولها.

وبهذا التقريب تعرف أنّ استعمالها في جميع تلك الأمثلة من الواجب والممكن والممتنع ، يكون صحيحا بملاك واحد ونسق فارد ، من دون لزوم رعاية عناية في واحد منها.

ولا يذهب عليك أنّه لا ينبغي الريب في أنّها تحدث الضيق في مقام الإثبات

١٨٣

والدلالة بالقطع واليقين ؛ إذ لو لا ذلك لبقيت المفاهيم الاسمية على سريانها وشمولها وإطلاقها بما لها من السعة ، وذلك يكون خلاف المقصود من الإفهام في جهة الضيق ، فإحداث الضيق بها يقيني ، ولكن لا يخفى أنّ ذلك لا ربط له بكون معانيها إيجادية كما تقدّم ذلك الالتزام عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره. ومن الواضح أنّه كم فرق بين الإيجاد بمعنى الضيق هنا والإيجاد بالمسلك الذي ذهب إليه هو قدس‌سره.

وبيان الفرق بالنسبة إلى مقام الثبوت عبارة عن أنّ الحروف تكشف عن تعلّق إرادة المتكلّم وقصده بإفادة ضيق المعنى الاسمي وإفهامه ، فمفهوم استعمال الحروف ومورده ليس إلّا مفهوم الضيق في وعاء المفهومية ، من دون تصوّر نسبة خارجية ولحاظها حتّى في الموارد الممكنة كما في الجواهر والأعراض ، فضلا عن الموارد المستحيلة التي لا يتصوّر فيها تحقّق شيء من النسبة بالقطع واليقين ، بل فرض تحقّق النسبة يعدّ من المحالات فضلا عن التحقّق ، وذلك كما في صفات الواجب جلّ شأنه وما يشابهها.

وبالجملة ، فبما أنّ الأهداف والأغراض تختلف باختلاف المقامات والأشخاص والأزمان والحالات المختلفة الطارئة عليها ، فالواضعون والمستعملون ـ بمقتضى حكمة الوضع في الوصول إلى الأغراض من الكلام في المحاورة وبمقتضى ديدنهم ورويّاتهم في التزاماتهم وتعهّداتهم النفسانية الوجدانية ـ يتعهّدون أن يتكلّموا وينطقوا بالحروف أو ما يشاكلها حين تعلّق أغراضهم بالإفهام وبيان حصص المعاني المقصودة المضيّقة ، فمن باب المثال لو أنّ شخصا تعلّق غرضه بتفهيم الصلاة الواقعة بين زوال الشمس والمغرب فإنّه يبيّنها بقوله : إنّ الصلاة في ما بين هذين الوقتين حكمها هو الجواز أو كذا وكذا.

والمتحصّل الملخّص من جميع ما ذكرناه في المقام هو عبارة عن أنّ المعاني والمفاهيم الاسمية بعضها أوسع من الآخر كمفهوم الممكن فإنّه يكون أوسع من

١٨٤

مفهوم الوجود ، وهو أوسع من مفهوم الجوهر ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى مفهوم لا يكون تحته مفهوم آخر ، ولكلّ واحد منها لفظ مخصوص يدلّ عليه عند الحاجة إلى تفهيمه ، إلّا أنّ أفرادها ومصاديقها وخصوصياتها وحصصها أو حالاتها كثيرة غير متناهية لم يوضع في المحاورة واللغة بإزاء كلّ واحدة منها لفظ مخصوص لكي يدلّ عليها عند اقتضاء الحاجة إلى بيانها ، وذلك لعدم تناهيها.

فإذن بالتفحّص والوجدان إنّما ينحصر ذلك في الحروف وما يشاكلها ، وليس غير الحروف شيء يوجب إفادتها ويدلّ عليها في الخارج عند التخاطب والإفادة والاستفادة ، بالتقريب المتقدّم الذي هو عبارة عن أنّ الواضع تعهّد بذكر حرف خاصّ ك (من) و (إلى) و (اللام) و (على) عند قصد إفهام حصّة خاصّة من المعنى. ففي كلّ مورد تقتضي الحاجة ذلك ـ أي بيان خصوصية خاصّة وقصد المتكلّم بيان ذلك ـ يعيّن مبرزه بتلك المناسبة حرفا من الحروف أو حرفين ، ويبلغ مقصوده إلى المخاطب ببركة دلالة ذلك الحرف بحسب اختلاف الموارد ومقتضيات الأحوال في اللغة والمحاورة.

وبالجملة ، فإنّ النتيجة المأخوذة من جميع ما ذكرناه ـ في المقام بالتفصيل المتقدّم في بيان وضع الحروف في المحاورة ـ تتلخّص في امور :

الأمر الأوّل : قد تبيّن الفرق بين الاسم والحرف وعدم وجه اشتراك بينهما في طبيعي مفهوم ومعنى واحد ، بل بينهما تباين من حيث المفهوم ذاتا ، حسبما تقدّم ذكره مفصّلا بما لا مزيد عليه.

