دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

فحينئذ لو فرضنا أنّ الغرض واحد نوعي فليس بحسب الحقيقة واحدا حتّى يكشف عن واحد شخصيّ.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى الأمر الثالث ، فلا يخفى عليك أنّ الحال فيه أوضح من الثاني المتقدّم ؛ إذ قاعدة «الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد» لو تمّت فإنّما تتمّ في الواحد البسيط الحقيقيّ ، لا في الواحد العنواني المتكثّر الذي يكون متعدّدا في عالم الواقع ؛ إذ المفروض أنّ الغرض في غير واحد من العلوم واحد بالعنوان لا في الحقيقة. فإنّ صون الفكر عن الخطأ عند الاستنتاج في علم المنطق ، وصون اللسان عن الخطأ في الكلام في علم النحو ، والاقتدار على الاستنباط في علم الاصول ، وهكذا غير ذلك من العلوم المفروضة ليس واحدا بالذات والحقيقة ، بل بالعنوان الذي انتزع من مجموع الأغراض المتكثّرة المتعدّدة بتعدّد تلك المسائل والقواعد المبحوث عنها في كثرتها في العلوم المذكورة ، ليتحصّل منها هذه الأغراض ، فإذا كيف يمكنك أن تستكشف عن مثل هذا الواحد الجامع الذاتي الوحداني البسيط الحقيقي المقولي ، إذ من الواضحات المشرقة أنّ الواحد بالعنوان غير كاشف عن واحد إلّا كذلك ، هذا أوّلا.

وثانيا : اعلم أنّ الغرض المترتّب على كلّ علم لا يترتّب على ذات نفس مسائله الواقعيّة وقواعده النفس الأمريّة ، ليكون كاشفا عن جامع ذاتي وحداني بينها ، حتّى يمكن أن يقال : إنّ ذلك الجامع البسيط الوحداني موضوع في الحقيقة لهذا العلم ومؤثّر فيه.

ولعلّ هذا يكون أظهر من الشمس ومن أبده البديهيات ، فإنّ لازم ذلك ترتّب الغرض لكلّ من كان عنده كتب كثيرة من علم أو علوم متعدّدة مختلفة من دون أن يكون ذلك الشخص مطّلعا وعالما بما في تلك الكتب من القواعد والمسائل ، بل إنّما هو مترتّب على العلم بنسبتها الخاصّة من التعلّم والتدريس بشكل خاصّ من

٤١

التحوّل والتغيّر ، كثبوت محمولات لموضوعاتها عند المتعلّم بها.

إذ من الواضحات أنّ الاقتدار على الاستنباط من ناحية علم الاصول يكون صفة المجتهد العالم بتلك القواعد والمسائل ، وهو إنّما يترتّب على معرفة تلك القواعد على نحو يكون العالم بها محيطا عليها ، وله ملكة حاصلة منها بالممارسة فيها وبثبوت محمولاتها لموضوعاتها ، إذ الاقتدار على الاستنباط في بحجّية أخبار الثقة ، وبحجّية ظواهر الكتاب ، وتمام مسائل الاصول العمليّة كالاستصحاب والبراءة والاشتغال وأمثالها.

فمن الواضح أنّه إذا عرف هذه المسائل والقواعد بتلك الكيفيّة وبنسبتها الخاصّة يتّصف بالاجتهاد ويحصل له الاقتدار على الاستخراج والاستنباط ، وبالنتيجة يتحصّل له صون اللسان عن الخطأ في الكلام والمقال مثلا في علم النحو ، إذ من الواضح أنّ هذه الأغراض غير حاصلة عند التطبيق كقواعد رفع الفاعل ونصب المفعول وجرّ المضاف إليه ، وصون الفكر عن الخطأ في علم المنطبق لغير العارف بها على نحو الاجتهاد والتبحّر ، إذ الصون عن الخطأ في الفكر من علم المنطق إنّما يترتّب على معرفة الأشكال المتصوّرة في ذلك العلم وعرفان قوانينه وقواعده ، نظير إيجاب الصغرى ، وكلّية الكبرى ، وتكرّر الحدّ الأوسط ، وهكذا سائر القواعد من العلوم المدوّنة.

والحاصل أنّك قد عرفت المراد من أخذ النتيجة وحصول الغرض ولابدّية تصوير الجامع في مقامنا هذا بين العلوم وبين نسبها الخاصّة ، لا بين الموضوعات فقط ، فخذ واغتنم.

وثالثا : إنّ المحمولات التي تكون مترتّبة على مسائل العلوم المختلفة كمسائل علم الفقه بأجمعها وعدّة من محمولات علم اصول الفقه من الامور

٤٢

الاعتباريّة التي لا واقع لها إلّا اعتبار من بيده الاعتبار ، لأنّ محمولات مسائل علم الفقه تنقسم إلى قسمين : التكليفيّة ، مثل الوجوب والحرمة والإباحة والكراهة والاستحباب. والوضعية ، مثل الملكيّة والزوجيّة والرقّية وأمثال ذلك. فمن الواضح أنّ هذين القسمين إنّما يكونان من الامور الاعتباريّة التي لا ظرف لوجودها إلّا عالم الاعتبار.

وفي قبال هذين القسمين قسم آخر يسمّى بالشرطيّة والسببيّة والمانعيّة وأمثال ذلك ، يعبّر عنه بالامور الانتزاعية التي هي منتزعة من مناشئها انتزاعا من القيود الوجوديّة والعدميّة المأخوذة في متعلّقات الأحكام أو موضوعاتها ، وأنّها لا تكون موجودة في عالم الاعتبار إلّا بتبع منشأ انتزاعها. فلا يخفى أنّها في الكلّ تكون تحت اختيار الشارع من حيث الرفع والوضع ، إذ يكون منشأ انتزاعها بيد تصرّف الشارع المقدّس كذلك.

