دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

والحاصل : أنّ كلامنا قد انتهى إلى بيان وضع أسماء الزمان ، وقد تقدّم الإشكال في دخول هيئة اسم الزمان في محلّ النزاع ، باعتبار أنّها فاقدة للركن الثاني الذي قد مرّ اعتباره في دخول شيء في محلّ الكلام ، وهو بقاء الذات مع انقضاء المبدأ عنها ، لأنّ الذات فيه وهي الزمان من الامور الجارية المنقضية التصرّمية في الوجود ، ينوجد وينعدم آناً فآنا ، فلا يعقل بقاؤها فيه مع زوال المبدأ عنها ليكون داخلا في موضوع النزاع. وأمّا إطلاق اسم الزمان في بعض الموارد كإطلاق مقتل الحسين وأصحابه عليهم‌السلام على يوم عاشوراء من شهر المحرّم في كلّ عام فهو من باب المجاز والعناية بلا بحث وكلام.

وقد أجاب المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) عن هذا الإشكال بأنّه لا مانع من أن تكون هذه الأسماء بالوضع اسما للجامع بينها والأفراد المعدومة ، إذ من الممكن أن يكون الشيء عند الواضع حين الوضع موضوعا للكلّي من الأفراد الموجودة والمعدومة بعنوان الاسم للقدر الجامع ، ولو كان في بعض الموارد منحصرا أي الكلّي في فرد خاصّ وبقيّة مصاديقه وأفراده غير ممكن التحقّق ، كالواجب وسائر أسماء الجلالة المختصّة بذاته جلّ وعلا عند من يقول بأنّها موضوعة لمفهوم الكلّي ، ولكنّه انحصر في الفرد في وعاء التحقّق ، فكلمة (واجب) موضوعة لكلّ من يكون واجب الوجود ، مع أنّ مصداقه منحصر في الله تبارك وتعالى من الأزل والأبد.

فعلى هذا فمجرّد انحصار الكلّي في الفرد الخاصّ في الوجود لا يوجب عدم إمكان صحّة كون الوضع حين الوضع اسما للأعمّ.

والحاصل أنّ جوابه عن حلّ الإشكال عبارة عن أنّ انحصار الكلّي والمفهوم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٨.

٤٨١

العامّ في فرد مخصوص ـ كما في موردنا هذا ـ لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون الكلّي العامّ ، وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة ، مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم الكلّي العامّ مع انحصاره فيه تبارك وتعالى.

وتقريب ذلك أنّه من الواضحات أنّ انحصار مفهوم الكلّي في فردين ، أحدهما ممكن والآخر ممتنع ، لا يوجب عدم إمكان وضع اللفظ للكلّي حين الوضع ليضطرّ الواضع من ناحية عدم الإمكان للكلّي إلى وضعه لخصوص فرد الممكن ، إذ له أن يلاحظ المعنى الجامع بين الفردين حين الوضع ووضع اللفظ بإزائه. ومحلّ كلامنا بالقطع واليقين كذلك ، إذ انحصار مفهوم اسم الزمان في فرد لا يوجب وضعه له فقط ، بل يمكن ملاحظة المفهوم العامّ بعنوان الكلّي واختصاص وضع اللفظ بإزائه دون الخاصّ.

كما يمكن أن يختصّ الوضع لخصوص ذلك الفرد الخاصّ المنحصر ، نهاية الأمر أنّه قد اختصّ وانحصر في الخارج والتحقّق في فرد خاصّ واحد ، وهو عبارة عن الزمان المتلبّس بالمبدإ بالفعل ، واستحالة تحقّق مصداقه الآخر في الفرديّة وهو الزمان المنقضي عنه المبدأ. فانقدح بذلك البيان أنّه لا مانع من وضع الواضع اللفظ حين الوضع للجامع بين الفرد الممكن والمستحيل أصلا وأبدا بوجه من الوجوه.

ونظير ذلك السنخ من الوضع وضع لفظ الجلالة (الله) لأنّه يكون محلّ النزاع في أنّه موضوع للجامع ، أو أنّه موضوع بعنوان علم لخصوص ذاته المقدّسة ، فلو لم يمكن الوضع للكلّي بين الممكن والممتنع لم يصحّ النزاع فيه ، بل كان المتعيّن أنّه علم لا اسم جنس ، إذ لو كان من قبيل الثاني لكان الوضع لا محالة للمعنى الجامع استحالة سائر أفراده غير ذاته جلّ وعلا.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكره قدس‌سره بأنّ امتناع غير الفرد الأوّل من الواجب من

٤٨٢

بقيّة الأفراد ليس مانعا من أن يكون الوضع للأعمّ وإن كان صحيحا في محلّه ، ولكن مع ذلك لا يمكن المساعدة له فيما نحن فيه.

أمّا أوّلا : فمن جهة أنّ ما ذكره في الواجب إن كان من حيث المادّة فلا خفاء بأنّ مادّة الوجوب عبارة عن الثبوت ، فإذا كانت مادّة الوجوب هي الثبوت فلا شكّ لأحد أنّ للثبوت أفراد ومصاديق كثيرة ، مثل الثبوت بالذات ، والثبوت بالغير ، وهكذا الأمر من حيث الهيئة ، لأنّ هيئة الواجب عبارة عن الثابت ، ومن الواضحات أنّ للثابت أفراد ومصاديق كثيرة كالثابت بالذات والثابت بالغير.

وثانيا : أنّ هذا النزاع من أصله لغو ؛ لأنّ الماضي من الأفراد قد خرج عن مورد الابتلاء بنفس المضيّ والانعدام ، فلا محالة يكون محلّ الابتلاء منحصرا بالمتلبّس ، فليس إلّا هو.

