دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

فانقدح أنّ الحقّ عندنا هو صدق الواضع على المستعمل بعنوان الحقيقة بعين ملاك صدقه بعنوان الحقيقة على الواضع الأوّل ، وانصراف إطلاقه إلى الواضع الأوّل إنّما يكون لأجل أسبقيّته في الجعل والوضع لا بعنوان الانحصار ليكون حقيقة فيه دون المستعمل ، بل الاستعمال في كليهما يصحّ بعنوان الحقيقة دون المجاز.

وبما ذكر في وجه عدم ورود إشكال الدور اتّضح لك عدم ورود الإشكال بأنّ الالتزام والتعهّد عند التعمّق والارتكاز في الأذهان رتبة متأخّرة عن الوضع ، بل إنّما تكون معلولة له ، وذلك من جهة أنّ العلم بالوضع يوجب تعهّد العالم بذلك الوضع بإفهام مقصوده وإبرازه عند التخاطب والتفاهم بإيراد ذلك اللفظ الموضوع المخصوص لذلك المعنى ، لا أنّه يكون عينه ونفسه ، نظير نحو الاختصاص الذي يوجد بين اللفظ والمعنى بعد الوضع حسب ما تقدّم عند نقل كلام المحقّق الخراساني في الكفاية ، ولأجل ذلك لا يصحّ استعمال كلمة «الواضع» في غير الواضع الأوّل من المستعملين المتأخّرين عن الوضع بدون العناية ، مع أنّ ذلك التعهّد لو كان كما ذكرت معنى الوضع بعنوان الحقيقي أعني الالتزام النفساني ، فلا جرم كان ذلك الإطلاق والاستعمال على كلّ مستعمل وفي كلّه صحيحا من دون أيّ عناية وعلاقة مجاز ، والحال أنّ الأمر يكون في غير محلّه. هذا تمام الكلام في تقريب بيان الإشكال.

وأمّا وجه عدم وروده فإنّه إن أراد بتأخير التعهّد عن الوضع التعهّد الذي يتصوّر في الواضع الذي تصدّى للوضع الأوّل فذلك بمكان من البطلان بحيث لا يحتاج إلى البيان ، لأنّ تعهّده بالقطع واليقين غير مسبوق بشيء إلّا بتصوّر اللفظ والمعنى ، ومن البديهي بلا أيّ شكّ وشبهة أنّ ذلك اللحاظ والتصوّر لا يسمّى بالوضع بالضرورة من الوجدان ، بل إنّما هو يكون من مقدّمات الوضع لا نفسه ،

١٠١

وذلك التصوّر لا مناص عنه عند مقدّمة الوضع على أيّ وجه من الوجوه أردت أن تفسّره.

فإذن نقول : إنّ هذا التعهّد ثابت للمباشر والمتصدّي للوضع الأوّل. وعليه ـ بعد لحاظ وتصوّر المعنى المخصوص واللفظ الخاصّ الذي عيّنه لذلك المعنى الخاصّ في ذهنه ـ أن يتعهّد في اعتباره في نفسه ووجدانه بأنّه في أيّ زمان ومكان من الأزمنة والأمكنة إذا أراد تفهيم ذلك المعنى الخاصّ المتقدّم أن يجعله دالّه وكاشفة ومبرزه في مقام الدلالة ذاك اللفظ المخصوص المتقدّم ، ثمّ أعلن عن ذلك التعهّد بقوله : أيّها الناس من أهل تلك اللغة : إنّي وضعت هذا اللفظ أو أمثاله في الخارج لذلك المعنى.

والدليل على ما ذكرناه في المقام في نهاية الوضوح من حيث الدلالة ، لكيفية الوضع في مثل الأعلام الشخصيّة ، فإنّ كلّ متفكّر من الأشخاص عند الرجوع إلى وجدانه عند التأمّل في وضع الأعلام الشخصية ينقدح له أنّه إذا أراد أن يعيّن ويضع اسما لولده مثلا إنّما يتصوّر أوّلا نفس وعين ذلك المولود ، ثمّ ثانيا يلاحظ لفظا واسما يناسبه بأيّ وجه من المناسبات المطلوبة ، ثمّ بعد ذلك يتعهّد في نفسه بأنّه متى أراد تفهيمه أن يتكلّم أو يتلفّظ بذلك اللفظ المعيّن ، ومن البديهي أنّه كلّما تفحّصت في المقام لم تجد غير ما ذكرناه شيئا آخر بعنوان التعهّد الثانوي حتّى يكون متأخّرا عن الوضع الأوّل.

وإن أراد المستشكل تعهّدا لغير الواضع الأوّل من المستعملين المتأخّرين عن الواضع الأوّل فهو صحيح ؛ لأنّ تعهّدهم إنّما يكون في طول تعهّد الواضع الأوّل متأخّرا عنه ، إلّا أنّ ذلك التأخّر ليس بمانع عن اتّصافهم بصفة الواضع بعنوان الحقيقة ، كيف لا وإنّ من الضروري تعهّد كلّ أحد إنّما يكون من الأفعال الاختياريّة له وليس إلّا ، فبما أنّ ذلك التعهّد يكون فعلا اختياريا له ليس بمكان

١٠٢

من الإمكان أن يكون صادرا من غيره.

نعم الفرق بينهما عبارة عن أنّ التعهّد من الواضع الأوّل تعهّد أوّلي ذاتي غير مسبوق بشيء من التعهّدات ، ومن المستعملين المتأخّرين تعهّد طولي ثانوي ، وذلك لا يضرّ بكونه تعهّدا ثانويّا حقيقيّا.