الأمر الثاني : قد عرفت عدم كون مدلولها من سنخ الامور الإيجادية ، ولا من قبيل النسبة الخارجية ، ولا من مقولة الأعراض النسبية الإضافية ، بل إنّما هي عبارة عن التخصيصات والتضييقات في توسعة نفس المعاني الاسمية في وعاء المفهومية وتقييداتها وتضييقاتها بمقيّدات خارجة عن حقائقها ، بلا لحاظ تصوّر

١٨٥

ونظر إلى أنّها موجودة في الخارج أو معدومة أو ممكنة أو من الامور الممتنعة ، ولأجل ذلك يصحّ استعمالها في المحاورة في الواجب والممكن والممتنع بعنوان الحقيقة من دون الحاجة إلى رعاية العنايات المجازية.

والحاصل بقي هنا وجه ذهابنا إلى هذا المسلك في وضع الحروف بأنّها وضعت لتضييق سعة نفس المعاني الاسمية ، وهو يتلخّص في أربعة وجوه :

الأوّل : إبطالنا سائر الأقوال والمذاهب المتقدّمة من الأكابر قدس‌سره.

الثاني : أنّ المفهوم الذي وجدناه للحروف مشترك فيه بين جميع المفاهيم التي تستعمل الحروف فيها بالوجدان ، من الواجب والممكن والممتنع على نهج واحد ، وليس في سائر الأقوال ذلك الاستعداد والصحّة من دون لحاظ العناية المجازية.

الثالث : أنّ مسلكنا الذي اخترناه في الوضع من أنّه عبارة عن التعهّد والالتزام لا ينفكّ عن هذا القول في باب بالبداهة والوجدان ، إذ من الضروري أنّ المتكلّم إذا قصد تفهيم حصّة خاصّة فبأيّ شيء يمكنه أن يلقيها ويبلّغها إلى المخاطب عند اقتضاء الحاجة بيان ذلك في مقام التخاطب والتفهيم عند المحاورة ؟ فعند فقدان الحروف فهل يوجد غير الحروف وما يشاكلها مبرز معتمد ليعتمد عليه في ذلك الميدان ؟ والحقّ بالضرورة من الوجدان أنّه ليس لنا مبرز في ذلك الميدان الذي تعمّ به البلوى في جميع شئون نظام المعاش والمعاد غير الحروف فقط أو ما يقوم مقامها ليكون هو المعتمد.

الرابع : أنّ هذا القول يكون هو الحقّ الذي لا معدل عنه ، لأنّه يكون مطابقا للوجدان ويكون من الامور الواقعية المنطبقة المرتكزة لما في الأذهان عند أهل اللغة واللسان ؛ إذ أهل المحاورة معتمدون على هذا الارتكاز يستعملونها لإفادة تلك الحصص المضيّقة التي يكون إفهامها مورد حاجة عامّة الناس في مختلف

١٨٦

الحالات بالنسبة إلى جميع الموارد والبلدان ، مع الغفلة وعدم التوجّه إلى وجود تلك المعاني وعدمها في الخارج من حيث الوجود والامتناع والاستحالة والإمكان في تحقّق النسبة بينها وعدم الإمكان ، بلا مجال لصحّة احتمال إعمال العناية في جميع تلك الموارد ، لأنّه مكذوب بالوجدان من دون الحاجة إلى إثباته بالدليل وإقامة البرهان ، بل ذلك من البديهيات في الأذهان لاولي الدراية والوجدان ، كما لا يخفى. فبهذا البيان نستكشف بالقطع واليقين أنّ الحروف وضعت ليس إلّا لذلك المعنى الذي وقفت عليه من التضييق في سعة المفاهيم الاسمية هذا.

الأمر الثالث : لا يذهب عليك أنّ معاني الحروف كلّها جميعا إنّما تكون من الامور الحكائية والدلالية ، ولكن مع ذلك كلّه لا تكون إخطارية بوجه من الوجوه ، وذلك من جهة أنّ ملاك الإخطارية في المعنى والمفهوم والمدلول ليس إلّا الاستقلاليّة الذاتية في عالم المفهوم والمعنى ، وهي غير واجدة لذلك الملاك ، وملاك حكائية المعنى هو نحو من الثبوت في عالم المعنى وهي واجدة له ، فلا ملازمة بين عدم كونها اختيارية وكونها إيجادية كما قال شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١).

