دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

وقبل التكلّم في ذلك اعلم أنّ المراد من حال التلبّس والانقضاء وإن كان واضحا في حدّ ذاته ، إلّا أنّ التعرّض له على نحو الإجمال والإشارة لا يخلو من فائدة.

وملخّص المقال أنّ المراد من الحال في المقام ليس هو حال النطق أو حال التلبّس ، إذ لا خفاء بأنّ الزمان خارج عن مداليل المشتقّات والأفعال بعين ما تقدّم في وجه خروجه عن مداليل الأفعال مفصّلا بما لا مزيد ، إذ الأفعال لا تدلّ على الزمان بشيء من الدلالات اللفظية ، إذ من الواضحات عدم صحّة أن يقال بأنّ هيئة كلمة (عالم) اسم لمن يكون عالما في زمان النطق أو قبله أو بعده ، حتّى يقال بأنّ كلمة (عالم) غير صادقة على ذات (زيد) فيما بعد زمان التكلّم والنطق ، أو فيما قبل زمن النطق ، إذ الزمان خارج عن مدلول المشتقّ بالقطع واليقين.

نعم قول القائل بأنّ زيدا قائم أو عالم ، ظاهر في أنّ ذاته متلبّس بالعلم والقيام في حال التكلّم والنطق ، كما أنّ الأمر يكون من هذا القبيل عند الإخبار عن الجمادات ، إذ الظاهر من قول المخبر بأنّ هذا الجسم حجر ، أنّ تلك الذات متّصفة بالحجريّة ، وأنّ الحجرية ثابتة لها حين النطق ، لا أنّ الحجرية والعالميّة بالفعل وحال النطق تكونان من مداليل هذه الهيئة بوضع من ناحية الواضع في اللغة العربية ، حتّى يكون زمان النطق مأخوذا في مفهوم المشتقّ بالوضع اللغوي ، حتّى لا يشمل مثل هذا الاستعمال موارد إطلاقه بالنسبة إلى غير حال النطق.

فتحصّل أنّ النزاع في المشتقّ ليس مربوطا بحال النطق وعدم حال النطق ، بل النزاع مربوط بأنّ المشتقّ هل له سعة من حيث المفهوم حتّى يكون إطلاقه شاملا لمن انقضى عنه المبدأ حقيقة ، حتّى يكون استعمال هيئة مثل (زيد عالم) في من انقضى عنه مبدأ العلم بعروض النسيان له حقيقة ، أو أنّ مفهوم المشتقّ ليس بتلك

٥٠١

السعة ، بل إنّما هو مختصّ لخصوص ذات المتلبّس المتذكّر بالعلم في قبال من نسي علمه وانقضى عنه المبدأ.

وملخّص الكلام في عبارة اخرى : أنّ المراد من الحال المأخوذ في عنوان المسألة ليس زمن النطق يقينا ، ضرورة عدم دلالة الأوصاف المشتقّة عليه ولا على غيره من الماضي أو المستقبل لا بنحو الجزئيّة ولا بنحو القيديّة ، فحالها من هذه الجهة كحال أسماء الأجناس من الجمادات وغيرها ، فكما أنّها لا تدلّ على زمان خاصّ ، فكذلك هذه المشتقّات ، ولأجل ذلك لا مجاز في قولك : (زيد كان قائما بالأمس) أو (زيد سيكون ضاربا) وأمثال ذلك ، نظير عدم كونه من باب المجاز في قولنا : (زيد كان إنسانا) أو (سيكون ترابا) إلى غير ذلك ، فلو كان زمن النطق داخلا في مفهومها لزم التجوّز في جميع تلك الاستعمالات والأمثلة المتقدّمة لا محالة بالقطع واليقين.

كما لا دلالة فيها على أحد الأزمنة الثلاثة أيضا ، إذ من الواضحات أنّ تلك الأوصاف كما تستند إلى الزمانيات ، كذلك تستند إلى نفس الزمان وإلى ما فوقه من خالق الزمان من المجرّدات ، مع أنّه لا يعقل أن يكون للزمان زمانا ، وكذا للمجرّدات. فالإطلاق والاستعمال والإسناد في جميع تلك الأمثلة يكون على حدّ سواء ونسق واحد ، ولو كان خصوص زمان أو أحد الأزمنة داخلا في مفهومها لكان إسنادها إلى نفس الزمان وما فوقه محتاجا إلى لحاظ عناية وتجريد.

نعم إذا استند إلى الزمانيات تدلّ على أنّ تلبّس الذات بالمبدإ واقع في أحد الأزمنة بالظهور الاستعمالي ، كما تقدّم ، ولكن ذلك الظهور غير مربوط بأخذ الزمان في مفهومها بالوضع جزءا أو قيدا.

وبعبارة اخرى : هذه الدلالة إنّما تكون مربوطة من ناحية أنّ قيام الفعل

٥٠٢

بالفاعل الزماني لا يكون إلّا في الزمان ، كما نبّهنا على ذلك السنخ من الدلالة غير مرّة ، إذ وقوع الزماني في أحد من تلك الأزمنة الثلاثة أمر قهريّ لا مناص عنه ، بل إنّه يكون لا بدّ منه.