فبما ذكرناه في المقام من البيان انقدح وجه الانصراف في إطلاق لفظ الواضع إلى الواضع الأوّلي بالانصراف البدوي.

هذا هو الحق الذي لا بدّ من الالتزام به ، كما استقرّ على ذلك الوفاء بتلك الالتزامات والتعهّدات بناء العقلاء من المجتهدين والفقهاء والآباء والأبناء والعبيد والموالي والتاجر والصانع والبنّاء في مقام الاحتجاج عند إثبات ما يحتاج ، فيستدلّ العقلاء بعضهم على الآخر إذا تخلّف عن تعهّده والتزامه ويقولون : لما ذا لا تجري على تعهّداتك والتزاماتك من ظهور ما بيّنت في كلامك ؟ بل يدور على ذلك صحّة جميع المثوبات والمؤاخذات والعقوبات من التوبيخ وعدم مقبوليّة عذره عند التخلّف من العمل على طبق تلك التعهّدات ، بل الكون المترقّي في نظام العدالة في جهة تأمين المادّيات والمعنويات يجري من البدء إلى عصرنا وإلى يوم القيامة على طبق هذه القرارات والالتزامات التعهّدية المستفادة من ظهور الكلمات المأخوذة لإبراز المقاصد في الكلمات عند الاستعمالات المتعارفة في اللغة والمحاورة الجارية.

فالنتيجة المتلخّصة من جميع ما ذكرناه في المقام تنقدح من باب التمرين في مطلبين :

المطلب الأوّل : أنّ كلّ مستعمل واضع بعنوان الحقيقة ، وهذه النكتة من النتائج الضرورية لمسلك المختار من أنّ حقيقة الوضع ليست إلّا ذلك التعهّد والالتزام الاعتباري النفساني.

١٠٣

والمطلب الثاني : أنّ ما أوضحناه في المقام في بيان حقيقة علقة الوضعيّة بعنوان الحقيقة مختصّة بخصوصيّة خاصّة ، وهي تنحصر فيما إذا كان هدف المتكلّم من الاستعمال والكلام تفهيم المعنى بذلك اللفظ المأخوذ في الكلام في مقام التخاطب. وهذه النكتة من النتيجة إنّما تكون لا بدّ منها على نحو الحتم لمن ذهب إلى اختيار هذا القول الذي هو عبارة من التعهّد والالتزام النفساني في الوضع ، ولا يبعد أن تكون هذه النكتة هي النقطة الرئيسية لمسلكنا المختار في المقام ؛ إذ تترتّب عليها ثمرات سنتكلّم فيها في ما تأتي الإشارة إليها بعد ذلك بعون الله الواحد القهّار.

وبقي هنا توهّم آخر ، فلا بدّ لنا من الإشارة إليه والجواب عنه ، وهو عبارة عن أنّ علقة الوضعيّة إذا لم تكن موجودة بين اللفظ والمعنى على نحو الإطلاق ، فكيف يتبادر فهم المعاني منها فيما إذا تلفّظ بها شخص من دون قصد التفهيم ، كما إذا تكلّم بها متكلّم في حال النوم والسكر والإغماء ممّن لا شعور له ولا اختيار ، بل التبادر منها مسلّم فيما إذا تكوّن ذلك الصوت واللفظ من اصطكاك جسم بأجسام أخر فضلا عمّا إذا وقع في لسان إنسان من أبناء البشر.

وبالجملة ، هذا التبادر منها إلى ذهن السامع غير قابل للإنكار في جميع هذه الصور ، حتّى إذا تحصّل هذا اللفظ من وقوع الحجر على الحجر ، فكيف يجوز لنا أن نقول : إنّ علقة الوضعيّة بعنوان وضع الحقيقة مختصّة بما إذا تكلّم بها المتكلّم في حال الشعور مع قصد التفهيم في مقام التخاطب خاصّة فقط ؟

وفيه : أنّ هذا التوهّم ليس كما توهّم ؛ لعدم كون مثل هذا التبادر إلى الأذهان معتمدا على العلقة الوضعيّة ، بل الحقّ ـ والله العالم ـ أنّ أمثال هذه الانسباقات والتبادرات إلى الأذهان من سماع أصوات هذه الألفاظ بهذه السعة إنّما تحصّلت من ناحية الانس الذي صار بمنزلة الارتكاز الثانوي في أذهان السامعين ، لأجل

١٠٤

كثرة الاستعمال وابتلاء أهل المحاورة بها في امور الدنيا والدين.

على أنّ ـ الوضع كما تقدّم ـ إنّما يحتاج إليه جنس البشر لأنّه فعل من الأفعال الاختيارية في افق المبيّن لغرض إبراز المقاصد في مقام الإفهام والتفهيم باستخدام الألفاظ للوصول إلى ما يحتاج من المعاني في أسهل طرق البيان ، فكيف يصحّ صدورها في أمثال تلك الموارد التي لا يترتّب عليها أيّ غرض من الأغراض بوجه من الوجوه من الواضع الملتفت الحكيم ، فصار المتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّه لا فرق بين الوضع والاستعمال ، كما لا فرق بين الواضع والمستعمل في صحّة اتّصافهما باسم الواضع وإطلاق الواضع عليهما بعنوان الحقيقة على مسلك المختار ، وأن نعبّر عن كلّ واضع باسم المستعمل وبالعكس بإطلاق اسم الواضع على المستعمل على نحو الحقيقة لا المجاز.