وثالثا : أنّ هذا يتمّ فيما إذا كان كلّ واحد من اسم الزمان موضوعا على حدة ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّه وضع للظرف ؛ إذ على هذا الفرض يبقى للنزاع هنا مجال واسع ؛ إذ لو قلنا بأنّه موضوع للظرف فمن الواضح أنّه بعد مضيّ ظرف التلبّس وزمانه يمكن أن يقع النزاع بأنّ مقتل الحسين عليه‌السلام اسم لذلك الوقت الذي ذبح شمر عليه اللعنة رأسه المقدّس من القفا ، أو أنّه وضع للأعمّ حتّى بالنسبة إلى السنوات الآتية ، أو لا بل هو مخصوص بخصوص حال تلبّسه الذي يكون الخنجر جاريا على نحره الشريف بيد ذلك الملعون من الأزل إلى الأبد.

وقد انتهى كلامنا إلى عدم صحّة جواب المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره. فلا يخفى أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّه لا مانع من وضع لفظ لخصوص الفرد الممتنع ، كما أنّه لا مانع من وضع لفظ للمعنى الجامع بين الفرد الممكن والممتنع ، بل الثاني كالأوّل يكون صحيحا ، بل الأوّل واضح بلا ريب ، إذ لا مانع من وضع لفظ لخصوص الفرد الممتنع كوضع لفظ بسيط للحصّة المستحيلة من الدور أو

٤٨٣

التسلسل ، أو لمفهوم اجتماع النقيضين ، فضلا عن الوضع للجامع بين ما يمكن وما لا يمكن من المستحيل ، كما أنّ الأمر يكون بهذا المنوال في لفظ الدور والتسلسل واجتماع النقيضين وما شاكل ذلك ، فإنّ الجميع وضع للمفهوم العامّ مع امتناع بعض أفراده في العين والخارج ، كاجتماع النقيضين والضدّين ، وتوقّف العلّة على المعلول المتوقّف على علّته ، فإنّه دور مستحيل وتسلسل فيما لا يتناهى ، وكثير من أفرادهما ممكنة في الخارج ، كدور الشيء حول نفسه ، والتسلسل فيما يتناهى وغيرهما.

وبالجملة فلا ينبغي الريب في إمكان هذا الوضع على جميع المسالك في تفسيره ، ففي مثل ذلك لا ينبغي إطالة الكلام ، لأنّ إمكان ذلك المقدار من هذا السنخ من الوضع من الواضحات.

وإنّما يبقى الكلام في أنّ وقوع مثل هذا الوضع منوط بتعلّق الحاجة بتفهيم الجامع المذكور ، إذ قد ذكرنا مرارا وكرارا أنّ الغرض من الوضع إنّما هو التفهيم والتفهّم لنيل المعاني بالدلالة الواضحة السهلة التي دعتنا الحاجة لإبرازها عند المخاطبة ، نظير الأمثلة المتقدّمة المذكورة ، إذ الحاجة كثيرا ما تتعلّق بإطلاق هذه الألفاظ في الجامع ، بل إنّما تستعمل ويطلق كثيرا ويراد منها خصوص الفرد المستحيل والحصّة الممتنعة.

فإذا عرفت عدم تعلّق الحاجة بذلك في المحاورة كان الوضع لغوا ، ومن الواضحات والبديهيات قبح صدور اللغو عن الواضع الحكيم ، ولمّا لم تكن الحاجة متعلّقة باستعمال اسم الزمان في الجامع بين الزمان المنقضي المنعدم عنه المبدأ والزمان المتلبّس به فعلا يصبح الوضع له لغوا محضا ، فصدوره عند ذلك عن واضع حكيم قبيح ، فلا محالة يخرج عن محلّ الكلام والبحث.

فبهذا البيان انقدح لك عدم صحّة مقايسة المقام باسم الجلالة الذي وقع النزاع

٤٨٤

في أنّه علم لذاته المقدّسة أو لا ، بل إنّه موضوع للجنس والكلّي الذي انحصر بفرد واجب الوجود الذي له جميع الصفات الكماليّة في العين والخارج ، وذلك لتعلّق الحاجة باستعمال لفظ الجلالة في الجامع في مسائل البحث عن التوحيد وغيره ، وهذه الحاجة غير جارية في مثل اسم الزمان ، إذ لا يتعلّق غرض باستعمال اللفظ في الجامع بين المنقضي والمتلبّس إذا كان وضع اللفظ بإزائه كما تقدّم محضا.

وأمّا تمثيله بالموارد التي وضع للجامع مع امتناع بعض أفراده ومصاديقه بلفظ الواجب فهو منه غريب وعجيب ، وذلك من جهة ما تقدّم من أنّ الواجب بمعنى الثابت إنّما هو مفهوم عامّ جامع بين واجب الوجود الله تعالى وبين غيره ، إذ من الضروري أنّه يصدق على كلّ موجود ، لأنّ كلّ موجود في الخارج واجب لا محالة ، إمّا بالذات كذاته تعالى شأنه ، أو بالعلّة والغير ، مع الفرق حيث أنّه تبارك وتعالى واجب في ذاته بذاته لذاته ، وغيره من الموجودات واجب بإرادته وخلاقيّته. فإذن الواجب لذاته وإن كان منحصرا بخصوص ذات الله جلّ وعلا ، إلّا أنّ هذا اللفظ والكلمة لم توضع بوضع واحد ليكون من الوضع للعامّ مع انحصار فرده في واحد.

وملخّص الكلام : أنّ لفظ الواجب مرادف لكلمة الثابت ، فهو يطلق على الامور التكوينيّة والتشريعيّة ، فيصدق على كليهما ، وبازدياد كلمة (الوجود) عليه يعمّ ويشمل كلّ الموجودات من الواجب والثابت لذاته وبغيره ، وبزيادة كلمة (لذاته) ينحصر ويختصّ بالله سبحانه وتعالى ، من غير أن يشمل غيره. وقد عرفت أنّ ذلك غير مربوط بوضع اللفظ بإزاء جامع قد انحصر في الخارج بفرد مخصوص ، فإنّ الانحصار جاء فيه من ضمّ مفهوم إلى مفاهيم أخر لا بأس بأن يقال بأنّه يكون من باب تعدّد المدلول بتعدّد الدالّ.