وبهذا التقريب انقدح أنّ المراد من الحال لا ربط له بزمن النطق والتكلّم ، ولا أحد الأزمنة الثلاثة ، بل الحقّ الصحيح أنّ المراد منه فعليّة تلبّس الذات بالمبدإ ، فتحصل أنّ لبّ المقصود حينئذ أنّ مرجع النزاع يكون إلى سعة المفهوم بل المفاهيم الاشتقاقية وضيقها ، كما سبق ، بمعنى أنّ المشتقّات هل أنّها موضوعة للمفاهيم التي مطابقها في الخارج خصوص الذات حال تلبّسها بالمبدإ ، أو الأعمّ من ذلك ومن حال الانقضاء. فعند القائل بالأعمّ مفاهيمها قابلة للانطباق خارجا على الفردين والمصداقين اللذين هما عبارة عن حال التلبّس فعلا والمنقضي عنه المبدأ. وعلى القول بالأخصّ مفاهيمها غير قابلة للانطباق إلّا على فرد ومصداق واحد بعنوان الحقيقة ، وهو عبارة عن خصوص المتلبّس بالمبدإ فعلا دون المنقضي عنه المبدأ.

وقد بقي الكلام في جواب من يقول بأنّ الظاهر المتفاهم عند العرف والمحاورة من استعمال هيئة المشتقّات وحملها على الذات والشيء هو فعليّة تلبّس الذات بالمبدإ عند النطق وحين التكلّم ؛ إذ المستظهر من قولنا : (زيد قائم) في المحاورة كون زيد متلبّسا بالقيام بالفعل في حال التكلّم وزمان النطق.

فإذا كان هذا المعنى من الاستظهار مسلّما عند العرف والمحاورة من إطلاق المشتقّات فلا تبقى ثمرة من حيث المعنى للنزاع في كون المشتقّ موضوعا للأعمّ أو للأخصّ ، بعد الاعتراف والتسليم والتصديق بأنّ المرجع في تعيين مداليل الألفاظ ومفاهيمها هو المتفاهمات العرفيّة عند المحاورة ، والمفروض أنّ المتفاهم عندهم من الإطلاق والحمل والاستعمال هو خصوص المتلبّس بالمبدإ

٥٠٣

فعلا حين التكلّم.

قلت : إنّ ذلك وإن كان هو الحقّ الصحيح غير القابل للإنكار في ميدان الظهور بالإضافة إلى الاستظهار من الاستعمالات والإطلاقات.

ولكنّ الإنصاف أنّ ذلك لا يستلزم بطلان النزاع في المقام ، إذ الظهور من ناحية الإطلاق يختصّ بموارد الاستعمال والحمل. وما يكون بذلك العنوان ، ولا يعمّ جميع الموارد ، كما إذا قيل : (لا تكرم الفاسق ولا تهن العالم) ونحو ذلك ، فيقع البحث والكلام في أنّ الموضوع في مثل ذلك الحكم هو خصوص المتلبّس بالمبدإ أو الأعمّ منه ومن المنقضي.

فصار المتحصّل عن جميع ما ذكرناه في المقام أنّ المراد بالحال هو فعلية التلبّس بالمبدإ لا حال النطق ، ولأجل ذلك صحّ إطلاق المشتقّ بلحاظ حال التلبّس وإن لم يكن ذلك زمان النطق ، هذا تمام الكلام في كيفية بيان الأمر الرابع.

واعلم أنّ هنا أمرا خامسا ذكره المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّه هنا لا أصل في مسألتنا هذه يعتمد عليه عند الشكّ في تشخيص الموضوع له وتعيينه بأنّه المعنى الأعمّ الشامل الوسيع ، أو المعنى الأخصّ المضيّق غير الشامل لحالة الانقضاء بوجه من الوجوه.

وبالجملة فإنّه قال : لا يمكن إثبات إطلاق المشتقّ بالنسبة إلى حال الانقضاء حتّى تترتّب أعمّية وضع المشتقّ لحال الانقضاء بالتمسّك بأصل عدم لحاظ الأخصّ بتلك الخصوصيّة حين الوضع من قبل الواضع عند وضع هيئة المشتقّات ، لأنّ ذلك معارض بأصل عدم لحاظ الأعمّ والإطلاق كذلك من قبل الواضع.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٣.

٥٠٤

فعلى هذا التعارض لم يبق في المقام أصل سالم بلا معارض ليكون هو المعوّل عليه والمعتمد لإثبات أحد الخصوصيّتين من إثبات إطلاق المشتقّ وعدمه ، فلا بدّ عند ذلك من الرجوع إلى الاصول العمليّة في فروع المسألة عند عروض الشكّ في الإطلاق والتقييد.

ففي كلّ مورد كان الشكّ في ثبوت التكليف يرجع إلى أصل البراءة ، مثل ما إذا كان لنا مانع من إكرام زيد حال تلبّسه بالعلم ، ولكن شككنا في ثبوت وجوب ذلك الإكرام له بالنسبة إلى زمان انقضاء التلبّس.

بخلاف ما إذا كان الشكّ في البقاء بعد الفراغ عن الثبوت في حال التلبّس بالفعل ، مثل ما إذا كان زيد حين الخطاب بوجوب إكرام العلماء متلبّسا بالمبدإ ، وكان الانقضاء عرض له بعد ذلك الحين.

فلا محالة لو خلّي وطبعه لا بدّ لنا من الحكم ببقاء الحكم بحكم الاستصحاب ، إذ يجوز للمكلّف أن يقول : كنت على يقين من وجوب إكرام زيد في حال تلبّسه بالمبدإ ، فعرض لي الشكّ في البقاء بالنسبة إلى ما بعد الانقضاء ، فنتمسّك بقوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشكّ.

هذا تمام الكلام في بيان تقريب كيفيّة الرجوع إلى أصل عمليّ عند عدم وجدان الأصل المعتمد لإثبات إحدى الخصوصيّتين من الأعمّ أو الأخصّ.