نعم ، بينهما فرق بالتقدّم والتأخّر من ناحية تقدّم زمان الواضع على زمان المستعملين ، نظير ما نراه فيما بأيدينا من القوانين العرفيّة والدينيّة من المقنّين السابقين بالنسبة إلى المستعملين اللاحقين حسب ما فسّرناه من الجعل والاعتبار بالتعهّد والتبنّي في الواضع الحكيم.

وملخّص الكلام أنّ الوضع ـ بالمعنى الذي فسّرناه وبيّناه ـ ينطبق على المعنى اللغوي كما لا يخفى على ذو تأمّل جليّ ، وذلك من جهة أنّ الوضع في اللغة ليس إلّا بمعنى الجعل والإثبات والإقرار ، فتكون بحسب الحقيقة كلمة (وضع) من الفعل الماضي بمثابة كلمة (جعل) و (أقرّ) بمعنى واحد ، فيكون معنى «وضع فلان هذا اللفظ لهذا المعنى» بمعنى : جعله وأقرّه لهذا المعنى المذكور ، ويكون من هذا الباب جعل ووضع القوانين الشرعيّة والعرفيّة ، لأنّه يكون بمعنى التعهّد والالتزام من ناحية الحكومة والعرف لتنفيذها في الامّة ليتمسّكوا بها عند الحاجة والضرورة.

١٠٥

كما أنّه ينقدح ـ ببركة هذا المعنى الذي ذكرناه لتفسير الوضع بمعناه الحقيقي ـ أنّه يصحّ أيضا تقسيمه إلى التعييني والتعيّني ، وذلك من جهة أنّ التعهّد الوضعي المذكور إن كان بالوضع والاستعمال في الابتداء في وقت واحد فيسمّى الوضع بالوضع التعييني ، وإن كان ناشئا من تكرّر الاستعمالات الكثيرة فهو يسمّى بالوضع التعيّني.

وفي الختام لا ينبغي الريب عند ذلك في صحّة تعريف الوضع في مقام التعبير بأنّه : عبارة عن تخصيص شيء بشيء وتعيينه له في قباله وإزائه كما هو الواضح الصحيح.

وقد أتممت الكلام في إتمام أقوال الأصحاب في بيان كيفية حقيقة الوضع وبيان المختار منها في ذلك المجال ، وما توفيقي إلّا بالله القادر المتعال وهو الأعلم بالحال.

١٠٦

أقسام الوضع

وقد بقي الكلام في الجهة الثالثة بالنسبة إلى بيان أقسام الوضع.

فلا يخفى عليك أنّه لا بدّ لكلّ من يكون أمر الوضع بيده وعهدته ابتداء قبل التصدّي للوضع من باب المقدّمة التصوّرية أن يتصوّر اللفظ والمعنى الذي يريد أن يعيّن ذلك اللفظ بإزائه بالتفصيل أو بالإجمال ، ثمّ بعد تصوّرهما يعيّن الأوّل اسما للثاني واللفظ دالّا عليه ، أي على المعنى الموضوع له ، ليتحصّل الغرض الذي يترتّب على الوضع الذي يكون من الأفعال الاختياريّة للواضع الحكيم ، وذلك الغرض عبارة عن الإفهام والتفهيم والتفهّم في مقام التخاطب في المحاورة ، بلا تصوّر أيّ فرق في ذلك بالنسبة إلى جميع المسالك المتقدّمة التي ذكرناها في كيفيّة بيان حقيقة الوضع بما لها من التفاصيل الماضية عليك في البحث المتقدّم ، إذ الوضع بما أنّه من الأفعال الاختيارية للواضعين لا يعقل صدور وضع منهم بالنسبة إلى جعل لفظ غير متصوّر لمعنى غير متصوّر.

ومن الضروري أنّه لا بدّ من أن يتصوّر اللفظ والمعنى قبل الوضع عند وجدانه وهكذا المعنى ، ثمّ بعد ذينك التصوّرين المعلومين يعيّن ذلك اللفظ بإزاء ذلك المعنى المعيّن ، فيكون هذا هو الفارق بين الوضع والاستعمال ، كما تقدّمت الإشارة إليه في الأبحاث الماضية عند بيان حقيقة علقة الوضعيّة.

وحاصل الكلام فيها أنّ الوضع لمّا كان من الأفعال الاختيارية لكلّ من يتصدّى لأمر الوضع ـ بأيّ معنى من المعاني المتقدّمة التي فسّرناها ـ يتوقّف

١٠٧

تقرّره وتحقّقه من باب المقدّمة الوجوديّة على تصوّر اللفظ والمعنى الموضوع له.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّنا هنا لا بدّ لنا من البحث والتحقيق في مقامين :

الأوّل : في كيفية بيان المعنى.

والثاني : في ناحية اللفظ.

المقام الأوّل :

أمّا المقام الأوّل فالبحث والتحقيق فيه يقع من جهات عديدة :

الجهة الاولى : يقع الكلام في الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، واعلم أنّ الواضع تارة يلاحظ المعنى بجميع شئونه وخصوصيّاته من الجنس والفصل والنوع والصنف ويعيّن له اللفظ الدالّ عليه في حدّ نفسه وذاته وطبيعته من دون تصوّر ولحاظ شيء وإشارة إلى الخصوصيّات الجنسية والنوعيّة والصنفيّة والفردية من المصاديق والأفراد ، وذلك مثل ما إذا تصوّر الواضع حقيقة مفهوم الإنسان أو الماء والأرض والسماء على نحو الإطلاق ، بحيث لا يكون مقيّدا حتّى بالإطلاق ، ويجعل تلك الألفاظ دالة على هذا المفهوم المذكور منها في قبال سائر المفاهيم الموجودة في عالم المعنى ، فالواضع إنّما يتصوّر الإنسان بكينونيّته وحقيقته بحدّه التامّ أو الناقص بالوجه والعنوان المشير والمعرّف من حيث إنّه مشير إلى تلك الذات والطبيعة ومعرّف لها ، من دون أن يكون ذلك العنوان المشير دخيلا في المفهوم بوجه من الوجوه ، كبعض العناوين المأخوذة في موضوع بعض القضايا فقط لأجل الإشارة إلى ما يكون الموضوع فيها بعنوان الحقيقة بلا دخالة له فيه بوجه من الوجوه أصلا وأبدا.