بل يمكنك أن تقول : إنّ محمولات مسائل علم الفقه على نحوين : واحد منهما موجود في ظرف الاعتبار بالأصالة ، بلا احتياج إلى منشأ أيّ اعتبار من غير ناحية الشارع ، كتمام الأحكام الشرعيّة التكليفيّة ، وغير واحد من الأحكام الوضعيّة. وهنا سنخ آخر له وجود في عالم الاعتبار لا بالأصالة ، بل بتبع منشأ اعتبار شيء آخر كعدّة اخرى من الأحكام الوضعيّة.

وقد بقي هنا أحوال بعض محمولات علم الاصول ، وقد وقفت على ظهور حالها بما ذكرنا في بيان حال الأحكام التكليفيّة ، نظير حجّية خبر الواحد ، والإجماع المنقول ، وظواهر الكتاب وأمثالها كواحد من الخبرين المتعارضين في ذلك الحال ، فإنّها داخلة في الامور الاعتباريّة بحسب الواقع والحقيقة ، كما إنّ البراءة والاحتياط الشرعيّين داخلان في هذا السنخ من الأحكام الاعتبارية.

فلا بدّ لنا هنا من بيان محمولات سنخ مباحث الألفاظ والاستلزامات العقليّة

٤٣

والبراءة والاحتياط العقليين ، لأنها خارجة عن الامور الاعتباريّة في نظر الاصوليّين ، خلافا لاصطلاح الفلاسفة ؛ إذ المصطلح عندهم إطلاق الأمر الاعتباري على الأعمّ منه ومن الأمر الانتزاعي ، مثل الإمكان والامتناع ونحوهما في قبال اصطلاح الاصولي ، إذ هو يطلق الأمر الاعتباري في مقابل الأمر الانتزاعي الواقعي.

فنقول : إنّ الحقّ الذي لا ينبغي العدول عنه في المقام أنّا سلّمنا ترتّب الغرض الواحد على نفس مسائل العلم الواحد فمن المستحيل تعقّل الكشف عن جامع مقولي واحد من بينها حتّى يمكنك أن تقول : إنّ ذلك الجامع الواحد يكشف عن جامع وحداني كذلك بين موضوعاتها ، تمسّكا بقاعدة السنخية والتطابق بين الأغراض والموضوعات والمحمولات ؛ إذ من البديهيّات الضروريّة عدم إمكان تعقّل وجود جامع مقولي بين الأمر الاعتباري والأمر التكويني ، فلا يخفى عليك أنّ الأمر يكون كذلك بين الأمرين الاعتباريين أو الامور الاعتباريّة ؛ إذ لو كان بينهما جامع لكان بقانون السنخية من سنخها إلّا من سنخ أمر المقولي الأخير.

فإذن انقدح لك انسداد وجدان كاشف وحداني ليكون هو المؤثّر في حصول الغرض الواحد ، فإنّ التأثير والأثر إنّما يوجد ويرى في العلل التكوينيّة والأشياء المتأصّلة ، كالمقولات الواقعيّة من الجواهر والأعراض بما لها من المقولات.

وقد انتهى كلامنا إلى بيان دليلنا الرابع ، فاعلم أنّ موضوعات مسائل علم الفقه تنقسم إلى أقسام وأنحاء مختلفة ، كالماء والدم والمني وأمثال ذلك ، إذ كلّ واحد من هذه المذكورات ليس إلّا من مقولة الجوهر التكويني.

وبعضها الاخرى تكون من سنخ مقولة الوضع ، كالقيام والركوع والسجود وأمثال ذلك.

والثالث منها تكون من مقولة الكيف المسموع ، نظير القراءة في الصلاة

٤٤

ومثلها.

ورابع الأقسام يكون من سنخ الامور العدمية ، نظير التروك في محرّمات الإحرام ، وصوم شهر رمضان وغيرهما.

ومن الواضح في جميع تلك الأقسام عدم معقولية تصوير وجود جامع ذاتي بين هذه المقولات ، لقيام البرهان القاطع في محلّه على عدم إمكان تصوير جامع بين الجواهر والأعراض ، لأنّها أجناس عالية متباينة بتمام الذات والحقيقة ؛ إذ لا وجه للاشتراك من الأصل والأساس بين مقولة الجواهر ومقولات التسع العرضيّة ، ولا فيما بين كلّ واحدة منها مع الاخرى ، وإذن كيف يعقل تصوير تحقّق جامع مقولي بينها ، فضلا عن إمكان تصويره بين العدم والوجود.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في المقام تحقّق أمرين :

