دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

الأمر أنّ الشكّ في الصدق على الصحيحي من جهة أخذ الصحّة في المسمّى ، وعلى الأعمّي من جهة العلم بتقييد المأمور به بالصحّة لا محالة.

فالنتيجة : هي عدم جواز الأخذ بالإطلاق على كلا القولين ؛ فإذن لا يبقى من حيث النتيجة ثمرة في البين.

والجواب عن ذلك الإشكال انقدح عمّا تعرّضنا له في ما تقدّم عند بيان معنى الصحّة والفساد ؛ إذ من الضروري أنّ الصحّة الفعليّة ـ التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجا في موارد الامتثال والإتيان بالأجزاء والشرائط ـ غير مأخوذة في المأمور به في لسان الدليل بالقطع واليقين ، بل إنّ ذلك غير معقول كما تقدّم ، وإنّما النزاع في أخذ الصحّة بمعنى التمامية ، أعني تماميّة الشيء من حيث الأجزاء والشرائط والقيود في المسمّى.

وإنّما السالك إلى الصحيح يدّعي وضع لفظ (الصلاة) مثلا للصلاة التامّة من حيث الأجزاء والشرائط.

والقائل بالأعمّ يدّعي وضع اللفظ للأعمّ.

وعلى هذا التقريب فلو شككنا في اعتبار شيء جزءا أو شرطا في المأمور به كالسورة مثلا ، فعلى القول بالوضع للصحيح كان صدق اللفظ بما له من المعنى على الفاقد لها غير معلوم ، لاحتمال دخلها فيه ، وإنّما الشكّ في اعتبار أمر زائد عليه ، وفي مثله لا مانع من التمسّك بالإطلاق لنفي اعتبار الشيء المشكوك فيه ، وبذلك الوجه نثبت أنّ المأمور به هو طبيعي الصلاة الجامع بين الفاقدة والواجدة للسورة ، ومن انطباق ذلك الطبيعي على المأتي به بلا سورة تنتزع الصحّة.

فالصحّة بمعنى التماميّة تثبت بنفس التمسّك بالإطلاق بضميمة ما علم من الأجزاء والشرائط تفصيلا ، والصحّة المنتزعة غير مأخوذة في المأمور به فضلا عن المفهوم والمسمّى.

٤٠١

وبالجملة ، فإنّ المأمور به على كلا المسلكين وإن كان هو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، إلّا أنّ الاختلاف بينهما في نقطة اخرى ، وهي أنّ صدق اللفظ على الفاقد لما يشكّ في اعتباره معلوم على القول الأعمّي ، وإنّما الشكّ في اعتبار أمر زائد عليه.

وأمّا على الصحيحي فالصدق غير معلوم ، وعلى أساس تلك النقطة يجوز التمسّك بالإطلاق على القول بالأعمّ ، دون مسلك الصحيحي.

فالنتيجة المأخوذة من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ هذه الشبهة مبتنية على أخذ الصحّة الفعليّة في المأمور به ، وقد وقفت على فساده فيما تقدّم بالوضوح والإشراق.

ولأجل ذلك التزم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بأنّ هذا التوهّم ليس فيه أهمية كما اهتمّ به شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) وأطال الكلام فيه مع الجواب عنه بما لا يستحقّ.

وربّما يقال (٣) : إنّ الثمرة تظهر في النذر ، وذلك مثل ما إذا نذر الناذر أن يعطي دينارا لمن يصلّي ركعتين ؛ إذ بناء على مسلك الأعمّ يجزي الإعطاء للمصلّي ركعتين ولو كانت صلاته فاسدة ، وعند الصحيحي لا يجزي ذلك ، بل لا بدّ من أن يعطي الدينار لمن يصلّي الصلاة الصحيحة ، وإلّا فلا تبرأ ذمّته.

ولا يذهب عليك أنّ أمثال تلك الثمرات غير قابلة للاعتماد والذكر والعنوان في المباحث العلمية الاصولية ، بل أمثال تلك الثمرات لا تصلح لأن تؤخذ بعنوان الفائدة والثمرة لشيء من المسائل العلمية ، وإن كانت المسألة من المبادئ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٧.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤٧٤.

(٣) القائل هو المحقّق القمّي في قوانين الاصول ١ : ٤٣.

٤٠٢

والمقدّمات التمهيدية.

على أنّ وجوب الوفاء بالنذر تابع لمقصود الناذر من النذر من حيث الكميّة والكيفيّة من الصحيحة والأعمّ منها ، وهذه الثمرة أجنبيّة عن مسألة وضع ألفاظ العبادات لخصوص الصحيحة منها أو الأعمّ ؛ إذ لو قصد الناذر من كلمة المصلّي من أتى بالصلاة الصحيحة فقد خالف نذره إذا أعطى الدينار لمن صلّى صلاة فاسدة. وإن قلنا بوضع ألفاظ العبادات للأعمّ وكان قصده من النذر مطلق الآتي بالصلاة ، وإن كانت باطلة برأت ذمّته بتلك الصلاة إلّا عند من يشترط الرجحان في متعلّق النذر ، لأنّ مصبّ النذر لو كانت الصلاة الفاسدة فلا مصلحة ولا رجحان في متعلّقه لأن يكون واجب الوفاء.

على أنّ الصحّة التي تكون محلّ الكلام في دخلها في المفهوم والمسمّى غير الصحّة المعتبرة في مرحلة الإتيان والامتثال ، فيمكن أن يكون المأتي به صحيحا من جهة وجدانه تمام الأجزاء والشرائط ، وفاسدا من الجهات الأخر ، وعلى ذلك التقريب ربما تحصل براءة الذمّة بالإعطاء لمن يصلّي الفاسدة أيضا.