وهذا القسم من الوضع يكون عبارة عن الوضع العامّ والموضوع له العامّ ،

١٠٨

فيكون من سنخ القضيّة الطبيعيّة كقولك : الإنسان نوع من الحيوان ، فكما أنّ المحمول ثابت فيها للطبيعي بما هو طبيعي ، فكذلك الوضع يكون هنا عامّا لذات ولطبيعي المعنى العامّ الجامع لجميع الأفراد من ذلك الطبيعي.

الجهة الثانية : ليس الأمر فيها كالجهة الاولى ، بل الواضع إنّما يتصوّر المعنى بنحو الإجمال بعنوان المشير إلى المصاديق والأفراد ، فيكون هذا القسم من قبيل الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، فالواضع في هذا القسم إنّما تصوّر حين أراد الوضع معنى خاصّا بما هو جزئي حقيقي ، فيعيّن اللفظ بإزاء ذلك المعنى الخاصّ ، نظير وضع الأعلام الشخصية ، بلا فرق بين ما كان تصوّر المعنى بالأصل والكنه ، أم بالوجه وعنوان المشير ، إذ تصويره في الجملة بعنوان المشير إلى أنّ هذا الشيء كاف بالنسبة إلى وضع اللفظ بإزائه من دون الاحتياج إلى تصويره بكنهه وذاته وحقيقته ، فقضيّة الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ تكون مرجعها إلى القضيّة الشخصيّة التي يكون ثبوت الحكم فيها للأفراد والمصاديق من الأشخاص المعيّنين يعيّن لكلّ واحد منهم اسما مخصوصا.

وبالجملة ، إنّ العنوان تارة يكون بذاته ونفسه ملحوظا عند الوضع من دون أيّ لحاظ بالنسبة إلى المعنون ولو بعنوان المشيرية ، فيكون لحاظ العنوان لمجرّد خطور المعنى والطبيعة بما هي طبيعة.

واخرى يكون العنوان ملحوظا ، ولكن لا في حدّ ذاته ، بل عنوان الانطباق على المعنون والأفراد والمصاديق الملحوظة عند الواضع ، فالواضع إنّما أدخل الأفراد والمصاديق بأخذ هذا اللحاظ في الوضع ولو بلحاظ الإجمالي ، ثمّ عيّن اللفظ دالّا عليها أو عليه ، فمثل عنوان المشير يتشخّص في مثل ما إذا قال الواضع : إنّ أوّل من يتولّد من صلبي إن كان ذكرا فقد سمّيته أحمد.

بعبارة اخرى : إنّ الواضع حين الوضع والتعيين إمّا أن يتصوّر معنى عاما ويعيّن

١٠٩

له لفظا عاما بالعنوان العام ، فهذا القسم عبارة عن قسم الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، وقد تقدّم البحث عنه في الجهة الاولى. واخرى أيضا يلاحظ معنى عاما كذلك ولكن لا بعنوان ذاته وطبيعته وحقيقته ، بل بعنوان المشيرية إلى الأفراد والمصاديق التي يكون ذلك المعنى العامّ منطبقا عليها ، ثمّ يعيّن له هذا اللفظ ، فيكون هذا القسم من سنخ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ حسب ما سنتكلّم عنه في الجهة الثالثة.

ولقد انتهى كلامنا إلى بيان الجهة الثانية من قسم الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، وذلك عبارة عن مثل الأعلام الشخصية ، وقد بحثنا عنه مفصّلا وقلنا : إنّه يتشخّص في كلّ لغة في أوضاع أحوال الأعلام الشخصية كزيد وعمرو وبكر وخالد وأبي ذرّ وسلمان في اللغة العربية وغيرها من اللغات.

الجهة الثالثة : وهي عبارة عن الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وذلك مثل ما إذا تصوّر الواضع المفهوم العامّ بلحاظ الإشارة إلى الأفراد والمصاديق ، بحيث كان أخذ ذلك المفهوم كمفهوم الإنسان عنوانا مشيرا إلى الأفراد الخارجيّة التي ينطبق ذلك العامّ عليها في الخارج ، فيكون ذلك العنوان بمنزلة الوجه في إراءة تلك الأفراد ، وإحضار كلّ واحد منها في ذهن السامع في الخارج عند التخاطب.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في هذه الجهة هنا : أنّ سنخ هذا الوضع يكون من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وهو عبارة عن أن يلاحظ الواضع حين الوضع معنى عامّا بحيث يكون ذلك المفهوم المتصوّر العامّ وجها وعنوانا لأفراده ومصاديقه على نحو يكون لحاظه وتصوّره تصوّرا لتلك الأفراد والمصاديق ، نظير فناء الوجه في ذي الوجه ، فهذا القسم من الوضع يسمّى في الاصطلاح بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وله سنخية كسنخية القضية الحقيقية.

