دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

يباين الآخر لا محالة وإن كان الجميع صادرا من شخص واحد ، فضلا عمّا إذا صدر عن أشخاص متعدّدين ، كما إذا باع زيد فرسه بالصيغة العربيّة ، وباع عمرو داره بالصيغة الفارسيّة ، وباع ثالث كتابه بالمعاطاة ، وهكذا ، حيث لا شبهة في أنّ الاعتبار القائم بزيد المبرز في الخارج بالصيغة العربيّة يباين كلّا من الآخرين ، وهكذا كلّ واحد منها بالإضافة إلى الآخر.

وعلى ذلك فإذا فرضنا أنّ الشارع أمضى الاعتبار المبرز في الخارج باللغة الفارسية أو بالمعاطاة ، فلا جرم أمضى المعاطاة أو الصيغة الفارسية التي يعبّر عنها بالسبب ، وإلّا لكان إمضاؤه بدون إمضائها لغوا محضا ، بداهة أنّه لا معنى لأن يمضي الشارع الملكية المبرزة بالمعاطاة ولا يمضي نفس المعاطاة ، ويمضي الملكيّة المظهرة بالعقد الفارسي ولا يمضي نفس هذا العقد وهكذا ، فإنّ معنى عدم إمضاء الشارع هذا لسبب عدم حصول الملكيّة به خارجا ، وهذا مناقض لحصولها به وإمضاء الشارع إيّاها كما لا يخفى.

وأمّا بناء على أن يكون المسبّب عبارة عن الوجود الإنشائي الحاصل بالتلفّظ بصيغ العقود كصيغة (بعت) و (أنكحت) و (أجبرت) وأمثالها يتحقّق المسبّب خارجا ، فلو قال زيد ـ مثلا ـ : بعت داري ، ثمّ قال : بعت بستاني ، ثمّ قال : بعت فرسي ، وهكذا ، يتحقّق بكلّ واحد من هذه الصيغ والأسباب الوجود الإنشائي الذي يعبّر عنه بالمسبّب على مسلك القوم ، فكما أنّ لكلّ صيغة وجودا ، فكذلك لكلّ منشأ وجودا إنشائيا بوجود سببه ، فلا يعقل انفكاك المنشأ عن الإنشاء والسبب ، ولا سيّما فيما إذا كانت الأسباب مختلفة الحقائق ، كالعربية والعجمية وغيرهما.

وفي الجملة فالتلفّظ بالصيغة يوجب وجودا إنشائيا للبيع على مذهبهم ، فلا يتصوّر انفكاكه عنه ، وعليه فإمضاء الوجود الإنشائي والتنزيلي إمضاء

٤٢١

لسببه ، فلا يعقل تعلّق الإمضاء بأحدهما دون الآخر كما تقدّم توضيحه.

وأمّا لو كان المراد من المسبّب إمضاء العقلاء ، فالأمر فيه أوضح من الأوّلين ، ضرورة أنّ العقلاء يمضون كلّ بيع صادر من البائع إذا كان واجدا للشرائط بأن يكون صادرا من أهله ووقع في محلّه ـ مثلا ـ لبيع زيد كتابه إمضاء عقلائي ، ولبيع زيد داره إمضاء عقلائي آخر ، ولبيع زيد فرسه إمضاء ثالث ، وهكذا. وليس إمضاؤهم متعلّقا بطبيعي البيع ، فإنّه لا أثر له ، والآثار إنّما تترتّب على آحاد البيع الصادرة عن آحاد الناس ، ومن البديهي الواضح أنّ العقلاء إنّما يمضون تلك الآحاد المترتّبة عليها الآثار ، وليس إمضاء أحدها عين إمضاء الآخر ، بل لكلّ واحد منها إمضاء على حده واستقلال ، كما هو مقتضى كون البيع سببا لإمضاء عقلائي.

وكيف كان فلا ريب في أنّ لكلّ بيع من البيوع الموجودة في الخارج إمضاء عقلائيا يباين إمضاء عقلائيا آخر ، وهكذا ، سواء كانت البيوع صادرة من شخص واحد ، أو من أشخاص متعدّدة.

وعليه فإذا كان لدليل الإمضاء إطلاق قد دلّ بإطلاقه على نفوذ كلّ إمضاء عقلائي فلا محالة دلّ بالالتزام على إمضاء كلّ سبب يتسبّب إليه ، وإلّا فلا يعقل إمضاؤه بدون إمضائه ، فإنّه نقض للغرض كما لا يخفى.

فالنتيجة الحاصلة من تمام ما ذكر في المقام أنّ الإيراد المزبور إنّما يتمّ فيما إذا كان هناك مسبّب واحد وله أسباب عديدة ، ولكن قد عرفت أنّه لا أصل له على جميع المسالك في تفسير المسبّب ، ولا يعقل أن يكون لمسبّب واحد أسباب متعدّدة على الجميع ، بل لكلّ سبب مسبّب ، فإمضاؤه بعينه إمضاء لسببه.

هذا كلّه بناء على مسلك القوم في باب المعاملات.

والتحقيق أنّ كون صيغ العقود أسبابا أو آلة ، كلّ ذلك لا يرجع إلى مفهوم

٤٢٢

مقبول ومعنى صحيح ، وذلك لما حقّقناه سابقا من أنّ المشهور من أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ باطل ، إذ أنّهم إن أرادوا به الإيجاد التكويني الحقيقي الخارجي فهو أمر غير معقول ، لوضوح عدم كون اللفظ واقعا في سلسلة علل وجوده وأسبابه ، وإن أرادوا بذلك الإيجاد الجعلي الاعتباري فمردود أيضا ، لأنّه يوجد بنفس اعتبار المعتبر بلا احتياج إلى التلفّظ بالألفاظ وعدمه ، لأنّ اللفظ لا يكون سببا لإيجاده ولا آلة له ، فيكون اللفظ من هذه الجهة خارجا عن محلّ الاحتياج والابتلاء من أصله. كيف وإنّ الأمر الاعتباري لا واقع له إلّا اعتبار الجاعل والمعتبر في وعاء افق النفس ، وأمّا الخارج عنه من اللفظ والكتابة والإشارة والفعل فأجنبيّ عنه بالكلّية من المعنى والواقع ، وأنّها مبرزات عن ذلك الاعتبار والجعل.