فمن الواضح أنّ ما ذكره هو قدس‌سره من عدم وجدان أصل المسلم المعتمد بلا معارض صحيح في نهاية المتانة ، لأنّ التمسّك بالأصل مع غضّ البصر عن المعارضة بالأصل الآخر الجاري في قباله يكون من الاصول المثبتة بالنسبة إلى إثبات هاتين الخصوصيتين ، وذلك من جهة أنّا وإن علمنا بوضع الهيئة للذات ، إلّا أنّها وضعت لخصوص المتلبّس أو الأعمّ غير معلوم لنا ، فعليه فيحتمل أن يكون الموضوع له هو الآخر ، كما يحتمل أن يكون هو الأعمّ ، فبما أنّ القدر الجامع في

٥٠٥

البين مفقود فإثبات كلّ من الخصوصيّتين من الأعمّ والأخصّ والإطلاق والتقييد يكون من اللوازم العقلية للأصل ، فذلك يسمّى بالأصل المثبت.

وأمّا ما أفاد قدس‌سره من التمسّك بالبراءة عند الشكّ في ثبوت التكليف والتمسّك بالاستصحاب عند الشكّ في البقاء في الأوّل صحيح متين دون الثاني ، فإنّ الثاني كالأوّل لا بدّ فيه من التمسّك بالبراءة دون الاستصحاب ، وإن كان الشكّ من ناحية البقاء ، إذ عرفت في الدورة السابقة عند بحث الاستصحاب أنّه غير جار في الشبهات الحكمية ، لأنّه يكون من باب الشكّ في بقاء الحكم من ناحية سعة الموضوع وضيقه.

ومن الواضح المبيّن أنّ القدر المتيقّن من المجعول في أمثال ذلك المورد هو المضيّق الأخصّ دون الموسّع الأعمّ ، فيكون التكليف هو البراءة في غير الأخصّ ، إذ الأعمّ والموسّع من أوّل الأمر يكون مشكوك الحدوث والجعل ، فيكون من مصاديق الشكّ في أصل حدوث التكليف ، فبالنسبة إليه ليس لنا يقين بحدوثه حتّى نستصحبه عند الشكّ في البقاء ، كالماء المتمّم كرّا عند رفع تغيّره بالماء القليل.

على أنّا بيّنا مفصّلا في مبحث الاستصحاب عدم جريانه في الشبهات الحكميّة لابتلاء كلّ من الخصوصيّتين بالمعارض بالآخر فيتساقطان ، بل الحقّ في المطلب أنّ الاستصحاب هنا غير جار حتّى على مسلك المشهور من الاصوليين من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ، وذلك من جهة أنّ التمسّك بالاستصحاب في المقام يكون من قبيل التمسّك به في الشبهات المفهوميّة ، إذ منشأ الشكّ في بقاء الحكم في موردنا وعدمه يكون من ناحية الجهل في جهة كيفيّة الموضوع الذي اخذ في متعلّق الحكم ، إذ أنّا لا ندري أنّ الموضوع له في كلمة (عالم) هل هو ذات (زيد) المتلبّس بالمبدإ بالفعل فى

٥٠٦

الحال ، ليكون الحكم مختصّا به فقط ، أو هو الأعمّ الموسّع ليكون الحكم باقيا يقينا عند الانقضاء لبقاء موضوعه.

نظير ما إذا شكّ في بقاء وجوب صلاة العصر عند استتار الشمس مع بقاء الحمرة من ناحية الشكّ في كيفية مفهوم الغروب وأنّه عبارة عن الأوّل أو لا بل هو متعيّن في ذهاب الحمرة ، إذ لا ينبغي الشكّ في ارتفاع وقت صلاة العصر إذا كان مفهوم الغروب هو الاستتار فقط بالقطع واليقين.

وقد انتهى كلامنا إلى بيان الأمر الخامس وعرفت ما أفاده المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّه لا أصل في المقام ليعوّل عليه عند الشكّ في تعيين الموضوع له ، وأنّه المعنى الوسيع ، أو المعنى المضيّق الأخصّ ، بعد عدم تماميّة الأدلّة على التعيين وتشخيص الوضع في الأعمّ أو الأخصّ. بتقريب أنّ أصالة عدم ملاحظة الواضع جهة الخصوصيّة في الموضوع له عند وضعه معارضة بأصالة عدم ملاحظته الأعمّ والإطلاق فيه ، إذ المفاهيم في حدّ مفهوميّتها متباينات ، فإذا دار الأمر بين الوضع لمفهوم الأعمّ أو الأخصّ فكما يحتمل لحاظ الأوّل عند الوضع فكذلك يحتمل الثاني ، فبما أنّ كلّ واحد من التصوّرين واللحاظين حادث مسبوق بالعدم فلا ترجيح بينهما ، فجريان الأصل في أحدهما معارض بالآخر.

هذا مضافا إلى عدم جريانه في نفسه ، لأنّ أصالة عدم لحاظ الخصوصيّة لا تثبت الوضع للأعمّ إلّا على القول باعتبار الأصل المثبت ، كما أنّ الأمر أيضا يكون كذلك في العكس ، وعليه فتنتهي النوبة إلى الاصول الحكمية.

وذكر في الكفاية (١) أنّ هذه الاصول تختلف باختلاف الموارد ، فالموارد التي يشكّ فيها في حدوث الحكم بعد زوال العنوان الذي اخذ في الموضوع يرجع فيها

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٣.

٥٠٧

إلى أصالة البراءة ، مثل ما إذا فرضنا أنّ زيدا كان عالما ثمّ زال عنه العلم كما سبق ، وبعد ذلك ورد في الدليل : أكرم كلّ عالم. فشككنا في وجوب إكرام (زيد) لاحتمال كون المشتقّ موضوعا للأعمّ.