الأوّل : عدم وجدان دليل قاطع على لزوم وجود الموضوع في واحد واحد من العلوم المدوّنة ، بل تقدّم أنّ حقيقة العلم عبارة عن عدّة من القضايا والقواعد المختلفة بحسب الموضوعات والمحمولات التي يجمعها الاشتراك في الدخل في الوصول إلى أخذ الغرض الواحد منها لتدوينها علما واحدا ، كما نشاهد ذلك في تدوين ما دوّن من العلوم الكثيرة الموجودة بعنوان خاصّ واسم مخصوص.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى بيان الأمر الثاني ، فلا يخفى عليك أنّ توضيح المطلب كما هو حقّه يحتاج إلى بيان مقدّمة ، وتلك المقدّمة عبارة عن تقسيم المشهور من الفلاسفة الأعراض على سبعة أقسام ، إذ ما يعرض على الشيء إمّا أن يكون عروضه لذلك أوّلا بالذات على نحو يتّصف المعروض به بلا توسّط أمر آخر ، نظير إدراك الكليّات العارض للعقل بلا تصوّر واسطة اخرى أصلا وأبدا بوجه من الوجوه أو لا ، بل العروض إنّما يكون مع الواسطة التي تكون هي المساوية للمعروض ، كاتّصاف الإنسان بالضحك بواسطة أمر مساو له مثل

٤٥

التعجّب ، أو هذه الصفة عارضة له بواسطة أمر هو مساو له ، كصفة الإدراك العارض للإنسان.

فلا يخفى عليك أنّ هذه الواسطة المساوية خارجة عن ذات ذيها لعدم كونها جزءا له.

واخرى بعرض على الشيء مع الواسطة الداخليّة المساوية له في الصدق ، نظير عوارض الفصول والأنواع ، مثل عروض النطق على الإنسان مع واسطة النفس الناطقة ، أو بواسطة أمر أخصّ ، كعروض عوارض النوع أو الفصل على الجنس ، كما أنّ ذلك متداول في أكثر مسائل العلوم الموجودة ، لكون نسبة موضوعاتها مع مسائلها ـ بالمقايسة إلى موضوعات العلوم ـ نسبة الأنواع إلى الأجناس.

فسنخ عروض عوارضها لها من سنخ العارض على الشيء بواسطة أمر أخصّ ، أو عكس ذلك ، كعروض عوارض الأجناس للأنواع بواسطة أمر أعمّ ، كصفة المشي العارض للإنسان بواسطة كونه حيوانا ، وهذا في الأعمّ الداخلي.

كما أنّه قد يكون العروض على الشيء بواسطة أعمّ خارجي ، أعني الخارج عن ذاته بأن لا يكون من جنسه ولا فصله. أو أنّ العروض يكون بواسطة أمر مباين لذلك الشيء ، كورود الحرارة على الماء بواسطة النار والشمس ، ومثل ذلك عروض الحركة للسيّارة أو الطيّارة بواسطة قوّة الكهرباء.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ الواسطة في المجموع إمّا مساوية أو أعمّ ، وكلاهما إمّا داخليّان كالجنس والفصل ، وإمّا خارجيان الأخصّ أو المباين فتعدادها بلغ ستّة أقسام ، والسابع منها ما لا واسطة له.

وإذا عرفت ما تلونا عليك وانقدح لك أقسام العوارض بما لها من الموضوعات والمحمولات ، فلنا كلام ، فأقول :

٤٦

إنّ المشهور ذهبوا إلى أنّ ما لا واسطة له ، أو كانت الواسطة أمرا مساويا داخليا ، يعدّ من العوارض الذاتيّة ، كما أنّ ما كانت الواسطة فيه أمرا مباينا أو أعمّ خارجيّا ، يعدّ من العوارض الغريبة عندهم.

بعبارة اخرى : إنّ المعروف والمشهور ، بل المتّفق بينهم أنّ ما لا واسطة له أو كانت أمرا مساويا داخليّا فهو من العوارض الذاتية ، كما أنّ ما كانت الواسطة فيه أمرا مباينا أو أعمّ خارجيّا فهو من العوارض الغريبة عندهم.

وقد بقي الكلام في بيان الأقسام الثلاثة الباقية.

فلا يخفى عليك أنّ كلماتهم فيها مختلفة في غاية الاختلاف ، فذهب جمع منهم إلى أنّ عوارض النوع لا تعدّ ذاتيّة للجنس ، وألحقوا بذلك عوارض الفصل. وقال جمع آخر بل نسب إلى المشهور : إنّ عوارض الجنس ليست ذاتيّة للنوع ، فبناء على هذا البيان تخرج محمولات العلوم عن كونها من العوارض الذاتيّة لموضوعاتها ، إذ هي إنّما تعرض لموضوعات المسائل أوّلا وبالذات ، وبواسطتها تعرض لموضوعات العلوم.

فإذا فرضنا أنّ عوارض الأنواع ليست ذاتيّة للأجناس وعوارض الأجناس ليست بذاتية للأنواع ، فلا مناص إلّا بأن نقول : إنّ البحث في جلّ العلوم إنّما يكون عن العوارض الغريبة ، إذ من الواضحات أنّ نسبة موضوعات المسائل إلى موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس.

فإذن يشكل الأمر في عدّة من مسائل علم الاصول ، لأنّ البحث فيها إنّما يكون عمّا يعرض لموضوعه بواسطة أمر أعمّ ، نظير مباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية ؛ إذ لا ينبغي الريب في أنّ موضوع العلم خصوص ظواهر الكتاب والسنّة ، والحال أنّ موضوع البحث يعمّهما ، إذ بناء على أنّ عوارض الجنس ليست بذاتيّة للنوع يكون البحث فيهما عن العوارض الغريبة

٤٧

لموضوع العلم.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ الإشكال يدور مدار أمرين :

الأوّل : لزوم كون البحث في العلوم عن العوارض الذاتيّة لموضوعها.

والثاني : عدم كون عوارض النوع ذاتيّة للجنس ، وهكذا بالعكس.

