دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

المعنى في مرحلة الاستعمال ممّا لا بدّ منه ولا مناص عن ذلك اللحاظ ، إذ من البديهي والضروري أنّ الاستعمال فعل اختياري للمستعمل فيتوقّف صدوره على تصوّر اللفظ والمعنى ، فعند ذلك فللواضع أن يعتبر ويجعل العلقة الوضعية في الحروف بما إذا لوحظ المعنى في مقام الاستعمال آليا ، وفي الأسماء بما إذا لوحظ المعنى استقلالا ، ولا يجب على الواضع أن يجعل لحاظ المعنى والمفهوم آليا كان أو استقلاليا قيدا للموضوع له ، بل هذا لغو وعبث بعد ضرورة وجوده وأنّه في مقام الاستعمال ممّا لا بدّ منه.

وهذا بخلاف أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما ، فإنّ الإشارة إلى المعنى ليست ممّا لا بدّ منه في مرحلة الاستعمال. والوجه في ذلك أنّه إن اريد بالإشارة استعمال اللفظ في المعنى ودلالته عليه كما نقول : فلان أشار إلى هذا المطلب ، كما قد تستعمل في ذلك نظير قولنا : قد أشرنا إليه في ما تقدّم ، أو فلان كالشيخ الطوسي أشار إلى المطلب الفلاني في كلامه أو كتابه ، فهذه الإشارة يشترك فيها جميع الألفاظ ، فلا اختصاص لها بأسماء الإشارة وما يلحق بها.

وإن اريد بها أمر زائد على الاستعمال فلا بدّ من أخذه في الموضوع له ، بداهة أنّه ليس كلحاظ المعنى ممّا لا بدّ منه في مقام الاستعمال ، بمعنى أنّه ليس شيئا يقتضيه طبع الاستعمال بحيث لا يمكن الاستعمال بدونه ، فلا بدّ من أخذه قيدا في المعنى الموضوع له ، وإلّا فالاستعمال بدونه بمكان من الإمكان.

وبالجملة ، فإنّ مراده بالإشارة الاستعمال ، فلا شكّ أنّ الاستعمال قابل لأن تتعلّق به علقة الوضعية ، ولكنّ الحقّ والإنصاف أنّ المراد بالإشارة كما نعلم ذلك بالوجدان في موارد استعمال هذه الألفاظ في كلّ لغة ومحاورة هو الإشارة الخارجية ، بحيث لا يبعد أن يدري ذلك كلّ من يتكلّم بمثل هذه الألفاظ والأسماء في كلّ المحاورات.

٢٢١

فكلّ فرد من موارد استعمال هذه الأسماء وبعض الضمائر مثل (هذا) و (ذاك) و (ذلك) و (إيّاك) و (اولئك) و (تلك) حين الاستعمال مقرون بواحدة من الحركات من أجزاء البدن من العين أو الحاجب واليد والإصبع من الأصابع أو الرأس. نعم ، في الأغلب تكون الإشارة حين الاستعمال باليد.

فعلم من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ الموضوع له ومفهوم المفرد المذكّر ليس إلّا كلّيا في طبيعي المعنى ، وأنّه يكون قابلا للانطباق على الكثيرين ، بخلاف ما يستفاد من أسماء الإشارات وبعض الضمائر ، فإنّه عبارة بحسب الحقيقة والذات عن واقع تلك المصاديق من ذكر المفهوم الكلّي عند التكلّم بهذه الأسماء في مقام الإشارة.

ولكن لا يذهب عليك أنّه ليس مرادنا من واقع تلك المفاهيم المشار إليها بأسماء الإشارة الفرد الخارجي ، بل مصداق المفرد المذكّر بعنوان البدل. فعلى ضوء هذا البيان صارت النتيجة أنّ وضع أسماء الإشارة وبعض الضمائر إنّما يكون من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، بخلاف ما ذهب إليه هو قدس‌سره ، فإنّه لا يجتمع مع الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، ولأجل ذلك أنكر الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ في مرحلة الإثبات مع إمكانه في مرحلة الثبوت.

وفي الختام : إنّ الصحيح في المقام عبارة عن أنّ أسماء الإشارة وبعض الضمائر وأمثالهما إنّما اعتبرت ووضعت للحكاية والدلالة على بيان قصد تفهيم مفاهيمها ومعانيها خارجا حين الإشارة ، وعندها في مقام التخاطب خاصّة لا مطلقا. فإذن لا يمكن إبراز تفهيم تلك المفاهيم والمعاني من دون الاقتران بالإشارة والمواجهة والتخاطب ، فكان كلّ ناطق ومتكلّم بها متعهّدا في اعتقاده ونفسه ووجدانه متى أراد تفهيم معانيها أن يتكلّم بها مقترنة بهذين الأمرين.

فكلّ كلمة من هذه الأسماء مثل كلمة «هذا أو ذاك» غير دالّة على معانيهما

٢٢٢

وهو المفرد المذكّر إلّا بمساعدة معونة الإشارة الخارجية من أعضاء البدن كاليد بحسب الغالب ، وبالعين والحاجب والرأس في مراحل اخرى.