نعم إبراز ذلك الأمر الاعتباري وإظهاره في الخارج عند التفهيم والإفهام يحتاج إلى مبرز ، وذلك المبرز ربّما يكون هو اللفظ ـ بل الغالب يكون هو اللفظ ـ وقد يكون إشارة ، وقد يكون كتابة ، وقد يكون فعلا.

ومن هنا ذكرنا في بحث المعاملات أنّها أسام للمركّب من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه باللفظ أو نحوه في الخارج ، فإنّ الآثار المترقّبة منها لا تترتّب إلّا على المركّب من الأمرين ، فالبيع والإيجار والصلح والنكاح وأمثالها لا تصدق على مجرّد الاعتبار النفساني من دون إبرازه في الخارج بمبرز ما ، فلو اعتبر أحد ملكيّة داره لزيد أو ملكيّة فرسه لعمرو من دون أن يبرزها في الخارج باللفظ أو ما شاكله ، فلا يصدق أنّه باع داره من زيد ، أو سيارته أو فرسه من عمرو.

كما لا تصدق هذه العناوين على مجرّد إطلاق اللفظ أو نحوه بلا اعتبار نفساني ، كما إذا كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الإيقاعات ، أو كان التكلّم بها بداع آخر غير الدلالة والإبراز لما في افق النفس من الاعتبار والقرار من الامور

٤٢٣

الاعتبارية ، فلو قال أحد : بعت ، أو زوّجت ، أو آجرت ، أو أنكحت وأمثال ذلك من دون اعتبار نفساني ، فلا يصدق عليه عنوان البيع أو النكاح والزوجيّة والتزويج ، إلى آخر تلك العناوين الاعتبارية.

فبما ذكرناه في المقام انقدح أنّه لا سبب ولا مسبّب في باب المعاملات ، ولا آلة وذي الآلة ليشكل أنّ إمضاء أحدهما لا يلازم إمضاء الآخر ، بل المعاملات بعناوينها الخاصّة من البيع والهبة وما شاكلها أسام للمركّب من الأمرين ، فلا يصدق على كلّ واحد منهما بالخصوص كما عرفت ، والمفروض أنّها بهذه العناوين مأخوذة في أدلّة الإمضاء كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : النكاح سنّتي ، الصلح جائز ، وهكذا إلى آخر العقود والإيقاعات ، فالأدلّة لها دلالة على إمضائها بتلك العناوين.

وعلى هذا التقريب فكلّما صدقت هذه العناوين عرفا عند العقلاء وشكّ في اشتراط أمر زائد عليها شرعا جزءا أو شرطا ، فلا مانع من التمسّك بإطلاقها ، وبالتمسّك بذلك الإطلاق نثبت عدم اشتراطه واعتباره.

كما انقدح ممّا أوضحناه لك في المقام أنّ ما يسمّى بالمسبّب ليس إلّا عبارة عن الأمر الاعتباري النفساني القائم بنفس المعتبر في حدّ ذاته بالمباشرة ، من دون الاحتياج إلى شيء آخر من السبب والآلة ، إلّا في الإبراز والإظهار ، وبيان ذلك الاعتبار النفساني.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام أنّه لا فرق في جواز التمسّك بإطلاق ما ورد في بيان تلك العناوين المتقدّمة من أدلّة الإمضاء من الآيات والروايات بين أن تكون المعاملات أسامي للأعمّ أو للصحيح ، إذ على الأوّل فواضح.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ الصحّة عند العرف والمحاورة العقلائية أعمّ منها عند الشارع ، إذ ربّ معاملة تكون مقبولة وموردا لإمضاء العقلاء ، ولا تكون مقبولة

٤٢٤

وموردا للإمضاء عند الشارع ، كالمعاملات غير المشروعة ، نظير المعاملة الربوية.

فعلى هذا التقريب لو شككنا في صحّة معاملة من قبل الشرع لاحتمال دخالة شيء فيها من الجزء والشرط زائدا على ما هو المعتبر عند العرف ، والمفروض صدق عنوان المعاملة عليها عند العرف ، فلا مانع من التمسّك بإطلاق الأدلّة في إثبات صحّتها عند الشرع ، لأنّ الصحّة الشرعيّة غير معقولة أخذها في المفهوم والمسمّى ، وفي موضوع أدلّة الإمضاء ، حتّى يكون مفاد قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) أنّه تعالى أحلّ واعتبر وأمضى البيع الذي أحلّه وأقرّه واعتبره وأمضاه.

نعم أخذ الصحّة في الموضوع له أمر ممكن معقول عند العقلاء في المعاملات ، إذ يصحّ أن يقال إنّ البيع مثلا اسم للاعتبار المبرز في الخارج الممضى عند العقلاء ، لا للأعمّ منه ومن أن لا يكون ممضى عندهم ، فإنّ الأمر الاعتباري إذا كان واجدا للشرائط ـ كما إذا كان صادرا ممّن له الرشد والعقل والبلوغ مثلا ـ فلا محالة يكون موردا لقبولهم وإمضائهم. وإذا كان فاقدا لها ـ مثل ما إذا صدرت من الصبي الغير المميّز ، أو السفيه والمجنون أو الفضولي وأمثال ذلك ـ فلا يكون موردا للإمضاء عندهم.

وعلى هذا التقريب إذا شككنا في اعتبار أمر زائد على ما أمضاه العقلاء ـ كاعتبار اللفظ مثلا ، أو العربية ، أو أنّها ليست بمعتبرة ، بل يكفي إبرازها باللغة الفارسيّة وأمثال ذلك ـ فلا مانع من التمسّك بإطلاق أدلّة الإمضاء لإثبات عدم اعتباره ، إذ الشكّ عندئذ إنّما يكون في اعتبار أمر زائد على ما يصدق عليه العنوان واللفظ عند أهل العرف في تلك المعاملة.