بقي هنا شيء قد ذكرناه في الدورة السابقة ثمرة لهذا المسألة غير ما ذكره الاصوليون ، وهي أنّ الحكم الوارد على عنوان (الصلاة) ومفهومها يختلف باختلاف القولين ، مثلا قد ورد النهي عن (صلاة) الرجل وبحذائه امرأة مصلّية (١) ، فعلى القول بالصحيح لو علمنا بفساد صلاة المرأة لا تكون صلاة الرجل منهيّا عنها ، لعدم صدق الصلاة على ما أتت المرأة به ، فلا يصدق حينئذ أنّه صلّى وبحذائه امرأة تصلّي ، بخلاف القول بالأعمّ ، فإنّها أي صلاة الرجل تكون منهيّا عنها.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ : ١٢٤ ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، الحديث ٣ و ٤.

٤٠٣

ولكنّ الإنصاف أنّه قد انقدح عمّا تقدّم أنّ هذه الثمرة أيضا لا تغني ولا تسمن لأن تكون ثمرة لهذا البحث المهمّ الاصولي ، بل الحقّ المحقّق أنّه لا تترتّب على النزاع بين القولين ثمرة يمكن أن تكون واقعا في طريق الاستنباط ، لما عرفت من أنّ القول بالصحيح لا يلازم الصحّة عند الامتثال ، إذ الصحّة عند ذلك غير الصحّة المأخوذة في المسمّى على هذا القول ، كما مرّ مفصّلا.

وقد ظهر وبان لك من جميع ما تقدّم في المقام من النقض والإبرام تحت عنوان الثمرة إلى هنا امور أربعة :

الأوّل : أنّ البحث والنزاع عن هذه المسألة ليس بحثا اصوليا واقعا في طريق الاستنباط مستقلا بلا ضمّ الضميمة ، بل هو بحث تمهيدي عن المبادئ المتقدّمة الإشارة إليها ، وإنّما ذكروها في هذا العلم لأجل أنّ فيها فائدة مهمّة واضحة ، وهي عبارة عن مناسبتها الشديدة مع بعض المسائل الاصوليّة.

الثاني : أنّ ما اعتمدوا عليه من الثمرات لها أهمّها الثمرة الاولى ، والثانية ليست بثمرة للبحث عن هذه المسألة كما عرفت.

الثالث : أنّ جواز الرجوع إلى البراءة أو عدم جوازه غير معتمد على القول بالوضع للصحيح أو الأعمّ ، بل مبني على أساس انحلال العلم الإجمالي ، وعدمه في مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين.

الرابع : أنّ القول بالوضع للأعمّ محقّق لموضوع جواز التمسّك بالإطلاق أو العموم ، كما أنّ القول بالوضع للصحيح محقّق لموضوع عدم جواز التمسّك ، هذا وقد وفّقنا الله تعالى لإتمام الكلام بالنسبة إلى المقام الأوّل.

المقام الثاني : في المعاملات

وقد انتهى كلامنا إلى بيان البحث عن المقام الثاني في كيفية وضع ألفاظ

٤٠٤

المعاملات ، من حيث جواز التمسّك بالإطلاق فيها من العقود والإيقاعات على كلّ من المسلكين وعدم جوازه.

وكيف كان فالبحث واقع بين الأصحاب فيه في مقامين :

الأوّل : فيما ذهب إليه المشهور من جواز التمسّك بإطلاقات المعاملات من العقود والإيقاعات على المسلكين ، من جواز التمسّك بالإطلاق في رفع مشكوك الشرطيّة على كلّ من قولي الصحيح والأعمّ ، من دون أن يكون الجواز مختصّا باختيار الوضع لخصوص الأعمّ دون الصحيح ، بل الجواز مشترك بينهما من دون أن يكون في ذلك بينهما ، بخلاف جواز التمسّك في العبادات ، فإنّه مختصّ بالأعمّ دون الصحيح. ولأجل ذلك فإنّ تلك الثمرة المتقدّمة الجارية في العبادات منتفية هنا ، إذ قد انقدح لك أنّه لا يجوز التمسّك بالإطلاق فيها على مسلك الصحيح ، لأنّه يكون من باب الشكّ في المحصّل الذي لا بدّ من الاحتياط فيه والتمسّك بقاعدة الاشتغال.

الثاني : لا بدّ لنا من البحث فيما ذكره جماعة منهم المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّ النزاع في المعاملات إنّما يجري فيما إذا كانت الألفاظ أسامي موضوعة للأسباب دون المسبّبات ، فإنّ المسبّبات امور بسيطة غير قابلة لأن تتّصف بالصحّة والفساد ، بل هي تتّصف بالوجود عند وجود أسبابها وبالعدم عند عدمها.

وقد ذهب الشهيد قدس‌سره (٢) إلى أنّ لألفاظ العبادات والماهيّات الاختراعية الجعلية ـ مثل الصلاة والصوم وسائر العقود ـ حقيقة في الصحيح ، وأنّها

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٩.

(٢) القواعد والفوائد للشهيد الأوّل ١ : ١٥٨.

٤٠٥

موضوعة لخصوص الصحيح من العبادات والمعاملات دون الأعمّ منهما ، فيكون استعمالها في الفاسد مجازا إلّا الحجّ ، فإنّه موضوع للأعمّ ، وذلك من جهة ورود الرواية الصحيحة الدالّة على وجوب إتمام الحجّ الفاسد ، فلأجل ذلك لا مانع من الالتزام بذلك في خصوص الحجّ.

