دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

المشتقّ موضوعا بإزاء ذلك الجامع.

فتلخّص من هذا البيان أنّ المشتقّ وضع للمتلبّس بالمبدإ فعلا على كلا القولين ، ولا مجال حينئذ للنزاع في مقام الإثبات أصلا وأبدا ، فإنّه متفرّع على إمكان تصوير الجامع عند الثبوت ، وقد عرفت ووقفت على عدم إمكانه.

وفيه : أنّ مرجع الاستظهار إن كان هو الظهورات العرفية ؛ إذ المفهوم من قول القائل بأنّ زيدا قائم عند العرف والمحاورة هو أنّه أي (زيد) بالفعل في الحال متّصف بالقيام ومتلبّس به في الخارج لا بأس به ، بل الحقّ الصحيح هو ذلك. بخلاف ما إذا كان المراد فيما أفاد هو قدس‌سره استحالة إمكان تصوير الجامع في مقام الثبوت والواقع النفس الأمري بوجه من الوجوه التصوّرية الثبوتية ، فإنّه بعيد عن التصديق فلا يمكن المساعدة له أصلا وأبدا ، لإمكان تصوير الجامع في المقام بوجهين :

الأوّل : أنّه لا مانع من تصوير الجامع حين الوضع ، إذ يصحّ أن يقول الواضع حين إعلان الوضع لأبناء اللغة والمحاورة : إنّي وضعت هيئة المشتقّات بالعنوان الكلّي الجامع بإزاء ذات الخارج عن العدم المتّصف بالمبدإ ، وبهذه الصفة من العلم والقيام متّصفا ومنقضيا على نحو صرف الوجود في الجملة ، في مقابل الذات التي لم تتّصف به بعد من أوّل الأمر.

إذ الذات في الخارج على قسمين : قسم منها من أوّل الأمر لم يتلبّس بالمبدإ بعد ، وهو خارج عن المقسم. وقسم منها متّصف به ، ولكنّه أعمّ من أن يكون الاتّصاف باقيا عند الجري والنسبة أم لم يكن باقيا ذلك الذات بقاء بالتلبّس. ومن الضروري أنّ مثل هذا التصوّر ممكن معقول بحسب الثبوت ، وللواضع أن يضع هيئة المشتقّات لمثل هذا الذات بنحو الأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ بعد التلبّس ، فزيد وإن كان حين تلبّسه بالقعود انقضى عنه مبدأ القيام ،

٥٢١

ولكنّه ذات قبل الانقضاء كانت متّصفة ومتلبّسة بالقيام ، فللواضع أن يلاحظ تلك الذات ويسمّيها بالقائم حدوثا وبقاء.

وبعبارة اخرى أوضح : إنّه يمكن أن يقال : إنّ الجامع بين المتلبّس والمنقضي اتصاف الذات بالمبدإ في الجملة في مقابل الذات التي لم تتّصف به بعد ، إذ الذات في الخارج على نحوين :

نحو منها لم يتلبّس بالمبدإ بعد ، وهو خارج عن المقسم ومحلّ البحث.

ونحو منها متّصف به ، ولكنّه أعمّ من أن يكون الاتّصاف باقيا حين الجري والنسبة أم لم يكن باقيا ، وهو جامع بين المتلبّس والمنقضي ، وهو صادق عليهما صدق الطبيعي على أفراده. فالموضوع له على القول بالأعمّ هو صرف وجود الاتّصاف العاري عن أيّة خصوصية ، كما هو شأن الجامع والمقسم في كلّ مورد ، وهو كما ينطبق على الفرد المتلبّس حقيقة ، كذلك ينطبق على الفرد المنقضي عنه المبدأ ، فإنّ هذا المعنى موجود في كلا الفردين.

أو فقل : إنّ الجامع بينهما خروج المبدأ من العدم إلى الوجود ، فإنّ المبدأ كما خرج من العدم إلى الوجود في موارد التلبّس كذلك خرج في موارد الانقضاء ، فصرف وجود المبدأ للذات من دون اعتبار امتداده وبقائه جامع بين الفردين ، وخصوصيّة البقاء والانقضاء من خصوصيات الأفراد ، وهما خارجتان عن المعنى الموضوع له بالقطع واليقين.

والثاني : أنّه لو سلّمنا أنّ الجامع الأصيل بالنحو المتقدّم غير ممكن التصوّر بذلك التقرير حين الوضع من قبل الواضع ، لأنّ هذا السنخ من القدر الجامع بين المتّصف بالمبدإ وغير المتّصف به غير ممكن التعقّل ، ولكن تصوير جامع انتزاعي بينهما وهو عنوان أحدهما ممكن ، إذ للواضع أن يلاحظ حين الوضع بالنسبة إلى هيئة المشتقّات عنوان أحدهما أي المتلبّس والمنقضي ، ثمّ يضع المشتقّ بإزاء

٥٢٢

هذا العنوان ، نظير ما ذكرنا في بحث الصحيح والأعمّ في باب وضع الصلاة من تصوير الجامع الانتزاعي للأركان بينهما باعتبار أحدهما ، بحيث يمكن أن يكون جامعا لجميع الأركان حتّى الأركان الاضطرارية.