ولأجل ذلك تمتاز المعاملات عن العبادات بذلك الامتياز المقبول ، إذ العبادات بما أنّها ماهيات غير عرفيّة فلا يد للعرف والعقلاء فيها ، لأنّها امور

٤٢٥

تعبّدية ويكون أمر اختراعها وجعلها منحصرا بيد الشارع المقدّس ، فلو كانت في نظر الشارع في لوح التسمية والاختراع والوضع موضوعة لخصوص الصحيحة فلا يبقى لنا مجال للتمسّك بإطلاق أدلّتها ، لأنّ الشكّ في اعتبار شيء فيها جزءا أو شرطا يكون مرجعه إلى الشكّ في صدق العنوان واللفظ على المأتيّ به الفاقد لذلك الشيء المشكوك فيه ، لاحتمال دخالته في ذات المسمّى والموضوع له في حاقّ الواقع.

وهذا بخلاف المعاملات ، فإنّها حيث كانت ماهيّات مخترعة من قبل العرف والعقلاء بحسب الجبلّة والفطرة في مسير تمشية نظام الحياة الماديّة وفي تأمين الاقتصاد الإنساني في اجتماع البشريّة في أقطار العالم من لدن آدم إلى يوم القيامة ، فلو كانت أسامي للصحيحة لم يكن مانع من التمسّك بالإطلاق ، إذ الصحيح عند العرف والعقلاء أعمّ من حيث المورد من الصحيح عند الشارع المقدّس ، كما تقدّم لك توضيح ذلك.

وقد انقدح لك من جميع ما ذكرناه وجه الافتراق بين البابين ونقطة الامتياز فيهما من حيث جواز التمسّك بالإطلاق في باب المعاملات ، حتّى على القول بكونها موضوعة للصحيحة منها ، وعدم جوازه في باب المعاملات إن كانت كذلك ، لأنّ الصحّة حسب ما تقدّم تكون على قسمين ، إذ الصحّة التي هي محلّ البحث في المعاملات صحّة عقلائيّة تكون أعمّ من حيث المورد من الصحّة التي تكون محلّ البحث في العبادات عند الشارع المقدّس ، كما عرفت.

وفي الختام فقد انقدح لك من جميع ما ذكرناه وجه افتراق البابين من حيث جواز التمسّك بالإطلاق في المعاملات دون العبادات.

نعم هنا ثمرة تظهر بين القولين في المعاملات أيضا ، وهي عبارة عمّا إذا شكّ في اعتبار أمر عرفي فيها عند العقلاء من حيث الجزئيّة أو الشرطية ، كما إذا شكّ

٤٢٦

في اعتبار الماليّة في البيع ، حسب ما يقتضيه ظاهر تعريف البيع في كتاب مصباح اللغة ، أو في اعتبار شيء آخر عندهم. فعند من يقول بأنّها وضعت للصحيحة لا يجوز التمسّك بالإطلاق ، لاحتمال دخل الماليّة في صدق البيع ، كما إذا باع الذباب ، أو الخنفساء ، أو البعوضة والبقّة ، أو حبّة من الحنطة ، أو قطرة من البحر ، أو مثقالا من التراب وأمثال ذلك ممّا لا مالية لها في مثل بلادنا عند العقلاء ، فنشكّ في صدق البيع على تلك الامور ، ومع ذلك الشكّ لا مجال لنا للتمسّك بالإطلاق ، بخلاف القول بالأعمّ ، فإنّ من يقول به فله المجال من التمسّك بالإطلاق حتّى في هذه الموارد كما لا يخفى.

وقد انتهى الكلام إلى المقام الثاني ، فلا يذهب عليك أنّ حكمه صار واضحا ممّا ذكرناه مفصّلا في المقام الأوّل.

وإجماله أنّك قد عرفت عدم تعقّلنا معنى صحيحا للأسباب والمسبّبات ، كالعلّة والمعلول ، والمسبّب والأسباب التكوينية في باب المعاملات على نحو الإيجاد والوجود أو الإنشاء والمنشأ ، إلّا الاعتبار النفساني القائم بوجود البائع والمعتبر الذي يكون هو المباشر والمتصدّي للبيع ، ومن الواضحات أنّ هذا السنخ من المسبّب بهذا المفهوم من المعنى قابل للاتصاف بالصحّة والفساد ، إذ الاعتبار إذا كان من أهله وفي محلّه.

مثل ما إذا صدر البيع من البائع العاقل المميّز الرشيد بالنسبة إلى شيء متّصف بالماليّة عند العقلاء ، فلا جرم أنّ ذلك الاعتبار يتّصف بالصحّة ، كما أنّ ضدّه لا محالة يتّصف بالفساد عند العرف والعقلاء ، لأنّ الاعتبار إذا صدر من أهله ووقع في محلّه كما إذا باع عاقل رشيد ما له ماليّة من أمواله لمن يكون قابلا للتملّك. فلا ينبغي الريب في أنّ مثل هذا السنخ من البيع والاعتبار يتّصف بالصحّة عند العقلاء ، كما أنّ ضدّه يتّصف بالفساد عندهم كذلك.

٤٢٧

نعم هنا نقطة افتراق في الشرع والعقل فيما إذا كان مباشر البيع هو الصبي المميّز ، فإنّ مثل هذا البيع والاعتبار يتّصف بالصحّة عند العقلاء دون الشرع المقدّس.

وبعبارة اخرى : فإنّه كما أنّ الصيغة تتّصف بالصحّة والفساد ، فيقال : باع بالصيغة العربيّة الصحيحة ، وبالعكس يقال : إنّه باع بغير الصيغة العربيّة الصحيحة ، فكذلك الاعتبار ، إذ يصحّ أن يقال : إنّ هذا البيع لا اعتبار به ، لأنّه صدر من غير العاقل ، ويصحّ أن يقال : إنّ هذا بيع معتبر صحيح لصدوره من المالك العاقل الرشيد المميّز الملتفت القاصد.