وربما توهّم أنّ هذا القسم كالقسم الرابع ـ من الوضع الخاصّ والموضوع له

١١٠

العامّ ـ غير معقول ، بتقريب أنّ كلّ مفهوم جزئيا كان أو كلّيا لا حكاية له إلّا عن نفسه ، فيستحيل أن يكون له حكاية عن مفهوم آخر. ومن الضروري عدم تعقّل حكاية مفهوم العامّ بما هو عامّ عن مفهوم خاصّ بما هو خاصّ ، إذ من البديهي أنّ لحاظ وتصوّر كلّ مفهوم ليس إلّا عين إراءة شخصيّته لا إراءة شيء آخر به ، فعلى هذا كيف يعقل أن يكون معرّفا لغيره بوجه من الوجوه ؟ فصارت النتيجة عدم إمكان تصوّر الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ كالوضع الخاصّ والموضوع له العامّ.

والجواب عنه يتلخّص بأنّ كلّ مفهوم بما هو هو كان عامّا أو خاصّا في مقام الحكاية واللحاظ ، وأنّه لا حكاية له إلّا عن نفسه ، ولكن تصوّر بعض المفاهيم الكلّية ملازم لتصوّر أفراده ومصاديقه بوجه الإجمال.

بيان ذلك : أنّ المعاني الكلّية المتأصّلة كالجوهر والعرض ، كالحيوان والإنسان والبياض والسواد وأمثالها ، وإن لم تكن لها حكاية عند اللحاظ والتصوّر إلّا عن طبيعتها في أنفسها التي تكون هي المبرّرات والجهة الجامعة بين المصاديق والأفراد ، كبعض المفاهيم الانتزاعية مثل الوجوب والإمكان والامتناع والأبيض والأسود وأمثالها ، بل حكايتها مختصّة بأنفسها. وأنّ اختصاص هذه الحكاية بنفسها وإن كان من الواضحات والبديهيات ، إلّا أنّ العناوين الكلّية المنتزعة من الأفراد والخصوصيّات الخارجيّة كمفهوم الشخص والفرد والمصداق فلها حكاية في مقام اللحاظ عن الأفراد والمصاديق بوجه من الملازمة ولو على نحو الإجمال ، فهذا المقدار من الحكاية يكفي لصحّة الوضع في المقام ، لأنّها بهذا المقدار يكفي أن تكون وجها لها ، فيكون تصوّرها في أنفسها تصوّرا لها بوجه وعنوان وإن كان بنحو الإجمال يكفي في إثبات الإمكان.

١١١

وبالجملة ، إنّ كاشفيّتها للأفراد والأشخاص غير منفكّة عنها ، بل إنّها ذاتيّة لها بحيث يكون تصوّرها ملازما لتصوّرها حقيقة ولو كان بنحو الإجمال ؛ إذ لا ينبغي الريب في أنّا إذا تصوّرنا مفهوم ما ينطبق عليه مفهوم الإنسان مثلا فقد تصوّرنا جميع أفراده بوجه ، وهذا المقدار من التصوّر يكفي في نزول المطلب من الامتناع إلى مرحلة الإمكان ، ومن هنا جاز الحكم عليها مطلقا ، مع أنّ الاستحالة واضحة البطلان بعد ما أثبتنا لك بالوضوح جهة الإمكان.

الجهة الرابعة : لا بدّ لنا من البحث في الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ، وهو عبارة من أن يتصوّر الواضع عند الوضع معنى خاصّا بما هو خاصّ وجزئي خارجي ، مع أنّ الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا ويمتنع فرض صدقه على كثيرين ، فيضع اللفظ بإزاء مفهوم كلّي ومعنى عامّ يكون قابلا للصدق على الكثيرين. ومن الواضحات أنّ هذين اللحاظين ـ أي امتناع فرض الصدق على الكثيرين بما أنّه جزئي وخاصّ ، وفي تلك الحال وعين هذا الزمان بذلك اللحاظ أن يتصوّر المعنى الذي يمكن أن يصدق على الكثيرين ـ غير ممكني التصوّر في عالم الثبوت ؛ إذ يكون بين هذين التصوّرين في آن واحد من التضادّ بحيث كاد أن يبلغ بمرحلة التناقض.

فانقدح بما ذكرناه في المقام أنّ وضع الخاصّ والموضوع له العامّ يكون ضروري البطلان ؛ إذ كيف يعقل أن يعيّن واضع لفظا خاصّا كلفظ زيد بما هو وجه وكاشف عن ذات زيد ، وفي هذا الحال وهذا اللحاظ كان وجها وكاشفا عن كلّي الإنسان كما توهّم والتزم بذلك بعض الأعلام (١).

نعم ، لو كان مراده من هذا التوهّم بأنّه لا مانع من أن يتصوّر الواضع بواسطة

__________________

(١) هو المحقّق الرشتي ، راجع البدائع (الطبعة الاولى) : ٤٠١.

١١٢

لفظ زيد الموضوع لخصوص زيد عند سماعه كلّي الإنسان الذي يكون زيد مصداقا من مصاديقه فيضع اللفظ للكلّي دون الخاصّ ، فهذا لا مانع من الالتزام به. ولكن أين هذا من الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ.