الأمر الرابع : في بيان نقاط الامتياز بين مسلكنا وبين سائر المسالك في كيفية المعنى الحرفي ، منها : امتيازه عن سائر المسالك ، مثل رأي من يقول بأنّها إيجادية من هذه الجهة ، من أنّ المعنى الحرفي على ذلك المسلك ليس له واقعية في أيّ وعاء ما عدا التراكيب الكلامية ، بخلاف مسلكنا فإنّ له مكانا واقعا ثابتا فيه في حدّ المعاني الاسمية ، ولكن بثبوت تعلّقي دون الثبوت الاستقلالي.

وأمّا الامتياز بالنسبة إلى القول بأنّ الحروف وضعت بإزاء النسب والروابط ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٠.

١٨٧

فمن ناحية واحدة أيضا ، وهي أنّ المعنى الحرفي على ذلك القول له سنخ وجود خارجي ، وهو عبارة عن الوجود لا في نفسه ، ولذا يختصّ بالجواهر والأعراض ولا يشمل الواجب والممتنع ، بخلاف مسلكنا فإنّه سنخ مفهوم ثابت في وعاء المفهوميّة ، ويشمل الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد.

ويكون امتيازه عن القول الآخر ـ أعني : القول بأنّ الموضوعة لها الحروف هي الأعراض النسبية ـ من ناحيتين :

الاولى : أنّ المعنى الحرفي على ذلك الرأي والاختيار مستقلّ بالذات ، بخلاف مسلكنا فإنّه ليس بمستقلّ بالذات ، بل تعلّقي لا استقلالي.

والناحية الثانية : أنّه على ذلك المسلك سنخ مفهوم له الاختصاص بالجواهر والأعراض من دون أن يشمل غيرهما ، بخلاف مسلك المختار فإنّه سنخ مفهوم له شمول لجميع تلك الموارد والأقسام في مرحلة الاستعمال من دون أيّ لحاظ عناية في الكلام على نهج واحد بلا أيّ وجه إشكال وارتياب.

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من الحروف.

وأمّا القسم الثاني من الحروف : وهو ما يدخل على المركّبات التامّة وما في حكمها ، وهي التي تفيد تقيّد التامّ ، كحروف النداء والتمنّي والترجّي وأمثال ذلك ، فإنّ مدخولها إنّما يكون من المركّبات التامّة أو ما في حكمها ، كمدخول حرف النداء ، فإنّه وإن كان مفردا إلّا أنّه يفيد فائدة تامّة ، فحاله حال الجمل الإنشائية ؛ إذ كلمة (ليت) إنّما تدلّ على الحال الذي يكون للمتكلّم ويبرزه ويبيّنه بالحكاية الممتلئة من الآمال والاشتياق على نحو خاصّ من الشدّة والطلب في مقام التخاطب بالنسبة إلى مطلوبه.

وهكذا كلمة (لعلّ) التي لها حكاية عن حالة رجاء المتكلّم بالحصّة الخاصّة من المرجوّ بما له من شدّة العلاقة والاشتياق إلى العلم والفقاهة والذهاب

١٨٨

والإياب في مطلق حصص موارد المرجوّ ، والأمر يكون كذلك بالنسبة إلى حروف النداء.

وكيف ما كان ، فإنّ الحروف وإن كانت مختلفة من حيث الدلالة على التقييد والتضييق ، ولكنّها متساوية من حيث الدلالة على التقييد والتضييق في الغير ؛ إذ كما أنّ كلمة (من) و (إلى) تدلّان على أنّ السير من حيث الابتداء والانتهاء مضيّق ومتقيّد بالبصرة والكوفة ، فكلمة (ليت) أيضا تدلّ على تضييق سعة آمال المتكلّم التي كانت في شأنية التعلّق بأشياء كثيرة ، ويضيّقها ويحصرها بخصوص قيام (زيد) أو (عمر) أو فقاهة (بكر) ، فيبرز تلك الحصّة بقوله في مقام التخاطب ويقول :

فيا ليت الشباب يعود لنا يوما

فاخبره بما فعل المشيب

فتدلّ كلمة (ليت) في هذا المثال من الشعر أنّ المرجوّ من هذه الجملة عبارة عن الشباب لا القيام ، أو العلم ، أو فقاهة المتكلّم ، ولا بقيّة أحواله من الجلوس والقعود والركوع والسجود.

المقام الثاني :

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى المقام الثاني وهو عبارة عن أنّ الموضوع له في الحروف عامّ أو خاصّ ؟

وقد اتّضح لك ممّا تقدّم في المقام الأوّل من حيث النتيجة أنّ الموضوع له فيها خاصّ والوضع عامّ ، أمّا في الطائفة الاولى ، فلأنّها لم توضع بإزاء مفاهيم التضييقات والتحصّصات ، لأنّها من المفاهيم الاسمية الاستقلالية في عالم مفهوميّتها ، بل لواقعها وحقيقتها ، أي ما هو بالحمل الشائع تضييق وتحصّص ، ومفاهيمها ليست بهذا الحمل تضييقا وإن كانت كذلك بالحمل الأوّلي الذاتي.