وأمّا الموارد التي يشكّ فيها في بقاء الحكم بعد حدوثه وثبوته فالمرجع فيها هو الاستصحاب ، وذلك كما لو كان زيد عالما وأمر المولى بوجوب إكرام كلّ عالم ، ثمّ بعد ذلك زال عنه العلم بالنسيان فابتلى بالجهل وأصبح جاهلا ، كما اتّفق ذلك بالنسبة إلى بعض الماضين من العلماء رحمهم‌الله تعالى ، فلا محالة نشكّ في بقاء الحكم ، لاحتمال كون المشتقّ موضوعا للأعمّ دون خصوص الأخصّ ، فإذن نستصحب بقاءه.

فلا يخفى عليك أنّ ما أفاده قدس‌سره أوّلا من أنّه لا أصل في المقام ليعوّل عليه عند الشكّ في الوضع الموسّع أو المضيّق فهو متين في نهاية الصحّة ، لما وقفت عليه مفصّلا بما لا مزيد عليه.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره ثانيا من أنّه لا مانع من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام وهو أصالة البراءة في موارد الشكّ في الحدوث ، والاستصحاب في موارد الشكّ في البقاء بعيد عن التصديق ، فلا يمكن المساعدة عليه. وذلك من جهة أنّه لا فرق في موارد الشكّ في الحدوث وموارد الشكّ في البقاء ، ففي كلّ من الموردين المرجع هو أصالة البراءة دون الاستصحاب.

أمّا في موارد الشكّ في حدوث التكليف قد سبق أنّ الأمر أوضح من أن يخفى عليك.

وأمّا في موارد الشكّ في البقاء ، فبناء على ما سلكناه في باب الاستصحاب من عدم جريانه في الشبهات الحكميّة خلافا للمشهور من الاصوليين فالأمر كذلك واضح لمن تأمّل في دليل الاستصحاب ، إذ الاستصحاب فيها معارض

٥٠٨

دوما باستصحاب عدم سعة المجعول ، وبالتعارض كما عرفت يتساقط الاستصحاب لا محالة.

وأمّا على مسلك المشهور القائلين بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فأيضا الاستصحاب لا يجري في المقام كما تقدّم ، وذلك من جهة اختصاص جريانه بما إذا كان المفهوم فيه مبيّنا مشخّصا معلوما من حيث السعة والضيق ، وكان الشكّ متمحّضا في سعة الحكم المجعول وضيقه.

مثل ما إذا شككنا في بقاء حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال ، فالمرجع هو استصحاب بقاء الحرمة إلى أن تغتسل ، أو شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره في نفسه ، أو في بقاء نجاسة الماء المتمّم كرّا بناء على نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، فالمرجع في جميع ذلك يكون هو استصحاب بقاء الحكم ، وبه تثبت سعته.

بخلاف المورد الذي لا يتعيّن مفهوم اللفظ ومعناه المعبّر عنه بالشبهة المفهوميّة ، فلا يجري الاستصحاب فيه لا حكما وموضوعا.

أمّا الأوّل : فلما ذكرناه في بحث الاستصحاب من اعتبار وحدة القضية المتيقّنة مع المشكوك فيها موضوعا ومحمولا في جريان الاستصحاب ، إذ من الضروري أنّه لا يصدق نقض اليقين بالشكّ عند اختلاف القضيّتين موضوعا ومحمولا ، وحيث إنّ في موارد الشبهات المفهوميّة لم يحرز الاتحاد بين القضيّتين فلا يمكن التمسّك بالاستصحاب الحكمي.

فإذا شكّ في بقاء وجوب صلاة العصر أو الصوم بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقيّة عن قمّة الرأس من جهة الشكّ في مفهوم المغرب ، وأنّ المراد به هو الاستتار أو ذهاب الحمرة ، فعلى الأوّل كان الموضوع وهو جزء النهار منتفيا ، وعلى الثاني كان باقيا ، فبما أنّا لم نحرز بقاء الموضوع فلم نحرز الاتّحاد بين

٥٠٩

المشكوك والمتيقّن من القضيّتين ، وبدونه لا يمكن جريان الاستصحاب.

وأمّا الثاني : وهو استصحاب بقاء الموضوع ، فلعدم الشكّ في انقلاب حادث زماني ، ليحكم ببقاء المتيقّن ، إذ مع قطع النظر عن وضع اللفظ وتردّد مفهومه بين السعة والضيق ليس لنا شكّ في أمر خارجي ، فإنّ استتار القرص عن الافق حسّي معلوم لنا بالمشاهدة والعيان ، وذهاب الحمرة متحقّق كذلك ، فما هو المستصحب ؟

وكيف ما كان لا شكّ أنّ استصحاب الحكمي غير ممكن في المقام ، إذ كيف يمكن أن يقال قبل تحقّق الغروب : إنّه شاكّ في وجوب الصلاة ، إذ مع بقاء الموضوع ـ وهو الوقت بعد استتار القرص ـ لا شكّ في وجوبها أي وجوب صلاة العصر والصوم ، لأنّ الغروب إذا كان هو ذهاب الحمرة فالوقت باق عند الاستتار ، وإن كان الاستتار هو الغروب فلا شكّ في انقضاء الحكم بانعدام وقته وموضوعه.

فإذا فرضنا أنّ الغروب من قبل الشارع عبارة عن استتار الشمس ، فلا شكّ لنا في وجوب الصلاة لبقاء وقتها ، فضلا عن أن يحتاج إثباته بالاستصحاب.

وبالجملة فإذا كان الموضوع وهو الغروب عبارة عن سقوط الشمس عن النظر فلا شكّ أنّه تحقّق بالمشاهدة بالعيان ، فإن كان هو ذهاب الحمرة فهو أيضا يكون معلوم البقاء بالمشاهدة والعيان.