وهكذا ضمير الخطاب لا يظهر ولا يبرز مدلوله ومعناه إلّا مقترنا بالمواجهة والخطاب الحضوري الخارجي ، ولأجل ذلك يصحّ أن يقال : إنّه لا يفهم من كلمة «هذا» شيء ـ مثلا ـ عند استعمالها وإطلاقها مجرّدة عن تلك الإشارات المتقدّمة الخارجية ، ومن الضروري أنّ الذي اخترناه في المقام جار في كلّ لسان من المحاورات الدارجة ، وبالوجدان يدركها المتتبّع بالمراجعة إلى سائر اللغات في مقام التفهيم والتفهّم بها عند المشافهة والتخاطب.

فانقدح بما بيّنّاه في المقام ـ وتقدّمت الإشارة إليه آنفا ـ أنّ مثل كلمة (هذا) و (هو) إنّما وضعتا لواقع المفرد المذكّر ، أعني به كلّ مفهوم كلّي أو جزئي لا يكون من جنس الإناث لا لمفهومه ، وإلّا فما الامتياز بينهما وبين مفهوم المفرد المذكّر ؟ ولو لا ذلك فلا بدّ من أن يكون بينهما وبين المفرد المذكّر ترادفا من حيث المفهوم ، ولا ينبغي الشكّ في أنّ احتمال ذلك بينهما مخالف للضرورة من الوجدان.

فصارت النتيجة في ختام البحث أنّ الوضع فيها يكون عامّا والموضوع له خاصّا ، ويكون هذا الحكم جاريا بالنسبة إلى غيرهما من أسماء الإشارة والضمائر الباقية.

٢٢٣
٢٢٤

الأمر الخامس

استعمال اللفظ في المعنى المجازي

وقد انتهى الكلام إلى بيان الأمر الخامس ، وهو عبارة عن بيان كيفية الحقيقة والمجاز.

وقد وقع الاختلاف في ذلك بين الأصحاب في أنّ صحّة استعمالات المجازية هل هي مربوطة بعهدة الواضع كالأوضاع الحقيقية ، فيكون أمر وضعها وضبطها وتعيين مواردها ووجوه شباهتها بما لها من الأقسام بيد واضع اللغات في كلّ المحاورات ، فيكون هو المرجع الصالح ؟

فكلّ استعمال مجازي في صحّته لا بدّ من أن يكون بترخيصه ، فله المنع والترخيص ، وصحّة كلّ استعمال من الاستعمالات المجازية لا بدّ من أن ينتهي إلى ترخيصه ، بمعنى أنّ أمر وضعها وضبطها وتعيين مواردها لا بدّ من أن يكون مختصّا بتدبيره ، وليس إلّا.

أو أنّ الأمر ليس كذلك ، بل المدار في صحّة الاستعمال في باب المجاز يكون هو الطبع ، فإذا كان للاستعمال حسن مناسب مطبوع عند أهل الفنّ من العلماء في تلك المحاورة يصحّ الاستعمال وإن منع الواضع عنه ، فيكون الملاك في صحّة

٢٢٥

الاستعمال المجازي وعدمه تحسين الطبع عند العرف والمحاورة وعدمه.

فكلّ استعمال مجازي كان مقبولا مطبوعا حسنا عندهم في طباعهم السليمة فهو صحيح مقبول وإن ثبت أنّ الواضع منع عنه في اللغة ، وكلّ استعمال لم يكن ملائما للطبع ولم يصدق الطبع حسنه ومقبوليّته فهو غير فصيح مردود ولا يتّصف بالصحّة والقبول ، فيكون من الأغلاط عند العرف والمحاورة وإن ثبت إذن الواضع في مثل ذلك الاستعمال في تلك اللغة والمحاورة.

فاستعمال كلمة (أسد) في من يكون عادم النظير من الرجال من حيث الشجاعة صحيح ، كما أنّ استعمال كلمة (قمر) في من يكون وجيه المنظر من حيث الصورة صحيح وإن ثبت أنّ الواضع منع عنه في اللغة ولم يأذن فيه بوجه من الوجوه.

وملخّص الكلام أنّ الملاك في صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازي وما يناسب ويشابه الموضوع له ، هل هو بالطبع أو الوضع ، أعني ترخيص الواضع في الاستعمال لوجود علقة من العلائق والشباهة ؟ وجهان ، بل قولان.

واختار الأوّل المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بدعوى أنّ ملاك صحّة ذلك الاستعمال قبول الطبع له وكونه حسنا عند العرف ، أي أنّ الاستعمال المجازي إن كان حسنا عند العرف والمحاورة وقبله الطبع السليم فهو صحيح وإن فرض أنّ الواضع لم يأذن فيه ، بل وإن منع عنه ، وبالعكس فهو ليس بصحيح وإن وجد الإذن فيه من الواضع في اللغة والمحاورة.

وذهب المشهور إلى الثاني واختاروا أنّ ملاك صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازي يدور مدار إذن الواضع وتجويزه ، سواء كان ذلك مقبولا عند الطبع

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٨.