٤٨٥

والخلاصة أنّ أسماء الأزمنة لم توضع بوضع على حدة في مقابل أسماء الأمكنة ، بل الهيئة المشتركة بينهما وهي عبارة عن هيئة (مفعل) وضعت بوضع واحد لمعنى واحد كلّي ، وهو كما تقدّم عبارة عن ظرف وقوع الفعل في الخارج ، أعمّ من أن يكون زمانا أو مكانا. وقد تقدّم أنّ البحث والنزاع إنّما هو في وضع الهيئة من دون أيّ نظر إلى مادّة دون مادّة ، فإذا فرض عدم تعقّل بقاء الذات في مادّة مع زوالها لم يوجب ذلك عدم جريان النزاع في الهيئة نفسها ، التي هي مشتركة بين ما يعقل فيه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ عنها وما لا يعقل ذلك فيه. وحيث إنّ الهيئة في محلّ البحث وضعت لوعاء المبدأ الجامع بين الزمان والمكان كان النزاع في وضعها لخصوص المتلبّس أو الأعمّ نزاعا معقولا ، نهاية الأمر أنّ الذات إذا كانت من قبيل الزمان والتكلّم لم يعقل بقائها مع زوال التلبّس عن المبدأ ، وإذا اتّفق مكانا يمكن تعقّل ذلك فيه ، وقد علمت أنّه لا مانع من وضع اللفظ للجامع بين الفرد الممكن والممتنع إذا تعلّقت الحاجة بذلك في مقام التفهيم والتفهّم.

نعم لو كانت هيئة اسم الزمان بخصوصها موضوعة لخصوص الزمان الذي وقع فيه الفعل على حدة ، فحينئذ لا مناص من الالتزام بخروج اسم الزمان عن حريم البحث والنزاع بالوضوح التامّ. هذا.

وقد انتهى كلامنا إلى بيان الأمر الثاني ، فاعلم أنّه قد تقدّم أنّ محلّ البحث في المشتقّ مخصوص ومنحصر بما إذا كان المشتقّ عرضا أو عرضيّا بعنوان المحمول بالضميمة محمولا على الذات كهيئة الفاعل والمفعول ، بخلاف مثل هيئات المصادر من المجرّد والمزيد التي تشتقّ عن المصادر المجرّدة ، فإنّها خارجة عن محلّ الكلام ، لأنّها موضوعة للدلالة على نفس المبدأ كأصل المصادر المجرّدة ، إذ أنّها غير محمولة على الذات حتّى يقال : إنّها اسم لخصوص

٤٨٦

المتلبّس بالمبدإ أو الأعمّ عمّن انقضى عنه المبدأ كخروج هيئات الأفعال عن محلّ البحث والكلام بالبداهة والوجدان ، لكونها موضوعة للدلالة على إبراز الأخبار عن تحقّق النسبة في الماضي والمضارع ، أو لكونها موضوعة لإبراز إنشاء النسبة نظير فعل الأمر والنهي.

وبعبارة اخرى : قد تقدّم أنّ المصادر المزيد فيها ، بل المصادر المجرّدة أو الأفعال كلّها خارجة عن حريم النزاع ، لأنّها غير جارية على الذوات.

أمّا المصادر فلأنّها وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير الذوات خارجا ، فلا تقبل الحمل عليها ، لما علمت من عدم الاتّحاد بينهما في الخارج حتّى يكون الحمل جائزا ، والحال أنّه قد عرفت من لزوم اعتبار الاتحاد في جواز الحمل.

وأمّا الأفعال فلأنّها وضعت للدلالة على نسبة المادّة إلى الذات على أنحائها المختلفة باختلاف الأفعال ، فالفعل الماضي يدلّ على تحقّق نسبة المبدأ إلى الذات ، والفعل المضارع يدلّ على ترقّب وقوع تلك النسبة في موطنها ، وفعل الأمر يدلّ على طلب تلك النسبة. ومن البيّن المعلوم أنّ معانيها هذه آبية عن الحمل على الذات كالنار على المنار.

وبقي هنا بيان ما ذهب إليه المحقّق صاحب الكفاية في ذيل هذا البحث من عدم دلالة الأفعال على الزمان ، خلافا للمشهور من أصحاب النحو والأدب ، إذ أنّه قدس‌سره ذكر أنّ مفهوم الزمان ليس مدلولا لشيء من الأفعال بوجه من الوجوه أصلا وأبدا ، بل إنّ ذلك أي عدم دلالتها على الزمان يكون بحدّ من الوضوح يمكن أن يقال : إنّه من الامور التي لا يكاد أن يتوهّم بالتزامها أحد من أهل التأمّل والوجدان في باب دلالات الأفعال ، إذ من الواضحات المسلّمة كالشمس في رابعة النهار أنّ مفهوم الزمان إنّما يعدّ من المفاهيم المستقلّة التي لا دلالة للأفعال عليها أبدا ، لا من ناحية المادّة ولا من ناحية الهيئة ، كما أنّ الأمر يكون بهذا

٤٨٧

المنوال عند من يقول بدلالة الأفعال على الزمان على نحو التقييد ، بتقريب أن يكون الفعل الماضي بالوضع اللغوي للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي لعدم الدليل على ذلك.

والحاصل أنّ المشهور بين النحاة وأهل الأدب دلالة الأفعال على الزمان ، فالفعل الماضي يدلّ على شيئين : أحدهما على تحقّق المبدأ ، والثاني على تحقّقه في الزمن السابق على التكلّم ، كما أنّ فعل المضارع يدلّ تحقّقه في الزمن المستقبل أو الحال ، كدلالة صيغة الأمر على الطلب في زمان الحاضر.

ولأجل ذلك ذكروا أنّ الاسم يدلّ على معنى في نفسه ، والحرف يدلّ على معنى في غيره ، بخلاف الفعل ، فإنّه يدلّ على المعنى مقترنا بأحد الأزمنة الثلاثة من الماضي والمستقبل والحال.

خلافا للمحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره حيث أنكر تلك الدلالة منهم أشدّ الإنكار ، واستدلّ على مدّعاه بصحّة استعمال تلك الأفعال في نفس مفهوم ذات الزمان ، بلا احتياج إلى لحاظ عناية جانب المجاز والتجريد ، كقول القائل : مضت الأيام والاسبوع والشهور والسنوات من عمر أهل الدنيا وهم في غرور من العصيان والفساد.