وكيف ما كان ، فإنّ توضيح المقام للوصول إلى حقيقة الحال من المقال يقتضي تحقيق الكلام في كلّ من المقامين :

أمّا المقام الأوّل : فالأمر كما ذهب إليه المشهور من جواز التمسّك بالإطلاق حتّى على القول بالصحيح ، والوجه في ذلك هو أنّ المعاملات امور مدنيّة عرفيّة في نظام حياة العقلاء من ابتداء تشكيل التمدّن العقلائي بين تمام أفراد البشر من عامّة أبناء آدم من بعد آدم إلى زمان خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى آخر الدنيا. وهي ليست من الماهيات الجعلية الاختراعية من قبل الشارع المقدّس ، بل المعاملات إنّما هي ماهيّات وقرارات بشريّة قد اخترعها العقلاء قبل تشكيل الشرائع السابقة وهذه الشريعة المقدّسة لتمشية نظام الحياة الاقتصادية في صراط العدل والإنصاف.

ثمّ بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب من قبل الله تعالى ومجيء نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب الدين الخاتم والكتاب المحكم سار معهم على هذه الطريقة المستقرّة عندهم ، من دون أن يخالفهم باختراع طريق خاصّ من قبل الله تعالى في هذه الجهة ، بل إنّه كأحد من الناس لا بدّ من أن يسير على منوال تلك الطريقة ، كما كان يسير كذلك قبل نزول الوحي عليه من قبل الله جلّ شأنه ، وهكذا بعد نزوله ، لأنّه لم يتصرّف فيها تصرّفا أساسيّا مباينا لما كانوا مستقرّين عليه من تلك الطريقة الثابتة عندهم ، بل الحقّ الصحيح المسلّم أنّه أقرّهم وأثبتهم على ما لهم من الطريقة العقلائية بإمضاء ما كانت ثابتة عندهم ، حيث عمل معهم وتكلّم

٤٠٦

بلسانهم فيها ، فهو كأحدهم في طريقتهم المعمولة فيما بينهم.

ولكن لا يذهب عليك أنّه قد تصرّف صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها في بعض الشروط بالنسبة إلى بعض الموارد ، كما أنّه نهى عن بعض المعاملات ، مثل المعاملات الربويّة وأمثال ذلك من المكاسب المحرّمة.

وبالجملة ، فإنّه وافقهم فيما كان عندهم بزيادة قيد أو جزء فيها لم يكن ذلك القيد معتبرا عند العقلاء منهم قبل تلك الزيادة ، كاعتبار البلوغ في المتعاقدين ، واعتبار الصيغة الخاصّة في بعض الموارد. وهذا المقدار من التصرّف ليس تصرّفا أساسيا ، بل هو تصرّف تصديقي إمضائي في رفع ذلك النقص عنهم ليكون أساس اصولهم بتلك الطريقة المسلّمة جارية عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فإذا عرفت ما ذكرناه لك من التوضيح فلا يخفى عليك أنّه على هذا الأصل والأساس يحمل ما ورد في الكتاب والسنّة من الآيات والروايات كقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٣) ، وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «النكاح سنّتي» (٤) و «الصلح جائز» (٥) وأمثال ذلك على المفاهيم المستقرّة عندهم ، والتي جرى ديدنهم على العمل بها والجري عليها ؛ إذ من البديهي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتصرّف فيها لا لفظا ولا معنى ، بل إنّه تكلّم بما تكلّموا به من الألفاظ واللغات.

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

(٣) النساء : ٢٩.

(٤) مستدرك الوسائل ١٤ : ١٥٣ ، الباب ١ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث ١٨.

(٥) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٤٣ ، الباب ٣ من أبواب الصلح ، الحديث ١.

٤٠٧

ومن هذه الجهة فلنا أن نقول : إنّ تلك الأدلّة مسوقة لإمضاء المعاملات العرفيّة العقلائيّة ، وحيث إنّ المعاملات عندهم تنقسم إلى قسمين : قولي وفعلي ، إلّا في بعض الموارد الخاصّة التي اعتبر الشارع فيها اللفظ ، أو اللفظ الخاصّ ، كألفاظ النكاح والطلاق وأمثالهما فتلك الأدلّة تدلّ على إمضاء كلا القسمين. وبهذا التقريب فإن دلّ دليل من قبل الشارع على اعتبار شيء جزءا أو قيدا فنلتزم به ، وإلّا ففي صورة الشكّ فيه نتمسّك بالإطلاقات المتقدّمة ونثبت بها عدم اشتراطه واعتباره.

وبذلك التقريب انقدح بطلان ما ربّما يورد على الشهيد قدس‌سره حيث التزم أنّ المخترعات والماهيّات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود حقيقة في الصحيح ومجاز في الفاسد إلّا الحجّ ، لوجوب إتمامه فاسدا ، والحال أنّه قدس‌سره كغيره من الأصحاب يتمسّك بإطلاقات المعاملات ، مع أنّ الصحيحي لا مجال له للتمسّك بها ، لعروض الإجمال لها أي للخطابات. فلا يذهب عليك أنّ وجه البطلان هو ما علمت من عدم وجود المانع من التمسّك بإطلاقات المعاملات على القول بالصحيح كما عرفت.

وفي الجملة فالمعاني المأخوذة في موضوع أدلّة الإمضاء مثل البيع ونحوه معاملات عرفيّة عقلائيّة ولم يتصرّف الشارع فيها أيّ تصرّف ، لا من حيث اللفظ ولا من ناحية المفهوم والمعنى ، بل تلقّاها بالقبول وأمضاها بما لها من المعاني والمفاهيم التي قد استقرّ عليها الفهم العرفي بين الناس ، وتكلّم بالألفاظ التي كانت متداولة بينهم في محاورتهم قبل الشريعة الإسلاميّة.