٢٢٦

وحسنا أم لا ، فيكون تدبير ذلك من حيث الضبط والتعيين ـ بالنسبة إلى بيان مواردها وأنواع العلائق والمناسبات من وجوه الشباهة التي تعرّضوا لتعدادها في علم المعاني والبيان من الفصاحة والبلاغة ـ بيد الواضع ، فلا بدّ من الاقتصار على ذلك الحدّ ، فلا يجوز إيكال ذلك إلى حسن الطبع عند العرف والمحاورة إذا لم يكن مقبولا عند الواضع.

فإذن ، صحة استعمال المجازي متوقّفة على ترخيص الواضع ، فلا جرم أنّ الطبع والذوق متّبع في مدار إذنه وترخيصه.

وهنا نكات ثلاث : الاولى : إذن الواضع مطلقا مقبول. والثانية : حسن الطبع إذا كان مقترنا بإذن الواضع عند الاستعمال فهو أحسن من الاولى. والثالثة : عدم الصحّة إذا كان حسن الطبع مخالفا لترخيص الواضع.

وقد عرفت اختيار صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ ملاك صحّة الاستعمال المجازي تكون في انحصار الذوق وحسن الطبع حتّى بالنسبة إلى الوضع النوعي عند العرف والمحاورة ، فتكون صحّة ذلك الاستعمال متوقّفة على حسن وقبول الطبع والذوق العرفي لذلك الاستعمال.

فيصبح هذا الاستعمال متّصفا بالصحّة بأيّ مناسبة كانت من المناسبات الذوقية المقبولة في الطباع السليمة عند العرف وإن ثبت المنع عنه من قبل الواضع في اللغة والمحاورة حين الوضع ، وبالعكس ، أي إذا لم يكن الاستعمال مقبولا عند الطبع والذوق بأيّ مناسبة من المناسبات غير المقبولة عند الذوق والطبع فلا يتّصف بالصحّة وإن وجد الإذن في ذلك الاستعمال في اللغة من قبل الواضع.

فيكون أمر ذلك من حيث الصحّة وعدمها في الاستعمالات المجازية في قبال الاستعمالات الحقيقية من ناحية تشخيص المناسبة والعلائق المحسّنة والمجوّزة

٢٢٧

وعدمها بيد الذوق وحسن الطبع.

فإذا كان تشخيص الطبع والذوق عدم المناسبة والشباهة والحسن في استعمال من الاستعمالات المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي ، فلا يتّصف ذلك الاستعمال بالصحّة عند العرف ، وإن كان ذلك الاستعمال مطابقا لترخيص الواضع في اللغة بالإذن الشخصي أو النوعي.

فإذا عرفت ذلك فلا يذهب عليك أنّ الوقوف على حقيقة الحال في المسألة مبتن على بيان مقدّمتين في هذا المقام :

الاولى : وجود الاستعمالات المجازية في قبال الاستعمالات الحقيقية في اللغة والمحاورة في الألفاظ المتداولة في الأدب واللسان ، كاستعمال لفظ (الأسد) ـ الذي وضع في اللغة العربية بعنوان الحقيقة لذلك الحيوان المفترس في الغابة ـ في الرجل الشجاع الذي يكون عادم النظير من حيث القدرة والاتّصاف بالشجاعة بالنسبة إلى بقية الأبطال مع القرينة ، كقولك : (رأيت أسدا يرمي في المعركة) أعني رأيت رجلا شجاعا بلغ في الشجاعة نهايتها وغايتها بحيث لا يوجد مثله في صنف الرجال كأمير المؤمنين عليه‌السلام ، لتتمّ المبالغة التي هي مقصود المتكلّم من هذه الحكاية والخبر.

أو كان ذلك الاستعمال المجازي غير ثابت في اللغة في قبال المعنى الحقيقي ، بل أمثال تلك الاستعمالات في كلّ لغة من اللغات ليس من باب المجاز في الكلمة ، وإنّما يكون بعنوان الحقيقة.

ففي مثل قول القائل : (رأيت أسدا يرمي) فكأنّ القائل لمّا شاهد في شخص من أفراد الإنسان الحملة والقتال وعدم الخوف والفرار ، بل الظفر والنصر والانتصار كالأسد الذي يهجم على الأرانب وغيرها في الغابات يتخيّل أنّه صار كواحد من تلك الليوث والاسود المفترسة من حيث المبالغة في الشجاعة ، وبهذا

٢٢٨

اللحاظ استعمل كلمة الأسد في معناها الحقيقي دون المجازي ، فبحسب التحليل فإنّ هذا الاستعمال حقيقي ، لا من باب المجاز في الكلمة ، بل إنّما يكون من باب المجاز في الإسناد والاستعارة كما ذهب إليه السكاكي.

وهذا هو المختار ؛ لأنّ المبالغة لا تتمّ إلّا بهذا التحليل ، والمبالغة في أمثال تلك الموارد حقّ وليس بكذب ؛ إذ هذا الرجل حيث فاق جميع أفراد أقرانه من حيث الشجاعة فكأنّه صار وحيد دهره وفريد عصره ، فكأنّه انتقل من الإنسانية في صفة الشجاعة إلى ذلك الحيوان المفترس ، فصار اسمهما واحدا من حيث صحّة الاستعمال والانطباق بعنوان الحقيقة في كليهما دون المجاز.