بل نرى بعنوان الحقيقة أنّهم يستعملون الأفعال في نفس الزمان بلا تجريد وعناية ويقولون : مضت القرون والدهور ، مع أنّ هذه الأفعال إذا كانت موضوعة للدلالة على إبراز تحقّق النسبة في الزمان الماضي فلا بدّ من أن لا يكون هذا السنخ من الاستعمال صحيحا إلّا بالتجريد عن الوضع الأوّل بالعناية والمجاز ، والحال أنّ هذا القبيل من الاستعمال من القديم إلى الآن في المحاورة موجود ومتلقّى بالقبول بعنوان الحقيقة عند الكلّ من أهل اللغة والمحاورة ، مع أنّها إذا كانت موضوعة لما تقدّم عن المشهور فلا بدّ من تجريدها عن ذلك المعنى

٤٨٨

الموضوع لها عند الاستعمال في نفس الزمان ، والحال أنّ أحدا منهم لم يلتزم بذلك التجريد ، بل هم يرون صحّة استعمالها في نفس الزمان بلا عناية وتجريد ، بل يرون صحّة استعمالها في خالق الزمان ، كقوله لنا : كان الله تبارك وتعالى ولم يكن معه شيء ، فضلا عن الزمان ، بل صحّة استعمالها أظهر من الشمس حتّى في آيات من الكتاب الشريف مثل : علم الله وأراد الله وخلق الله تعالى ، وأمثال ذلك من الأمثلة التي هي أكثر من أن تحصى.

فانقدح لك بذلك التقريب أنّ معنى الأفعال ليس هو الدلالة على الزمان بوجه من الوجوه عند الحكاية عن تحقّق النسبة على الماضي والاستقبال والحال ، بل الفعل موضوع للمعنى العامّ بحيث يستوي فيه الزمان والزماني ، فهو في الماضي عبارة عن إبراز الإخبار عن تحقّق النسبة ، وكفاك شاهدا على ذلك أنّ تحقّق النسبة موجود قبل التكلّم باللفظ ، وهذا يكون هو الفارق بين الماضي والاستقبال.

نعم إذا استعمل الفعل في نفس الزمان كقولك : (ضرب زيد عمروا) فبالملازمة يدلّ على تحقّق الضرب في زمان قبل التكلّم إذا كان الإخبار صادقا ، وذلك من جهة أنّ الزماني لا يمكن أن يكون عاريا عن الزمان.

وبالجملة ، فقد انتهى كلامنا إلى بيان دلالة الفعل على الزمان ، وقد عرفت من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ الحقّ عدم دلالته على الزمان وملخّص القول في ذلك هو أنّ كون الزمان جزءاً لمدلول الأفعال بعيد ، بل هو باطل بالقطع واليقين ، لعدم دلالتها عليه من حيث المادّة والهيئة.

أمّا بحسب المادّة فظاهر ، لأنّها لا تدلّ إلّا على نفس الطبيعة المهملة من دون أن تؤخذ فيها أيّة خصوصيّة فضلا عن الزمان.

وأمّا بحسب الهيئة فإنّ مفادها نسبة المادّة إلى الذات على نحو من أنحاء

٤٨٩

النسبة ، فالزمان أجنبيّ عن مفاد الفعل مادة وهيئة.

فإذن تحصّل أنّ احتمال كون الزمان جزء لمدلول الفعل فاسد في نفسه ، والصحيح من التوجيه أنّ الملتزمين بذلك لا يريدون ظاهر كلامهم بالقطع واليقين ـ على ما ستأتي الإشارة إليه كما تقدّم ـ.

واحتمال كون الزمان قيدا لمداليل الأفعال بأن يكون معنى الفعل مقيّدا به على نحو يكون القيد خارجا والتقيّد به داخلا كما سبق ، فهو وإن كان أمرا ممكنا في نفسه ، إلّا أنّه غير معلوم التحقّق لعدم الدليل عليه. وذلك من جهة أنّ دلالة الأفعال عليه لا بدّ من أن تستند إلى واحد من أمرين ، إمّا إلى وضع المادّة ، أو إلى وضع الهيئة ، ومن البديهي الواضح أنّ المادّة وضعت للدلالة على نفس طبيعي الحدث اللابشرط ، والهيئة وضعت للدلالة على تلبّس الذات به بنحو من أنحائه كما عرفت ، وشيء منهما لا يدلّ على ذلك.

وملخّص الاستدلال على ذلك ما نشاهد من صحّة إسناد الأفعال كما سبق إلى نفس الزمان ، وإلى ما فوق الزمان من المجرّدات التي تكون فوق الزمان وخالية عنه وخارجة عن دائرته ، من دون لحاظ عناية في المقام ، فلا فرق بين قولك (علم الله) و (علم زيد) و (أراد الله) و (أراد زيد) و (مضى الزمان) و (مضى الأمر الفلاني) فلا يذهب عليك أنّ الفعل في جميع هذه الموارد والأمثلة استعمل في معنى واحد وعلى منهج فارد ، فلو كان الزمان مأخوذا فيه قيدا لم يصحّ إسناده إلى نفس الزمان من دون لحاظ تجريد وعناية في المقام ، فإنّ الزمان لا يقع في الزمان ، وإلّا لتسلسل ودار ، كما هو أظهر من أن يخفى. وكذلك لم يكن صحيحا إسناده إلى ما فوق الزمان وخالق الزمان كذاته تبارك وتعالى من المجرّدات ، إذ أفعالها لا تقع في الزمان ، لأنّها غير محدودة بحدّ من الحدود. ومن الظاهر الواضح البديهي أنّ ما كان واقعا في الزمان فلا محالة يكون محدودا

٤٩٠

بحدّه بالقطع واليقين.