على أنّهما يطلبان أمرا واحدا وأصلا فاردا ، وهو عبارة عن قيام الدليل على لزوم الالتزام بلزوم وجود الموضوع في كلّ علم من العلوم ، وأنّى لهم بإثبات ذلك حسب ما تقدّم ، وعلى هذا لا يبقى موضوع بحث لهذين الأمرين حتّى تبلغ النوبة إلى ورود الإشكال أو الإشكالات المتعدّدة.

وعلى كلّ حال وقد اختار كلّ واحد من الأعلام والمحقّقين في دفع هذا الإشكال مفرّا من حيث اليمين والشمال ، ولا يمكنهم الفرار عنه.

ومنهم صدر المتألّهين في كتاب الأسفار ، وعليك بالمراجعة إلى متن جوابه قدس‌سره (١) ، ولكنّ الحقّ والإنصاف أنّ جوابه ليس بمفيد إلّا في مسائل الحكمة والفلسفة.

وبالجملة فقد انقدح لك بما أسلفناه في المقام أنّه لا يبقى إشكال من الأصل والأساس ، فيكون الإشكال سالبة بانتفاء الموضوع ، فإنّه يبتني على الالتزام بالأمرين المتقدّمين اللذين يدوران مدار الأصل والأساس الواحد ، وهو ليس إلّا الالتزام بلزوم موضوع واحد في كلّ واحد من العلوم المدوّنة ، وقد مرّ عليك أنّنا ما وجدنا الدليل عليه بالعنوان العامّ ، على أنّك قد عرفت منّا إقامة البرهان على نفيه بصورة خاصّة في بعض العلوم ، كعلم الفقه والاصول وأمثالهما.

نعم ، يمكن ورود الإشكال من ناحية أنّ وحدة العلم تدور مدار وحدة

__________________

(١) الأسفار الأربعة ١ : ٣٣ ، فصل موضوع العلم الإلهي.

٤٨

الموضوع. وإذا فرضنا أنّه لا موضوع له فلا محالة يصبح بلا وحدة من حيث الموضوع.

ولكنّ الحقّ والإنصاف أنّ ذلك الإشكال يندفع بأنّ الوحدة المفروضة في كلّ علم ليست بشكل الوحدة الحقيقيّة ، حتّى نحتاج إلى إثبات موضوع جامع حقيقي بين موضوعات مسائله ، بل إنّما الوحدة وحدة عنوانيّة اعتباريّة يكون قوامها بيد المعتبر ، بتقريب أنّ المعتبر يعتبر جملة من القضايا المتشتّتة والقواعد المتباينة من حيث الموضوع والمحمول علما ، ويشخّصها باسم خاصّ في قبال علم آخر الذي سمّي عند كاتبه باسم مخصوص آخر من ناحية اشتراكها في الدخل في حصول غرض واحد.

والحاصل أنّنا إذا سلّمنا على فرض المحال لزوم وحدة الموضوع لكلّ علم من العلوم ، فأيّ دليل نتمسّك به على لزوم اعتبار أن يكون البحث فيه عن عوارضه الذاتيّة لموضوعه ، بالنحو الذي وقع فيه المشهور من الفلاسفة ، من دون وجود طريق خلاص لهم من تلك المشاكل.

فإذن إنّ الحقّ الذي هو قريب من التصديق في المقام من دون توجّه أيّ إشكال يتصوّر فيه عبارة عمّا اخترناه من دون وجه عدول عنه ، إذ حقيقة كلّ علم ليست بحسب الواقع إلّا عبارة عن عدّة من المسائل المتعدّدة المتكثّرة والقواعد المختلفة من حيث الموضوع والمحمول ، التي جمعها الاشتراك في الفضل ، لحصول غرض واحد منها.

فانقدح أنّه لا بدّ أن نبحث في كلّ علم عمّا له دخل في حصول الغرض المطلوب منه بما له من الموضوعات والمحمولات والمسائل ، من دون أيّ فرق بين كون البحث عن عوارضه الذاتيّة بما له من المعنى الاصطلاحي عند أهله ، أو كان من نوع عوارضه الغريبة ، من دون وجود أيّ ضرورة ملزمة للالتزام بلزوم

٤٩

كون البحث عن عوارضه الذاتيّة فقط مع فرض لزوم دخل العوارض الغريبة في حصول غرض مشترك في المهمّ.

وملخّص الكلام في المقام أنّنا لو سلّمنا أنّ البحث لا بدّ من أن يكون عن العوارض الذاتيّة لموضوعاتها ، فأيّ دليل يلزمنا بأنّ عوارض الأنواع خارجة عن العوارض الذاتيّة للأجناس ، وهكذا بالعكس.

فإذن العلاج الصحيح الذي لا يجوز العدول عنه في المقام عبارة عن الالتزام بأنّ ما يلحق الشيء مع وساطة نوعه أو جنسه ذاتي له ، لا من الأعراض الغريبة ، إذ من الواضحات المشرقة أنّ المراد منه ليس ما يعرض للشيء أوّلا وبالذات من دون فرض أيّ واسطة ؛ إذ لو كان كذلك فلازمه خروج كثير من محمولات العلوم التي لها دخل في حصول الأغراض المترتّبة عليها عن ذلك العلم ، وهذا ما يضحك الثكلى.

فتلخّص من جميع ما تلونا عليك ، أنّه لا دليل لمن ذهب إلى أنّ عوارض النوع غريبة للجنس ؛ إذ البحث عنها في العلوم غير قابل للإنكار ، بل البحث عنها لا مناص عنه في العلوم على نحو لو أغمضنا النظر عنه لاختلّ أمرها وبقي بلا إتمام.