فحينئذ إن شكّ في اعتبار أمر زائد على ما يفهمه العرف والعقلاء ، فنتمسّك بإطلاق الأدلّة وننفي بذلك اعتباره ، كما أنّه لم يكن معتبرا عند العرف ، إذ لو كان معتبرا للزم على الشارع المقدّس بيانه ، وحيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في مقام البيان

٤٠٨

ولم يبيّن فعلم عدم دخله واعتباره.

وهذا الذي ذكرناه هو النقطة الأصليّة في افتراق المعاملات عن العبادات ، إذ العبادات بما أنّها امور عباديّة لا يعرفها البشر ، وأنّما هي ماهيّات اختراعية من قبل الشارع فقط بجميع أجزائها وشرائطها ، فلا يمكن أن تنالها يد العرف من حيث اختراعها ، فيكون أمر ذلك منحصرا بيد الشارع.

فإذن لو كانت موضوعة للصحيحة فلا يمكننا التمسّك بإطلاقها عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته ، لاحتمال دخله في المسمّى كما سبق.

وهذا بخلاف المعاملات ، فإنّها امور اعتبارية عرفيّة حدثت في ارتباط نظام معيشة حياة البشريّة في محاورات العقلاء ، فتكون من الماهيات المخترعة عند العرف والعقلاء ، فلو شكّ في اعتبار شيء منها من قبل الشرع فيكون المشكوك فيه أمرا زائدا على ما كان معتبرا عند العرف والعقلاء ، فلا مانع في دفع اعتبار مثله من التمسّك بالإطلاق حتّى على القول بكونها موضوعة للصحيحة.

نعم ، لو شككنا في اعتبار شيء فيها عند العرف والعقلاء ، نظير الشكّ في ماليّة شيء بين العقلاء والعرف من باب المثال ونحو ذلك فلا يمكننا التمسّك بالإطلاق ، لعدم إحراز صدق البيع عند فقدان الماليّة ؛ إذ الماليّة لا تصدق على المشكوك الماليّة ، فيكون من باب التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقية ، والبيع لا يصدق على فاقد المالية ، فإذا لم يحرز صدق البيع على فاقد الماليّة فلا يجوز التمسّك بالإطلاق أو أمثال هذه الموارد ، كلّ ذلك مبنيّ على القول بالصحيح.

وأمّا عند الأعمّي فلا مانع من التمسّك بالإطلاق ولو كان الشكّ من ناحية اعتبار شيء فيها عرفا ، إلّا إذا كان المشكوك محتمل الدخالة في المفهوم والمسمّى.

٤٠٩

ونخبة الكلام أنّ كيفية حال المعاملات عند العرف نحو كيفية حال العبادات عند الشارع المقدّس ، فكما أنّ ثمرة جواز الأخذ بالإطلاق وعدم جوازه يتّضح بين القولين في العبادات ، فكذلك تظهر بينهما في المعاملات ، وإنّما تنعدم الثمرة بين القولين في المعاملات إن شكّ في اعتبار جزء أو شرط وقيد فيها شرعا لا عرفا ، فإنّه عند ذلك يجوز التمسّك بالإطلاق مطلقا حتّى عند من يقول بالوضع لخصوص الصحيح حسب ما تقدّم.

هذا على القول بأنّ هذه الألفاظ موضوعة للأسباب لا المسبّبات.

وهنا إشكال آخر في عدم جواز التمسّك بالإطلاق لو قلنا بأنّ هذه الألفاظ موضوعة لخصوص المسبّبات ؛ إذ الحقّ عند من يقول بهذا السنخ من الوضع أي أنّ هذه الألفاظ موضوعة للمسبّبات ، فهذا النزاع لا يجري من الأصل والأساس ، بمعنى أنّه لا يبقى مجال لوقوع هذا النزاع بين الأصحاب ، بل ربما يكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع. وذلك من جهة أنّ الصحّة غير داخلة في مفهوم المسبّب ، بل الصحّة أمر إنّما يترتّب على تحقّق وجود المسبّب في الخارج الحاصل من الأسباب التي هي عبارة من عدّة عن الأجزاء والشرائط التي اعتبرها المخترع والشارع أو العرف سببا لإيجاد المسبّب. فمن البديهي الواضح أنّ السبب إذا وجد في الخارج بتلك الكيفية بما له الأجزاء والشرائط في ظرف عدم المانع عن تأثيرهما ، فلا محالة ينوجد المسبّب فيكون مترتّبا عليه ، وإذا لم يتحقّق السبب فباليقين ينعدم المسبّب أي يبقى في ديار العدم.

فعلى هذا البيان لو كان الموضوع له هو مفهوم المسبّب الذي يكون وجوده منتزعا من تحقّق وجود أسبابه في الخارج بما له من أجزاء وشرائط ، فأمره يدور بين الوجود والعدم ، لا بين الصحّة والفساد ؛ إذ لا ينبغي الشكّ أنّ الأسباب إن وجدت بتمامها مع شرائطها في طرف عدم المانع عن تأثيرهما فلا جرم أنّ

٤١٠

المسبّب لا ينفكّ عنها ويترتّب عليها ، وإلّا فهو كما كان باق على عدمه في ديار العدم. وأمّا إن كان موجود صحيحا أو فاسدا ، بل بعبارة اخرى إنّه وجد عند ذلك صحيحا أو فاسدا ، فهذا أمر ليس له عند التعقّل معنى محصّلا بالقطع واليقين.

نعم ، قد تقدّم سابقا أنّ الصحّة والفساد أمران منتزعان من إتيان المأمور به في الخارج تامّ الأجزاء والشرائط ، ومن عدم إتيانه كذلك ، من دون أن يكون ذلك دخيلا في حقيقة المسمّى والمسبّب بوجه من الوجوه.