وبهذا التقريب ظهر وبان أنّ الزمان لم يؤخذ في الموضوع له الفعل جزءا وقيدا ، نعم الفعل المسند إلى الزمان وإن كان يدلّ على وقوع الحدث في أحد الأزمنة الثلاثة ، إلّا أنّه ليس من جهة الوضع كما سبق ، بل من ناحية أنّ الأمر الزماني لا بدّ وأن يكون في أحد الأزمنة.

فصار المتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ الأفعال غير دالّة على الزمان ، وأنّ استعمالها في كلّ تلك الموارد على نحو الحقيقة من دون وجدان أيّ وجه فرق بين استعمالها في الزمان وما فوقه واستعمالها في الزماني من ناحية الاستعمال في الجميع ، بل الإسناد فيها بالتمام حقيقي.

ولكن لا يخفى عليك مع ذلك كلّه أنّ الفعل الماضي يمتاز عن المضارع بخصوصيّة ثابتة في كلّ واحد منهما ، ومن ناحية هذه الخصوصية لا يجوز استعمال أحدهما في مكان الآخر ، بل إذا استعمل يكون الاستعمال غلطا بالقطع واليقين بالبداهة والوضوح.

بيان ذلك أنّ الخصوصية في الفعل الماضي هي أنّ الفعل الماضي موضوع لأجل الدلالة على أنّ قصد المتكلّم إنّما هو الحكاية عن تحقّق المبدأ والمادّة مقيّدا بكونه قبل زمان التكلّم ، وهذه الدلالة موجودة في تمام موارد استعمالاته ، بلا فرق بين ما كان الإسناد إلى نفس الزمان وما فوقه ، أم إلى الزماني كما تقدّم.

فقولنا : مضى الزمان ، يدلّ على قصد المتكلّم الحكاية عن تحقّق الزمان قبيل زمن الإخبار وإن كان الزمان غير واقع في زمن الزمان ، وهكذا الأمر في قولك : علم الله وأراد الله ، وما كان بهذا الشكل من الأمثلة في المحاورة يدلّ على أنّ المتكلّم نوى الإخبار عن تحقّق المبدأ والمادّة وتلبّس الذات بها قبل زمن التكلّم. وإن كان صدور الفعل عمّن هو فوق الزمان فلا يقع في زمان ، كما أنّ الأمر

٤٩١

يكون بهذا المنوال إذا اسند الفعل إلى الزماني كقولك : (أكل زيد وكتب بكر وضرب عمرو ولبس خالد) فإنّه لا محالة يدلّ على قصد المتكلّم الإخبار عن تحقّق المبدأ وتلبّس الذات به قبل حال التكلّم ، فتلك الخصوصية موجودة في الفعل الماضي في تمام موارد إطلاقاته واستعمالاته بلا دلالة له على وقوع المبدأ في الزمان الماضي.

نعم بين الإسناد إلى الزمان والإسناد إلى غيره فرق من جهة اخرى ، وهي عبارة عن أنّ الإسناد إلى الزمان ـ كما سبق ـ بالالتزام تدلّ على وقوع الحدث في الزمان الماضي ، فهذه الدلالة وإن كانت موجودة ، إلّا أنّها غير مستندة إلى أخذ الزمان في الموضوع له. ولعلّ قول المشهور في دلالة الفعل على الزمان ناظر إلى هذا السنخ من الدلالة ، لا أنّ الفعل له الدلالة بالوضع على الزمان ، بل من جهة أنّ صدور الفعل من الزماني قبل حال التكلّم لا ينفكّ وقوعه في الزمان الماضي بالحتم واليقين.

فالنتيجة الحاصلة من تمام ما ذكرناه في هذا المبحث تتلخّص في أمرين :

الأوّل : أنّ الأفعال بتمامها لا تدلّ على الزمان أصلا وأبدا ، لا بنحو الجزئيّة ولا بعنوان القيديّة بوجه من وجوه الدلالات الثلاثة من المطابقة والالتزام والتضمّن ، مع حفظ الدلالة الالتزاميّة إذا كان الفاعل أمرا زمانيّا.

ولا يذهب عليك أنّ هذه الدلالة غير معتمدة على لفظ الفعل بالوضع في اللغة من ناحية الواضع ، بل هي مستفادة من خصوصيّة خارجيّة ، وهي عبارة عن خصوصيّة إسناد الفعل إلى الزماني. ولأجل ذلك عين هذه الدلالة موجودة في الجمل الاسمية طابق النعل بالنعل أيضا ، إذا كان المسند إليه فيها زمانيا ، فإذا قيل : «زيد قائم» فهو يدلّ على قصد المتكلّم الحكاية عن تحقّق المبدأ وتلبّس الذات به في الخارج بالمطابقة ، وعلى وقوعه في أحد الأزمنة الثلاثة بالالتزام.

٤٩٢

الثاني : أنّ كلا من الفعل الماضي والمضارع يدلّ على خصوصيّة بها يتميّز أحدهما عن الآخر ، وهذه الخصوصية مأخوذة في المعنى على نحو التقييد ، فيكون معنى الفعل الماضي تحقّق المادّة والمبدأ مقيّدا بكونه قبل زمن التلفّظ بنحو دخول التقيّد وخروج القيد ، وحقيقة معنى المضارع عبارة عن تحقّق المادّة والمبدأ مقيّدا بكونه في زمن التكلّم أو فيما بعده.

ولا يخفى أنّ كلام سيّدنا الاستاذ دام ظلّه هاهنا لا يخلو عن الإجمال ، إذ هذه الخصوصيّة ليست ملحوظة ومأخوذة فيهما من قبل الواضع أو المستعمل بعنوان القيد الخارج اللازم ، بل تكون من لوازم ذات كيفيّة وقوع المبدأ والمادّة في فاعل الزماني من الماضي والمضارع.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما إذا كان الفعل مطلقا دالّا على تحقّق المادّة ونسبتها إلى الذات قبل زمن التكلّم أو مقارنا معه أو متأخّرا عنه ، ولكن لا يذهب عليك أنّه قد يقيّد بالسبق واللحوق أو التقارن بالإضافة إلى شيء آخر غير التكلّم ، إذ لا يكون الماضي ماضيا حقيقة والمستقبل مستقبلا واقعيا كذلك ، وإنّما سمّي ماضيا ومستقبلا بالإضافة إلى شيء آخر ، كما في قولنا : جاء زيد في شهر رجب المرجّب وقد ضرب عمروا قبله باسبوع ، فالسبق هنا إنّما يلاحظ بالإضافة إلى شيء آخر وهو مجيء زيد ، لا زمن التكلّم.