فالعلاج ـ في نهاية الشوط ـ يجرّنا ويوجب علينا أن نلتزم بأحد أمرين :

الأوّل : أن نلتزم بأنّ عوارض النوع ذاتيّة للجنس.

والثاني : أن نقول إنّ المبحوث عنه في العلوم أعمّ من العوارض الذاتية والغريبة ، وهو يتشخّص في أنّ كلّ ما له دخل في الغرض في أيّ علم كان ـ ذاتيا أو غريبا ـ داخل في موضوع ذلك العلم من باب الحقيقة.

فإذن انحصر المناص في التنزّل عن الثاني ، فالطريق ينحصر بالالتزام بالأوّل ، فذلك يطلب ملاك الفرق والامتياز بينهما فقط ، بأن نقول : إنّ ما له دخل في

٥٠

الغرض فهو ليس بغريب ، وما لا دخل له فيه يعدّ من الأعراض الغريبة.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ إطالة الكلام تبقى بلا وجه هنا بأنّ عوارض النوع ذاتيّة للجنس وكذلك العكس ، كما تعرّض شيخنا الاستاذ وغيره.

وقد بقي الكلام في بيان المراد من العرض ، فاعلم أنّ مرادنا من العرض مطلق المحمول على الشيء وما يلحقه ، بلا فرق وامتياز في الامور الاعتباريّة أو الامور الواقعيّة المتأصّلة ، لا خصوص ما يقابل الجوهر ، فخذ واغتنم.

وقد انتهى كلامنا في بيان الجهة الثالثة بأنّ امتياز العلوم بعضها عن بعض بتمايز الموضوعات أو المحمولات ، أو لا بل بالأغراض لا بالموضوعات والأغراض.

فلا يخفى عليك أنّه قد اشتهر أنّ امتياز العلوم يكون في جانب امتياز الموضوعات ، خلافا لصاحب الكفاية قدس‌سره حيث ذهب إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض المترتّبة عليها الداعية إلى تدوينها ، نظير الاقتدار على الاستنباط في علم اصول الفقه ، وحفظ اللسان عن الخطأ في المقال والكلام في علم النحو ، وأخذ النتيجة المطلوبة في علم المنطق ، وهكذا سائر العلوم المدوّنة لأخذ الأغراض المترتّبة عليها.

واستدلّ على ردّ المشهور بأنّ الملاك في تمايز العلوم إذا كان بتمايز موضوعاتها ، فلا بدّ من الالتزام بكون كلّ باب ـ بل كلّ مسألة ـ علما على حدة ، لوجود هذا الملاك فيهما.

ولكنّ الحقّ والإنصاف في المقام تقتضي عدم صحّة إطلاق كلّ من القولين ، بل ليس إطلاقها في محلّه ، وذلك من جهة أنّ تمايز العلوم تارة يراد به التمايز عند التعليم والتعلّم ؛ ليتمكّن المتعلّم من تشخيص وتمييز كلّ مسألة

٥١

ترد عليه ويعرف أنّها من المسائل الاصوليّة ، أو تدخل في نوع المسائل الفقهيّة أو غيرهما.

واخرى يكون المقصود التمايز عند الكتابة في مقام التدوين ، وبيان عرفان الباعث والداعي الذي ينادي المدوّن إلى انتخاب تلك القضايا والقواعد المختلفة وتقريرها وتدوينها علما مشخّصا واحدا في قبال سائر العلوم المدوّنة ، ويضع له اسما خاصّا وعنوانا مخصوصا من حيث التسمية والوضع.

وبعبارة أوضح : إنّ المقصود من التمايز إنّما تعلّق بمقام التدوين ، يعني أنّ الطالب للتشخيص والتمايز يريد أن يعرف الباعث والداعي الذي صار سبب اشتياق الكاتب والمدوّن والمصنّف لانتخاب تلك القضايا والقواعد المتخالفة وتصنيفها وتدوينها علما واحدا ، ووضع اسم مخصوص فارد لها عند التسمية.

ومرّة اخرى يختار عدّة من القواعد والقضايا المتخالفة الاخرى ويدوّنها علما آخر ويضع لها اسما آخر ، وهكذا هلمّ جرّا إلى آخر العلوم التي دوّنت بتلك البواعث والدواعي التي اختصّت بها.

فإذا وقفت على ذلك التقسيم والمقدّمة فقد انقدح لك موقعيّة البحث والتمايز بالنسبة إلى القسم الأوّل والثاني.

واعلم أنّ بيان التمايز في المقام الأوّل إنّما يكون قابلا للتشخيص بكلّ واحد من الامور الثلاثة من ناحية الموضوع والمحمول والغرض ، كما يمكن أن يكون ببيان فهرس إجمال تلك المسائل والأبواب المأخوذة والمكتوبة في ذلك العلم.

واعلم أنّ ملخّص البيان في توجيه المطلب عبارة عن أنّ حقيقة كلّ واحد من العلوم المدوّنة ليست بحقيقة واحدة بسيطة بالذات والهويّة في محور موضوع مشخّص واحد ، ليتمكّن المشخّص والمميّز أن يميّزه عن غيره بتباين التقابل الذاتي ، كسائر امتيازات الوحدات الحقيقيّة المكوّنة من مقولة خاصّة على حدة

٥٢

ومنفصلة ، كما إذا كانت من مقولة واحدة.