وبذلك يتمّ المقصود من هذا الكلام في مقام الحكاية عن المبالغة من حيث المعاني والبيان دون أصل الشجاعة ، فيكون هذا التطبيق لأجل أخذ ذلك المطلوب والغرض من هذا الاستعمال في مقام التخاطب ، بمعنى أنّ الناطق عند التفهيم والتفهّم يريد أن يبيّن أنّ ذاك الرجل بلغ في الشجاعة نهايتها بحيث تحوّل من حالة الشجاعة الإنسانية إلى حالة الشجاعة الأسدية ، بل إنّه يصحّ أن نسمّيه بأسد الاسود.

ولأجل ذلك اختار السكاكي هذا المسلك (١) حيث قال : لو كان استعمال لفظ الأسد في المعنى المجازي بمجرّد إبلاغ طبيعي الشجاعة لكان يقول : رأيت رجلا شجاعا ، ولا يقول : رأيت أسدا يرمي ، ومن الواضح أنّ كلمة أسد في الجملة الثانية لو كان استعمالها بلحاظ المجاز في الكلمة من باب الشباهة في الشجاعة أي : رأيت رجلا شجاعا ، لا تفيد المقصود من المتكلّم من هذا الكلام من حيث البلاغة ، إذ المتكلّم إنّما أراد المبالغة في الشجاعة بهذه الحكاية ، لا أنّ

__________________

(١) مفتاح العلوم : ١٥٦ ، القسم ٣ ، الفصل الثالث في الاستعارة.

٢٢٩

الرجل متّصف بأصل الشجاعة كمن يخبر عن شجاعة شخص من الرجال بجملة (رأيت رجلا شجاعا في المعركة) إذ من الواضح في غاية الوضوح أنّ جملة (رأيت أسدا يرمي) ليست في مقام بيان أصل تلبّس الرجل بالشجاعة ليكون من حيث المعاني والبيان والبلاغة في مقام التفهيم والتفهّم بمثابة الجملة الاولى من حيث الترادف ، بل المقصود منها عبارة عن المبالغة التامّة عند التخاطب ، فكأنّه أراد أن يخبر بأنّ هذا الرامي يكون من مصاديق الأسد من حيث الشجاعة ، بل هو في المصاف يغلب على الاسود فضلا على الأسد فكيف بالأقران والأمثال.

فعلى ضوء هذا البيان والتقرير ظهر أنّ لفظ الأسد إنّما استعمل في معناه الحقيقي وطبّق على المعنى المجازي التحوّلي من باب الادّعاء بأنّه مصداق من مصاديق الأسد كقوله عليه‌السلام : لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد ، إذ الإمام عليه‌السلام إنّما استعمل كلمة «لا» لنفي الجنس في مفهومه الحقيقي الذي هو عبارة عن عدم تحقّق صلاة لجار المسجد إذا صلّى في غير المسجد مع تمكّنه من الصلاة فيه.

فيريد عليه‌السلام أن يبيّن في تطبيق «لا» نفي الجنس على الصلاة في غير المسجد المبالغة بمعنى أن يفهم المصلّي بأنّ تركه إتيان الصلاة بعنوان جاره فيه وإتيانه بها في المنزل دون المسجد أضاع مقدارا زائدا من الثواب بحيث يكون الثواب الذي يترتّب على الصلاة المأتيّ بها في غير المسجد بمنزلة لا شيء ، نظير القطرة في قبال البحر في مقام التفهيم والتفهّم من باب المبالغة في المرجوحية والانحطاط بحدّ بلغت مرتبة لا صلاة من حيث عدم كونها من مصاديق الصلاة في المسجد.

وإلى ما ذكرناه في المقام يرجع ما أفاده المحقّق صاحب الكفاية في بيان هذا

٢٣٠

الحديث بأنّه إنّما استعمل في نفي الحقيقة بعنوان الادّعاء والمبالغة دون نفي الكمال في الصحّة.

وقد قلنا في بعض مباحثنا الفقهية : إنّ المبالغة ليست من أفراد ومصاديق الكذب من أوّل تشكيل اللغة والتكلّم في المحاورة حتّى بالنسبة إلى الزهّاد والمتّقين من العلماء والمتكلّمين ، بل ذلك واقع في الأحاديث الصادرة من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

فانقدح بما قرّرنا لك في المقام أنّ الفرق بين قولك : (زيد حسن الوجه) وبين قولنا (زيد قمر) وبين (زيد شجاع) (وزيد أظهر من الشمس وأبين من الأمس) في أنّ الأوّلين في مقام بيان أصل حسن الوجه والشجاعة ، والثانيين في مقام بيان المبالغة في الحسن والشجاعة.

فإذن وقفت على أنّ ما نسب إلى السكاكي من عدم قبول المجاز في الكلمة في اللغة والمحاورة أصحّ في القبول والتصديق وأقرب إلى الحقّ بالنسبة إلى جميع الاستعمالات في المحاورات بمختلف أنواعها وأشكالها بما لها من الكثرة.

وعلى ضوء هذا البيان يصبح بحث المجاز في الكلمة السالبة بانتفاء الموضوع من الأصل والأساس ، فضلا عن أن نبحث في أنّ صحّته تدور مدار الإذن من الواضع في الحدّ الذي حدّده في مدار تلك العلائق والمناسبات المعيّنة ، أو على حسن الطبع الذي ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره.