ولأجل ذلك أنكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) استصحاب الموضوعي في مسألة استحالة الكلب لإثبات النجاسة ؛ لأنّ بعد صيرورته ملحا إذا كان الموضوع النجاسة تلك الصورة النوعية الكلية فهي غير باق يقينا ، وإذا كان الموضوع

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٩١.

٥١٠

للنجاسة ذات المادّة فلا شكّ في بقائه ، فلا بدّ من الحكم بنجاستها. فعلى كلّ من التقديرين لا طريق لنا إلى إثبات الحكم بإثبات الموضوع من ناحية الاستصحاب. وبما أنّ الجهل بالموضوع صار منشأ للشكّ في ثبوت الحكم من حيث الحدوث ، فيكون المرجع هو البراءة على تمام الأقوال دون الاستصحاب.

وبتقرير أوضح : إنّ المعتبر في جريان الاستصحاب بعنوان الأصل والأساس أمران اليقين السابق المتحقّق ، والشكّ اللاحق من حيث البقاء مع اتّحاد المتعلّق فيها. وهذان الركنان غير متحقّقين ، في الشبهات المفهومية ، فإنّ كلا من الاستتار وعدم ذهاب الحمرة متيقّن فلا شكّ ، وإنّما الشكّ في بقاء الحكم وفي وضع اللفظ لمعنى ومفهوم وسيع أو ضيّق ، وقد علمت أنّ الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم غير جار ، لعدم إحراز بقاء الموضوع.

وأمّا بالإضافة إلى وضع اللفظ فقد سبق أنّه لا أصل في المقام ليكون هو المعتمد والمرجع في تعيين السعة والضيق ، وكالشمس في الظهور أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل طابق النعل بالنعل بعينه ، فإنّ الشبهة فيه مفهومية ، والموضوع له مردّد بين خصوص الأخصّ المتلبّس أو الأعمّ المطلق من المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ ، فالاستصحاب سفينة لا تجري في هذه الدجلة ليثبت الحكم ، لعدم إحراز اتّحاد القضية المتيقّنة مع المشكوكة. وقد تكرّر هنا لزوم اعتبار هذا الأمر بأنّ الاتحاد ـ بعنوان الركن الأساسي ـ ممّا لا بدّ منه في جريان الاستصحاب.

فمن باب المثال هيئة (العالم) بما له من المفهوم والمعنى موضوع للحكم ، وحيث إنّه مردّد بين أمرين المتلبّس بالمبدإ والأعمّ ، فالتمسّك باستصحاب بقاء الحكم غير ممكن ، للشكّ في بقاء موضوعه.

وكذلك لا يجري الاستصحاب بالنسبة إلى الموضوع ، لعدم الشكّ في شيء خارجا مع قطع النظر عن وضع المشتقّ وتردّد مفهومه بين الأخصّ والأعمّ ،

٥١١

وقد عرفت أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب أمران : اليقين السابق والشكّ اللاحق مع وحدة متعلّقهما في الخارج.

والشكّ في مقامنا غير موجود ، فإنّ تلبّس (زيد) مثلا بالمبدإ سابقا وانقضاء المبدأ عنه فعلا كلاهما متيقّن ، فلا شكّ في شيء ، وإنّما الشكّ في وضع المشتقّ وبقاء الحكم بالنسبة إلى وضع المشتقّ ، فقد عرفت أنّه لا أصل يرجع إليه في تعيين مفهوم اللفظ ووضعه سعة وضيقا.

وتوهّم جريان الأصل في بقاء الموضوع بوصف الموضوعية بأنّه مشكوك فيه ، مدفوع بأنّه عبارة اخرى عن جريان الأصل في بقاء الحكم ، وقد علمت عدم جريانه فيه.

فحاصل الكلام من حيث النتيجة : أنّ الاستصحاب في الشبهات المفهومية ساقط ـ وإن قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ـ فيما إذا كان الشكّ في سعة المجعول وضيقه. وقد تقدّم كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره حيث أشار في آخر بحث الاستصحاب في مسألة اشتراط بقاء الموضوع فيه إلى هذا المعنى ، وهو عدم جريان الاستصحاب في موارد الشبهات المفهومية.

فالنتيجة المأخوذة من ذلك التفصيل الدقيق أنّ المرجع في كلا الموردين هو أصل البراءة ، فما ذكره المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من الفرق بين الموردين وأنّ المرجع في المورد الثاني هو الاستصحاب دون البراءة غير صحيح.

فالحاصل المأخوذ عن جميع ما فصّلناه في مسألة المشتقّ في المقام يتلخّص في امور :

الأوّل : أنّ محلّ البحث لا يعمّ جميع المشتقّات ، بل يختصّ بعضها ، ولكنّه يعمّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٣.

٥١٢

بعض أصناف الجوامد ، وهو ما كان مفهومه منتزعا عن أمر خارج عن مقام ذاته وذاتيّاته ، كالزوج والزوجة وما شاكلهما.

الثاني : أنّ ملاك دخول شيء في محلّ البحث أن يكون واجد الركنين : الأوّل أن يكون قابلا للحمل على الذات ولا يأبى عنه ، والثاني أن تبقى الذات بعد انقضاء المبدأ عنها. فإذا اجتمع هاتان الركنان في شيء دخل في محلّ البحث وإلّا فلا.

الثالث : أنّ محلّ النزاع هنا يتمحّض في وضع هيئات المشتقّات وسعة معانيها وضيقها ، بلا نظر إلى موادّها أصلا وأبدا ، واختلافها لا يوجب الاختلاف في محلّ البحث ، كما تقدّم بذلك التفصيل الطويل.