١٨٩

نعم ، لا بدّ من أخذ تلك المفاهيم بعنوان المعرّف والآلة للحاظ أفرادها ومصاديقها إجمالا حتّى يمكن الوضع بإزائها.

وبتعبير أوضح : إنّه كما يمكن أن يكون وضعها خاصّا كالموضوع له ، لما تقدّم من أنّ حصص المعنى الواحد غير متناهية فضلا عن المعاني الكثيرة ، فلا يمكن تصوّر كلّ واحد منها على وجه التفصيل ، كذلك لا يمكن أن يكون الموضوع لها عامّا كالوضع ، فإنّه لا يعقل ذلك إلّا أن توضع لمفاهيم الحصص والتضييقات ، والمفروض أنّها من المفاهيم الاسمية وليست من المعاني الحرفية في شيء ، ولا جامع مقولي بين أفراد التضييق وأنحائه لتوضع بإزائه ، فلا بدّ حينئذ من أن نلتزم بكون الموضوع فيها خاصّا والوضع عامّا بأن نقول : إنّ كلّ واحد من هذه الحروف موضوع لسنخ خاصّ من التضييق في عالم المعنى ، فكلمة (في) لسنخ من التضييق وهو سنخ التضييق الأيني ، وكلمة (على) لسنخ آخر منه وهو سنخ التضييق الاستعلائي ، وكلمة (من) لسنخ غير هذين السنخين وهو سنخ التضييق الابتدائي ، هلم جرّا إلى بقية الحروف في المحاورة.

ومن هنا انقدح أنّ الموضوع له في الهيئات الناقصة كهيئات المشتقّات وهيئة الإضافة والتوصيفات أيضا يكون من هذا السنخ ، يعني أنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ ، لما عرفت من عدم الفرق بينها وبين هذا القسم من الحروف أصلا.

فيكون القسم الثاني منها أيضا كذلك ؛ ضرورة أنّ الحروف في هذا القسم لم توضع لمفهوم التمنّي والترجّي والتشبيه ونحوه ، لأنّها من المفاهيم الاسمية الاستقلالية ، على أنّ لازمه أن تكون كلمة (لعلّ) مرادفة للفظ الترجّي ، وكلمة (ليت) مرادفة للفظ التمنّي ، وهكذا ، وهو باطل يقينا.

كما أنّها لم توضع بإزاء مفهوم إبراز هذه المعاني ، فإنّها أيضا من المفاهيم

١٩٠

الاسمية ، بل وضعت لما هو بالحمل الشائع إبراز التمنّي والترجّي والاستفهام ونحو ذلك ، ولا جامع ذاتي بين مصاديق الإبراز وأفراده ليكون موضوعا بإزاء ذلك الجامع ، ولأجل ذلك في هذا القسم أيضا يكون الموضوع له خاصّا والوضع عامّا ، بمعنى أنّ الواضع تصوّر مفهوما عامّا كإبراز التمنّي مثلا ، فوضع كلمة (ليت) بإزاء أفراده ومصاديقه ، وتعهّد بأنّه متى ما قصد تفهيم التمنّي يتكلّم بكلمة (ليت) وهكذا.

هذا تمام الكلام في تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدويّة وما يشبهها.

١٩١

الإنشاء والإخبار

قال المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره بعد ما اختار أنّ المعنى الحرفي والاسمي متّحدان بالذات والحقيقة ، ومختلفان باللحاظ الآلي والاستقلالي : «لا يبعد أن يكون الاختلاف بين الإنشاء والخبر أيضا من هذا القبيل». إلى آخر ما قال قدس‌سره.

بيان ذلك : انّ الجمل على قسمين : إحداهما إنشائية ، والاخرى خبرية ، والمشهور بينهم أنّ الاولى موضوعة لإيجاد المعنى في الخارج ، ولأجل ذلك فسّروا الإنشاء بإيجاد ما لم يوجد ، والثانية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه.

والحقّ في المقام ـ كما يأتي بيانه عن قريب ـ أنّ الجملة الإنشائية وضعت للدلالة على قصد المتكلّم لإبراز أمر نفساني في غير قصد الحكاية عند إرادة تفهيمه ، والجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلّم الحكاية عن الواقع ثبوتا أو نفيا ؛ إذ من الواضح أنّ هذا القسم من الحروف كالجملة الإنشائية ، بمعنى أنّه وضع للدلالة على قصد المتكلّم إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية عند قصد تفهيمه.