فعلى هذا التقريب انقدح أنّه لا أساس ولا أصل لما أفادوا من أنّ المعاملات إذا كانت أسامي للمسبّبات لم تتّصف بالصحّة والفساد ، بل هي عند ذلك إمّا موجودة أو معدومة. فإنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان المسبّب عبارة عن إمضاء الشرع ، إذ من الواضح أنّه غير قابل للاتّصاف بالصحّة والفساد ، بل هو أمر دائر بين التحقّق وعدمه. وكذا إذا كان عبارة عن إمضاء العقلاء ، فإنّه أيضا لا يقبل الاتّصاف بهما ، بل هو إمّا موجود أو معدوم.

ولكن قد عرفت أنّ المسبّب هنا ليس بإمضاء شرعي أو عقلائي بالقطع واليقين ، إذ من الواضح الضروري أنّ المعاملات من العقود والإيقاعات أسام للأفعال الصادرة من آحاد بني الإنسان في مقام المعاملة ، فالبيع مثلا اسم وموضوع للفعل الصادر عن البائع ، والنكاح اسم للفعل الصادر عن الناكح ، والهبة اسم موضوع للفعل الصادر عن الواهب ، إلى غير ذلك من العقود والإيقاعات ، ومن البديهي أنّها أجنبية عن مرحلة الإمضاء من الأصل والأساس.

نعم ، ربما تقع موردا للإمضاء إذا كانت واجدة للشرائط من ناحية الاعتبار أو مبرزه ، وقد لا تكون موردا له إن كانت فاقدة لها كذلك.

٤٢٨

فصار المتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام أنّه لا مانع من جريان النزاع في المسبّب بذلك التعبير والتفسير من هذه الجهة ، ولكنّه خارج عن محلّ النزاع من ناحية اخرى ، وهي عبارة عن أنّ اسم البيع وعنوانه وأشكاله لا تنطبق عليه عرفا من دون إبرازه في الخارج بمبرز حتّى على القول بكونها أسامي للأعمّ ، فمن هنا يعلم لا محالة أنّ البيع وأمثاله موضوع للمركّب من الاعتبار ، وإبرازه إمّا على نحو الإطلاق ، أو فيما أمضاه العرف عند العقلاء من أهل المحاورة.

فصار المتلخّص من جميع ما بحثناه في أبواب العقود والمعاملات امور لا بدّ من الإشارة إليها من باب أخذ النتيجة :

الأوّل : أنّ المعاملات ليست من المخترعات الشرعيّة ، بل هي امور عرفية عقلائيّة من ابتداء تشكيل التمدّن والارتباطات الاجتماعية الإنسانية في نظام تأمين اقتصاد البشرية.

الثاني : جواز التمسّك بالإطلاقات في باب العقود والمعاملات مطلقا حتّى على القول بكونها أسامي للصحيحة.

الثالث : أنّ الصحّة المأخوذة في مسمّى المعاملات على القول بها عبارة عن الصحّة عند العقلاء دون الشارع كما علمت.

الرابع : أنّ المعلولات والمسبّبات في العقود والمعاملات عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس بالمباشرة لا بالتسبيب والآلة والإيجاب والصيغة ، إذ قد عرفت أنّ باب السببيّة والمسبّبية بمعناها المتعارف مسدود فيها غير متصوّر من الأصل والأساس.

الخامس : أنّ العقود والمعاملات ـ بما لها من الأسامي كالبيع والإجارة والنكاح والهبة والصلح وأمثالها بعناوينها الخاصّة ـ موضوع وأسام للمركّب من الاعتبار وإبرازه في الخارج ، فلا يصدق على كلّ منهما منفردا عن

٤٢٩

الآخر بالخصوص.

هذا تمام الكلام بعون الملك العلّام في الصحيح والأعمّ.

تذييل حول أجزاء المركّب وشرائطه

وقد بقي الكلام في بيان كيفيّة مقارنات الواجب المركّب ، ولنمثّل لك بمقارنات الصلاة من حيث دخالتها في ملاك وجوب الصلاة وعدمها. فلا يخفى عليك أنّ بعض المقارنات لا مدخليّة لها في ملاك الصلاة بوجه من الوجوه ، حتّى تكون الصلاة المقرونة بها أفضل ملاكا بالنسبة إلى الصلاة التي ليست مقرونة بها ، وذلك مثل إتيان الصلاة في حال نزول المطر ، إذ لا شكّ أنّ نزول المطر لا ربط له بالصلاة حتّى يصير علّة لأفضليّة ملاك الصلاة التي أتى بها المصلّي في حال نزوله بالنسبة إلى الصلاة التي لا يؤتى بها في حال انقطاع المطر.

كما لا شكّ في عدم مدخليّة الصدقة في ملاك الصلاة من حيث الوجوب والندب ، فالمصلّي إذا تصدّق في أثناء الصلاة ـ كما تصدّق أمير المؤمنين عليه‌السلام في الصلاة حال الركوع على الفقراء ـ وإن عمل عملا مندوبا حسنا ، لأنّ الصدقة مستحبّة في أثناء الصلاة ، ولكن استحبابها في أثنائها لا يصير موجبا لأفضليّتها من حيث الملاك حتّى يقال : إنّ الصلاة المقرونة بالصدقة تكون أفضل من الصلاة غير المقرونة بها ، لأنّ الصلاة التي وقعت الصدقة فيها ليست إلّا ظرفا للصدقة ، كالصوم الذي يكون في شهر رمضان ظرفا لتلك الأدعية الليلية والنهارية التي ورد أمر استحبابي بها في أثناء الصوم في طول النهار ، فإنّ قراءتها وإن كانت من المستحبّات الأكيدة في طول الليل والنهار ، ولكن ليس لها دخل في زيادة ملاك الصلاة الذي صار ظرفا لقراءة تلك الأدعية الكثيرة بالنسبة إلى الصوم الذي لم يكن مقرونا بشيء من تلك الأدعية ، كصوم راعي الغنم الذي ليس له اطّلاع

٤٣٠

على تلك الدعوات.