الرابع : أنّ الأفعال جميعا لا تدلّ على الزمان حسب وضعها اللغوي ، نعم إذا اسندت إلى الزمان دلّت على وقوع الحدث في زمن ما ، إلّا أنّ هذه الدلالة خارجة عن مداليلها ومستندة إلى خصوصيّة اخرى كما تقدّم.

الخامس : أنّ نقاط البحث والميز بين الأفعال بعد خروج الزمان عن مداليلها ، هي أنّ الفعل الماضي يدلّ على تحقّق الحدث قبل زمان النطق والتكلّم ، والمضارع يدلّ على تحقّق الحدث في زمن التكلّم أو ما بعده ، والأمر يدلّ على الطلب حال التلفّظ. فهذه النقاط هي النكات الرئيسية للفرق بينها ، وهي توجب تعنون كلّ واحد منها بعنوان خاصّ واسم مخصوص ، وتمنع عن صحّة استعمال أحدها في موضع الآخر ، وهي موجودة في جميع موارد استعمالاتها كما مرّ.

السادس : أنّ المراد من الحال المأخوذ في عنوان المسألة هو فعليّة تلبّس الذات بالمبدإ لا زمان النطق ، لما تقدّم من أنّ الزمان مطلقا سواء كان زمان النطق أم غيره لم يؤخذ في مفاهيم المشتقّات.

السابع : أنّه ـ كما عرفت ـ لا أصل موضوعي يرجع إليه عند الشكّ في وضع

٥١٣

المشتقّ للأعمّ أو الأخصّ ، كما وقفت عليه مفصّلا وعرفت توضيحه.

الثامن : أنّ الأصل الحكمي في المقام منحصر في البراءة مطلقا حتّى فيما إذا كان للحكم حالة سابقة.

هذا تمام الكلام في تحرير المقدّمات التي لها دخالة في تنقيح موضوع البحث في محلّ الكلام.

الأقوال في المسألة

وقد بقي الكلام في بيان نقل الأقوال في مسألة المشتقّ من أهل الفنّ ، وبعد ما عرفت تلك المقدّمات الثمانية المتقدّمة اعلم أنّ المسألة وإن كانت ذات أقوال متكثّرة ، إلّا أنّها حدثت بين المتأخّرين ، ولكنّها بحسب التحقيق تكون ذات قولين بين المتقدّمين ، وذلك من جهة ما ورد في أذهانهم من التوهّمات الناشئة من كيفية اختلاف المبادئ في المشتقّات من حيث الملكة والصنعة والحرفة واسم المفعول واسم الآلة ، بالتفصيل المتقدّم عند بيان تلك المقدّمة في ابتداء المسألة ، وهما :

قول بالحقيقة فيمن تلبّس بالفعل في الحال فقط على جميع تلك التقارير المتقدّمة بنحو الإطلاق ، سواء كان المبدأ هو الملكة أو الصنعة والحرفة من دون فرق بين ما كان المبدأ محمولا في القضيّة أو موضوعا ، واختار ذلك القول صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

وقول بالحقيقة في الأعمّ كذلك أي على جميع التقارير ، ذهب إليه الآخرون قدس‌سره.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٤.

٥١٤

وأمّا التفصيل بين ما إذا كان المشتقّ محمولا في القضية بخلاف ما إذا كان موضوعا فبالعكس لا يرجع إلى محصّل.

وقد ذكر المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره في التنبيهات كلاما يستظهر منه بساطة المشتقّ على ما سيأتي الكلام فيه مفصّلا.

ولكن قال شيخنا الاستاذ قدس‌سره : إن قلنا بأنّ المبدأ يكون بسيطا في المشتقّ فلا يبقى مجال للنزاع بكون المشتقّ حين الوضع حقيقة في الأعمّ ، بل لا بدّ من الالتزام بكونه حقيقة في الأخصّ ، بخلاف ما إذا قلنا بالتركيب في مبدأ المشتقّ ، فإنّ للنزاع فيه مجال واسع ، ثمّ عدل عن ذلك والتزم بوضع المشتقّ لخصوص المتلبّس من دون فرق بين القول ببساطته أو بتركيبه.

وكيفما كان قال المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره : إنّ الأقوال في المسألة وإن كثرت ، إلّا أنّها حدثت بين المتأخّرين بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدّمين ، من جهة توهّم اختلاف المشتقّ باختلاف مباديه في المعنى ، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال ، وقد أشرنا آنفا إلى أنّه لا يوجب التفاوت فيما نحن فيه بصدده.

وعلى كلّ حال فإنّ الصحيح ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره وذلك لما عرفت من أنّ مركز البحث والنزاع هنا في وضع هيئة المشتقّ وفي سعة معناه وضيقه ، واختلافه من كلّ من الناحيتين المزبورتين أجنبيّ عن المركز بالكلية.

هذا ، وقد التزم شيخنا الاستاذ قدس‌سره باستحالة النزاع على القول بالبساطة في مبدأ المشتقّات (١) ، كما التزم بذلك جمع من العلماء منهم المحقّق الدواني قدس‌سره حيث قال : لا فرق بين المشتقّ والمبدأ في البساطة ، بل ذكر أنّ القائم ليس إلّا

__________________

(١) أجود التقريرات : ٧٤ ـ ٧٧.

٥١٥

نفس القيام ، كما أنّ العالم بحسب الحقيقة في الخارج ليس إلّا تلبّس المبدأ أي العلم بالذات ، فيكون العالم عبارة عن العلم ، والامتياز والفرق بينهما من ناحية لا بشرط وبشرط الآتية.