فحروف النداء مثل كلمة «يا زيد» ـ مثلا ـ وضعت لإبراز قصد النداء وتوجيه المخاطب إليه ، وهكذا حروف الاستفهام موضوعة لإبراز طلب الفهم ، وحروف التمنّي كما تقدّم موضوعة لإبراز التمنّي ، وحروف الترجّي موضوعة لإبراز الترجّي ، وهكذا سائر الحروف كحروف التشبيه وأمثالها.

١٩٢

وبعبارة اخرى : إنّ وضع هذا القسم من الحروف لذلك المعنى أيضا إنّما يكون من نتائج وثمرات مسلكنا الذي سلكناه في باب الوضع ، فإنّ من لوازم القول بالتعهّد والالتزام هو تعهّد كلّ متكلّم بأنّه متى أراد قصد تفهيم معنى خاصّ من المعاني في مقام التخاطب تكلّم بلفظ مخصوص ، فيكون اللفظ مفهما ذلك المقصود ودالّا على أنّه أراد تفهيمه به.

فلو قصد تفهيم التمنّي يتكلّم بكلمة (ليت) ولو قصد تفهيم الترجّي يتكلّم بكلمة (لعلّ) ، وهكذا ، فالواضع تعهّد بذكر هذا القسم من الحروف عند إرادة إبراز أمر من الامور النفسانية من التمنّي والترجّي وأمثالهما.

ومن هنا انقدح بطلان ما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ معاني هذه الحروف أيضا إيجادية (١) ، وذلك من جهة ما تبيّن لك من أنّ المعاني الحرفية ثابتة في عالم المفهومية كمعاني الجمل الإنشائية ، ولا فرق بينهما من هذه الجهة ، فالنتيجة هي أنّ حال هذا القسم من الحروف حال الجمل الإنشائية ، كما أنّ القسم الأوّل منها حاله حال الهيئات الناقصة ، وهذا واضح.

ولكن لا يخفى عليك أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره التزم بأنّ الاسم والحرف متّحدان من حيث المفهوم والمعنى ، والتمايز والتغاير لوحظ بينهما في مقام الاستعمال بلحاظ الآليّة والاستقلاليّة ، بمعنى أنّه لا فرق بوجه من الوجوه بين مفهوم كلمة ابتداء وكلمة (من) من حيث الموضوع له والمفهوم ، وكذلك بين كلمة الظرفية وكلمة (في) ، وكلمة (على) والاستعلاء.

وإنّما جاء الفرق بينهما في مقام الاستعمال شرطا من ناحية الواضع ؛ لأنّه شرط بأنّ الحروف إنّما يلزم أن تستعمل أدوات في الغير ، والأسماء لا بدّ من أن

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٠.

١٩٣

تستعمل في المحاورة مستقلّة.

ثمّ كذلك التزم بأنّ الفرق بين الخبر والإنشاء يكون من هذا القبيل (١) من حيث المفهوم ، وذكر في وجه بيان ذلك : أنّ الجمل إنشائية كانت أو خبرية ، والخبريّة اسميّة كانت أو فعلية ، إنّما تعلّقت بها علقة الوضعية لأجل دلالتها على ثبوت النسبة في الخارج أو سلبها في الإيجاب والسلب كقول المخبر : زيد قائم ، أو : ليس زيد بقائم.

وبالجملة ، فإنّ علقة الوضعية كما تعلّقت بالجمل الخبرية بلحاظ دلالتها على ثبوت النسبة في الإيجاب وعدم ثبوتها في السلب في الخارج ، كذلك تعلّقت بالجمل الإنشائية من حيث دلالتها على تحقّق مضمونها في الخارج ، إذ لا أشكّ أنّ المتكلّم إذا أراد إخبار السامع عن بيع داره في الشهر الماضي يقول : بعت داري في الشهر الماضي قبل اسبوعين ، كما يخبر عن بيع داره في المستقبل بقوله : أبيع داري عن قريب في الزمان الآتي.

والحاصل : لا فرق بين الخبر والإنشاء من حيث الدلالة ، وإنّما الفرق بينهما بالدواعي فقط ، بمعنى أنّ الإنشاء يمكن أن يكون بداعي الإخبار كما عرفت آنفا. نعم ، قد تستعمل الجملة الإنشائية بداعي إيجاد المعنى كما تستعمل الجملة الخبرية كذلك ، مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢).

هذا تمام الكلام في ما يستفاد من كلامه قدس‌سره.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا يمكن المساعدة على ما أفاده قدس‌سره ، وذلك من جهة أنّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧.

(٢) البقرة : ١٨٣.

١٩٤

ما المعروف بين الأصحاب وأهل الأدب والمحاورة هو أنّ الجمل الخبرية إنّما وضعت بلحاظ دلالتها على ثبوت النسبة في الخارج من حيث الإيجاب والسلب ليس بصحيح ، بل الجمل الخبرية إنّما وضعت للدلالة على كون المتكلّم في مقام القصد لإبراز اعتقاده بثبوت النسبة في الإيجاب ونفيها عن التحقّق في السلب من الخارج.