وأمّا اقتران الصلاة وتلبّسها بالمسجد والجماعة كصلاة المصلّي في المسجد جماعة ، أو منفردا ، أو غيرهما من الامور المندوبة وإن كان لها مدخلية في اتّصاف الصلاة التي وقعت في المسجد جماعة بالأفضلية بالنسبة إلى غيرها من الصلوات العارية عن المسجد والجماعة ، أو أحدهما ، كالصلاة المأتيّ بها في البيت والحديقة والحمّام أو المدرسة ، لأنّ هذه الامور ليست كالأوّلين اللذين لا دخل لهما في الصلاة بوجه من الوجوه على ما تقدّم ، بل هذه الامور لها مدخلية في استحباب الصلاة.

فتكون الصلاة المقرونة بها مستحبّة من هذه الحيثية ، ولكنّها مع ذلك كالأوّل لا مدخليّة لها في الملاك والفرض الوجوبي الذي يكون هو الباعث لوجوب الصلاة ، بل لمجرّد اتّصاف الصلاة بالأفضلية بالنسبة إلى الصلاة الخالية عن هذه الخصوصيّة ، كالصلاة التي لم تقع في المسجد والجماعة.

بمعنى أنّ الصلاة التي أتى بها المصلّي في غير المسجد من الأمكنة المباحة ، والصلاة ، التي أتى بها المصلّي في المسجد والجماعة وإن كانتا متّحدتين من حيث ملاك الوجوب بلا أيّ وجه فرق بينهما من جهة الملاك الوجوبي لوجوب كلّ منهما بملاك واحد وغرض فارد مشترك بينهما ، إذ قد عرفت أنّه ليس للمسجديّة من الأصل والأساس دخل في الملاك والوجوب حتّى تكون الصلاة الواقعة في غير المسجد بلا ملاك ، ولكنّها مع ذلك كلّه إذا أتى بها المصلّي في المسجد وحده أو مع الجماعة أيضا تتّصف بالأفضلية الاقترانيّة بالنسبة إلى الصلاة غير المقترنة بهذه الخصوصيّة ، لما ورد في ذلك من روايات لا تعدّ ولا تحصى.

فتكون الصلاة الفاقدة لهذه الجهة مفضولة بالنسبة إلى الواجدة لها ، إلّا أنّ ذلك غير مربوط بملاك الوجوب وتساويهما من حيث الاشتراك فيه ، أي

٤٣١

في ملاك الوجوب.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى مقارنات الصلوات من حيث الأجزاء والشرائط كالقيام ، والنيّة ، والتكبيرة ، والقراءة ، والركوع ، والسجود ، والتشهّد ، والسلام إلى آخر بقيّة الأجزاء والشرائط ، كالطهور ، والقبلة ، والوقت. فلا يذهب عليك أنّ لهما دخل في ملاك وجوب الصلاة من دون وجه فرق بينهما ، فكما أنّ للأجزاء مدخليّة في ملاك وجوب الصلاة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى دخالة الشرائط في ملاك الوجوب فيها. فالشروط التي تكون الصلاة متقيّدة بها كالأجزاء دخيلة في ملاك الوجوب لها ، بلا وجه فرق بينهما من هذه الجهة.

نعم بينهما فرق في كيفيّة الدخالة ، لأنّها ـ أي الأجزاء ـ قيدا أو تقيّدا مأخوذة في المركّب ، بخلاف الشروط فإنّها تقيّدا دخيلة في الصحّة ، وقيدا خارجة عنها.

والحاصل : لا شكّ في مدخليّة الأجزاء والشرائط كليهما قيدا في الأوّل وتقيّدا في الثاني في الصلاة في ملاك وجوبها وجودا وعدما ، بحيث يدور وجوب الصلاة مدار تحقّقهما فيها وجودا وعدما ، بل صدق الصلاة حقيقة يدور مدارها لا سيّما بالنسبة إلى الأجزاء ، لأنّ الصلاة في وعاء الواقع ونفس الأمر ليست إلّا ما تقدّم من تلك الأجزاء المذكورة.

فعلى ضوء هذا البيان لا يبقى شكّ لأحد في أنّ الإخلال بها في الجملة موجب لبطلانها.

كما لا ينبغي التشكيك لأحد في جريان نزاع الصحيح والأعمّ بالنسبة إلى الشرائط كالأجزاء ، لأنّه على مسلك الصحيحي تكون الصلاة موضوعا واسما للصلاة التي تكون واجدة لجميع الأجزاء والشرائط ، بخلاف الأعمّي فإنّه يقول : إنّ الصلاة إنّما تكون اسما للأعمّ من الواجد والفاقد لبعض الأجزاء والشرائط.

وعلى كلّ حال لا بأس بالإشارة إلى بيان معنى الجزئيّة والشرطية.

٤٣٢

أمّا الجزئية فعبارة عن أخذ الشيء قيدا في المركّب ، كأخذ تلك الأجزاء المتقدّمة في حقيقة الصلاة.

وبعبارة اخرى : إنّ أجزاء الصلاة عبارة عن أخذ عدّة امور فيها بالتركيب والتأليف ـ كالقيام ، والنيّة ، والتكبيرة ، والقنوت ، والركوع ، والسجود ، والتشهّد والسلام ـ قيدا في الصلاة ، لأنّ المركّب الذي تعلّق أمر المولى به من الصلاة ليست إلّا نفس هذه الأجزاء ، ولكن مقيّدا بتقدّم بعضها على البعض الآخر مع ملاحظة الترتيب في إتيان كلّ واحد بعد الأوّل وقبل الآخر. فالقراءة جزء للصلاة بشرط تقدّمها على الركوع وتأخّرها عن التكبيرة ، وهكذا الركوع بالنسبة إلى التشهّد ، والتشهّد بالنسبة إلى السلام والسجود. والحاصل أنّه من تعلّق أمر الشارع بالصلاة المركّبة التي تركّبت من هذه الأجزاء والامور المتقدّمة ينتزع جزئية تلك الامور للصلاة ، فيقال : إنّ القيام والنيّة والقراءة والركوع والسجود والتشهّد والسلام أجزاء للصلاة.