بل المجاز عندئذ ـ كما أشرنا إليه في أثناء البحث ـ إنّما يكون في الإسناد والتطبيق وبعد التصرّف في الإسناد وتنزيل المعنى المجازي في منزلة المعنى الحقيقي واعتباره بالتقريب المتقدّم مصداقا وفردا منه من باب الادّعاء. فإذن الاستعمال ليس إلّا في معناه الحقيقي بالقطع واليقين لا محالة.

٢٣١

المقدّمة الثانية : وهي عبارة عن إثبات انحصار الواضع بشخص واحد كحضرة إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام أو هو مع جماعة محصورين ، أو ليس الأمر كذلك حتّى يبقى مجال في المقام لهذا البحث من الأصل والأساس كالاولى. كما أنّ هذا أي عدم انحصار الواضع في واحد معيّن أو جماعة معيّنين هو الحقّ المصدّق بالأخصّ على مسلكنا المتقدّم في باب الوضع من أنّه عبارة عن التعهّد والالتزام النفساني في عالم الاعتبار والنفس من دون أن يكون ذلك الاعتبار والالتزام والتعهّد في امتياز شخص خاصّ أو جماعة متشخّصين.

بل الحقّ كما عليه أهله أنّ كلّ مستعمل واضع في تعهّده والتزامه عند إلقاء واستعمال جملة في مقام التخاطب والحكاية لأجل تفهيم مقصوده من ذلك الاستعمال ، لأنّ المستعمل إذا كان في مقام إفهام أصل شجاعة الرجل يقول : هذا الرجل شجاع ، وإذا كان مقصوده من الكلام في مقام إفهام المبالغة في شجاعة من يكون في نهاية الشجاعة بحيث بلغ غايتها يستعمل كلمة أسد ويقول : زيد أسد ، أو يقول مع القرينة : رأيت أسدا يرمي في المعركة أو في الغابة. فكأنّه في مقام بيان الحقيقة يتعهّد بأن يأخذ كلمة الرجل وكلمة الشجاعة لإبراز أصل الشجاعة واتّصاف الرجل بها ، فيقول : زيد شجاع ، من دون أن يأخذ القرينة في الكلام. وفي مقام بيان المبالغة يتعهّد أن يبيّنها بأخذ القرينة في الاستعمال فيقول : زيد أسد ، أو رأيت أسدا يرمي في المعركة ، أو يضرب السيف على رءوس الأعداء والخصوم. وباستخدام هذا السنخ من الكلام مع القرينة حين الاستعمال يتعهّد ويلتزم أن يبيّن مقصوده من المبالغة في اتّصاف الرجل بالشجاعة الخاصّة التي تكون من الصفات الذاتية للأسد فى الغابات بحدّ من الكثرة ، فكأنّه صار من أفراد ومصاديق ذلك الحيوان المفترس الذي يعيش في الغابات والصحاري.

ويشهد على ما ذكرناه أنّ المتكلّم إذا ادّعى هذا المعنى الذي فسّرناه لكلامه

٢٣٢

مع الاستعمال من دون أخذ القرينة ـ أي من دون وجود القرينة بادّعاء النسيان أو الإسقاط عن الكلام عند التكلّم والكتابة ـ لا يقبل منه عند العرف في المحاورة.

فصار المتحصّل أنّ الناطق مأخوذ بظاهر كلامه بما له من التعهّد والالتزام الاستعمالي من الحقيقة والمجاز ، بلا فرق بين الواضع الأصلي ومن يكون مستعملا بذلك السنخ من التعهّد والالتزام عند الاستعمال.

فعلى ضوء هذا البيان من معنى الوضع لا محالة يكون المستعمل واضعا بعنوان الحقيقة من دون أن يكون الوضع في انحصار فرد خاصّ دون الآخرين من المستعملين ، ولأجل ذلك قلنا : إنّ الواضع كما يتعهّد بذكر لفظ خاصّ عند إرادة إفهام معنى خاصّ من دون أن يأتي بأيّة قرينة في كلامه لتفهيم مقصوده من الكلام ، كذلك قد يتعهّد بأن يأخذ ذلك اللفظ عند إرادة معنى آخر من المعاني المجازية المبالغة مع الاقتران بالقرينة حين يريد أن يبرز مقصوده عند المكالمة ، بحيث يكون نصب القرينة هو الدالّ عليها.

ولكنّ الفرق بينهما أنّ الوضع في القسم الأوّل يكون من سنخ الشخصي ، وفي القسم الثاني يكون من قبيل الوضع النوعي ، وإنّما سمّي بذلك الاسم أي بالوضع النوعي من ناحية أنّ المناسبات والعلائق والقرائن تكون من حيث الكثرة خارجة عن حدّ الانحصار بواحدة معيّنة أو وحدات متعيّنة.