بعبارة اخرى : إنّ الجمل الخبرية إنّما تدلّ على إخبار المتكلّم عن اعتقاده وقصده بثبوت النسبة في الخارج ، من دون أيّ نظر إلى دلالتها على أنّ النسبة تحقّقت في الخارج في وعاء التكوين وأنّها واقعة فيه أو لا ، حتّى يصحّ أن يقال : إنّه مدلولها ـ أي مدلول الجمل الخبرية ـ ليس إلّا ثبوت النسبة في وعاء الخارج. وذلك من جهة أنّ غاية ما يستفاد من قول المخبر : «إنّ زيدا يكون هو القائم» ، عبارة من أنّ المخبر أخبر عن اعتقاده بأنّ زيدا يكون على هيئة القيام ، وأمّا اتّصافه به واقعا في عالم العين والخارج ، لا ، بل هو يدور مدار علله التكوينية بحسب الواقع.

فإذن إنّ زيدا الذي أخبرنا المخبر بتلبّسه بالقيام متّصف بهذه الهيئة المستوية في مقابل سائر الهيئات بلحاظ اعتقاد المخبر ، لا بحسب الواقع والتكوين حتّى يصحّ أن يقال : إنّ زيدا متّصف بعد إخبار المخبر بالجبر الزماني بالقيام الواقعي النفس الأمري ، بل الحقّ أنّ هذا المعنى في الأخبار تفسير بما لا يرضى صاحبه ، بل هذا التفسير من المعنى في الخبر يدور مدار الواقع والنفس الأمر.

فمفاد الخبر بهذا المسلك عبارة عن الحكاية في أنّ المخبر يكون في مقام إبراز اعتقاده للمخاطب بتلبّس زيد بالقيام ، فبناء على هذا المسلك الصدق والكذب يدور مدار الاعتقاد دون الواقع ، فالكذب والصدق ينسب إلى الكلام بهذا الاعتبار ، كان بحسب التكوين مطابقا للواقع أو لا ، إذ أخبر المخبر عن

١٩٥

اعتقاده في ذلك ولو كان بحسب الواقع غير موافق للواقع كموارد الجهل المركّب.

فإذا عرفت ما ذكرناه في المقام ، فاعلم أنّ الجمل الإنشائية أيضا لا تدلّ إلّا على إبراز واعتبار التبديل والتبدّل في جملة : «بعت داري من فلان» بحسب اعتقاد الموجب ، فالموجب بهذا الإنشاء إنّما يبرز اعتبار التبديل بين المالين لا تحقّق التبديل التكويني الخارجي بين المالين في وعاء الخارج.

فانقدح بذلك أنّ ما اشتهر بين الأصحاب من أنّ الجمل الإنشائية توجد المعنى في الخارج التكويني لا يخلو من المسامحة ؛ إذ من الواضح بأنّ الدالّ على الشيء لا يمكن أن يكون من سنخ العلل الموجدة لذلك الشيء ، إذ من الضروري أنّ تحقّق التبديل والتبدّل يوجد في الخارج بما له دخل في تحقّقه ووجوده من العلل التكوينية ، لا الإنشاء الذي ليس إلّا آلة الإبراز والاعتبار بما في اعتقاد الموجب والقابل ، إذ لا ينبغي الشكّ لأحد أنّ جملة (بعت) ليست من سلسلة علل وجود التبديل والتبدّل حتّى يوجد التبديل والتبدّل بتلفّظها.

بل مادّة (ب ع ت) بتلك الهيئة المتركّبة بعنوان : بعت داري من فلان بالمبلغ المعلوم ، إنّما تدلّ على إبراز الموجب والقابل اعتبار التبديل والتبدّل في اعتقادهما ، وأمّا تحقّق التبديل والتبدّل الواقع إذا كان بيد الشارع يتحقّق بإمضائه ، فيكون إمضاء الشارع هو العلّة ليس إلّا ، وإذا كان من الامور العرفية فيحتاج إلى إمضاء العرف من العقلاء.

وكيف كان ، فإنّ هذه الهيئة في النهاية لا تدلّ إلّا على صدور هذا المعنى من المتكلّم في عالم الإبراز والاعتقاد ، لأنّ إيجاد المعنى غير ممكن الحصول بالتلفّظ بهذا اللفظ ، لعدم كون هذا اللفظ من المقدّمات الإعدادية والتكوينية لهذا المعنى بوجه من الوجوه حتّى يصحّ أن يترتّب على التلفّظ به تحقّق المعنى المراد والمقصود في الخارج بذلك اللفظ ، بل كما أنّ المعاني الخارجية التكوينية

١٩٦

لا يمكن أن تكون متحقّقة في الخارج باللفظ ـ إلّا إذا كان المتلفّظ الله تبارك وتعالى ـ فكذلك الامور الاعتبار العرفية أو الشرعية أيضا لا يمكن أن توجد في الخارج عند التلفّظ بألفاظها بالقطع واليقين.