وبالجملة ، إنّ عدم إمكان ذلك يكون من الظهور كالشمس في رابعة النهار ؛ إذ كيف يتصوّر أن يكون المفهوم بما هو حاك عن الخاصّ بما هو خاصّ ، وفي هذا الحال يكون حاكيا عن عامّ آخر في عرض حكاية الأوّل ؟ إذ من البديهي أنّ تصوّر مفهوم الخاصّ بما هو تصوّر ذاته ونفسه ومرآة شخصه ، فيمتنع أن يكون مبرزا لغيره بوجه من الوجوه ؛ إذ لا ينبغي التأمّل في أنّ لحاظ كلّ مفهوم مختصّ بنفسه في حدّ ذاته لا هو وغيره.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ الخاصّ بما هو في حدّ ذاته غير ممكن أن يكون وجها وعنوانا للعامّ حتّى يصحّ أن يقال : إنّ تصوّره يكون تصوّرا له بوجه ، بخلاف مفهوم العامّ نظير مفهوم الشخص والفرد والمصداق ، كما أشرنا إليه في تصوّر كيفيّة إمكان وضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، فإنّه يمكن أن يكون لحاظه لحاظا للأفراد بوجه. ولأجل ذلك أبطلنا توهّم استحالة تصوير الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، بل التزمنا هناك بإمكانه في مرحلة الثبوت.

وأمّا الخاصّ بما أنّه لا وجه له من هذه الجهة فلا يمكن الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ، وقد تقدّمت الإشارة إلى التوهّم بإمكان ذلك في ما تقدّم مع توضيح منّا فيما إذا رأى شبحا من مكان بعيد وجزم بكونه حيوانا من دون الالتفات إلى أنّه يكون من أيّ نوع وصنف منه ، إذ له عند ذلك أن يتصوّر ذلك الشبح الذي هو مصداق من المصاديق الجزئية الحقيقية ويعيّن اللفظ بعنوان الوضع بإزاء معنى كلّي ينطبق عليه وعلى غيره من الأفراد والمصاديق ، فيكون هذا مرادنا من إمكان تصوير وضع الخاصّ والموضوع له العامّ.

١١٣

وفيه : أنّه توهّم فاسد. بيان ذلك : أنّه قد يلاحظ ذلك الشبح في حدّ أنّه جزئي خاصّ فيعيّن اللفظ بإزائه بذلك العنوان الخاصّ. وربما لم يكن الأمر كذلك ، بل يلاحظه بعنوان الكلّي المنطبق عليه وعلى غيره من الأفراد والمصاديق ، فيضع اللفظ بإزاء معنونه فقط من دون أن يكون هنا وجه ثالث ، فهذا السنخ من الوضع على الأوّل يكون من سنخ الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، وعلى الثاني من سنخ الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، أو سنخ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، ولا رابع كما لا يخفى.

فلا يذهب عليك أنّ المتلخّص من جميع ما ذكرناه في نهاية الشوط بالنسبة إلى مقام الثبوت في أقسام الوضع من حيث النتيجة تتعيّن في أقسام ثلاثة :

الأوّل : الوضع العامّ والموضوع له العام.

والثاني : الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.

الثالث : الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

وأمّا القسم الرابع منها أعني الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ، فقد بيّنا بما لا مزيد عليه أنّه غير ممكن ثبوتا ، فلا يمكن الالتزام بذلك.

والحاصل ـ إلى حدّ الآن ـ أنّ الواضع تارة يلاحظ ذات المعنى وحقيقته من حيث هو هو ويعيّن اللفظ اسما له في حدّ ذاته من دون أن يكون المفهوم بما هو مفهوما متّصفا بالتصوّر ؛ إذ المفهوم الموصوف بالتصوّر يخرج عن كونه كلّيا ويكون غير قابل الانطباق على الكثيرين ؛ لأنّ الشيء المتصوّر من أيّ طبيعة كان إذا لوحظ بحيث يكون اللحاظ والتصوّر بعنوان القيد دخيلا فيه يخرج عن الكلّية ، بل يتّصف بالجزئيّة ، فيخرج عن كونه قابل الانطباق على الكثيرين ؛ إذ الجزئي الذي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا تارة يكون من قبيل الموجودات الجزئيّة الخارجيّة كالأعلام الشخصيّة مثل زيد وعمرو وبكر ، واخرى يكون من

١١٤

قبيل المتصوّرات الذهنيّة ، فإذا تعلّق التصوّر بالمفهوم فيصير المفهوم من المفاهيم المتصوّرات الذهنيّة غير القابلة الانطباق على الكثيرين ، بل الحقّ أنّ التصوّر إنّما يكون طريقا إلى المفهوم لا أنّه يكون دخيلا فيه بعنوان القيدية حتّى يخرج المفهوم عن كونه في حدّ ذاته إلى كونه بشرط الشيء ويتّصف بالجزئيّة الذهنية ، فيخرج عن دائرة الكلّية ليمتنع فرض صدقه على الكثيرين.

بل مرادنا من المفهوم والموضوع له في هذه الصورة ليس إلّا ذات المعنى والطبيعة التي أخذ التصوّر فيها من باب الهداية والكاشفيّة.

فانقدح أنّ الواضع إذا تصوّر المعنى في حدّ ذاته ، كما إذا تصوّر مفهوم الإنسان وعيّن لفظ الإنسان اسما له ، أي لهذا المفهوم الكلّي العامّ ، فيكون الوضع عامّا والموضوع له عاما.

بخلاف ما إذا كان الموضوع له جزئيّا خارجا كالأعلام الشخصيّة مثل : زيد وعمرو وبكر وخالد ، فيضع اللفظ بإزائه ، فيكون من قبيل الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، وذلك كمن يرى ابنه الذي في البيت ولد ذكرا فيقول في مجلس التسمية عند الأحبّة : إنّي سمّيته بأحمد.