بل الحقّ الذي لا بدّ من تصديقه في المقام ولا يجوز العدول عنه عبارة من أنّ حقيقة كلّ علم حقيقة عنوانية اعتباريّة ، ويكون قوامها بيد المعتبر ، من دون أن تكون وحدتها وحيدة بالحقيقة والذات ليكون امتيازه عن غيره بالفصل الذاتي وبتباين المقولي الذاتي ، مثل ما يكون من مقولة واحدة ، فإنّ وحدتها ليست إلّا بالاعتبار ، وتمايز كلّ مركّب اعتباري عن مركّب آخر يتمشّى من ناحية امور نذكرها بحول من الله في الآتي.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى المقام الثاني ، فلا يخفى عليك أنّ التمايز إنّما يكون بالغرض إذا كان العلم دوّن لحصول الغرض الخارجي الذي يترتّب عليه.

فأنت ترى هذا الامتياز في كثير من العلوم كعلم اللغة والنحو والصرف والمعاني والبيان وعلم الفقه والاصول ، إذ من الواضح أنّ الذي بعث الكاتب والمصنّف إلى تدوين تلك القضايا المتباينة علما مثل قضايا علم الاصول ، وعدّة اخرى منها علما كمسائل وقضايا علم الفقه ، إنّما يكون هو اشتراكها في الدخل في حصول الغرض ، ويكون هذا هو المطلوب الواقعي في اجتماع تلك القضايا المختلفة.

وبالجملة ، إنّ جمع القضايا المختلفة المتباينة في علم من العلوم كعلم النحو والصرف وعلم الاصول المتداولة بين أصحابها ، ونظير الفقه المدوّن في كتب عديدة ، إنّما تكون معلولة لعلّة تكون بحسب الحقيقة هي الباعث والداعي لتدوين كتابها بما لها من الأسامي الخاصّة ، وذلك الباعث والداعي ليس إلّا اشتراك تلك العدّة الكثيرة في الوصول إلى غرض خاصّ آخر منها.

ومن أبده البديهيات أنّه لو لم يكن ذلك ملاك تمايز هذه العلوم بعضها عن بعض في مرحلة التدوين ، بل كان هو الموضوع ، فلا محيص للمدوّن إلّا أن يدوّن

٥٣

كلّ باب ـ بل كلّ مسألة ـ علما مستقلا ، لوجود ملاك الامتياز فيها ، كما تفطّن صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

وأمّا إذا لم يكن للعلم غرض خارجي يترتّب عليه سوى العرفان والإحاطة به فقط ، كعلم الفلسفة الاولى ، فلا بدّ من أن يكون امتيازه عن غيره من العلوم بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول ، كما إذا فرض أنّ غرضا يطلب منّا تدوين علم جعل الموضوع فيه الكرة الأرضيّة مثلا ، ويبحث فيه من ناحية أحوالها من الكميّة والوضع والكيفيّة والأين ونحو ذلك ، وما لها من الخواصّ الطبيعية والمزايا الاخرى بما لها من أنواع الخواصّ المختلفة. وهكذا إذا فرضنا أنّ غرضا يطلب منّا تدوين علم يكون موضوعه الإنسان ، لنبحث فيه عن حالاته الطارئة عليه ، وعن صفاته الظاهريّة والباطنيّة ، وعن أعضائه وجوارحه وما لها من الآثار والخواصّ ، فلا ينبغي الريب في أنّ امتياز علمه عن غيره في أمثاله ليس إلّا بالذات أو بالموضوع من دون قسم ثالث لهما ، إذ الغرض الخارجي منتف ، ولا غرض هنا غير العرفان والإحاطة ليرجع إليه في أخذ الامتياز بذلك الغرض الخارجي.

كما أنّه يمكن أن يكون الامتياز بالمحمول فيما إذا فرضنا أنّ غرض الكاتب والمدوّن والمصنّف تعلّق بعرفان معروض الحركة ، بلا فرق بين ما كان ما له الحركة من مقولة الجوهر أو من غيرها من المقولات الاخرى ، إذ في مثل هذا العلم لا تشخيص ولا امتياز له إلّا من ناحية المحمول.

وقد انقدح لك بما بيّناه من التحقيق الدقيق وجه عدم صحّة إطلاق القولين المتقدّمين من صاحب الكفاية ومن المشهور قدّس الله تعالى أسرارهم.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢.

٥٤

ولقد وقفت على أنّ تمييز وتشخيص كلّ واحد من العلوم عن العلم الآخر له طرق متعدّدة من دون حصر في الموضوع ولا في الغرض ، بل إنّما يمكن بهما ، كما يمكن أن يشخّص بأمر ثالث في قبال الغرض والموضوع.

وبالجملة فلا ينقضي تعجّبي من نظر المشهور فيما أفادوا من حصر التمييز بالموضوع فقط ، لا سيّما إذا كان وجه نظرهم بذلك الاختصاص في مقام الامتياز بخصوص الموضوع العلم إلى تقدّم رتبة الموضوع بالنسبة إلى رتبتي الغرض والمحمول في وجه الانحصار ، بل الإنصاف أنّهم اعتمدوا على تلك الرتبة بعنوان الأولويّة لا للانحصار وإلّا فقد أثبتنا بطلانه.

وبالجملة ، فقد تحصّل لنا في المقام من جميع ما ذكرنا عدّة امور :

الأوّل : أنّ صحّة تدوين كلّ علم غير متوقّف على وجود موضوع وحداني لذلك العلم ، إذ انقدح من بياننا ـ إلى هنا ـ أنّ حقيقة العلم ليست إلّا عبارة عن عدّة مسائل ومجموع قضايا متشتّتة متخالفة من القواعد المتكثّرة التي جمعها لاشتراكها في الدخل في حصول الغرض الخاصّ ، الذي لا يتحصّل إلّا بالبحث فيها في ذلك العلم بما له من المسائل والقضايا.