فإذا كانت بحسب التحليل حقيقة الصلاة نفس هذه الأجزاء ، فلا شكّ يبقى لأحد في أنّ الأمر بالصلاة بعينه أمر بنفس هذه الامور من تلك الأجزاء المتقدّمة ، ولكن لا على نحو الاستقلال ، بل على نحو الارتباط.

فصار المتحصّل أنّ الجزئية إنّما تنتزع من أمر المولى بالمركّب ، مثل ما إذا قال : صلّ بالقيام والنيّة والقراءة والركوع والسجود والتشهّد والسلام ، إذا المكلّف بعد إحراز تعلّق أمر المولى بالصلاة التي تتركّب من الامور المذكورة ينتزع جزئيّة كلّ واحد من تلك الامور للصلاة ، فيقول : إنّ القيام جزء للصلاة ، وهكذا إلى آخر الأجزاء. وعلى ضوء هذا البيان فلا محالة أنّ الأمر بالمركّب ليس إلّا الأمر بنفس تلك الأجزاء على نحو التقييد والارتباط على نحو وجوب النفسي لا الغير المقدّمي.

٤٣٣

بخلاف أخذ الشروط فيها كاستقبال القبلة ، ودخول الوقت ، وطهارة البدن واللباس ، وستر العورة ، والطهارة من الحدث الأصغر والأكبر وأمثال ذلك من بقيّة الشروط التي تقيّدت بها الصلاة في الشرع المقدّس ، فإنّها غير مأخوذة فيها بعنوان القيد حتّى تكون متّحدة معها من حيث الوجود والإتيان ، بأن يكون المكلّف مأمورا بها في ضمن إتيان المركّب كالأجزاء ؛ إذ لا شكّ أنّ التوجّه إلى القبلة ليست بصلاة ، كما أنّ غسل الوجه واليدين بعنوان الوضوء ليس بصلاة في شيء ، بل وجود الصلاة التي هي متألّفة من تلك الأجزاء يكون مباينا لوجود الشرائط في عالم العين والتحقّق ، على حدّ لو اغتسل المكلّف في أثناء الصلاة تبطل صلاته ، وهكذا إذا توضّأ في أثناء الصلاة ، فيكون بين الصلاة وذات الشروط الخارجية من تباين على حدّ من الوضوح كالشمس في رابعة النهار.

فتكون الشروط بعنوان القيد متباينة مع الصلاة لا يمكن اجتماعهما ، ولكن الشارع مع ذلك كلّه اعتبر صحّة الصلاة متقيّدة بها ، بحيث لو أتى المصلّي بصلاة غير متقيّدة بالطهارة من الوضوء أو الغسل فلا محالة تكون باطلة وغير صحيحة ، فالصلاة لا بدّ من أن تكون مسبوقة بالطهارة والوقت والقبلة والستر من حيث التقيّد في نظر الشارع المقدّس.

فعلى هذا فصلاة بالقطع واليقين من حيث الصحّة متقيّدة بتلك الشروط ، ولكن بعضها تكون تحت اختيار المصلّي ، كالوضوء والغسل وستر العورة ، وبعضها الآخر خارجة عن تحت اختيار المكلّف كالوقت والقبلة.

فتحصّل أنّ هذه الشروط دخيلة في الصحّة على نحو التقيّد في نظر الشارع ، ولكن ذات القيد غير داخلة في حقيقة الصلاة بخلاف الأجزاء ، فإنّها بذاتها وبحقيقتها في الخارج تجتمع مع الصلاة ، بل الصلاة في الخارج عند الامتثال ليست إلّا عبارة عن تلك الأجزاء التي تركّبت الصلاة منها ولأجل ذلك يقولون

٤٣٤

في الشروط : تقيّد جزء وقيد خارج ، بل هذا الذي ذكرناه في المقام من المسلّمات ، إذ كيف يمكن أخذ ذات الشروط في حقيقة الصلاة ، وقد تقدّم أنّ بعض الشروط خارج عن اختيار المكلّف كالوقت.

وبالجملة ، فإنّ الشرائط بلا فرق بين المقارنة منها أو السابقة والمتأخّرة عنها غير مأخوذة بذاتها في الصلاة المتركّبة من تلك الأجزاء المعروفة المأمور بها بعنوان القيدية ، كقيديّة الأجزاء من المركّب منها بالقطع واليقين ، بل المأخوذة منها ليست إلّا التقيّد في مرحلة الصحّة ، فيجب على المكلّف إتيانها فيما يمكن الإتيان قبل إتيان الصلاة ، ثمّ بعد إتيانها يأتي بالصلاة ، لتكون الصلاة متّصفة بالصحّة عند الامتثال.

فإذا علمت ما ذكرناه في المقام من الفرق بين الأجزاء والشرائط ، بأنّ الشرائط غير دخيلة في ذات المركّب ، بخلاف الأجزاء فإنّها داخلة في تشكّل المركّب بذاتها ، وأنّ المركّب ليس إلّا تلك الأجزاء في عالم الخارج ؛ فاعلم أنّ بعض الأصحاب ذهب إلى أنّ نزاع الصحيحي والأعمّي مختصّ بخصوص الأجزاء ، وغير جار في الشرائط ، لأنّ الأجزاء تكون بمنزلة المقتضي في تكوّن المركّب. بخلاف الشرائط ، فإنّها غير داخلة في قوام المركّب والمشروط ، بل هي خارجة عن المشروط بحسب الحقيقة ، وإنّما لها تأثير في اتّصاف المقتضي بالصحّة فقط ، كتأثير يبوسة محلّ الإحراق في فعليّة الإحراق ، فبما أنّ الشرط من حيث الرتبة متأخّر عن المقتضي ، كيف يعقل أخذه في المركّب في رتبة المقتضي كالأجزاء ؟ !.