وملخّص الكلام بعبارة أوضح : أنّه لو تنزّلنا وقبلنا بأنّ الجامع الأصيل الحقيقي بين هذين الفردين غير ممكن التصوّر ، فلا مانع من إمكان تصوّر جامع انتزاعي بينهما ، وهو عبارة عن عنوان أحدهما ، كما تقدّم مثل ذلك التصوّر في بحث الصحيح والأعمّ منا للجامع الانتزاعي بين الأركان. فلا وجه في لزوم كون الجامع ذاتيّا هنا ، لعدم دليل موجب لذلك ، لكفاية تصوّر جامع بالنسبة إلى مقام الوضع ، لأنّه يكون من الامور السهلة المئونة ، لأنّ الحاجة الداعية التي دعت إلى تصوير جامع هنا هي الوضع بإزائه ، وهو لا يقتضي أزيد من تصوير عنوان مشير إلى معنى ما ، سواء كان المعنى من الماهيّات الاعتبارية ، أم كان من العناوين الانتزاعيّة ، لأنّ لواضع المقام أن يتصوّر المتلبّس بالمبدإ فعلا ويتصوّر المنقضي عنه المبدأ ، ثمّ يتعهّد على نفسه بأنّه متى ما قصد تفهيم أحدهما يجعل مبرزه هيئة ما من الهيئات الاشتقاقية على سبيل وضع العام والموضوع له كذلك أو الخاصّ.

النتيجة أنّ تصوير الجامع على مسلك الأعمّ بأحد هذين الوجهين لا محذور فيه ، بل هو بمكان من الإمكان. هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى مقام الإثبات بعد إثبات الإمكان بهذين الوجهين لتصوير الجامع.

وأمّا الكلام في مقام الإثبات ، فلا شكّ في أنّ المشتقّ وضع للمتلبّس بالمبدإ فعلا ، ويدلّ على ذلك امور :

الأوّل : التبادر ، وحاصل المقصود ببيان واضح أنّ المركوز في الأذهان في

٥٢٣

مقام الإثبات والدلالة عند العرف في كلّ لغة ولسان بهداية التبادر المقبول عند العقلاء في جميع المحاورات خصوص المتلبّس لا الأعمّ ، وذلك التغيير من المشتقّ لا اختصاص له بلغة دون اخرى ، بل هو وجداني موجود لكلّ أهل تكلّم بالنسبة إلى لغاتهم ، إذ أنّهم يفهمون من المشتقّات عند إطلاقها واستعمالاتها المتلبّس بالمبدإ فعلا ، ولا تصدق عندهم إلّا مع فعليّة التلبّس والاتّصاف ، وصدقها على المنقضي عنه المبدأ وإن أمكن إلّا أنّه خلاف المتفاهم عرفا في مقام الإثبات والدلالة ، فلا يصار إليه بلا قرينة على ذلك في مقابل ذاك التبادر المسلّم. وهذا التبادر والارتكاز غير مختصّ بلغة دون اخرى كما تقدّم ، غير أنّ الهيئات في جميع اللغات وضعت لمعنى واحد على اختلافها باختلاف اللغات.

فمن باب المثال إنّ هيئة (ضارب) في لغة العرب وضعت لعين المعنى الذي وضعت له هيئة (زننده) في لغة الفرس ، ولأجل ذلك يفهم من تبادر عنده من كلمة (زننده) خصوص المتلبّس أنّ كلمة ضارب أيضا كذلك.

نعم تختلف المواد باختلاف اللغات فيختصّ التبادر فيها بأهل كلّ لغة ، فلا يتبادر من لفظ العجمي للعربي شيء وبالعكس ، نظرا إلى اختصاص الوضع بأهلها. وهذا هو السبب في رجوع أهل كلّ لغة في فهم معنى لغة اخرى إلى أهلها وتبادره عندهم ، فالعجمي يرجع في فهم اللغة العربيّة إلى العرب وبالعكس ، وهذا بخلاف الهيئات ، فإنّها على اختلافها في اللغات مشتركة في معنى واحد ، فالهيئات الاشتقاقية بمختلف أنحائها وأشكالها من الأنواع المتشتّتة وضعت لمعنى واحد وهو خصوص المتلبّس بالمبدإ فعلا.

وقد انقدح لك ممّا تقدّم آنفا أنّ هذا التبادر غير مختصّ بالجمل التامّة التركيبية ليقال : إنّ منشأ هذا التبادر والظهور الحمل في التلبّس الفعلي في الحال ، بل الحقّ أنّ حال هيئة المشتقّ حال هيئة المركّبات التقييدية كالإضافة

٥٢٤

والتوصيف ، فكما أنّ المتبادر عند أهل العرف من تلك المركّبات فعليّة النسبة والقيد ، ولا تصدق خارجا إلّا مع فعليّة الاتّصاف ، فكذلك المتبادر عندهم من المشتقّات طابق النعل بالنعل. فهذا السنخ من التبادر كاشف بالكشف اليقيني القطعي عن الوضع لخصوص المتلبّس فقط لا غير ، لأنّه غير مستند إلى شيء من القرائن الحاليّة والمقالية على الفرض ، ولا إلى كثرة الاستعمال ، إذ من الضروري أنّ العرف حسب ارتكازهم يفهمون من المشتقّات المتلبّس ، من دون ملاحظة الكثرة وحصول الانس منها. فدعوى أنّ هذا التبادر مستند إلى كثرة الاستعمال دون الوضع يكون رجما بالغيب وملحقا بالجزاف.

الثاني : صحّة سلب المشتقّ عمّن انقضى عنه المبدأ ، فيقال : (زيد ليس بعالم بل هو جاهل) فتلك الصحّة من سلب المشتقّ عمّن انقضى عنه المبدأ آية محكمة على أنّ المشتقّ مجاز في المنقضي عنه المبدأ ، وإلّا لم يصحّ السلب عنه.

وقد يورد عليه بأنّ المراد من صحّة السلب إن كان صحّة السلب مطلقا فغير صحيح ، ضرورة صحّة حمل المشتقّ على المنقضي عنه المبدأ بمعناه الجامع. وإن كان مقيّدا فغير مفيد ، إذ علامة المجاز صحّة سلب المطلق دون المقيّد.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الإيراد صحيح فيما إذا تردّد المفهوم العرفي للفظ بين السعة والضيق ، ولم يعلم أنّه موضوع للمعنى الموسّع أو المضيّق ، كلفظ (العمى) من باب المثال إذا تردّد مفهومه عرفا ودار بين أن يكون مطلق عدم الإبصار ولو من جهة أنّه لا عين له كبعض أقسام الحيوانات ، وبين خصوص عدم الإبصار مع وجود عين له ومع شأنية الإبصار ، ولم يثبت أنّه موضوع للثاني ، لم يمكن إثبات أنّه وضع للمعنى الثاني بصحّة السلب.