وبالجملة ، فلنا أن نقول في المقام : إنّ نزاع الصحيحي والأعمّي مشروط بأن تكون هذه الألفاظ اسما للأسباب دون المسبّبات ، أو ليس له اختصاص بذلك ، بل هو جار وإن التزمنا بأنّ هذه الألفاظ موضوعة لخصوص المسبّبات أيضا.

وقبل الشروع في بيان ذلك لا بدّ لنا التكلّم في أنّه هل يجوز التمسّك بالإطلاق على كلّ من قولي الصحيح والأعمّ على حدّ سواء ، بلا وجود فرق بينهما من حيث الجواز والعدم بالإطلاق ، أو أنّ بينهما فرق من هذه الجهة ، بمعنى جواز التمسّك عند الأعمّي دون الصحيحي ، كما تقدّم في العبادات مفصّلا بما لا مزيد عليه ؟

فإذا علمت ذلك فاعلم أنّ أصحابنا الاصوليين اتّفقوا على جواز التمسّك بالإطلاق في المعاملات على كلّ من المسلكين ، من دون أن يكون من هذه الناحية فرق في البين.

والوجه في ذلك أنّه لا شبهة في أنّ هذه المفاهيم ـ أعني مفاهيم المعاملات من البيع والشراء ، والصلح ، والإيجار والاستيجار ، والنكاح ـ إنّما كانت مفاهيم متشكّلة عند العرف وكلّ الناس من الأنبياء والامم والإمام والامّة حيث كانوا متساوين في الابتلاء بها في نظام المعيشة وفي العرف والمحاورات المتداولة بينهم في مجرى حياتهم الاجتماعية إلى نحو الكمال ، بل كلّهم يتوسّلون من

٤١١

ناحية العمل بتلك المعاملات المتقدّمة لإمرار المعاش في حياتهم الاقتصادية في رفع حوائجهم الماديّة ، من البيع والشراء والإيجار والاستيجار والنكاح والصلح.

فكانت هذه المفاهيم من تلك المعاني من الامور العرفية الدائرة بين كافة الناس حتّى الأنبياء والرسل من ابتداء تشكيل المجتمع الإنساني في البلاد والقرى والمدن.

فلا جرم أنّ عامّة أهل الدنيا من الصدر الأوّل العارف بديدن أهل اللسان والمحاورة عند الاحتياج إلى المعيشة ـ من الخبز ، واللحم ، والألبسة ، والفرش ، والأمكنة ، بل بالنسبة إلى جميع المأكولات ، والمشروبات ، والمركوبات والمنكوحات ، والمكاري ، والإيجار والاستيجار ، وغيرها من الامور النظامية ـ لا بدّ من التوصّل إليها بالبيع والصلح والإيجار والنكاح الدارج فيما بينهم ؛ إذ لو لا ذلك الارتباط والاعتبارات العرفية لكانوا محرومين عن الوصول إلى مقاصدهم المطلوبة اللازمة.

وقد تقدّم غير مرّة أنّ الأنبياء والرسل ـ مع غمض العين عن اتّصالهم بالوحي والتشريع ـ كانوا من أبناء هذه المحاورة والعرف ، وأنّهم كانوا في الأسواق كأحد أبناء عرفهم في البيع والشراء والاستيجار والإيجار والرعي والمزارعة والمساقاة والصلح والنكاح. ومن الشواهد المسلّمة على ذلك قصّة موسى وشعيب عليهما‌السلام من الاستيجار والنكاح.

بل إنّهم مضافا إلى اتباعهم للعرف والعادة في تلك الاعتبارات والقرارات الدارجة بينهم قد أمضوا تلك الامور العرفيّة من قبل الله بقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ) و (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) وغيرهما من الروايات الواردة في أنواع الصلح ، والمضاربة ، والمساقاة ، والمزارعة حسب تنزيل الكتب وإرسال الرسل.

٤١٢

فالبيع بمعنى تبديل طرفي الملكية بين المالين أمر عرفي أمضاه الشارع وعمل طبقه قبل الشريعة وبعدها ، وهكذا سائر العقود والإيقاعات بتمامها وكمالها ، إلّا أنّ الشارع في مقام الإمضاء والتجويز تصرّف فيها بإضافة قيد أو شروط إمضائية بلسان القبول والتصديق التكميلي ، لا الجعلي والاختراعي حتّى تكون تلك المفاهيم ملحّة بالعبادات. فإذن ففي كلّ مورد ثبت لنا أنّه ذكر فيها قيد تصديقي نأخذ به ، وإلّا فنتمسّك بإطلاقاتها.

وبعبارة اخرى : ما يكون من القيود معلوم القيديّة من قبل الشارع فنأخذ بها ، وما يكون مشكوك القيديّة كلزوم إيجاب عقد البيع بالعربي فنتمسّك في نفيها بالإطلاق لو فرض صدق نفس العنوان والمسمّى عند العرف عند فقدان هذا القيد ، مثل صدق عنوان البيع على البيوع المعاطاتية عند العرف ؛ إذ لا ينبغي الشكّ أنّ البيع المعاطاتي دارج في العرف على نحو يرونه من مصاديق البيع العرفي ، إذ يتعاملون معه معاملة البيع الذي يبرزه الموجب باللفظ في إيجاد تبدّل طرفي الملكية التي نسمّيه بالبيع اللفظي.

فإذا كان عنوان البيع صادقا على المعاطاة في نظر العرف إذا شككنا في اعتبار اللفظ من قبل الشارع عند عدم الدليل على الاعتبار فنتمسّك في دفعه وإثبات صحّة البيع بإطلاق الآية الكريمة في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، بلا فرق في ذلك بين مسلك الصحيح والأعمّ.