نعم ، في خصوص البيع والإجارة والنكاح وأمثاله يمكن أن يقال : إنّ إنشاء اعتبار البيع والنكاح وإبرازهما في عالم الاعتبار والنفس إنّما يكون من باب المقدّمة التكوينية العرفية الموصلة إلى اعتبار العرف ، ومنه إلى إمضاء الشارع في اعتبار البيع والنكاح ، فيكون إنشاء الموجب من باب المقدّمات الإعدادية لتحقّق اعتبار العرف والشرع في التبديل والتبدّل في الأوّل ، واعتبار تحقّق علقة النكاح في الثاني.

قلت : إنّ مثل هذا الاحتمال لا يتمشّى بالنسبة إلى سائر الامور الإنشائية من التمنّي والترجّي والنداء ، وإنّما يختصّ بباب البيع ؛ إذ ليس كلّ بيع معتبرا عند العرف والعقلاء ، بل المعتبر من البيع عند العرف والشرع ليس إلّا ما كان مبرزه عند الإنشاء هو اللفظ ، كلفظ (بعت) إذا كان البائع من أهل لسان العرب أو سائر أرباب اللغات من الألسنة الدارجة في المحاورة ، إذ كلّ يتكلّم عند الإنشاء واعتبار البيع بألفاظهم الخاصّة المتعارفة بينهم لإنشاء الاعتبار ، إذا لم نقل باعتبار خصوص اللفظ العربي في صحّة البيع ، والصحيح ، أن لا نقول باعتبار خصوص لفظ العرب ، بل يجوز الإنشاء بسائر الألفاظ من أيّ لغة كانت.

وبالجملة ، فإنّ هذا الاحتمال وإن كان صحيحا ، ولكنّه قليل بحيث يمكن أن نقول باختصاصه بباب البيع دون بقيّة الامور الإنشائية كالتمنّي والترجّي والاستفهام حتّى نلتزم بذلك ، بل جلّ الجمل الإنشائية إنّما تكون كاشفة عن قصد المتكلّم واعتقاده فيما التزم على نفسه في عالم اعتباره وأبرزه بالصيغة الإنشائية بالنسبة إلى مقام التفهيم والتفهّم.

١٩٧

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ الجمل الإنشائية متّحدة مع الجمل الخبرية من حيث الدلالة ، وإنّما الفرق بينهما بالدواعي والأغراض التي تعلّق بها.

والحاصل أنّ الجمل الخبرية لم تتعلّق علقة الوضعية بها بلحاظ دلالتها على ثبوت النسبة في الخارج في القضية الموجبة مثل «زيد قائم» ، ونفي النسبة في القضية السالبة مثل «زيد ليس بقائم» ، بل العلقة الوضعية إنّما تعلّقت بها من جهة دلالتها على إخبار المخبر في أنّ المتكلّم يخبر عن اعتقاده بثبوت النسبة الخبرية ، وأمّا أن المعتقد متحقّق في الخارج والتكوين أو لا ، فغير مربوط بالموضوع له ومدلولات تلك الهيئات بوجه من الوجوه ، إذ من البديهي أنّ تلك الهيئات الخبرية ليست لها جهة كشف عن ثبوت النسبة وعدمه في الخارج حتّى بنحو الظنّ.

نعم ، ربما يكون تحقّق النسبة وثبوتها في الخارج مورد اليقين والقطع عند الإخبار ، كما إذا كان المخبر من المعصومين عليهم‌السلام ، ولكن ذلك غير مربوط بإخبار المخبر ، بل إنّما ذلك يكون بواسطة القرينة الحالية في المقام وهي عبارة عن عصمة المخبر لا من ناحية إخباره ، بل كلّما كان الكلام مقرونا بالقرينة القطعيّة على ثبوت النسبة في الخارج والتكوين نلتزم بذلك ، ولكن ذلك غير مربوط بمدلول الخبر في الجمل الخبرية بوجه من الوجوه.

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الكلام الخبري بما هو كلام صادر عن المخبر والمتكلّم لا يتّصف بالصدق والكذب ، بل المتّصف بالصدق والكذب بحسب الحقيقة عبارة عن حكاية الكلام بحسب الاعتقاد ، فإذا كان المخبر معتقدا بما أخبر اتّصفت حكايته بالصدق ، وإذا لم يكن معتقدا بما أخبر وأبرز اتّصفت حكايته من الخبر بالكذب.