واخرى يكون التصوّر بنحو الإجمال ، لا كالتفصيل المتقدّم ، وذلك مثل ما إذا قال الواضع أو الوليّ قبل تولّد المولود في الخارج : يا أيّها الأحبّة ، اعلموا أنّ أوّل من يتولّد من صلبي إن كان ذكرا فإنّي سمّيته بأحمد ، فهذا السنخ من التصوّر الإجمالي أيضا يكون من قبيل الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، مع الفرق بأنّ في القسم الأوّل إنّما لوحظ المسمّى بالتفصيل ، وفي القسم الثاني لوحظ بالإجمال.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في المقام : أنّ المعنى الموضوع له ـ بلا فرق بين ما كان عامّا أو خاصّا كالأعلام الشخصيّة ـ إنّما يكون من المفاهيم القابلة في

١١٥

نفسها للحضور في ذهن المخاطب والسامع في مرحلة التخاطب ، فالألفاظ كما لم توضع للموجودات الذهنية ، فإنّ الموجودات الذهنيّة غير قابلة لوجودات ذهنيّة اخرى ، بل إنّها ـ أي الألفاظ ـ موضوعة لذوات الطبيعة والمعاني التي هي غير آبية عن هذين النحوين من الوجود في أنفسها. ولا يخفى عليك أنّ تلك المعاني تتّصف بالسعة وبالضيق لا بنفسها ، بل باعتبار الانطباق والصدق الخارجي ، ولأجل هذا اللحاظ ينقسم الموضوع له إلى العامّ مرّة وإلى الخاصّ تارة اخرى ، أعني بلحاظ الانطباق على ما في الخارج لا في نفسه.

هذا تمام الكلام في الأوّل ، فقد عرفت صحّة تصويرها بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة في مقام الثبوت دون القسم الرابع ، فإنّه أمر غير معقول بالنسبة إلى عالم الثبوت فضلا عن الإثبات.

المقام الثاني :

وقد بقي الكلام في المقام الثاني من الوضع باعتبار اللفظ.

فلا يخفى عليك أنّ الواضع تارة يتصوّر اللفظ في حدّ ذاته بمادّته وهيئته المختصّة به ثمّ يجعله اسما لشيء من الأشياء المكوّنة في الخارج ، وذلك كأسماء الجوامد مثل : لفظ الحجر والأرض والماء والحديد ، بل كلّ الألفاظ من الملبوسات والمأكولات والمشروبات ؛ إذ لا شكّ أنّ الواضع يلاحظ مادّة «ألف وراء وضاد» ويركّبها على هيئة الأرض بفتح الأوّل وسكون الوسط ، فيضعها لهذه الكرة الموجودة في مقابل السماء ، إذ الواضع حين الوضع إنّما لاحظ المادّة والهيئة معا فوضعها كما أراد اسما للأرض ، بل الأمر يكون على ذلك المنوال بالنسبة إلى تمام أسماء الأجناس والأشخاص من دون شكّ والتباس.

واخرى ليس الأمر كذلك ، بل إنّما يلاحظ المادّة فقط ، وذلك نظير وضع

١١٦

المصادر وموادّ المشتقّات كالعدل والضرب والوعد والرمي والأكل والشرب واللبس والقيام والجلوس.

بخلاف القسم الثالث ، فإنّه إنّما يلاحظ الهيئة فقط ، وذلك كما في هيئات الأفعال والجمل التامّة والناقصة.

فإذا عرفت ما ذكرناه من الأقسام في الوضع بالنسبة إلى اللفظ ، فمن الواضح أنّ الأوّل والثاني يكون من سنخ الوضع الشخصي ، بخلاف القسم الثالث ، فإنّه نوعيّ ليس إلّا ؛ إذ المعيار في كون الوضع شخصيّا عبارة من لحاظ الواضع حين الوضع شخص اللفظ ـ حسب ما تقدّم من الأمثلة في الألفاظ المتقدّمة ـ بوحدته الذاتيّة وعنوانه الطبيعي والشخصي بهيئته التي تميّز بها في حدّ ذاتها عمّا سواه ، بخلاف وضع النوعي كأسماء المشتقّات التي هي مختلفة في هيئاتها كالقائم والضارب والصابر من أسماء الفواعل ، أو الأفعال من الماضي والمستقبل والأمر والنهي والنفي والجحد والاستفهام نظير «ضرب وبكى ورمى» ، فإنّ ملاك لحاظها وتصويرها بعنوان تميّز مادّتها وهيئتها مع كثرتها عمّا عداها ربما يكون من المحالات.

فانقدح لك على ذلك أنّ نحو الوضع فيها بغير عنوان الوضع النوعي الجامع لجميع تطوّراتها في مختلف مجالاتها نظير إنشاء القضيّة الحقيقية غير ممكن ، فلا مناص للواضع إلّا أن يقول في مقام وضع الأفعال بالنسبة إلى الفعل الماضي من باب فعل بفتح العين : إنّي وضعت هيئة فعل لكلّ فعل ماض يكون من هذا الباب ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الأفعال من المستقبل والنفي والنهي والأمر والجحد والاستفهام.

وبالجملة إنّ ملاك نوعيّة الوضع هو تصوّر الواضع حين الوضع اللفظ الكلّي بجامع عنواني ، كهيئة الفاعل مثلا الشامل لكلّ ما يكون في الهيئة مشابهة لها ،

١١٧

لا بلحاظ شخصيّته وبوحدته الذاتية الانفرادية ، فبذلك التقريب ظهر لك ملاك وضع الشخصي والنوعي في الأقسام الثلاثة بالنسبة إلى وضع الألفاظ.