وذلك لأنّه إن اريد بصحّة السلب صحّة سلب العمى عمّا لا عين له بالمعنى

٥٢٥

المطلق فهو غير صحيح ، بداهة صحّة حمله عليه بهذا المعنى. وإن اريد بها صحّة سلبه عنه بالمعنى الثاني وهو عدم الإبصار مع شأنيّته ، فهو وإن كان صحيحا إلّا أنّه لا يثبت أنّ العمى لم يوضع للأعمّ ، لأنّ سلب الأخصّ لا يلزم سلب الأعمّ ، وقد ثبت في المنطق أنّ نقيض الأخصّ أعمّ من نقيض الأخصّ ، فسلب الأوّل حيث إنّه أعمّ غير ملازم سلب الثاني.

إلّا أنّ ذلك لا يتمّ في محلّ بحثنا ، وذلك من جهة ما تقدّم من أنّ المتبادر عرفا من المشتقّ خصوص المتلبّس بالمبدإ فعلا ، وهو رمز الحقيقة ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر إذا صحّ سلب المشتقّ بما له من المفهوم العرفي عن المنقضي عنه المبدأ فهو كاشف عن عدم وضعه للجامع ، وإلّا لم يصحّ سلبه عن مصداقه وفرده في وقت من الأوقات وفي حين من الأحيان ، فلو صحّ سلب المشتقّ بمفهومه العرفي عمّن انقضى عنه المبدأ ثبت أنّه موضوع للمتلبّس بصحّة سلبه عن المنقضي كما اطّلعت عليه.

الثالث : لا ريب في تضادّ مبادئ المشتقّات عرفا بما لها من المعاني الثابتة في الأذهان المرتكزة في النفوس المطّلعة ، كالحركة والسكون ، والنوم واليقظة ، والقيام والقعود ، والسواد والبياض ، والعلم والجهل وما شاكلها ، ضرورة أنّ اثنين منها لا يجتمعان في الصدق في آن واحد. وعلى هذا التقريب تكون العناوين الاشتقاقية المنتزعة عن اتّصاف الذات بها متضادّة.

ومن هنا يرى العرف التضادّ بين عنوان العالم والجاهل ، والأسود والأبيض ، والمتحرّك والساكن وهكذا ، وهو بنفسه يدلّ على أنّ المشتقّ موضوع للمتلبّس دون الأعمّ ، وإلّا لم يكن بينها مضادّة عرفا بما لها من المعاني ، بل هي مخالفة ، وأمكن صدق عنوانين منها على الذات في زمن واحد فيما إذا كان التلبّس بأحدهما فعليا وبالآخر منقضيا ، فيجتمعان في الصدق في آن واحد ، فلا مضادّة.

٥٢٦

وببيان آخر : إنّ المشتقّ لو كان موضوعا للأعمّ لم يلزم اجتماع الضدّين عند صدق عنوانين على الذات حقيقة ، بل يصحّ أن يقال عرفا : هذا أسود وأبيض ، أو عالم وجاهل في آن واحد ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، ضرورة أنّ هذا اجتماع الضدّين حقيقة ، كما أنّ قولنا : هذا سواد وبياض ، أو علم وجهل ، كذلك.

نعم لو كان الصدق مختلفا في الزمان بأن كان صدق أحدهما في زمان وصدق الآخر في زمان آخر ، أو لم يكن الإطلاق في كلا الحملين حقيقيا ، بل كان في أحدهما بالحقيقة وفي الآخر بالعناية فلا تضادّ ، إذ المعتبر في تحقّق التضادّ أو التناقض في أيّ مورد كان وحدة الزمان مع اعتبار بقية الوحدات المتقدّمة ، ومع الاختلاف فيه أو في غيره من الوحدات كالجزء والكلّ ، أو لم يكن الإطلاق في كليهما على نحو الحقيقة ينتفي التضادّ.

فالنتيجة أنّ ارتكاب التضادّ بين العناوين بما لها من المعاني قرينة عرفيّة على الوضع للمتلبّس.

على أنّ ما ذكرناه في المقام من الأدلّة على الوضع لخصوص المتلبّس لا يختصّ بهيئة دون اخرى ، وبلسان دون لسان ، وبلغة من اللغات دون بقيّتها ، بل هو جار في كلّها لجميع المحاورات الدارجة بين الممالك والملل من العرب والعجم والترك والديلم بالنسبة إلى أقطار العالم الإنساني ، ولا أثر لاختلاف المبادئ في ذلك المطلب المسلّم. كما أنّه لا أثر لاختلاف العوارض والطوارئ والحالات بوجه من الوجوه بالقطع واليقين ، وهذا واضح لمن تأمّل في الامور والأدلّة المتقدّمة.

وعليه فما ذهب إليه القوم من التفاصيل باعتبار اختلاف الطوارئ والحالات مرّة ، وباعتبار اختلاف المبادئ تارة اخرى ، لا يرجع إلى معنى محصّل مصدّق.

فانقدح بما أوضحنا لك في المقام أنّه لا مناص ولا مفرّ من الالتزام بوضع

٥٢٧

المشتقّ من قبل الواضع لخصوص المتلبّس فقط دون الأعمّ.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه من الانحصار والاختصاص أنّ الفقهاء قدس‌سره لم يلتزموا بترتيب الآثار في موارد الانقضاء ، ولأجل ذلك لم يحكموا بوجوب الإنفاق على الزوجة بعد انقضاء الزوجيّة عنها بالطلاق أو نحوه وكذا يجوز النظر إليها ، مع أنّ المشتقّ إذا كان حقيقة في الأعمّ فلا بدّ لهم من بيان تلك الأحكام بالنسبة فيما بعد الانقضاء بالطلاق ، لصدق الزوجة على القول بالأعمّ.