وبالجملة ، لا ريب في حسن صحّة استعمال الماضي والمضارع في هذه الموارد في اللغة العربيّة وغيرهما.

فانقدح بهذا البيان أنّ الملاك والمعيار في صحّة استعمال الماضي جامع السبق ، بمعنى أنّ السبق لا ينفكّ عنه ، من دون فرق بين ما كان بالإضافة إلى زمن التكلّم أم كان بالإضافة إلى شيء آخر ، وإن كان الظاهر عند الإطلاق خصوص الأوّل. والمعيار والملاك في صحّة استعمال المضارع جامع التقارن أو اللحوق ،

٤٩٣

وإن كان الظاهر عند الإطلاق خصوص التقارن أو اللحوق بالإضافة إلى زمن التكلّم.

الأمر الثالث : لا يخفى عليك أنّ المشتقّات وكيفيّتها من حيث الموارد والمبادي من الملكات والحرف والصنائع وأنحاء المحن الدارجة بين المتلبّسين تنقسم إلى تقسيمات كثيرة.

منها : ما يكون من سنخ الأفعال الخارجيّة ، كالكتابة والأكل والشرب والمشي والإياب والذهاب والركوب والصعود والنزول والقيام والقعود والركوع والجلوس والسجود والتكلّم والضرب والقتل وأمثال ذلك ، ويكون الانقضاء فيها بزوال الحالة ورفع اليد عن هذه الأفعال المذكورة المتقدّمة ولو في لحظة وآن ودقيقة.

ومنها : ما يكون من قبيل الملكة والقوّة والاستعدادات المختلفة كالاجتهاد في الفنون المتكثّرة ، نظير المجتهد في الفتوى والاصول والتاريخ والتفسير والفلسفة والكلام والطبّ والحساب والهندسة والشيمياء والكيمياء ، ومثل أسماء الآلات كالمفتاح والمكنسة والمشربة والمخيط والملبس والمنشار ، وما شاكل ذلك ، والانقضاء فيها لا يكون إلّا بانعدام القوّة والملكة والاستعداد ، فما دامت قوّة الاستنباط بملكة الاجتهاد في الحال بالفعل موجودة في المفتي والمرجع ، أو استعداد الفتح موجودا في المفتاح مثلا فالتلبّس فعليّ وغير زائل. نعم ، عند زوال الملكة عن شخص مثلا يصير صدق عنوان المجتهد عليه حقيقة داخلا في حريم البحث.

ومنها : ما يكون من قبيل الحرفة والصنعة كما في الخيّاط والنجّار والصفّار والبنّاء والبزّاز والقصّاب والعطّار والحدّاد والنسّاج والتمّار وأمثال ذلك ، ويكون التلبّس فيها بأخذ هذه المبادي حرفة أو صنعة ، فالبنّاء مثلا هو من اتّخذ البناء

٤٩٤

حرفة له ، والانقضاء في مثل ذلك إنّما يكون بترك هذه الحرفة ، فما دام لم يتركها ولم يعرض عنها باتّخاذ حرفة اخرى أو بصرف النظر عنها فالتلبّس فعليّ وإن لم يكن حين الاستعمال مشتغلا بالبناء بالفعل. ففعليّة التلبّس بتلك المبادي جار مجرى اتّخاذها شغلا فعلا وكسبا كذلك وانتسابها إلى الذات ، سواء كان ذلك الانتساب انتسابا حقيقيّا كما في الخيّاط والنسّاج والبنّاء وما شاكلها ، أم كان انتسابا تبعيّا كما في البقّال والبزّاز والرزّاز والعطّار والتامر واللابن والحدّاد وأمثالها ، لأنّ موادّها ومبادئها من أسماء الأعيان ، ومن المعلوم أنّها غير قابلة للانتساب إلى الذات حقيقة ، فلا محالة يكون انتسابها إليها بتبع اتّخاذ الفعل المتعلّق بها حرفة وشغلا ، فمن اتّخذ بيع التمر شغلا له صار التمر مربوطا به تبعا ، وهكذا من اتّخذ بيع اللبن شغلا صار اللبن مربوطا به ، وهكذا الأمر على هذا المنوال في أمثال ذلك السنخ من الاشتغال.

فلا يذهب عليك أنّ كون التلبّس بالمادّة على نحو القوّة والاستعداد قد يكون من جهة أنّ المادّة موضوعة لذلك ، كما في الاجتهاد ونحوه. وقد يكون من جهة استفادة ذلك من الهيئة كما في المكنسة والمفتاح ، فإنّ المادّة فيها وهي الفتح والكنس ظاهرة في الفعليّة لا في القابليّة ، ولكنّ الهيئة فيها موضوعة لإفادة تلبّس الذات بها شأنا واستعدادا ، فالمفتاح والمكنسة كما تقدّم موضوعان لما من شأنه الفتح والكنس لا للمتلبّس بالفتح والكنس فعلا ، ولأجل ذلك يصدق لفظ المفتاح حقيقة على كلّ ما فيه قابليّة الفتح ولو لم يقع الفتح به خارجا ، فما دامت القابليّة موجودة فالتلبّس فعليّ ، ويكون الانقضاء فيها بزوال القابلية عنه ولو بانكسار بعض أسنانه. فبناء على القول بكون المشتقّ موضوعا للمعنى الجامع بين الذات المنقضية عن المبدأ والمتلبّسة به فعلا يصدق عليه أنّه مفتاح على نحو الحقيقة ، وعلى القول بكونه موضوعا للمتلبّس به فعلا لا يصدق عليه

٤٩٥

إلّا من باب المجاز.