وهذا بخلاف مسلك المشهور عند فقدان الدليل ، فإنّهم توقّفوا في صدق عنوان البيع على البيع الفعلي المعاطاتي.

وبالجملة ؛ قد تقدّم الإيراد على التمسّك بهذا الإطلاق عند الأعمّي والصحيحي في المعاملات بالنسبة إلى من ذهب إلى أنّ هذه الألفاظ موضوعة للمسبّبات دون الأسباب ، فإنّها إذا كانت موضوعة للأسباب فنأخذ بالمقدار

٤١٣

المتيقّن ممّا علمت سببيّته من قبل الشارع بأزيد ممّا يراه العرف من صدق العرفي ، فنتمسّك في رفع الزائد عن المتيقّن بالإطلاق ؛ لأنّ الشارع بما أنّه كان في مقام البيان والتصديق في الدخل وعدم الدخل في صحّة المعاملة من القيود والشروط فلم يبيّن بأزيد ممّا بيّن ، فنتمسّك في دفعه بالإطلاق.

بخلاف القول بأنّها موضوعة للمسبّبات فإنّه عند ذلك لا يجوز التمسّك بالإطلاق ، لأنّه يكون من قبيل الشكّ في المحصّل ، لدوران أمر المسبّب عند حدوث ذلك الشكّ بالنسبة إلى قيديّة السبب بين الوجود والعدم ، لا بين الصحّة والفساد بعد صدق العنوان ، بل فرض الصحّة والفساد عند ذلك الاحتمال أمر غير مقبول.

والحاصل فقد انتهى كلامنا إلى بيان إيراد أنّ التمسّك بحديث الإطلاق في المعاملات مطلقا إنّما يكون في محلّه لو قلنا : إنّ المعاملات إنّما تكون موضوعة للأسباب لا المسبّبات ، فإنّه عند ذلك يوجد مجال للتمسّك بإطلاق الآية الكريمة : (أَحَلَّ اللهُ) أو (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) وأمثالهما لإثبات إمضاء وتصديق كلّ سبب عرفي إلّا ما منع الشارع منه.

وأمّا إذا كانت المعاملات أسامي موضوعة لخصوص المسبّبات فالأمر والتصديق الشرعي الناظر إليها لا يرشد إلى إمضاء أسبابها ، لعدم الملازمة بين إمضاء المسبّب ، وهو تبديل طرفي الملك والمبادلة في البيع وما شاكلها ، وإمضاء السبب ، وهو المعاطاة أو الصيغة الفارسيّة من باب المثال ، ومن الواضح أنّ أدلّة الإمضاء والتصديق جميعا من الآيات والروايات مسوقة إلى إمضاء المسبّبات ، وليست بناظرة إلى إمضاء الأسباب أصلا وأبدا.

إذ من البديهي أنّ الحلّية في كلامه تبارك وتعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ثابتة لنفس المبادلة والملكيّة في مقابل تحريمها ، ولا محصّل ولا معنى لحلّية نفس

٤١٤

الصيغة أو حرمتها ، ووجوب الوفاء في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ثابت للملكيّة والمبادلة ؛ إذ الوفاء على ما ذكرناه بمعنى الإنهاء والإتمام. ومن المعلوم أنّه لا يتعلّق بنفس العقد ، لأنّه إنّما يكون آنيّ الحصول من دون أن يكون له البقاء ، بل الحقّ أنّ الوفاء لا بدّ من أن يتعلّق بما يكون له قابليّة البقاء والدوام والاستمرار ، وليس ذلك في المقام إلّا نفس المسبّب دون الأسباب.

والنكاح في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (النكاح سنّتي) ليس إلّا نفس علاقة الزواج بين الزوج والزوجة ، لا نفس الصيغة ، وهكذا الصلح في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الصلح جائز) ، ونظائرهما.

وعليه فلو شككنا في حصول مسبّب من سبب خاصّ كالمعاملات ـ مثلا ـ فمقتضى الأصل عدم حصوله والاقتصار على الأخذ بالقدر المتيقّن ، إلّا فيما إذا كان له سبب واحد ، فإنّ إمضاء مسبّبه يستلزم إمضاءه لا محالة ، وإلّا لكان إمضاؤه بدونه لغوا وعبثا محضا. وكذا فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقّن ، فإنّ نسبة المسبّب حينئذ إلى الجميع على حدّ سواء ، فلا يمكن الحكم بإمضاء بعض دون بعض. وفي غير هاتين الصورتين لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن ، وفي الزائد عليه نرجع إلى أصالة العدم.

وقد أجاب عن ذلك الإشكال شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بأنّ باب المعاملات غير مربوط بباب الأسباب والمسبّبات التكوينية ، كسببية الإلقاء في النار في تحقّق الإحراق ، بل باب المعاملات إنّما يكون نظير الآلة وذي الآلة ، فلأجل ذلك إنّما نأخذ بمقدار ما علم آليّته ، فنتمسّك بالإطلاق في عدم دخالة مشكوك الآليّة مع فرض صدق العنوان بدون إتيان المشكوك.

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٨١.