نعم ، في موارد التكلّم عن الغفلة يتّصف الكلام بالسهو والنسيان ، إذ المتكلّم

١٩٨

تكلّم بهذا الكلام والخبر بغير قصد واعتقاد ، وهذا السنخ من الكلام لا يتّصف بالكذب ، بل يكون من قبيل الكلام الذي لا اعتبار به من جهة الغفلة والسهو في الكلام وإن صار موجبا لخطور المفهوم والمعنى في ذهن السامع ، وهذا السنخ من الخطور في الذهن من سماع أمثال تلك الأخبار يكون من قبيل إيجاد تلك الأصوات من اصطكاك بعض الأحجار ببعض في إحضار القيام وزيد في تخيّل السامع من دون أن يكون من قبيل الكلام التصديقي في اعتقاد المتكلّم والسامع في اتّصاف زيد بالقيام.

وبالجملة ، لبّ المقصود من البحث والكلام في هذا المقام عبارة عن أنّ الكلام الخبري ليس إلّا كاشفا عن اعتقاد المتكلّم والمخبر باتّصاف المخبر به بالنسبة الخبريّة في اعتقاد الناطق بهذا الكلام ، فالصدق والكذب يعرض لهذا الكلام بذلك الاعتبار لا غير.

وهذا المسلك يكون هو الحقّ والمختار ، كما تقدّم نظير ذلك المقام في باب الوضع ؛ لأنّ الناطق بالكلام إذا أراد أن يبرز مقصده في مقام التخاطب والتفهيم والتفهّم لمن يكون في قباله من السامعين فلا بدّ من استخدام وسيلة وآلة حتّى تكون هي الوسيلة والواسطة ، بالضرورة من الوجدان في كلّ محاورة ولسان في مقام التفهيم والبيان ولو كان ذلك هو الإيماء والإشارة بما لها من الأقسام فيما إذا لم يمكن تحصيل ذلك المقصد عن طريق تلفّظ الألفاظ الموضوعة على فرض المحال.

وعلى كلّ حال ، فقد انتهى كلامنا إلى بيان كيفية الإنشاء والإخبار ، وقد تقدّم أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره بعد ما اختار أنّ المعنى الحرفي والاسمي متّحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ الآلي والاستقلالي ، قال : لا يبعد أن يكون الاختلاف بين الإنشاء والإخبار أيضا من هذا القبيل ، بمعنى أنّ طبيعي المعنى

١٩٩

الموضوع له واحد فيهما ، وإنّما الاختلاف بينهما من ناحية الدواعي ؛ إذ الناطق في الإنشاء قصد إيجاد المعنى وفي الخبر قصد الحكاية عنه ، وكلاهما خارجان عن حريم المفهوم والمعنى.

بيان ذلك : أنّ الصيغ المشتركة كصيغة «بعت وملّكت وقبلت وزوّجت وآجرت» وأمثالها تستعمل في معنى واحد مادّة وهيئة في مقام الإخبار والإنشاء ، أمّا بحسب المادّة فظاهر ؛ لأنّ معناها الطبيعي اللابشرط ، وهي تستعمل في ذلك الطبيعي دائما ، سواء كانت الهيئة العارضة عليها تستعمل في مقام الإخبار أو الإنشاء.

وأمّا بحسب الهيئة ، فلأنّها تستعمل في نسبة إيجاد المادّة إلى المتكلّم في كلا المقامين ، غاية الأمر أنّ الداعي في مقام الإنشاء إنّما هو إيجادها في الخارج ، وفي مقام الإخبار الحكاية عنها ، فالاختلاف بينهما في الداعي لا في المفهوم والمستعمل فيه.

ولك أن تقول : إنّ علقة الوضعية في أحدهما غير العلقة الوضعية في الثاني ، فإنّها في الجمل الإنشائية تختصّ بما إذا قصد المتكلّم إيجاد المعنى في الخارج ، وفي الجمل الخبرية تختصّ بما قصد الحكاية عنه.

ولا يخفى عليك ـ حسب ما تقدّم ـ أنّ ما ذكره قدس‌سره مبني على مسلك المشهور بين الأصحاب ، بل المتّفق عليه من أنّ الجمل الخبرية موضوعة لثبوت النسبة في الخارج أو عدم ثبوتها فيه ، فإن طابقت النسبة الكلامية الخارجية فصادقة وإلّا فكاذبة ، وأنّ الجمل الإنشائية موضوعة لإيجاد المعنى في الخارج الذي يعبّر عنه بالوجود الإنشائي كما صرّح به قدس‌سره في غير واحد من الموارد ، وقال : إنّ الوجود الإنشائي نحو من الوجود ، ولذا لا يتّصف بالصدق أو الكذب ، فإنّه على هذا لا مانع من أن يكون المعنى واحدا في كلتا الجملتين ، ويكون الاختلاف

٢٠٠