فبهذا التقريب الذي قرّرناه لك انقدح أنّ اختلاف المواد في المشتقّات لا دخل له في محلّ النزاع والكلام بوجه من الوجوه بالقطع واليقين ؛ إذ النزاع إنّما هو في وضع الهيئات للمشتقّات ، وأنّها موضوعة للمعنى الجامع أو للحصّة الخاصّة منه بلا نظر إلى وضع موادّها ، وأنّها ظاهرة في الفعليّة أو في القابليّة والملكة أو الحرفة والصنعة ، ففي جميع ذلك يجري النزاع ، نهاية الأمر أنّ الانقضاء في كلّ مورد يكون بحسبه. ولأجل ذلك كان اختلاف المواد من هذه الجهة والناحية موجبا لاختلاف زمن التلبّس طولا وقصرا ، كما عرفت تفصيلا بما لا مزيد عليه.

وبهذا التقريب وقفت على فساد ما ذهب إليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من عدم دخول أسماء الآلة ، وأسماء المفعولين في محلّ النزاع ، تبعا لصاحب الفصول قدس‌سره (٢) إذ ذكر قدس‌سره أنّ هذا النزاع غير جار في اسم الآلة واسم المفعول ، إذ الانقضاء غير متصوّر فيهما إلّا بالانقلاب عمّا وقع الشيء عليه من الحالة المفعوليّة فيهما ، فمن البديهي أنّ ذلك باطل وفاسد ، لاستحالة أن ينقلب الشيء عمّا وقع عليه.

بيان ذلك أنّه غير خفي للمتأمّل الدقيق أنّ هيئة المفعول وضعت من قبل الواضع لمن وقع عليه الفعل ، فمن وقع عليه الفعل فهو مفعول أبدا ، كما أنّ من وقع عليه القتل فهو مقتول أبدا ، فلا يمكن تصوّر الانقضاء فيهما إلّا بخروجهما عن ذلك العنوان من المفعوليّة والمقتوليّة.

وبعبارة اخرى : فساد ما أفاده قدس‌سره من خروج أسماء الآلة وأسماء المفعولين

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٨٣.

(٢) الفصول الغرويّة ١ : ٦٠.

٤٩٦

عن محلّ النزاع أظهر من أن يخفى ، وقبل بيان ذلك لا بدّ لنا من التعرّض لوجه ما التزم به تبعا لصاحب الفصول قدس‌سره.

وذلك يتلخّص في أنّ الهيئة في أسماء الآلة حسب ما تقدّم قد وضعت للدلالة على القابليّة والاستعداد ، وهذا الصدق حقيقي يقيني وإن لم يتلبّس الذات بالمبدإ فعلا من حيث الاشتغال الفعلي بالفتح مثلا. وأمّا أسماء المفعولين ، فلأنّ الهيئة فيها وضعت للدلالة على وقوع المبدأ على الذات ، فهذا المعنى المستفاد من الهيئة بعد وقوعه وتحقّقه ممّا لا يعقل فيه الانقضاء ، إذ ما وقع على الذات كيف يعقل ويتصوّر انقضاؤه عنها ؟ ضرورة أنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه ، والمفروض أنّ الضرب والقتل وقع على المضروب والمقتول وعلى ذاتهما ، فتلك الذات دائما يصدق في أنّها ممّن وقع عليه الضرب والقتل ، فعند ذلك لا فرق في صدق المشتقّ بين حال التلبّس والانقضاء ، فعند كلّ من الحالين الصدق يكون على نسق واحد بلا تفاوت وعناية في البين ليكون منشأ لحدوث النزاع بين الفرقين ، بل الحقّ والإنصاف أنّ الانقضاء فيه غير ممكن التعقّل لمن يكون صاحب الدقّة والتأمّل.

هذا تمام الكلام في بيان مراده زاد الله تبارك وتعالى في علوّ مقامه.

ولكنّه ظاهر الفساد ، والوجه في ظهور فساده أنّ هيئة المفعول من قبل الواضع إنّما وضعت للمفهوم الكلّي. وأمّا المصاديق الواقعة في الخارج من الذات التي وقع الفعل عليها فإنّما تكون من التحقّقات الخارجيّة التي هي عبارة عن تطوّرات شئون الوجود ، وشئون الوجود غير داخلة في الموضوع له ، بل الموضوع له ليس إلّا المفهوم الكلّي ، فإذن أنت تصدّق أنّ الموضوع له يكون هو المفهوم الكلّي ، فلا يبقى لك خفاء في أنّ المفهوم له فردان في الخارج ، أحدهما باعتبار الوجود ، وثانيهما باعتبار العدم ، لا كما أنّه يكون اسما لمصداق الموجود

٤٩٧

في الخارج كذلك يكون أيضا اسم للإنسان الذي سيوجد في الاستقبال في وعاء الدهر والعدم ، لأنّ الإنسان كما يكون اسما لمصداق الموجود في الخارج كذلك يكون اسما لمن سيوجد في زمان المستقبل.

وبعبارة اخرى : إنّ نسبة المبدأ بالنسبة إلى جميع الهيئات تكون متساوية ، من دون أيّ وجه فرق بين هيئة الفاعل وهيئة المفعول ، فإذن كما يمكن النزاع بأنّ هيئة العالم هل هي موضوعة للأعمّ ممّن يكون متّصفا بالعلم في الخارج حتّى تكون حقيقة فيمن انقضى عنه المبدأ ، كمن زال عنه مبدأ العلم لعروض النسيان ، وأنّه بالفعل غير متّصف بصفة العلم في الخارج ، ومع ذلك تستعمل فيه كلمة العالم ، لأنّها حين الوضع وضعت للأعمّ من الذات المتّصفة بالعلم بالفعل والذات التي انقضى عنها مبدأ العلم ، أو أنّها موضوعة لخصوص الذات المتّصفة بالعلم بالفعل حتّى يكون الاستعمال في غير المتّصف بالعلم مجازا. كذلك يمكن النزاع في هيئات المفاعيل وأسامي الآلات ، فيمكن النزاع بأن يقال : إنّ هيئة المفعول هل وضعت للأعمّ حتّى يكون استعمالها لبقيّة التراب والعظام الباقية من ذلك الجثمان المعدوم بحسب الظاهر حقيقة ، أو أنّها موضوعة لذات ذلك الجسد الذي وقع عليه الفعل والضرب والقتل ، وهو موجود في الخارج بالفعل دون المعدوم الذي صورته النوعية ليست باقية.