وقد عرفت في الأوّل أنّ الواضع لم يلاحظ فيه عند الوضع إلّا ذات اللفظ وشخصه بما له من الوحدة الطبيعيّة المتميّزة ، فالموضوع عند الواضع ليس إلّا ذلك اللفظ المتصوّر الملحوظ كذلك ، بلا فرق بين ما كان الموضوع له معنى عامّا أو خاصّا ، بل الأمر يكون كذلك في القسم الثاني.

وأمّا الأخير فبما عرفت من كثرة المشتقّات آنفا وكونها مندكّة ومندمجة في المادّة ، نظير اندماج العناصر في الوجود في نهاية الاندماج فغير معقول تصوّرها ولحاظها منفكّة بنفسها عند قطع النظر عن المادّة ؛ إذ لا وجود لها بدونها في الوجود الذهني فضلا عن الوجود الأصيل العيني كعدم وجود العنصر في جميع شئون الوجود من الذهني والعيني في قبال مطلق الوجود ، فتجريد الهيئات عن المواد غير ممكن حتّى في مقام اللحاظ ، كعدم إمكان تجريد العناصر عن مطلق الوجود حتّى بالنسبة إلى مقام اللحاظ ، فلا جرم يجب أن يكون الوضع لأشخاصها تحت عنوان جامع شامل لها ، كقولنا : كلّ ما كان على هيئة الفاعل لا بشخصيّتها الذاتية العينية ، كما إذا كان على هيئة الصابر والناطق والناظر والكاسب والجابر والتاجر وأمثالها من الهيئات النوعيّة المتصوّرة ، دون خصوص هيئة الفاعل المشتقّ من مصدر الفعل.

فبما ذكرته انقدح لك توضيح معنى الوضع النوعي في قبال لحاظ الوضع الشخصي. هذا تمام الكلام بالنسبة إلى بيان أقسام الوضع عند الثبوت.

وقد بقي الكلام في الجهة الرابعة : وهي عبارة عن البحث عنه بالنسبة إلى مقام الإثبات والتحقّق والوقوع ، وقد عرفت الحقّ من الأقسام الممكنة ، وهي

١١٨

عبارة عن الوضع العامّ والموضوع له العامّ كوضع أسماء الأجناس ، كما علمت إمكان الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ كوضع الأعلام الشخصيّة ، وإمكان القسم الثالث مثل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، كما عرفت عدم إمكان القسم الرابع في مقام الثبوت مثل الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ، فمن البديهي أنّه إذا كان من المحالات بالنسبة إلى مقام الثبوت فلا تصل النوبة إلى البحث عنه بالنسبة إلى مقام الإثبات في الأقسام الثلاثة.

فلا يخفى عليك أنّ الأوّلين منها من المسلّمات التي لم يختلف أحد فيهما من حيث الثبوت والإثبات والوقوع.

وإنّما النزاع والكلام وقع بين الأصحاب في القسم الثالث في مقام الإثبات ، وهو عبارة عن أنّ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ هل تحقّق ووقع في الخارج أم لا ؟

فلا يذهب عليك أنّ المسألة تكون محلّ الكلام بين الأصحاب. وقد ذكر جماعة منهم أنّ كيان وحقيقة وضع الحروف والمعنى الحرفي وأسماء الإشارة يكون من هذا القبيل (١).

وقد خالفهم في التطبيق بالنسبة إلى مقام الإثبات في المعنى الحرفي المحقّق الخراساني صاحب الكفاية قدس‌سره (٢).

فعلى هذا فلا بدّ لنا من التعرّض لبيان المعنى الحرفي حتّى يتّضح لك الحال في ذلك المجال.

__________________

(١) يظهر ذلك من صاحب القوانين في قوانينه : ١٠ ، وصاحب المعالم في الاستثناء المعقّب للجمل : ٥٧ ، ونسبه صاحب الحاشية : ٣١ إلى أكثر المتأخّرين.

(٢) كفاية الاصول : ٢٥.

١١٩

المعنى الحرفي

وقد انتهى كلامنا إلى بيان المعنى الحرفي في مقام الإثبات ، فلا يخفى عليك أنّ المسألة تكون محلّ الخلاف والكلام عند الأصحاب.

وقد ذهب بعضهم إلى أنّ المعنى الحرفي إنّما يكون كالمعنى الاسمي بعينه من حيث المفهوم والمعنى من دون أيّ فرق بينهما من هذه الجهة ـ كما التزم بذلك الشيخ الرضيّ قدس‌سره (١) وتبعه في ذلك المحقّق الخراساني قدس‌سره في الكفاية (٢) ـ ولكن لا مطلقا ، بل مشروطا بكون المعنى الحرفي في مرحلة الاستعمال أن تلاحظ أداة وآلة للغير ، بخلاف المعنى الاسمي فإنّه يستعمل بلحاظ الاستقلال.

ولا يذهب عليك أنّ المراد من الشرط في المقام ليس هو الشرط الشرعي الذي يجب الوفاء على طبقه نظير الشرائط التي يعتبرها الشارع في المعاملات ، فإنّها تكون واجبة الوفاء ، لوجود الدليل على وجوب الوفاء بالشروط في المعاملات ، بخلاف المقام.

بل المراد من الشرط الذي لوحظ في المعنى الحرفي عبارة عن بيان وتفسير

__________________

(١) نسبه إليه المحقّق ميرزا حبيب الله الرشتي ، انظر بدائع الأفكار : ٤١.

(٢) كفاية الاصول : ٢٥.

١٢٠