٤١٥

وبالجملة فإنّ ملخّص جوابه قدس‌سره أنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست كنسبة الأسباب والمسبّبات ومن قبيل الموجودات الخارجية ، كوجود الإحراق آن حصول الإلقاء في النار ، ليكونا موجودين خارجيين بالسبب والمسبّب والعلّة والمعلول المترتّب أحدهما على الآخر ترتّبا تكوينيا قهريا بالجبر والاضطرار ، على نحو يكون تعلّق الإرادة بالمسبّب بتبع تعلّقها بالسبب من جهة أنّ اختيارية المسبّب باختياريّة السبب ، كما هو الحال في جميع الأفعال التوليدية ، بل نسبتها إليه نسبة الآلة إلى ذيها ، وإنّما الإرادة فقد تتعلّق بنفس المعاملة والمبادلة ابتداء ، كما هو الحال في سائر الإنشاءات ، فإنّ قولنا : (بعت) أو (صلّ) ليس بنفسه موجدا للملكيّة ، أو طلب إيجاد الصلاة في الخارج نظير الإلقاء الموجد للإحراق ، بل الموجد والموجب في الواقع ونفس الأمر هو الإرادة المتعلّقة بإيجاده إنشاء.

فتحصّل أنّه إذا لم تكن الصيغ من قبيل الأسباب ، والمعاملات من قبيل المسبّبات ، فلم يكن هناك موجودان ، أحدهما السبب ، والآخر هو المسبّب في عالم الخارج ، بحيث يكون أحدهما مترتّبا على الآخر كي لا يكون قبول أحدهما قبولا للآخر ، بل الموجود واحد لا اثنين بالقطع واليقين بلا غبار في البين.

غاية ما في الباب أنّه باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة ، فالبيع المنشأ بالمعاطاة قسم ، وبغيرها من اللفظ قسم آخر ، وبخصوص لفظ العربي قسم آخر ، وهكذا بالنسبة إلى الأقسام الأخر.

فإذا كان دليل إمضاء البيع مثلا في مقام البيان ولم يقيّده بنوع دون نوع فيستكشف منه عمومه لجميع الأقسام والأنواع العرفيّة الدارجة بينهم بعد فرض صدق المسمّى عندهم بالنسبة إلى جميع تلك الأقسام المتقدّمة ، كما يكون الأمر

٤١٦

بهذا المنوال بالنسبة إلى بقيّة المطلقات في جميع المقامات من الامور العرفية حرفا بحرف ، هذا تمام الكلام في بيان جوابه قدس‌سره.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا يمكننا المساعدة له في ذلك الجواب بوجه من الوجوه أصلا وأبدا ، لعدم رجوع جوابه في الواقع إلى الصحّة ، لأنّ التعبير بالآلة وذي الآلة إنّما يكون مجرّد تبديل العنوان بعنوان آخر من دون أن يحدث فرق في المعنون ، وذلك لعدم الفرق بين كونها أسبابا أو آلة ، ولا أثر للاختلاف إلّا مجرّد التعبير من مقصود واحد بعبارتين مختلفتين ، من دون أن يحدث فرق في محلّ الكلام بين أن يعبّر عن الصيغة في العقود بالأسباب أو بالآلة ، لأنّ أدلّة الإمضاء إذا لم تكن ناظرة إلى إمضاء تلك الصيغ فلا يفرق بين كونها أسبابا أو آلة ، ولا أثر للاختلاف في مجرّد التعبير.

ومن العجائب أنّه قدس‌سره قد استدلّ على شمول أدلّة الإمضاء لصيغ العقود بأنّ الآلة وذيها ليسا كالسبب والمسبّب يمتاز أحدهما عن الآخر في الوجود ، بل هما موجودان بوجود واحد ، فإمضاء ذي الآلة يلازم إمضاء الآلة لا محالة.

وجه التعجّب أنّه لا ريب في تعدّد وجود الصيغ ووجود ما يعبّر عنه بالمسبّبات في باب المعاملات ، فإنّ المسبّبات هي الامور الاعتبارية النفسانيّة التي لا وجود لها إلّا في عالم الاعتبار ، والأسباب عبارة عن الأفعال والألفاظ ، وهما من الموجودات الحقيقية الخارجيّة ، سواء عبّر عنها بالأسباب أو الآلات ، فكما أنّ إمضاء المسبّب لا يلازم إمضاء السبب ، فكذلك إمضاء ذي الآلة لا يلازم إمضاء الآلة ، لعدم تفاوت بينهما إلّا في التعبير. وعليه فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن على كلّ تقدير ، فلو شكّ في حصول مسبّب كالملكيّة أو أمثالها من سبب خاصّ كالمعاملات مثلا ، أو بغير العربي ، أو نحو ذلك ، فمقتضى الأصل عدم حصوله ، إلّا إذا كان له سبب واحد ، فإنّ إمضاء المسبّب عند ذلك يلازم

٤١٧

إمضاء سببه لا محالة ، وإلّا لكان الإمضاء عبثا ولغوا.

والصحيح في الجواب هو عبارة عمّا ذكرناه في تعريف المعاملات بأنّها عبارة عن اعتبار المبرز باللفظ ، بمعنى أنّ حقيقة المعاملة بحسب اللب ليس إلّا أمرا اعتباريا متمركزا في عالم النفس والاعتبار ، ومجري الصيغة يبرزه للمشتري بالتلفّظ بتلك الصيغ والألفاظ في مقام التفاهم والإفهام.

فيكون البيع بحسب الحقيقة عبارة عن تبديل طرفي الإضافة بالنسبة إلى المثمن والثمن ، فتكون صيغة (بعت واشتريت) مبرزا وكاشفا عن ذلك الاعتبار النفس الأمري الذي يكون وعاؤه عالم الاعتبار والتعهّد والقرارات الداخلية ، والتلفّظ بالألفاظ إنّما هو وسيلة لإبراز ذلك الاعتبار النفس الأمري ، وإلّا فمجرّد التلفّظ باللفظ كما إذا كان بعنوان المزاح أو النسيان لا يترتّب عليه شيء من التبديل والنقل والانتقال ، نظير ما إذا تكلّم بكلمة (بعت) في مقام بيان أنّها تكون من صيغ متكلّم الوحدة من فعل الماضي.