وملخّص الكلام : أنّ المقصود من هذا الكلام أنّ الالتزام والتعهّد كما يكون لا بدّ منهما بالنسبة إلى تفهيم وتفاهم المعاني الحقيقية في الاستعمال ، كذلك يكونان لا بدّ منهما بالنسبة إلى تفهيم وإفهام المعاني المجازية. فكلّ ناطق عند التكلّم يتعهّد بأنّه إذا قصد تفهيم معنى خاصّ أن يتكلّم بلفظ خاصّ عاريا عن القرينة ، كذلك هذا العهد موجود في نفسه والتزامه بأنّه متى ما قصد إفهام معنى مناسب للمعنى الموضوع له أن ينطق ويتلفّظ بذلك اللفظ مقترنا بالقرينة ، ليكون

٢٣٣

المتركّب المجموع منهما ـ أي من اللفظ والقرينة المصحوبة في الكلام ـ دالّا عليه ومبرزا له في مقام الحكاية.

والحاصل أنّ خلاصة جميع ما ذكر إلى حدّ الآن عدم إثبات كون الواضع منحصرا في شخص مخصوص أو جماعة متشخّصين معيّنين ، بل كلّ مستعمل عند الاستعمال يكون هو الواضع. فإذن لا يبقى مجال للبحث عن أنّ صحّة استعمال المجازي هل تكون بالطبع كما تقدّم ذلك المسلك من صاحب الكفاية قدس‌سره ، أو أنّها بالعلائق والمناسبات للمعنى الحقيقي ، كما هو المعروف عند الأكثر.

فلا يبقى مجال لهذا البحث من الأصل والأساس حسب ما بيّنّا لك من المقدّمتين المتقدّمتين ، إذ كيان هذا البحث معتمد على أن يكون الواضع في كلّ من المحاورات واللغات الدارجة في آداب العالم الإنساني من كلّ لغة شخصا مخصوصا أو جماعة مخصوصين ، وعلى فرض ثبوته يتمشّى أن يقال : إنّ جواز استعمال اللفظ الذي عيّنه هو بعنوان الحقيقة للمعنى الحقيقي في المعنى المجازي هل مربوط بإذنه أم لا ، بل يكون ذلك في عهدة قبول الطبع ؟ وأمّا إذا لم يكن ذلك الانحصار ثابتا لشخص خاصّ ولا لجماعة مخصوصين ، بل كما أثبتنا أن كان كلّ مستعمل واضعا حين الاستعمال ، فلا يبقى لهذا البحث مجال أصلا بالقطع واليقين ، وهو من حيث الوضوح كالافق المبين. انتهى كلامنا في بيان كيفية الاستعمالات المجازية ، وقد عرفت البحث في استعمال المجاز في الكلمة بما لا مزيد عليه.

٢٣٤

الأمر السادس

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه

بقي الكلام بالنسبة إلى البحث في الأمر السادس ، وهو عبارة عن أنّ استعمال اللفظ في نفس ذاته أو في مثله أو في نوعه هل يكون من سنخ الاستعمالات المجازية ، أو ليس الأمر كذلك ؟

والمسألة محلّ خلاف ، فقد ذهب المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى أنّه لا شبهة في صحّة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به ، كما إذا قيل مثلا : (ضرب) فعل ماض أو صفة ، كما إذا قيل : زيد في «ضرب زيد» فاعل ، إذا لم يكن المقصود به شخص القول أو مثله كضرب في المثال فيما إذا قصد.

وقد أشرنا إلى أنّ صحّة الإطلاق كذلك وحسنه إنّما هو بالطبع لا بالوضع وإلّا كانت المهملات موضوعة لذلك ، لصحّة الإطلاق كذلك فيها والالتزام بوضعها لذلك كما ترى. وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه كما إذا قيل «زيد» لفظ واريد منه شخص نفسه ففي صحّته من غير تأويل نظر.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩.

٢٣٥

وبالجملة ، فلا يخفى عليك توضيح هذا المطلب ، وهو عبارة عن أنّ العلاقة والمناسبة الخارجية بين المعنى الحقيقي الذي هو عبارة عن الموضوع له وبين المعنى المجازي ، إذا كانت هي الموجبة والمقتضية للشباهة اللازمة لارتباط اللفظ بالمعنى المجازي في جهة التوصّل إلى حسن الاستعمال بما له من الحسن الطبعي في ذاته وطبعه ، كانت الشباهة والعلاقة الذاتية بين اللفظ وما استعمل فيه ، إذ لا شكّ في أنّه يكون من سنخ اللفظ ، فلا محالة لا ينفكّ عن الاقتضاء له ويكون مقتضيا له ، فإنّ العلاقة الذاتية بالبداهة تكون أقوى بمراتب من العلاقة والشباهة الخارجية الموجودة بين الموضوع له والمعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

ومن الشواهد على أنّ هذه الاستعمالات حسنها طبيعي لا وضعي هو صحّة مثل هذا الإطلاق في الألفاظ المهملة أيضا ، مع أنّه لا وضع فيها أصلا من الأساس ، فبهذا السنخ من الاستدلال والاستشهاد نكشف بالقطع واليقين عن أنّ حسنه أي حسن الإطلاق يكون من ناحية الطبع لا من ناحية الوضع بالضرورة والوجدان.