هذا تمام الكلام في بيان المختار في اختصاص وضع المشتقّ بخصوص المتلبّس دون الأعمّ.

أدلّة القول بالأعمّ

وقد بقي الكلام في بيان استدلال القول بالأعمّ ، وقد استدلّ على ذلك بكثرة استعمال المشتقّ في الأعمّ أي في موارد الانقضاء ، بتقريب أنّ استعمال المشتقّ في موارد الانقضاء أكثر من استعماله في موارد التلبّس ، إذ نرى بالوجدان في المحاورة يقولون : (هذا قاتل زيد وضارب عمرو ، وذاك مقتوله ومضروبه) وهلم جرّا إلى آخر المشتقّات التي تقدّمت الإشارة إليها بموادّها وهيئاتها.

فلو كان المشتقّ موضوعا لخصوص المتلبّس للزم أن تكون هذه الإطلاقات والاستعمالات وأمثالها من الاستعمالات المجازيّة ، وهذه بعيدة في حدّ ذاتها ، على أنّها تنافي حكمة الوضع التي هي باعثة إلى وضع الألفاظ لغرض التفهيم والتفهّم في مقام التخاطب في المحاورة ، إذ الاستعمال في موارد الانقضاء لو كان أكثر فالحاجة تنادي وتدعو إلى الوضع بإزاء الجامع الأعمّ ، دون خصوص المتلبّس.

٥٢٨

وفيه أنّه مردود ، لأنّه مجرّد استبعاد في مقابل البرهان ، مع أنّه لا مانع من أن يكون استعمال اللفظ في المعنى المجازي أكثر من استعماله في المعنى الحقيقي مع القرينة ، لازدياد جهات المعاني المجازيّة بالطبع عن المعنى الحقيقي الذي هو بالوضع مختصّ في موضوع له خاصّ ، بخلاف المعنى المجازي ، فإنّه لا محدوديّة فيه. فإذن لا محذور في ذلك بالقطع واليقين أصلا وأبدا بوجه من الوجوه ، على أنّ باب المجاز أوسع وأبلغ من الاستعمال في المعنى الحقيقي بالتقريب المتقدّم ، ولأجل ذلك يستعمل التشبيه والكناية والاستعارة والمبالغة التي هي من أقسام المجاز في كلّ المحاورات في الأشعار والكتب وكلمات الفصحاء والبلغاء من القديم إلى زماننا هذا أكثر من استعمالها في كلمات غيرهم.

والسّر في تلك الكثرة أنّ استعمال اللفظ في المعنى المناسب ليس محدودا بموارد خاصّة للمعنى الموضوع له ، بل هو ـ أي الاستعمال ـ يدور مدار المناسبة حيث وجدت ، فإنّه يجوز بأدنى مناسبة يقبلها الطبع البليغ في ميدان الفصاحة الواسع للشريف والوضيع من أبناء التكلّم واللسان ، فلا جرم يتكثّر بتكثّر المناسبات والعنايات بالعلاقات الملحوظة في مقتضيات الأحوال ، على حسب اختلاف الأحوال في موارد دعت الحاجة إلى استعمال المجازي بما لها من المقتضيات والحكمة التي يراها المتكلّم والناطق عند البيان والمخاطبة.

ومن هنا لا يكون ذلك تحت انضباط خاصّ وبرنامج كلّي ، ولأجل ذلك يكون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي ، بل ربما يكون بالعكس ، مع إمكان أن يكون لمعنى واحد حقيقي بالوضع معان عديدة كثيرة مجازية ، وربما تتزايد المعاني المجازية بحدوث المعاني المجازية بمرور الزمان.

وثانيا : أنّ تلك الاستعمالات الكثيرة مع اعترافنا بكثرتها بلا ريب وشبهة

٥٢٩

يمكن أن تكون مربوطة بحكمة الوضع ، لا من باب المجاز ، بل من باب الحقيقة بلحاظ حال التلبّس دون حال الانقضاء ، بل الحقّ أنّها تكون بلحاظ التلبّس. فإذن لا ينبغي الإشكال في أنّ هذه الاستعمالات كلّها على هذا التقريب داخلة في الحقيقة دون المجاز ، فإنّها استعمالات في المتلبّس واقعا ، فإطلاق (ضارب عمرو) على (زيد) باعتبار زمان تلبّسه به ، لا باعتبار اتّصافه به فعلا ، وهكذا يكون الأمر بالنسبة إلى استعمال بقية المشتقّات في المنقضي بلحاظ حال التلبّس.

فعلى هذا لا تبقى هنا صغرى للكبرى المذكورة ، وهي أنّ كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي لا تناسب ولا تلائم حكمة الوضع ، بل هي تلائم حكمة الوضع ، فإنّه لا مجاز بذلك التقريب ليكون الاستعمال فيه أكثر ، بل الإشكال على ضوء هذا البيان منتف بانتفاء الموضوع.

والنتيجة أنّ استعمالات التي وردت في كلمات الفصحاء في موارد الانقضاء ليس شيء منها بلحاظ حال الانقضاء ، بل كلّها بأجمعها بلحاظ حال التلبّس ، فتكون حقيقة بعيدة عن المجاز ، وتلك الحقيقة تتجلّى في الذهن المتأمّل فيها بالتدبّر والدقّة.