الثاني : وقد بقي الكلام في بيان عدم المنافاة بين ما اخترناه في المقام من عدم وجدان الدليل والبرهان القائم على وجوب لزوم الموضوع في كلّ علم على نحو يكون ذلك منفيّا عند عدم وجود موضوع خاصّ له ، وبين وجود الموضوع بالنسبة إلى بعض العلوم ؛ إذ من الواضح أنّ ذلك ـ كما تلوت عليك ـ إنّما يكون من ناحية عدم قيام الدليل والبرهان على لزوم الموضوع لكلّ علم من العلوم على نحو لا يكون ذلك علما عند فقدان الموضوع له. ولأجل ذلك وقع البحث في جلّ العلوم بما لها من المحمولات ، وبما لها من المسائل المترتّبة على الموضوعات المتخالفة بالضرورة والوجدان ، من دون أن يكون ذلك الاختيار

٥٥

مانعا لوجود موضوع خاصّ لبعض العلوم ، وذلك مثل ما إذا فرضنا تعلّق غرض المدوّن بمعرفة موضوع خاصّ في الجملة ، فللمصنّف أن يدوّنه علما ليبحث فيه عن عوارض موضوعه.

وقد انتهى الكلام إلى بيان الأمر الثالث ، فاعلم أنّه قد تقدّم أنّ تمايز العلوم وتشخيص بعضها عن البعض الآخر كما لا ينحصر في ناحية الموضوع ، كذلك لا ينحصر من ناحية الغرض ، بل ذلك ممكن الحصول من ناحية المحمول. كما أنّ لنا مجالا آخر في بيان تشخيص موضوع كلّ علم عن الآخر عند الامتياز بالتعرّض لبيان عدّ فهرس المسائل والقضايا والأبواب بصورة الإجمال ، كما أنّ ذلك ميسور بالذات مرّة اخرى بحسب اختلاف العلوم والمقامات ، فخذ واغتنم.

هذا تمام الكلام في بحثنا لبيان امتياز موضوع كلّ علم من العلوم بعنوان عامّ شمولي ، من دون اختصاص بعلم دون علم بصورة عامّة.

٥٦

موضوع علم الاصول

بقي الكلام في بيان موضوع هذا العلم أي علم اصول الفقه ، وقد مرّ عليك إقامة البرهان على عدم وجدان موضوع خاصّ له بحسب الواقع ، وأنّه في الواقع والحقيقة عبارة عن مجموعة القضايا والمسائل من القواعد المتباينة بلحاظ الموضوع ، والمحمولات التي جمعها الكاتب والمصنّف في مرحلة التحرير والتدوين لأجل اشتراكها في الدخل ، واخذ الغرض الواحد منها وهو عبارة عن الاقتدار على الاستنباط في الأحكام الشرعية فقط.

وإن أبينا عن ذلك وتنزّلنا وسلّمنا بلزوم فرض الموضوع لعلم الاصول ، يبقى الكلام في أنّ ذلك الموضوع ما هو في عالم الواقع بحسب الحقيقة ؟

ربّما قيل : إنّ ذلك الموضوع يتلخّص في الأدلّة الأربعة بملاحظة دليليّتها. وقد اختار هذا القول المحقّق القمّي قدس‌سره ـ حسب ما يظهر من كلامه في ابتداء كتابه (١) ـ على أنّه صرّح بذلك في حاشيته عليه ، وعليك بالمراجعة إلى الكتاب وإلى هامشه (٢).

ولكنّ الحقّ والإنصاف أنّ كلامه لا يخلو عن الإيراد والإشكال ، إذ ذلك ملازم لخروج المسائل الاصوليّة عن موضوع علم الاصول ودخولها في المبادئ ، ولك

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٨.

(٢) قوانين الاصول ١ : ٩.

٥٧

أن تشاهد ذلك في مباحث الحجج والأمارات ، وأبحاث الاستلزامات العقلية ، ومسائل الاصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة ، وعند البحث عن حجّية العقل ، وحجّية ظواهر الكتاب ، وهكذا مباحث التعادل والتراجيح.

ويستثنى من ذلك البحث في مباحث الألفاظ ، لأنّ الكبرى في هذه المسألة غير قابلة للتشكيك ، وهي عبارة عن مسألة حجّية الظواهر ، لأنّها من المسلّمات عند الكلّ بلا خلاف فيها من أحد من الاصوليّين فلم يبحث عنها في أيّ علم من العلوم أصلا وأبدا ، فلا خلاف ولا كلام فيها من حيث الحجّية وأنّها حجّة بالقطع واليقين.

وإنّما يبقى الكلام في بيان صغريات تلك الكبرى ، أعني ظهور الألفاظ في شيء وعدم ظهورها فيه ، ونجد ذلك عند بحث الأمر والنهي هل لهما ظهور في الوجود والتحريم أو ليس لهما ظهور فيهما ؟ وغير ذلك من تلك الموارد. فلا يخفى عليك أنّ مثل ذلك المورد يكون البحث عنها عن عوارض الدليل بما هو دليل ، إذ لا شبهة في حجّية الكتاب والسنّة ودليليّتهما في أنفسهما بالقطع واليقين. نعم الكلام هنا في تشخيص وتعيين مدلولهما ، فلا ينبغي الريب في أنّ ذلك إنّما يكون من عوارضهما.