وبالجملة ، فإنّ هنا بحث عن أنّ إطلاق واستعمال اللفظ في مثله ونوعه ونفسه وشخصه وذاته هل يكون من قبيل الإطلاقات المجازية ، ومن تلك المصاديق التي تقدّمت الإشارة إليها مفصّلا عند بيان كيفية المعنى المجازي من كون حسنه بالطبع ، أو بالإذن والترخيص من قبل الواضع ، لنحتاج في مرحلة التحقيق إلى إثبات المقدّمتين المتقدّمتين في بيان المعنى المجازي ؟

الاولى منهما : عبارة عن إثبات انحصار الواضع في واحد معيّن أو جماعة متمايزين متعيّنين ، وذلك من جهة أنّه لو كان كلّ مستعمل واضعا لم يستبعد الالتزام بوجود الوضع حتّى في مثل المهملات أيضا ، فإنّه كما تعهّد باستعماله

٢٣٦

وإطلاقه في معناه. كذلك قد تعهّد بأنّه متى ما أراد تفهيم نوع اللفظ أو صنفه أو مثله يبرزه به. ولا مانع من الالتزام بمثل ذلك التعهّد والوضع في الألفاظ المهملة أيضا ، فإنّه لا يوجب خروجها عن الإهمال إلى البيان ، وذلك لأنّ إهمالها باعتبار أنّها لم توضع لإفادة المعاني ، وهذا لا ينافي ثبوت الوضع فيها لإفادة نفسها.

والثانية : إثبات أنّ مثل هذه الاستعمالات والإطلاقات تكون من سنخ الاستعمالات المتعارفة في المحاورة بعنوان الحقيقة والمجاز ، وإلّا ـ أي إن لم تكن تلك الإطلاقات ملحقة بالاستعمالات المتعارفة في المحاورة بوجه من الوجوه ـ فيكون هذا البحث منتفيا بانتفاء الموضوع ، من دون أن يبقى له مجال لنلتزم في حسن استعماله بمقالة صاحب الكفاية قدس‌سره بالطبع ، أو بمقالة المعرّف من أنّه يكون من ناحية الإذن والترخيص من الواضع أو الواضعين ؟

الحقّ والإنصاف عدم إثبات كون هذه الإطلاقات من قبيل تلك الاستعمالات المتعارفة في المحاورة في شيء من الأصل والأساس.

فلا يخفى عليك أنّه ينبغي لنا قبل الشروع في الإثبات والنفي بيان المقدّمة التي تقدّم ذكرها آنفا. هي عبارة عن أنّ الإنسان يحتاج إلى واسطة لإحضار المعاني المقصودة إلى أذهان من يريد التخاطب معهم من أبناء المحاورة عند إيجاب قضاء الحاجة إلى ذلك الإبراز والإحضار في طريق الوصول إلى التفهيم والتفهّم.

وقد تقدّم أنّ هذه الواسطة والوسيلة لا بأس أن تكون هي الإشارة بالنسبة إلى من لا يتمكّن من غيرها ، ويمكن أن تكون بالاستعمالات الدارجة في باب الحقيقة والمجاز التي تكون باستخدام الألفاظ في الدلالة عليها ، وأنّ ذلك يكون أفضل الطرق والوسائل وأسهلها في الإبراز والإحضار.

واخرى يمكن إبرازها وإحضارها في مقابل السامع تكوينا ، مثل ما إذا جعلت

٢٣٧

التفّاح في يده ، كما يمكن بإراءة التمثال والتصوير ذي الصورة ، نظير جعل التصوير في مقابل عيون طلابها بعد التماسهم منك توصيف ذي الصورة والتمثيل. ولكن لما قد عرفت بما لا مزيد عليه من أنّ غير البيان بالألفاظ المستعملة المتعارفة المتدارجة في كلّ لسان من الألسنة من أرباب اللغات في المحاورات العالمية من تلك الطرق المتقدّم ذكرها لا تكون خالية عن العسر والحرج والتعب ، بل في بعض الموارد بالنسبة إلى إحضار المعنى تكون مستحيلة ممتنعة ، لعدم إمكان انتقال السامع إلى مفهوم المحال ، كمفهوم شريك الباري بالإشارة وأمثالها خارجا ، وهكذا بالنسبة إلى بيان تفهيم المفاهيم الكلّية كمفهوم الإنسان الكلّي المنطبق على الكثيرين ، إذ ليس لمفهوم كلّي الإنسان تمثال مشخّص حتّى نأخذه بوسيلة آلة التصوير والتمثيل الموجودة في مثل هذه العصور المترقّية في أيدي المصوّرين ، ونجعلها في مقابل عين الناظر لينظر إليه ويدرك ما أراد من الوقوف على حقيقة صورة مفهوم الكلّي الإنسان ، وغير مفهوم الإنسان من المفاهيم الكلّية.

فإذن لا مناص من الإغماض وصرف النظر عنها والرجوع إلى دليل أدلّ وطريق إلى الهداية أقوم وأوسط ، والذي يكون هو الأفصح والأبلغ والأوفى في إفهام هذا المقصود بأسهل وجه يمكن ، ولأجل تلك الحكمة فإنّ الواضع الحكيم جعل جميع تلك الطرق في وعاء النسيان وذهب إلى الوضع واستخدام الألفاظ المفردة والمركّبة التي تكون هي المرآة الأتمّ والأكمل والأوفى لبيان هذا المقصد الأقصى والأعلى.