فعلى هذا قد انقدح أنّ نسبة الأجزاء إلى الصلاة عبارة عن نسبة المقتضي إلى المقتضى ، بخلاف الشرائط فإنّها دخيلة في اتّصاف المقتضى بالصحّة في المرحلة المتأخّرة ، فإذا كانت رتبتها متأخّرة فكيف يمكن أخذها في مرحلة

٤٣٥

التسمية المتقدّمة. فإذن لا يمكن أخذ المتأخّر في رتبة المتقدّم في الوضع والتسمية ، وعلى ضوء هذا البيان أصبح نزاع الصحيحي والأعمّي مختصّا بالأجزاء دون الشرائط.

ولكنّ الحقّ أنّ بطلان هذا الإشكال لا يحتاج إلى البحث والمقال ؛ لأنّ باب الوضع والتسمية سهل التناول ، فإنّه من الامور الاعتباريّة ، فبما أنّه بتلك المثابة من السهولة ، فللواضع الذي يكون تحت اختياره الاعتبار والجعل أن يعتبر المتقدّم في رتبة المتأخّر وبالعكس ، فإذن يصبح النزاع جاريا في كلّ من الأجزاء والشرائط من دون أن يكون امتياز في البين.

هذا تمام الكلام في الصحيح والأعمّ وبيان الثمرة من التمسّك بالإطلاق في الثاني دون الأوّل.

نعم هنا ثمرة اخرى ذكرناها في الدورة السابقة وهي عبارة عن الحكم بصحّة صلاة الرجل الذي وقف في مكان واحد محاذيا للمرأة المصلّية في حال الصلاة ، وذلك من جهة أنّه إذا استفدنا من الروايات الناهية عن تلك المحاذاة الحرمة ، فلا شكّ أنّ صلاة المرأة إذا كانت باطلة من ناحية اخرى غير تلك المحاذاة ، مثل ما إذا كانت صلاتها باطلة من جهة عدم الستر ، كما أنّ ذلك كثيرا ما يتّفق في الرواقات الشريفة ، فمن الواضحات أنّ صلاة الرجل حينئذ صحيحة ، إذ عند بطلان صلاة المرأة فلا صلاة لها حتّى يكون الرجل منهيّا الصلاة في محاذاتها ، فتكون صلاة الرجل صحيحة غير باطلة. بخلاف مسلك الأعمّي ، فإنّ الصلاة عنده صادقة على صلاة المرأة وإن كانت باطلة ، فالنهي على المحاذاة في حال الصلاة يبقى بحاله ، فبما أنّ النهي في العبادات موجب للفساد فتكون صلاة الرجل باطلة إذا كنّا استفدنا من هذه الروايات التحريم وإلّا فلا.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالصحيح والأعمّ.

٤٣٦

الاشتراك

وقد انتهى كلامنا إلى بيان كيفية الاشتراك من حيث الوجوب والاستحالة والإمكان والوقوع ، وقد وقع الكلام فيه من جهات :

أمّا الكلام في الجهة الاولى فهو عبارة عن ذهاب بعض الأصحاب إلى جواز الاشتراك في اللغات واللغة العربية ، بتقريب أنّ المعاني لمّا كانت غير متناهية والألفاظ قليلة محدودة ومتناهية ، فلا مناص في الوصول إلى تفهيم تلك المعاني في مقام المخاطبة والتفاهم عن طريق الألفاظ إلّا بمساعدة الاشتراك في اللغة عند الاحتياج. فبهذا التقريب عرفت الوجوب ولابدّية الوضع بعنوان الاشتراك في اللغة بالنسبة إلى واضع اللغات.

وبالجملة ، فقد استدلّ له بأنّ المعاني لمّا كانت غير متناهية ، وأنّ الألفاظ معدودة ومتناهية ، لم تكن كافية في إراءة المعاني في مقام الدلالة والاحتياج ، فلا بدّ من الالتزام بوجوب الاشتراك في الوضع ، حتّى تكون الألفاظ كافية لإراءة المعاني من حيث الدلالة في مقام التفهيم والتفهّم للوصول إلى المقاصد المطلوبة الدخيلة في نظام المعاش والحياة والمعاد ـ من الامور الماديّة والمعنوية في الأبعاد النظامية والانتظامية والاقتصادية والسياسيّة والعباديّة ، من الأزمنة والأمكنة والمأكل والمشرب ، والملبس والمسكن ، والمركب ، والسماوات والأرضين والكواكب ، والنجوم ، والأفلاك ، والبرّ والبحر ، والأغنام والأحشام ، والدوابّ والوحوش ، والطيور ، والأدوات اللازمة في البيوت ، والخانات ،

٤٣٧

والسوق والدكاكين ، والدوائر ، والحرب ، والمزارع والمراتع بحسب تطوّرات الزمان من القديم والجديد ، والخطوط الجوية والبريّة ، والبحرية ـ من الكلام. إذ لو لا الاشتراك لاختلّ نظام التفهيم في الوصول إلى ما يحتاج من تلك المعاني غير المتناهية بالألفاظ المتناهية ، لقصور الألفاظ عن إراءة المقصود من المعاني عند الاحتياج ، لكثرة المعاني غير المتناهية ، ولقلّة الألفاظ المتناهية.

وبعبارة اخرى : إنّ الألفاظ لمّا كانت متناهية والمعاني غير متناهية لا يمكن الوصول إلى غير المتناهي بالمحدود المتناهي ، فيختلّ النظام الحياتي في مقام التفهيم والتفهّم عند المخاطبة. وليس هناك طريق في دفع ذلك المحذور المهمّ الذي فيه خطر الفناء والهلاك لقاطبة أبناء البشريّة في أقطار العالم أسهل من الالتزام بالاشتراك في تمام اللغات الدارجة في المحاورة.