فعلى ضوء هذا البيان لا يبقى شكّ لأحد أنّه إذا زال المشتقّ عن الذات من جهة عروض النسيان فبالتحقيق قد زال عنه مبدأ العلم بالقطع واليقين ، إذ زوال المشتقّ على القول بالبساطة غير منفكّ عن زوال المبدأ عن الذات ، فإذا زال عن (زيد) مبدأ العلم من الأصل والأساس ، كيف يعقل أن تكون هيئة (عالم) اسما له ، وكيف يعقل صحّة إطلاقها واستعمالها فيه بعنوان الحقيقة ، وأنّها وضعت له ؟ وأنّه يكون هو المسمّى والموضوع لها من قبل الواضع في اللغة العربيّة ؟ إذ لا يعقل أن يكون العالم اسما بالوضع لمن يكون متلبّسا بالمبدإ ، ولمن زال عنه المبدأ ، لعدم إمكان وجود قدر جامع بين التلبّس بالمبدإ وبين المنقضي عنه المبدأ ، ليتمكّن الواضع أن يضع المشتقّ لذلك الجامع المشترك بينهما ، ليمكن أن يكون المشتقّ موضوعا لذلك الجامع الكلّي.

وبالجملة ، لا شكّ في عدم إمكان تعقّل صدق العلم والعالم على ذات من زال عنه المشتقّ والمبدأ كلاهما ، بل المقام يكون أسوأ حالا من الجوامد المستحيلة المتبدّلة ، لأنّ الجوامد بعد حدوث التحوّل والاستحالة والانتقال فيها بالنسبة إلى تغيير صورتها النوعية تكون عنصر المادّة بما لها من الملكوت والهيولى بحالها باقية ، فيصدق عليها بأن يقال إنّها تكون مادّة الهيولائيّة الباقية من ذلك الإنسان الذي قال الله تبارك وتعالى في وصف تلك الصورة النوعية المكرّمة : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(١) بخلاف موارد انقضاء المشتقّ عن الذات في باب

__________________

(١) المؤمنون : ١٤.

٥١٦

المشتقّات ، إذ ليس له مادّة باقية حتّى يمكن أن يقال : إنّها متّصفة بالعلم في ضمن تلبّس الذات بمبدإ العلم.

وبعبارة اخرى فإنّ ملخّص كلامه قدس‌سره في المقام عبارة عن أنّ النزاع في وضع المشتقّ لخصوص المتلبّس بالمبدإ فعلا أو للأعمّ منه مبنيّ على البساطة والتركيب في المفاهيم الاشتقاقية. فعلى مذهب من ذهب إلى التركيب حيث اخذ في مفهوم المشتقّ انتساب المبدأ إلى الذات ويكفي في صدق الانتساب التلبّس في الجملة ، فلا محالة يكون المشتقّ موضوعا للأعمّ. وعلى مذهب البساطة فمفهوم المشتقّ ليس إلّا نفس المبدأ المأخوذ لا بشرط ، فهو ملازم لصدق نفس المبدأ ، ومع انتفائه ينتفي العنوان الاشتقاقي لا محالة ، ويكون حاله حينئذ حال الجوامد في أنّ المدار في صدق العنوان فعليّة المبدأ.

وإن كان بينهما فرق من جهة اخرى ، وهي أنّ شيئية الشيء حيث إنّها بصورته لا بمادّته فالمادّة لا تتّصف بالعنوان أصلا وأبدا ، ولذا لا يصحّ الإطلاق والاستعمال في المنقضي عنه وما لم يتلبّس به بعد ولو من باب المجاز بالقطع واليقين.

وهذا بخلاف المشتقّات ، فإنّ المتّصف بالعناوين الاشتقاقيّة هي الذوات ، وهي باقية بعد الانقضاء وزوال التلبّس ، فيصحّ الاستعمال مجازا. وحيث إنّ المختار عندنا القول ببساطة المفاهيم الاشتقاقية فيتعيّن أنّ الحقّ هو وضع المشتقّ لخصوص من يكون متلبّسا بالمبدإ الاشتقاقي ، بالفعل في الحال.

وبالجملة لا خفاء أنّه فيما بعد زوال المشتقّ لا يصدق أنّ مثل هذا الشخص كزيد مصداق للعالم.

وأمّا على مسلك التركيب فأيضا كذلك لا يمكن فرض الجامع ، لأنّ المشتقّ على مسلك التركيب عبارة عن الذات التي تكون متّصفة بالمبدإ في الواقع ،

٥١٧

فكيف يمكن فرض الجامع الذي يكون قابل الانطباق على ذات المتّصف بالمبدإ وذات غير المتّصف مرّة اخرى ، لا سيّما على القول بأنّ الزمان خارج عن مدلول المشتقّ ، حتّى يمكن أن يلتزم بأنّ الجامع هو الزمان.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في المقام أنّه لا وجه للالتزام بأنّ المشتقّ في اللغة موضوع للأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ ، بل الالتزام به أمر غير معقول ، بل الحقّ المحقّق الصحيح الذي ينبغي أن يقال وليس إلّا هو عبارة عن أنّ المشتقّ بالوضع اللغوي إنّما يكون هو حقيقة في المتلبّس فقط لا غير ، هذا.

ثمّ عدل قدس‌سره عن هذه الملازمة (١) (أي استلزام القول بالتركيب الوضع للأعمّ واستلزام القول بالبساطة الوضع للأخصّ) وقال : الحقّ هو وضع المشتقّ لخصوص المتلبّس مطلقا ، سواء قلنا بالبساطة أم بالتركيب.