وقد بقي هنا بيان حال استعمال المشتقّ في المنقضي بلحاظ حال الانقضاء ، فلا يخفى عليك أنّ ذلك وإن كان محتملا في القضايا الخارجية في الجملة ، ولكنّه في القضايا الحقيقة غير محتمل ، إذ الاستعمال فيها دائما إنّما يكون في المتلبّس فقط دون المنقضي ، بل الحقّ المصدّق أنّه لا يعقل فيها حال الانقضاء.

وذلك السنخ من الاستعمال موجود في القرآن الكريم (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(١) و (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا

__________________

(١) النور : ٢.

٥٣٠

أَيْدِيَهُما)(١) ؛ إذ المقصود منهما أنّ كلّ شخص فرض متلبّسا بالزنا أو السرقة فهو محكوم عليه بجلده ، أو بقطع يده ، فالمشتقّ في هاتين الآيتين استعمل في المتلبّس ، وهو تمام الموضوع للحكم المذكور فيهما.

وقد ذكرنا غير مرّة أنّ الموضوع في القضايا الحقيقية لا بدّ من أخذه مفروض الوجود في الخارج.

ولأجل ذلك ترجع كلّ قضيّة حقيقية إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها وجود الموضوع ، وتاليها ثبوت الحكم له. فالموضوع في الآيتين كلّ إنسان فرض متلبّسا بالزنا ، أو السرقة في الخارج ، فعنوان الزاني ، أو السارق مستعمل في من تلبّس بالمبدإ ، نهاية الأمر أنّ زمان القطع والجلد متأخّر في الخارج عن زمن التلبّس بأحد المبدأين المذكورين ، فإنّهما يتوقّفان على ثبوت التلبّس بأحدهما عند الحاكم بأحد الطرق المعتبرة كالبيّنة أو نحوها.

فقد تلخّص أنّ الاستعمال في المنقضي في القضايا الحقيقية غير معقول ، بل الاستعمال إنّما يكون دائما في المتلبّس فقط وليس إلّا ، وهذا واضح كالشمس في وسط السماء.

ومن هنا قد انقدح فساد ما ذكره بعضهم من أنّ المشتقّ في هاتين الآيتين وأمثالهما مستعمل في من انقضى عنه المبدأ ، ومن هذه الناحية يعلم أنّ المشتقّ موضوع من قبل الواضع للأعمّ ، كما ينقدح بذلك أنّه لا وجه لما ذهب إليه المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره في مقام الجواب عن هذا الاستعمال من أنّ الاستعمال فيها بلحاظ حال التلبّس دون الانقضاء (٢) ، إذ قد عرفت من أنّ حالة

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

(٢) كفاية الاصول : ٧٠.

٥٣١

الانقضاء في أمثال المقام غير متصوّرة ، ليكون الاستعمال بلحاظ حال التلبّس دونها.

وهذا يكون من قبيل قولك : (الجنب والحائض يجب عليها الغسل) إذ المراد منهما هو كلّ إنسان ومكلّف فرض متلبّسا بالجنابة أو الحيض خارجا فهو محكوم عليه بالغسل ، فعنوان الجنب أو الحائض قد استعمل فيمن تلبّس بالمبدإ ، ولا يتصوّر فيه الانقضاء ، غاية الأمر أنّ الامتثال يقع متأخّرا عن زمان الوجوب كما أنّ الأمر كان كذلك في الآيتين المتقدّمتين.

فالنتيجة أنّ التمسّك بهاتين الآيتين للاستدلال على وضع المشتقّ للأعمّ خال عن الوجه والاعتبار بالضرورة من البرهان.

وهنا استدلّ لمسلك الأعمّي بالآية الشريفة (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١) ، لاستدلال الإمام عليه‌السلام بهذه الآية لعدم لياقة الثلاثة للتصدّي لمقام الإمامة والخلافة من ناحية تلبّسهم بالكفر والشرك وعبادة الصنم والوثن في طول سنين متمادية ، حيث قال الله تبارك وتعالى عزوجل (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) في جواب إبراهيم الخليل على نبيّنا وآله وعليه‌السلام : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وأيّ ظلم أعظم من الشرك ، والحال أنّه تعالى يقول في سورة لقمان : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(٢).

والاستدلال بهذه الآية من الإمام عليه‌السلام يتمّ على كون المشتقّ بالوضع حقيقة في الأعمّ ، دون كونه حقيقة في خصوص من تلبّس بالمبدإ ، فإنّ استدلاله عليه‌السلام على القول بالأخصّ لا يتمّ ، إذ الكفر منهم وإن كان من أعظم أنحاء الظلم ، ولكنّه

__________________

(١) البقرة : ١٢٤ ، وانظر تفسير البرهان ١ : ١٤٧.

(٢) لقمان : ١٣.

٥٣٢

بحسب الظاهر قد انقضى عنهم بالتشرّف بالإسلام وأنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، وإنّما يتمّ الاستدلال منه عليه‌السلام بمسلك الأعمّي. فإذن لا بدّ لنا من الالتزام بالحقيقة في الأعمّ دون خصوص المتلبّس ، صونا لتماميّة استدلال الإمام عليه‌السلام بهذه الآية الكريمة على عدم لياقتهم للإمامة والخلافة إذ الإمام عليه‌السلام استدلّ بهذه الآية أي قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) لعدم لياقتهم للخلافة والإمامة إذ هم كانوا متلبّسين بظلامة الكفر والشرك وعبادة الصنم والوثن في سنين متمادية ، وهذا الاستدلال منه عليه‌السلام لا يتمّ إلّا بالقول بكون المشتقّ بالوضع من قبل الواضع حقيقة في الأعمّ ، وإلّا فلا يتمّ الاستدلال بهذه الآية ، لانقضاء ظلم الشرك بتشرّفهم بالإسلام.

والحاصل ممّا تقدّم من الاستدلال منه عليه‌السلام على الأعمّ عبارة من التمسّك بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) عدم لياقة من عبد الأصنام للخلافة ولو بعد دخوله في الإسلام.