وبالجملة جناح النزاع يشمل جميع أنحاء المشتقّات إلّا ما خرج بالدليل منها.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّ المفعول اسم لمن وقع عليه الفعل ، منقوض بأنّ هيئة الفاعل أيضا اسم لمن يصدر عنه مبدأ الفعل ، فعلى هذا التقريب لا بدّ من أن يلتزم بعدم تصوّر الانقضاء في الفاعل أيضا ، لأنّه مستلزم لأن ينقلب عمّا وقع عليه.

والحاصل : ملخّص وجه فساد كلامه قدس‌سره أنّ الهيئة في الآلة إذا دلّت على قابليّة الذات للاتّصاف بالمبدإ والمادّة شأنا ، فما دامت القابليّة موجودة كان التلبّس

٤٩٨

موجودا بالفعل وإن لم تخرج المادّة عن القابليّة إلى الفعلية أصلا وأبدا ، فالمفتاح يصدق على ما من شأنه الفتح وإن لم يتلبّس به أبدا.

وعلى ذلك التقريب فانقضاء التلبّس إنّما يكون بسقوطها عن القابليّة ، كما لو انكسر بعض أسنان المفتاح مثلا. ومعه يكون الصدق على نحو الحقيقة بناء على الأعمّ ، وعلى نحو المجاز بناء على الوضع لخصوص المتلبّس.

فحاصل التوضيح في بيان فساد كلامه قدس‌سره أنّه خلط عليه فيما أفاده الفرق بين شأن الاتصاف بالمبدإ وفعليّته به ، وزعم أنّ المعتبر في التلبّس إنّما هو عبارة عن التلبّس بالفعل وهو حال تحرّك المفتاح حين الفتح مع مساعدة يد الفاتح بالجري الذي لا ينفكّ عن الانفتاح في آن واحد ، ولكنّ الحقّ أنّ الأمر ليس كذلك ، لكفاية الشأنيّة في صحّة الإطلاق والاستعمال ، فضلا عن التلبّس في الحال بالفعل.

وأمّا أسماء المفاعيل فقد انقدح لك فيما سبق أنّ ما ذكره قدس‌سره في جهة خروجها عن محلّ النزاع بذلك الاستدلال منه عجيب وغريب في نهاية الغرابة ، وذلك من جهة أنّه لو تمّ ما أفاده في المقام لجرى ذلك في أسماء الفاعلين ، ومن المعلوم أنّه لا يتصوّر انقضاء الصدور عمّن صدر عنه الفعل في عالم الخارج ، لأنّ الشيء كما عرفت لا ينقلب عمّا وقع عليه ، والمبدأ الواحد مثل الضرب لا يتفاوت حاله بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول ، نهاية الفرق أنّ قيامه بأحدهما صدوري من ناحية الفاعل ، وبالآخر أي من ناحية المفعول وقوعي.

وحلّ الإشكال أنّ أسماء المفعولين كأسماء الفاعلين وضعت للمفاهيم الكلّية ، كما تقدّم في باب الوضع من أنّ الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني التي هي قابلة للانطباق على ما في الخارج تارة ، وعلى ما في الذهن بل الأذهان تارة اخرى ، ولأجل ذلك قد يكون للموضوع له مطابق في الخارج ، وقد لا يكون له

٤٩٩

مطابق فيه ، وإنّما المضروب من باب المثال قد يكون موجودا وقد يكون معدوما ، كما إذا تبدّل بالصورة النوعية الترابية ، وهكذا الحال في سائر الألفاظ. فالنزاع في أنّ اسم الفاعل أو اسم المفعول موضوع لمعنى لا ينطبق إلّا على خصوص المتلبّس ، أو للأعمّ ومن المنقضي.

وملخّص الكلام أنّ المتأمّل لا يجد امتيازا بيّنا بين اسم الفاعل والمفعول ، فكما أنّ النزاع يجري في هيئة اسم الفاعل وأنّها موضوعة لمفهوم كان مطابقه في الخارج فردا واحدا وهو عبارة عن خصوص المتلبّس بالمبدإ فعلا ، أو فردين أحدهما المتلبّس والآخر المنقضي ، فكذلك يجري في هيئة اسم المفعول ، وأنّها وضعت لمعنى كان مطابقه في الخارج فردا واحدا أو فردين.

فمن باب المثال لو فرض أنّ زيدا كان عالما بقيام عمرو ، ثمّ انعدم وزال عنه العلم به بأيّ سبب كان ، فكما أنّ النزاع جار في صحّة إطلاق العالم على زيد حين زوال العلم بالقيام عنه وعدم صحّة إطلاقه عليه إلّا من باب المجاز ، فكذلك النزاع جار في صحّة إطلاق المعلوم على قيام عمرو وعدم صحّة إطلاقه عليه إلّا على نحو المجاز ، فبالضرورة من الوجدان نجد أنّه لا فرق بين الهيئتين هنا أصلا وأبدا ، فإنّ المبدأ في كليهما من حيث الكلّية يكون بنسق واحد ، والمفروض في محلّ الكلام أنّ ذلك المبدأ قد انعدم وزال ، وقد انقضى ومات ، وبانعدامه وزواله كان إطلاق العالم على زيد وإطلاق المعلوم على قيام عمرو من الاستعمال والإطلاق على المنقضي عنه المبدأ لا محالة بالقطع واليقين ، كالشمس في افق المبين.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى بيان الأمر الثالث.

الأمر الرابع : لا يخفى عليك أنّ المراد من الحال المأخوذ في محلّ الكلام عند عنوان المسألة ليس عبارة عن زمن التكلّم والنطق أبدا بالقطع واليقين ،

٥٠٠