وأفاد في ذلك ما ملخّصه :

أمّا على البساطة فلأنّ الركن الركين على هذا القول هو نفس المبدأ ، نهاية الأمر أنّه ملحوظ على نحو لا بشرط ، ومعه لا يأبى عن الحمل على الذات ولا يكون مباينا لها في الوجود الخارجي ، فالصدق حينئذ متقوّم بالمبدإ وجودا وعدما ، فإذا انعدم فلا محالة لا يصدق العنوان الاشتقاقي إلّا بالعناية. بل قال : إنّ العناوين الاشتقاقية من هذه الناحية أسوأ حالا من العناوين الذاتية قطعا ، فإنّ العناوين الذاتية وإن كانت فعليّتها بفعليّة صورها ، والمادّة غير متّصفة بالعنوان أصلا ، إلّا أنّها موجودة قبل الاتّصاف وبعده وحينه ، ومن هنا يكون الاستعمال فيها قبل الاتصاف وبعد انقضائه غلطا ، لأنّ العلائق المذكورة في محلّها من الأول

__________________

(١) أجود التقريرات : ٧٤ ـ ٧٧.

٥١٨

أو المشارفة أو علاقة ما كان كلّها مختصّة بباب المشتقّات.

وهذا بخلاف العناوين الاشتقاقية فإنّها عين مباديها ، وهي بسيطة سواء كانت المبادئ من أحد المقولات ، أم كانت من غيرها وغير مركّبة من صورة ومادّة ، فإذا انعدمت المبادئ تنعدم العناوين بالكلّية ولا يبقى شيء أبدا.

لا يقال : إنّه لا بدّ على هذا أن لا يصحّ استعمال العنوان الاشتقاقي في المنقضي عنه وما لم يتلبّس بعد ولو مجازا بطريق أولى ، لأنّه أسوأ حالا من العنوان الذاتي ، والمفروض كما عرفت عدم جواز استعماله فيهما مطلقا.

فإنّه يقال : وإن كان أسوأ حالا منه ، إلّا أنّ المتّصف بالعناوين الاشتقاقيّة حين الاتّصاف هي الذوات ، وحيث إنّها موجودة قبل الاتّصاف وبعده فيصحّ الاستعمال بعلاقة الأول أو المشارفة أو علاقة ما كان ، فبقاء الموصوف فيها هو المصحّح لجواز الاستعمال وإن لم يؤخذ في المعنى ، وهذا بخلاف العناوين الذاتية ، فإنّها ـ كما عرفت ـ عناوين لنفس الصور دون المادّة فالمادّة لا تتّصف بها في حال من الأحوال مثلا إنسانية الإنسان بصورتها النوعيّة ، والمادّة المشتركة لا تتّصف بالإنسانية أصلا وأبدا ، ولا يصدق عليها عنوانها. وتلك المادّة وإن كانت موجودة قبل الاتّصاف وبعده وحينه ، إلّا أنّها لا تتّصف بالإنسانيّة في حال.

ولأجل ذلك لا يصحّ الإطلاق والاستعمال في المنقضي وما لم يتلبّس بعد حتّى مجازا ، لعدم إحراز تحقّق شيء من العنايات والعلائق المجازيّة المذكورة.

والحاصل أنّ الأدلّة والبراهين القائمة على البساطة تدلّ بالملازمة على وضع المشتقّ لخصوص المتلبّس في الحال بالفعل دون الأعمّ.

وقد بقي الكلام على التركّب فلا يخفى عليك أنّ الذات المأخوذة في المفاهيم الاشتقاقية لا تكون مطلق الذات ، بل خصوص المتلبّس فعلا ، أي خصوص ذات

٥١٩

متلبّسة بالمبدإ ومتّصفة بصفة ما على أنحائها المختلفة من الجواهر والأعراض وغيرهما.

ومن الواضح أنّه لا جامع بين الذات الواجدة لصفة ما والذات الفاقدة لها ، فإنّ مفهوم المشتقّ على القول بالتركّب مركّب من الذات والمبدأ ، وليس مركّبا من المبدأ والنسبة الناقصة ليكون المفهوم مركّبا من مفهوم اسمي وحرفي ، وإلّا لم يصحّ حمله على الذات أبدا ، ولم يصحّ استعماله إلّا في ضمن تركيب كلامي ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، لصحّة الحمل على الذات وصحّة الاستعمال منفردا ، بل كما علمت جوازه مركّبا.

فالذات هي الركن المعتمد الوطيد ، ولكنّها لم تؤخذ مطلقة ، بل المأخوذ هو حصّة خاصّة منها ، وهي الذات المتلبّسة بالمبدإ والمتلوّنة بهذا اللون ، ولا يكون جامع بينها وبين الذات المنقضي عنها المبدأ ليصدق عليها صدق الطبيعي على أفراده والكلّي على مصاديقه وأفراده.

أو فقل : إنّ وضع المشتقّ للأعمّ يتوقّف على تصوير جامع بين المنقضي والمتلبّس في الواقع ومقام الثبوت ، ولمّا لم يعقل وجود جامع بين المنقضي والمتلبّس في الواقع ثبوتا ، فلا مجال لدعوى كون المشتقّ موضوعا للأعمّ إثباتا.

نعم لو كان الزمان مأخوذا في مدلول المشتقّ بأن يقال : إنّه وضع للدلالة على المتلبّس في زمن ما ، وهو صادق على المتلبّس في الحال والماضي وجامع بينهما ، لأمكن أن يدّعى بأنّه موضوع للجامع بين الفردين ، ولكن قد سبق أنّ الزمان خارج عن مفهومه وغير مأخوذ فيه لا جزءا ولا قيدا ولا خاصّا وعامّا ، بل لو قلنا بأخذ النسبة الناقصة ومداليلها فهي لم توضع إلّا للمتلبّس ، وذلك لأنّ النسبة في حال التلبّس والنسبة في حال الانقضاء لا جامع بينهما أصلا ليكون

٥٢٠