وفيه : أنّه قد تقدّم الجواب عن هذا الإشكال عند تكلّمنا في بيان آية السرقة والزنا مفصّلا ، إذ ذكرنا هناك أنّ استدلاله عليه‌السلام في نفي خلافتهم بالآية الشريفة غير مربوط بمسألة كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ عن المتلبّس بالقطع واليقين كالشمس في مقابل الجبين.

بل الحقّ المصدّق أنّه ليس للمشتقّ ربط بهذا الاستدلال منه عليه‌السلام بالآية الشريفة بوجه من الوجوه في نفي الخلافة عنهم ، إذ غير خفيّ عليك أنّ ذلك النزاع حسب ما عرفت غير جار في الآية الشريفة ، فإنّها من القضايا الحقيقيّة التي اخذ الموضوع فيها مفروض الوجود ، فمن الواضحات أنّ فعليّة الحكم فيها تابعة لفعليّة موضوعه ، من دون إمكان تعقّل تخلّف الحكم عنه ، بل على فرض التسليم بأنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ عن المتلبّس.

٥٣٣

فاستدلاله عليه‌السلام بالآية المباركة لا مساس له بمسألة المشتقّ ، لأنّ مسألة الخلافة من سنخ قضايا الحقيقية غير المربوطة بباب استعمال المشتقّ بعنوان الحقيقة في الأعمّ أو في خصوص المتلبّس.

وذلك من جهة أنّ الله الحكيم عزوجل نزّل هذه الآية المباركة في مقام بيان تشريح أهمّية منصب الخلافة والإمامة بأنّ الإمام وخليفة الرسول عليهما‌السلام لا بدّ من أن يكون كنفس الرسول في العصمة والطهارة ، بعيدا عن المعاصي ، فضلا عن الظلم والشرك حتّى في عالم الأصلاب والأرحام ، كما يشهد بذلك ما ورد في المزار : (أشهد أنّك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة) فيكون مفاد الآية النداء الموضوعي لبيان علوّ درجة الخلافة بكيفيّة القضايا الحقيقيّة التي اخذ الموضوع فيها مفروض الوجود ، بلا أيّ نظر فيها بالنسبة إلى القضايا الخارجية ، حتّى تكون مربوطة بباب الإطلاق والاستعمال ليمكنك أن تقول : إنّها استعملت في الأعمّ دون المتلبّس.

فإذا فرض أنّ مسألة الخلافة من القضايا الحقيقية التي اخذ الموضوع فيها مفروض الوجود ، فلا يذهب عليك أنّ فعليّة الحكم فيها تابعة لفعليّة الموضوع في الآية المباركة ، ولا يعقل تخلّف الحكم عنه ، فإنّه حينئذ يكون من سنخ تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

نعم لا بأس بجريان النزاع في القضايا الخارجيّة التي يكون الموضوع فيها أمرا وجوديا خارجيّا ، فإنّه يمكن أن يؤخذ الحكم فيها باعتبار خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه ومن المنقضي عنه المبدأ ، والتحيّر والترديد في استعمال المشتقّ في المتلبّس أو الأعمّ إنّما يتأتّى في القضايا الخارجية ، دون القضايا الحقيقيّة.

مثلا عنوان العالم في قولنا : «يجب إكرام العالم» يستعمل فيمن تلبّس بالمبدإ

٥٣٤

أبدا ، سواء تحقّق التلبّس في الخارج أم لم يتحقّق ، فإنّه قد فرض فيه وجود شخص متلبّس بالعلم وحكم بوجوب إكرامه ، ولا يعقل الانقضاء فيه ليقع الكلام في عموم الوضع له.

فعلى هذا البيان يكون مفاد الآية الشريفة أنّه لو وجد في العالم إنسان كان قد اتّصف بالظلم في أقلّ من آن من الزمان فهو لا يجوز أن يكون إماما ولو عاش إلى يوم القيامة مسلما مؤمنا بعيدا عن الظلم حتّى يدركه الموت ، لأنّ موضوع عدم نيل العهد والخلافة عبارة عن الظلم ، وذلك بالشرك يحصل فيهم ، فالعلّة المحدثة هنا مبقية إلى الأبد ، فإذا كان حدوث الظلم بهذا المقدار مانعا عن ترتّب الحكم فكيف ينال العهد من خاض في غمرات الكفر والشرك والعصيان وعبادة الأصنام في مقابل الرحمن جيلا من الزمان.

وعلى هذا التقريب علم أنّ استدلال الإمام عليه‌السلام بالآية المباركة على عدم لياقة عبدة الأوثان للخلافة غير مربوطة بكون المشتقّ موضوعا للأعمّ ، ليصدق على من انقضى عنه المبدأ حقيقة ، بل هو مربوط بنزاع آخر لا ربط له بمبحث المشتقّ ، وهو عبارة عن أنّ العناوين التي جاءت في متعلّقات الأحكام في القضايا الحقيقيّة هل تدور الأحكام مدارها حدوثا وبقاء ، أم تدور مدار حدوثها فقط لتكون العلّة المحدثة هي العلّة المبقية ؟

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الصحيح في المقام هو التفصيل ، إذ الأحكام المترتّبة على تلك العناوين تدور مدار مقتضياتها ، وهي تختلف في مرحلة الإثبات والنفي بحسب اختلاف الموارد بكيفيّة الاختلافات التي يرى الحاكم في جعلها في مقتضيات المقامات والأحوال ، مع كون الغلبة في أكثر الموارد دخالتها فيها حدوثا وبقاء عند تفاهم المتعارف العرفي منها ، إذ الحاكم إن قال : «لا تصلّ خلف الفاسق» يظهر من كلامه هذا عرفا أنّ النهي عن الاقتداء بالفاسق يدور مدار

٥٣٥

فسقه حدوثا وبقاء ، بمعنى أنّه إذا فقد الفسق بالتوبة فينتفي النهي ويجوز الاقتداء.