والحاصل أنّ المستدلّ التزم بوجوب الاشتراك في الوضع لمقدّمتين :

أحدهما : عدم تناهي المعاني ، لأنّها لا تعدّ ولا تحصى.

وثانيها : تناهي الألفاظ ، ولعدم إمكان الوصول بالمتناهي إلى ما لا نهاية له ، فتكون الألفاظ غير كافية لإراءة المعاني عند الاحتياج إليهما في مقام التفهيم والتخاطب والإبراز والدلالة.

والحاصل : أنّ مقصود هذا البعض من الاستدلال على الوجوب في الالتزام بالاشتراك في اللغة عبارة عن أنّ الألفاظ والكلام المتركّب منها متناهية ، والمعاني الموجودة في الواقع ونفس الأمر والتي تكون مورد احتياج البشر في أقطار عالم الإنسانية غير متناهية. ومحلّ الحاجة إلى تفهيم المعاني الموجودة في نظام الحياة جميعا تطلب من واضع اللغة وجوب الاشتراك ، لئلّا يبقى معنى من المعاني بلا لفظ دالّ عليه في مقام الدلالة والإبراز والتخاطب ، وإلّا فيختلّ النظام ويفوت الغرض من الوضع الذي هو عبارة عن الوصول إلى المعاني.

٤٣٨

وقد أجاب عن ذلك الاستدلال محقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بوجوه :

الأوّل : بالامتناع ، بيان ذلك أنّه لا شكّ في عدم إمكان الوصول إلى تلك المعاني غير المتناهية عن طريق الالتزام بالاشتراك في وضع الألفاظ ، إذ المعاني لمّا كانت غير متناهية فتستدعي أوضاعا غير متناهية. فإذن أنّ المانع أيضا موجود بالنسبة إلى وضع الاشتراكي ، فتطرّق بهذه الحيلة إلى المعاني ، أي من ناحية وضع الاشتراكي في الألفاظ كالأوّل غير ممكن ، لأنّ الوضع في الألفاظ في قالب الاشتراك بإزاء المعاني غير المتناهية غير معقول ، لأنّه مستلزم لأوضاع غير متناهية وصدورها من الواضع المتناهي محال وممتنع.

والثاني : لو سلّمنا إمكان ذلك ، كما إذا كان الواضع هو الله تبارك وتعالى ، إلّا أنّه من الواضح أنّ الوضع مقدّمة للاستعمال ولإظهار الحاجة وإبرازها للوصول إلى الأغراض من الوضع والتكلّم بالألفاظ ، وهو من البشر لا منه جلّ وعلا. فإذن وضع الألفاظ بإزاء المعاني غير المتناهية لغو محض ، لأنّه زائد على مقدار الحاجة إلى الاستعمالات المتناهية.

وعلى الجملة فالواضع وإن فرض أنّه الله تبارك وتعالى ، وهو قادر على أوضاع غير متناهية ، إلّا أنّ المستعمل هو البشر ، فالاستعمال منه لا محالة يقع متناهيا ، فالوضع الذي يكون زائدا على المقدار المتناهي غير محتاج إليه ، كما هو واضح بلا تأمّل.

والحاصل لو سلّمنا عدم تناهي المعاني أيضا لا نحتاج إلى الوضع بالنسبة إلى جميع المعاني ، بل إنّما نحتاج إلى الوضع بمقدار الحاجة ، ومحلّ الابتلاء منها بالنسبة إلى الاستعمالات البشرية المتداولة في المحاورة ، فلا شكّ أنّ الألفاظ

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٢.

٤٣٩

في إراءة هذا المقدار كافية موجودة بالنسبة إلى محلّ الابتلاء من المعاني في الوضع بلا احتياج إلى التماس وضع بالاشتراك ، لكفاية هذا المقدار الموجود من الوضع في أيدي المحاورة للإيصال إلى المعاني المستعملة في ألسنة أهل المحاورة من أهل اللسان واللغة ، من دون أن نكون محتاجين إلى وضع المشترك من الأصل والأساس ، فيصبح هذا السنخ من الوضع لغوا مخالفا لحكمة الوضع ، فيكون صدوره من الحكيم من المحالات المسلّمة ، إذ صدور اللغو من الحكيم من المقبوحات البديهية.

والثالث : أنّ المعاني بما لها من المصاديق والأفراد في جزئيّتها تكون خارجة عن دائرة التناهي ، لا بعناوينها الكلّية ، فإنّها بعنوانها الكلّي والجامع داخلة تحت الأعداد والإحصاء وغير خارجة عن دائرة التناهي ، بل هي بذلك العنوان متناهية.

فعلى ضوء هذا البيان والتقريب لا نجد مانعا لوضع الألفاظ بإزاء المعاني الكلّية التي تكون قابلة الانطباق على الأفراد والجزئيات في ميدان إبراز المعاني في الحكاية والإظهار عند التفاهم والتخاطب.

وبالجملة ، فإنّ المعاني الجزئية وإن كانت غير متناهية ، إلّا أنّ المعاني الكلّية بالقطع واليقين متّصفة بالتناهي كالألفاظ. فإذن لا مانع من وضع اللفظ بإزاء المعنى الكلّي الذي يستعمل في أفراده ومصاديقه حسب ما تتعلّق به الأغراض عند الحاجة بها.

ومن البديهي الواضح أنّ الأمر يكون بهذا المنوال بالنسبة إلى جميع أسماء الأجناس من السماء والأرض وما فيهما من الإنسان والملك والجنّ والحيوانات والمأكولات والمشروبات وأمثالها ، فيضع الواضع لفظا خاصّا لواحد منها ، ثمّ يستعمله على كلّ واحد من مصاديقه وأفراده من دون أن تكون للأفراد أسامي

٤٤٠