فإذا كان البيع بحسب الواقع عبارة عن ذلك الاعتبار الثابت في نفس المعتبر والبائع فله أن يبرزه بأيّ مبرز من الألفاظ والأفعال الكاشفة عن ذلك العنوان الذي قصده البائع عند الاعتبار والتصوّر النفس الأمري ، وذلك المبرز والمكشوف بمساعدة تلك الكواشف والألفاظ والأفعال إذا كان في شأنها ، يصدق عليه ذلك العنوان النفس الأمري من البيع والإجارة والنكاح والصلح والتجارة فنأخذ به. فإذا شككنا في اعتبار أمر زائد على ذلك المقدار المسلّم فنتمسّك بالإطلاقات الواردة في المقام في عدم اشتراطه واعتباره من قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ) والتجارة عن تراض ، إذ لو كان شرطا ودخيلا في حصول الاعتبار لكان عليه البيان ، ولم يبيّن فليس بدخيل.

فتلخّص أنّه على القول بالصحّة يمكن التمسّك بالإطلاق في رفع الجزئية

٤١٨

والشرطية عند الشكّ في القيدية في باب المعاملات دون العبادات ، حسب ما تقدّم.

وبالجملة ، فإنّ الصحيح من الجواب عبارة عن أنّا إذا أغمضنا عن جميع ذلك وسلّمنا أنّ نسبة صيغ المعاملات والعقود عبارة عن نسبة الأسباب إلى مسبّباتها ، أو نسبة الآلة إلى ذيها. وأغمضنا النظر عمّا تقدّم منّا في باب المعاملات من أنّها أسام للمركّب من المبرز والمبرز خارجا فلا سبب ولا مسبّب ولا آلة ولا ذي الآلة ، كما ستأتي الإشارة إليه فيما بعد بحول الله تعالى ، فمع ذلك لا يتمّ الإشكال المزبور ، إذ هو إنّما يتمّ فيما إذا كان هناك مسبّب واحد وله أسباب عديدة ، فعند ذلك يقال : إنّ إمضاؤه لا يلازم إمضاءها جميعا ، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن لو كان ، وفي الزائد نرجع إلى أصالة عدم حصوله.

نعم لو فرضنا أنّه لم يكن بينها قدر متيقّن ، بل كانت نسبة الجميع إليه على حدّ سواء ، أمكننا أن نقول بأنّ إمضاء المسبّب إمضاء لتمام أسبابه ، إذ حكم إمضاء بعض دون بعض آخر ترجيح بلا مرجّح ، والحكم بعدم الإمضاء من الأصل مع إمضاء المسبّب على الفرض أمر غير معقول ، ولكنّه فرض قليل الوجود في نهاية الندرة جدا ، بل الحقّ أنّه غير متحقّق في الخارج. وأمّا إذا كانت المسبّبات كالأسباب متعدّدة كما هو كذلك فلا يتمّ الإشكال.

بيان ذلك : أنّ المراد بالمسبّب إمّا أن يكون هو الاعتبار النفساني كما هو مسلكنا الصحيح في باب الإنشاء ، أو يكون هو الوجود الإنشائي المتحصّل من الصيغة أو غيرها كما أنّ هذا هو مسلكهم في باب الإنشاء ، حيث إنّهم فسّروا الإنشاء بإيجاد المعنى باللفظ ، ولأجل ذلك قالوا : إنّ صيغ العقود أسباب للمعاملات من جهة أنّها لا توجد إلّا بها ، فالبيع لا يوجد إلّا بعد قولك : (بعت) وكذا غيره. أو أنّ المراد بالمسبّب هو الإمضاء العقلائي ، فإنّه مسبّب ، وفعل البائع

٤١٩

مثلا سبب ، فإذا صدر من البائع بيع يترتّب عليه إمضاء العقلاء ترتّب المسبّب على السبب.

وأمّا الإمضاء الشرعي فلا يعقل أن يكون مسبّبا ، بداهة أنّ المسبّب هو ما يتعلّق به الإمضاء من قبل الشارع المقدّس ، فلا يعقل أن يكون هو نفسه ، وإلّا لزم تعلّق الإمضاء بنفسه في مثله قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (النكاح سنّتي) وأمثال ذلك ، فإنّ المعنى عند ذلك هو أنّ الله أحلّ البيع الذي أحلّه ، وأوجب الوفاء بالعقد الذي أوجب الوفاء به ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سنّ النكاح الذي سنّه ، وهكذا.

وإن كان ربما يظهر من كلام المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره في مبحث النهي عن المعاملات هذا ، حيث قال بعد ما حكى عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحّة : «والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك إذا كان المسبّب والتسبيب لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر ، ولا يكاد يقدر عليهما إلّا فيما إذا كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة» (١).

وكيف كان فاحتمال أن يكون المسبّب هو الإمضاء الشرعي فاسد بالقوّة واليقين ، وعلى جميع التقادير المذكورة لا يتمّ إشكال عدم التلازم بين إمضاء المسبّب وإمضاء سببه.

أمّا بناء على أن يكون المسبّب عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس فلا محالة يتعدّد المسبّب بتعدّد مبرزه خارجا ، مثلا لو اعتبر زيد ملكية داره لشخص فأبرزها باللغة العربية ، واعتبر ملكيّة بستانه لآخر فأبرزها باللغة الفارسيّة ، واعتبر ملكية فرسه لثالث ، فأبرزها بالمعاطاة ، واعتبر ملكية كتابه لرابع ، فأبرزها بالكتابة ، أو الإشارة ، فهنا اعتبارات متعدّدة خارجا ، وكلّ واحد منها

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٨.

٤٢٠