كما أنّ في بعض الموارد لم يؤخذ الحكم بذلك المدار ، بل اخذ مداره بلحاظ الحدوث فقط ، فبمجرّد حدوث العنوان يترتّب الحكم وإن زال ذلك العنوان عن هذا الموضوع بقاء في تمام العمر ، فالعنوان في حدوث الحكم وإن كان دخيلا بالقطع واليقين ، ولكنّه بقاء غير دخيل فيه ، فيعبّرون عن هذا السنخ من العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام بأنّ حدوثها يكون علّة المبقية في ترتّب الأحكام عليها على الأبد ، كما سبق نظير ذلك في ترتّب الجلد والقطع في آيتي الزنا والسرقة ، فبمجرّد حدوث الزنا والسرقة يحدث وجوب الجلدة والقطع ، وليس لهذين المبدأين دخالة في الحكم بقاء بوجه من الوجوه ، وهذا هو السرّ في بقاء الحكم من دون أيّ ربط بوضع المشتقّ للأعمّ أو للأخصّ.

وبالجملة ، لا شكّ ولا شبهة في أنّه فرق بين القضايا الخارجيّة والقضايا الحقيقيّة.

وذلك من جهة أنّ أخذ العناوين في متعلّقات الأحكام على أشكال مختلفة ؛ إذ ربما تؤخذ على نحو المعرّفية والإشارة ، كما في القضايا الخارجيّة ، كقولك : «أكرم زيد بن فلان» أو «أعطني الفرد الخامس من الكتاب» وأمثالهما من العناوين المشيرة غير الدخيلة في المعيار والملاك المقصود من ترتّب الحكم ، وإنّما تلك العناوين في الكلام لمجرّد المعرّفية فقط من دون أن يكون لها دخل في الغرض والملاك من الحكم ، لأنّا نعلم بالضرورة من الوجدان عدم دخالة ابن فلان أو عنوان الخامسيّة في الغرض والملاك من الحكم ، بل أخذهما الحاكم في الكلام لمجرّد الإشارة إلى المقصود بعنوان المعرّف والمشير.

كما ربّما يؤتى بها في الكلام بملاك الموضوعيّة ، كما أنّ هذا السنخ يوجد في

٥٣٦

مثل القضايا الحقيقيّة العقليّة غير المربوطة بباب الاستعمال في المتلبّس أو الأعمّ ، فإنّها في الأغلب دخيلة في الحكم والغرض والملاك حدوثا وبقاء ، بحيث إذا زال ذلك العنوان بأيّ سبب في البقاء والمستقبل ، فالحكم ينتفي ولا يترتّب على متعلّقه ، إذ الموضوع الحقيقي في أغلب تلك القضايا ليس هذا العنوان في الواقع والحقيقة حدوثا وبقاء ، فكما كان ذلك العنوان في الحدوث دخيلا في البقاء ، لا بدّ من أن يكون باقيا ليترتّب الحكم عليه ، كالمثال المتقدّم الذي اخذ موضوعا لعدم جواز الاقتداء بالفاسق.

واخرى ليس الأمر كذلك ، بل نفس حدوث العنوان يكفي لبقاء الحكم في المستقبل إلى يوم القيامة ولو كان حدوثه في أقلّ من الاسبوع بالنسبة إلى بقية أيّام العمر ، كمورد استدلال الإمام عليه‌السلام في عدم لياقة الظالم بالكفر والشرك لنيل عهد الخلافة والإمامة من قبل الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كان من اختار الشرك والظلم والكفر من ذريّة خليل الرحمن ، وكان شركه وعبادته في ساعة من عمره فضلا من أن يكون منغمرا في الشرك والكفر والظلم في أكثر أيّام عمره ، كبعض الصحابة التي أنقذهم الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الشرك وأدخلهم في الإسلام بحسب الظاهر ، إذ هذا السنخ من الظلم الذي اخذ في لسان الآية يكفي في إسقاط الظالم عن منصب الخلافة بمجرّد حدوثه. ففي أمثال تلك الموارد العنوان الذي اخذ في الكلام موضوعا للحكم حدوثه يكفي عن البقاء ، فيكون العنوان والموضوع عند ذلك بمنزلة العلّة المحدثة التي هي بعينها هي العلّة المبقية في استدامة الحكم وبقائه إلى آخر عمر الظالم ، ولو كان زمان حدوث ذلك الموضوع والعنوان قصيرا كالساعة والساعتين.

فمن ابتلي بالشرك والكفر مع كمال العقل والبلوغ من أيّ سبب كان عروض هذه الحالة الشيطانيّة الاستكباريّة فهو ظالم لا تبقى له لياقة لأن يناله عهد الله

٥٣٧

في الخلافة والإمامة ، فهو يسقط عن هذه اللياقة ولو كان هذا الشخص من ذريّة إبراهيم الخليل وإسماعيل الذبيح ، وإن أسلم بعد ذلك بالإيمان المتيقّن. فكيف ينال هذا المنصب من كان يشرك بالله العظيم ويعبد الأصنام والأوثان في طول السنين المتمادية مع خوضهم في غمرات الكفر وإنكار الصانع وعبادة الأصنام في مقابل الرحمن وفاطر السماوات.

على أنّ منصب الخلافة والولاية والإمامة من المناصب العظيمة الإلهيّة وهي أرقى من مرتبة النبوّة ، لأنّ منصب الإمامة قد اندكّت فيه مرتبة النبوّة ، فيكون الإمام والخليفة واجدا لكلا المرتبتين ، كما يؤيّد ذلك قوله تعالى : (فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)(١) ولأجل ذلك سمّي آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام باولي العزم من الرسل دون غيرهم من الأنبياء على نبيّنا وآله وعليهم‌السلام.