وقد انتهى كلامنا بالنسبة إلى بيان خروج الحجج والأمارات ، فلا ينبغي الشكّ في خروجهما ، بل خروجهما من الواضحات ، إذ البحث فيها بأسرها عن الدليليّة ، وذلك بحث عن ثبوت الموضوع لا عن عوارضه الذاتية ، فالنتيجة أنّها ملحقة بالمقدّمات والمبادئ لا في سلك مسائله ، بل يكون من هذا الباب مبحث التعادل والترجيح على مسلك الحقّ الذي يكون هو الصحيح عندنا من أنّ البحث فيه بحسب الحقيقة ينحصر في حجّية أحد الخبرين المتعارضين عند التساقط.

وأمّا الكلام في بيان خروج مباحث الاستلزامات العقليّة عن علم الاصول ،

٥٨

فمن الواضح أنّ البحث فيها لا يرجع إلى البحث عن عوارض أحد الأدلّة الأربعة ، لا بما هي أدلّة ، ولا بما هي هي ، بل البحث في الحقيقة إنّما يكون عن أحوال الأحكام بما هي أحكام بلا لحاظ كونها مستفادة منها ومداليل أدلّة.

ومن هنا ينقدح وجه خروج الاصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة عن علم الاصول.

ومن ناحية ذلك المحذور عدل صاحب الفصول قدس‌سره عن ذلك المسلك ، واختار أنّ موضوع علم الاصول إنّما يكون ذوات الأدلّة الأربعة بما هي هي (١) ، فالبحث حسب هذا المسلك بحث عن عوارض الموضوع لا عن ثبوته.

ولكنّ الحقّ والإنصاف أنّ ذلك المسلك لا يخلو عن إيراد ؛ إذ يرد عليه لزوم خروج كثير من مسائل علمنا هذا عن كونها من المسائل الاصوليّة ، ولك أن ترى ذلك في مباحث الحجج والأمارات ـ ما عدا مبحث حجّية العقل وظواهر الكتاب ـ ومباحث الاستلزامات العقليّة. وكذلك مسائل الاصول العمليّة الشرعيّة والعقلية ، وذلك من جهة أنّ البحث في كلّ علم لا بدّ أن يكون عن العوارض الذاتيّة لموضوع ذلك العلم ، وإذا لم يكن كذلك فتخرج عن سلك مسائل مباحث هذا العلم ولا تعدّ من نوع مسائله في شيء بوجه من الوجوه.

فإذن انقدح أنّ كلّ مسألة يقع البحث فيها عن العوارض الذاتيّة لأحد الأدلّة الأربعة فلا محالة تدخل في مسائل علم الاصول ، وإلّا فهي غير داخلة فيها.

فتكون ثمرة البناء على هذا المسلك ترتّب خروج مباحث الاستلزامات العقليّة ؛ إذ البحث فيها لا يكون عن أحوال أحد الأدلّة الأربعة بوجه من الوجوه مطلقا ، بل البحث إنّما يكون في محور الاستحالة والإمكان ، ويلحق بذلك

__________________

(١) الفصول : ١٢.

٥٩

خروج مسألة حجّية خبر الواحد ؛ إذ من الواضح أنّ البحث فيها لا يرجع إلى عوارض السنّة التي هي عبارة عن موضوع علم الاصول ، بل يرجع إلى عوارض الخبر ، وهو ليس بسنّة.

ويلحق بهذا خروج بحث مسألة حجّية الإجماع المنقول والشهرة الفتوائيّة ، وكلّ مباحث التعادل والترجيح ، وأبحاث الاصول العملية الشرعيّة والعقليّة ؛ إذ غير خفيّ على كلّ أحد من الأصحاب أنّ البحث في تلك المباحث بأجمعها ليس عن العوارض الذاتية لأحد الأدلّة الأربعة ، كما هو أظهر من الشمس.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى نتيجة هذين القولين ، فحاصل النتيجة والثمرة بحسب الواقع والحقيقة أنّه لا فرق بين هذا القول والقول الأوّل عدا مسألة حجّية ظواهر الكتاب وحجّية العقل ؛ إذ هما خارجان من المسائل الاصوليّة على القول الأوّل دون القول الثاني فإنّهما منها على القول الثاني.

ومن هنا لمّا أدرك شيخنا الأنصاري قدس‌سره هذا المحذور التجأ إلى إرجاع هذا البحث من حجّية خبر الواحد إلى البحث عن عوارض السنّة ، بتقريب أنّ السنّة التي هي عبارة عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره يمكن أن تثبت بخبر الواحد أو لا يمكن ، وبذلك الإمكان أدخل مسألة حجّية خبر الواحد في مسائل الاصول لاستنباط الأحكام الفقهيّة الباحثة عن أحوال الأدلّة الأربعة (١).

وأنت خبير بأنّ هذا الإرجاع لا يسمن ولا يغني من جوع في حلّ الإشكال ؛ إذ يرد عليه أوّلا : أنّ ذلك لا يفيده في حلّ الإشكال ؛ إذ أنّه لو أراد من هذا الثبوت الثبوت الواقعي التكويني ، بمعنى أنّ خبر الواحد بحسب الواقع علّة ووسيلة لإثبات السنّة واقعا وحقيقة ، فذلك لا يقبله العقل وهو غير معقول ؛ إذ من

__________________

(١) فرائد الاصول : ١ : ١٠٨.

٦٠