ولكن لا يذهب عليك أنّه في بعض الموارد لا نحتاج إلى التمسّك بهذه العروة الوثقى من التمسّك باستعمال الألفاظ وإطلاقها للوصول إلى هذا المقصود ؛ لإمكان كفاية ذات اللفظ لإحضاره وإفهام شخصه إلى ذهن السامع من دون

٢٣٨

الاحتياج إلى الإطلاق والاستعمال المتقدّم بوجه من الوجوه.

ومن الواضحات أنّه يكون من هذا القبيل استعمال اللفظ في شخصه ونوعه ومثله كقولك : (زيد ثلاثي) لكفاية ذات كلمة (زيد) في كونها كافية في الواسطة لإراءة شخصها ونفسها من دون الاحتياج إلى لزوم فرض إطلاقه بمنوال الاستعمالات المتعارفة الحقيقة أو المجازية ، بل لا يبقى مع هذه الإراءة احتياج إلى الاستعمال.

وبهذا الإحضار والدلالة لا يبقى موضوع واحتياج إلى الإطلاق والاستعمال ، فيكون الاستعمال الثاني من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع لأنّ كلمة (زيد) في حدّ نفسها صارت موجبة لإراءة ذات شخصها وتعيّنها ، وذلك مثل ما إذا كان شخص زيد موجودا في الخارج ، بلا فرق في ذلك بين ما إذا كان الحكم مترتّبا على ذات ذلك اللفظ كالمثال المتقدّم ، أو كان اللفظ موضوعا بعنوان الطبيعي لترتّب ذلك الحكم عليه بما له من الأفراد الكثيرة.

مثل ما إذا رأينا حيوانا قاتلا كالحيّة فنقول : هذا الحيوان قتّال ؛ إذ لا شك أنّ صفة القتّالية إنّما تكون من أوصاف ذات نفس طبيعة الحيّة ، فذلك العنصر متى وجد في ضمن أيّ فرد في أيّ إقليم من الأقاليم لا تنفكّ عن هذه الصفة ، كما أنّ أمر السبعية والافتراس يكون كذلك بالنسبة إلى جميع أفرادها الشرقية والغربية ، من دون اختصاص بالأسد في إقليم خاصّ دون الآخر ، فالأسد في أيّ عصر وزمان ومكان وجد لا تنفكّ عنه صفة السبعيّة.

ولأجل ذلك فإنّ أحد أهل الغرب إذا سافر إلى بلاد الشرق فبمجرّد المواجهة مع الأسد يخاف ويفرّ منه من دون أيّ ترديد في ذلك باحتمال أن تكون صفة السبعيّة من الخصوصيات المختصّة بالاسود الموجودة في غابات الغرب.

بل إنّ هذا الاطلاع بالارتكاز والفطرة محسوس حتّى بالنسبة إلى الحمار

٢٣٩

الذي يكون من أبلد الحيوانات من حيث الدرك ، لأنّه يفرّ من ذلك الحيوان المفترس في كلّ مكان وزمان ، فكأنّه أدرك أنّ هذه الصفة لا تنفكّ عن حقيقة ذات هذا الحيوان في كلّ قطر من أقطار الأرض. كما أنّه إذا قيل : «هذا سامّة» فإنّ اللفظ يجذب السامع إلى شخص لفظ الحيّة بذات شخص كلمة حيّة من دون لزوم إلى الواسطة في ذلك الجذب من دالّ آخر على تلك الخصوصية ، فخصوصيّة السامية تترتّب على طبيعتها بنفس ذلك المبرز من دون احتياج إلى استعمال آخر ، بل لو لم يكن هذا الابراز من الوساطة كافيا في إراءة نفسه فغيره من الاستعمالات غير كاف وإن بلغ إلى ما لا نهاية له.

والحاصل أنّ مثال إيراد اللفظ في بيان إراءة نفسه وذاته أو في جهة إراءة نوعه وصنفه ومثله ليس من سنخ الاستعمال في شيء بوجه من الوجوه ، وبذلك البيان ظهر لك ما قدّمناه من بيان المقدّمة المتقدّمة من عدم الاحتياج في الوقوف على ذلك الشخص والنوع والصنف والمثل إلى الاستعمال.

وملخّص البيان من المقدّمة المتقدّمة هو عبارة عن أنّ المعاني لمّا كانت بأنفسها ممّا لا يمكن إبرازها في الخارج وإفهامها وإحضارها في أذهان السامعين من دون أخذ واسطة في الإبراز والإحضار ، ضرورة أنّه في جميع موارد الحاجة لا يمكن إراءة شخص المعنى أو صورته أو ما يشبهه ، فإنّ كلّ ذلك لا يقوم بكفاية المحسوسات فكيف بالمعقولات والمحالات والممتنعات.

فلا جرم أنّ الاحتياج يطلب واسطة لتكون هي المبرزة لتلك المعاني في إحضارها في الأذهان ، وتلك الواسطة قد بيّناها مفصّلا بما لا مزيد عليه في أنّها منحصرة بالألفاظ الموضوعة ، فإنّ بها تبرز المعاني للتعهّد بذكرها عند إرادة تفهيمها في موارد الحاجة إليها.

وهذا بخلاف نفس الألفاظ ، فإنّها بأنفسها قابلة لأن تحضر في الأذهان من

٢٤٠