وعلى ضوء هذا البيان فاعلم أنّ المتصدّي لهذا المنصب الخطير والجليل لا بدّ من أن لا يكون متنجّسا بأنجاس الجاهليّة التي يكون أنجسها الشرك بالله تعالى ، بل المتصدّي لهذا المنصب لا بدّ من أن يكون ممّن نزلت في حقّه آية التطهير في القرآن الكريم.

وتوضيح المطلب ببيان أوضح أنّ العناوين المأخوذة في الأحكام والقضايا ومتعلّقاتها على أشكال متعدّدة :

الأوّل : أن تكون مشيرة ومعرّفة إلى الواقع والأفراد بعنوان محض الإشارة إليها ، بلا كونها دخيلة في الحكم بوجه من الوجوه لا حدوثا ولا بقاء أصلا وأبدا ، كما يتّفق ذلك في القضايا الخارجية ؛ إذ العناوين التي هي مأخوذة

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

٥٣٨

فيها مأخوذة لمحض الإشارة إلى الأفراد ، مثل ما إذا قيل : صلّ خلف ابن عباس ، فعنوان (ابن عباس) قد أخذ معرّفا إلى ما هو الموضوع في الواقع فقط ، من دون دخل له في الحكم.

الثاني : أن تكون لها دخالة في الملاك والمعيار من الحكم حدوثا وبقاء بحيثيّة العلّية على نحو ترتّب المعلول على علّته في الدوران ، بمعنى أنّه لو فرض انتفاء العنوان في البقاء ينتفي الحكم بانتفائه ، وهذا هو الظاهر عرفا من العناوين التي اخذت في القضايا الحقيقيّة ، كقوله تبارك وتعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) فإنّه ظاهر في أنّ وجوب السؤال يدور مدار صدق ذلك العنوان وجودا وعدما وحدوثا وبقاء.

الثالث : أن تكون دخيلة في ملاك الحكم حدوثا فقط لا بقاء ، بمعنى أنّها لا دخل لها في بقاء الحكم ، فالحكم لا يدور مدارها في البقاء ، بل بقاء الحكم يكون من ناحية الحدوث ، فبقاء العنوان وعدم بقائه بعد تحقّق أصل الحدوث يكون كالحجر في جنب الإنسان بالنسبة إلى أصل الحدوث ، لأنّ تمام الموضوع في ترتّب الحكم ليس إلّا أصل حدوث العنوان بما أنّه حدث ووجد ، فيكون وجدان العنوان وحدوثه بعنوان صرف الوجود العلّة التامّة المحدثة والمبقية معا ، كما تقدّم بيان ذلك مفصّلا. فالموضوعات ومتعلّقاتها بما لها من العناوين في القضايا الحقيقيّة تكون من سنخ هذين القسمين الأخيرين وإن كان الأغلب بشكل الأوّل منهما ، ولأجل ذلك لم نجد إلى الآن موردا كان العنوان في القضيّة الحقيقيّة قد لوحظ معرّفا إلى ما هو الموضوع في الواقع بلا دخل له في الملاك والمعيار من الحكم.

__________________

(١) الأنبياء : ٧.

٥٣٩

وبهذا التقريب وقفت على كيفية الاستدلال بهذه الآية منه عليه‌السلام على عدم لياقة عبدة الأصنام لمنصب الخلافة ، إذ وقوع الكلام في أنّ عنوان الظالم المأخوذ في موضوع الآية المباركة هل اخذ دخيلا في الحكم على النحو الأوّل أو على الشكل الثاني ؟ فالاستدلال بالآية الكريمة على عدم لياقة عبدة الأصنام للخلافة إلى الأبد مبتن على أن يكون دخله على النحو الثاني دون الأوّل.

ولا يخفى أنّ الارتكاز الناشئ من مناسبة الحكم والموضوع يستدعي أنّ التلبّس بهذا العنوان آناً ما كاف لعدم نيل العهد والخلافة إلى الأبد ، وإن أسلم الظالم وتاب ورجع عن الظلم إلى الحقّ كتوبة النصوح ، فضلا عمّن أسلم من باب السياسة والنفاق كمعاوية وأبي سفيان عليهما اللعنة والنيران.

وذلك من جهة أنّ فطرة الناس بما لهم من الارتكاز متنفّرة عمّن تصدّى لمنصب إجراء حدود الزنا واللواط وشرب الخمر والقمار وأمثال ذلك مع كونه مرتكبا لها وإن طهر عنها واقعا بالقطع واليقين بالتوبة ، فكيف بالمتصدّي لمنصب الخلافة والإمامة التي هي بعد منصب الرسالة من أعلى المناصب وأعظمها.

بل قد عرفت أنّها في زمن الغيبة واجدة لكلا المرتبتين كالأئمّة الأطهار ، فإنّهم يكونون المثل العليا للإمامة والهدى لكافّة الجامعة البشريّة في مجتمع أقطار العالم الإنسانيّة في السير والسلوك بسيرتهم الحميدة المحمودة في السياسة والولاية ومكارم الأخلاق.

ولقد كفاك شاهدا على ذلك ما يكون في جبلة الناس وارتكازهم الوجدانيّ من سقوط العاصي بارتكاب تلك المعاصي المتقدّمة عن أنظار الناس ، لأنّهم بعد مشاهدة التوبة من العصاة لا يقدمون على الاقتداء بهم في صلاة الجماعة ، إذ بارتكاب المعاصي ينعدم عند الناس والعرف وقارهم وإن عادوا إلى العدالة الواقعيّة بالتوبة ، وإن كان يجوز بعد التوبة وحصول الوثاقة بعدالتهم الاقتداء بهم

٥٤٠