دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

عند العرف واللغة ، إذ تعيين المفاهيم وخصوصيّاتها من جهة السعة والضيق أمر مربوط باللغة والعرف وأهلهما ، فإذا كان مفهوم اللفظ عندهما موسّعا فلا محالة يكون الانطباق أيضا كذلك ، وإن كان مضيّقا فالانطباق يكون تابعا له في ذلك.

الثالث : قد انقدح لك ـ بما أوضحناه في المقام بما لا مزيد عليه ـ أنّه لا يتفاوت في ذلك بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي بوجه من الوجوه في ذلك ، بل كلّ منهما يكون على حدّ سواء في تلك الجهة.

الرابع : أنّ الاطراد بهذا المعنى وعدمه من حيث الشمول والإطلاق وعدمهما أجنبيّان عن الحقيقة والمجاز ، كما تقدّم مفصّلا بما لا مزيد عليه.

والحقّ في المقام كما هو عليه أهله عبارة عن أنّ الاطّراد المبيّن والناطق عن الحقيقة على سبيل الإجمال ليس إلّا استعمال لفظ خاصّ في مفهوم مخصوص في موارد مختلفة في ضمن محمولات كثيرة وجميع ما يحتمل أن يكون قرينة على إرادة المجاز وخلاف الحقيقة ، فهذا المنهج يكون هو المرجع المنفرد والسبيل المنحصر لتعليم اللغات الأجنبيّة والاطلاع عليها بعنوان الحقيقة ، والصراط المستقيم لاستكشاف الحقائق العرفيّة واللغوية من مجازاتها.

بيان ذلك على النحو الصحيح لتوضيح المراد ينقدح بالنسبة إلى مثال من جاء من بلد إلى بلد آخر ، نظير من ذهب من إيران إلى العراق وبالعكس ، وهو يرى أنّ أهل البلد يستعملون لفظا ويريدون به معنى ، ويطلقون لفظا آخر ويقصدون به آخر وهكذا هلمّ جرّا ، ولكن ذلك الشخص في شكّ في أنّ هذه الاستعمالات والإطلاقات تكون من باب الحقيقة أو أنّها من باب المجاز دون الحقيقة ، فعند ذلك إذا رأى أنّهم يستعملون ويطلقون هذه الألفاظ ويقصدون ويريدون بها تلك المعاني في جلّ تلك الموارد بجميعها وتمامها يحصل له العلم والاطّلاع بأنّها

٣٠١

تكون من المعاني والمفاهيم الحقيقية دون المجازيّة ، وذلك بلحاظ أنّ جواز الاستعمال ليس إلّا معلولا لأحد الأمرين ، الأوّل : الوضع. والثاني : القرينة. ولا سبيل للالتزام بالثاني ؛ إذ المفروض أنّ المتتبّع لم يجد القرينة ، بل وقف على انتفاء القرينة من ناحية الاطّراد الجاري في جميع تلك الموارد ، فإذن ينحصر الاستناد إلى الأوّل الذي ليس إلّا هو الوضع من الواضع بعنوان الحقيقة إن فرض القضيّة تدور مدار المنفصلة الحقيقيّة على سبيل منع الجمع ؛ إذ إطلاق الواحد لا يمكن أن يتّصف بكلّ من الحقيقة والمجاز ، والمجاز غير ممكن بلا قرينة ، فبانتفائها بالتتبّع تتعيّن الحقيقة بالقطع واليقين كالشمس في الافق المبين.

مثلا إذا رأيت أنّ العرب يستعملون لفظ (الماء) في مفهومه المعهود المعلوم ، ولكنّك شككت في أنّه من المفاهيم الحقيقيّة أو من المعاني المجازيّة ، فبإلغاء ما يحتمل أن يكون هو القرينة ـ كما تقدّم أمثلة ذلك في أوّل البحث من ناحية الاطّراد ـ عرفت بأنّ ذلك المعنى يكون من المعاني الحقيقيّة لهذا اللفظ دون المجاز ، لفقدان القرينة عليه. فإذن لا يكون فهمك منه هذا المعنى مستندا إلى شيء من القرائن بوجه من الوجوه من الحاليّة والمقاليّة ، فهذه الطريقة ثابتة غير قابلة للإنكار ، بل الأطفال إنّما يتعلّمون اللغات غالبا من ناحية هذه الطريقة في باب الألفاظ بلا ريب وإشكال.

فانقدح من جميع ما ذكرناه لك في المقام أنّ الاطّراد بهذا التوضيح والبيان الذي فسّرناه لك علامة للحقيقة ، وبه تمتاز الحقيقة عن المجاز لكلّ من يكون سالكا لإثبات الحقيقة عن طريق الاطّراد ، بل إنّ المنهج الوحيد والسبب الفريد لعرفان الحقيقة عن المجاز في أغلب الموارد في اللغات والمحاورات هو الاطّراد بهذا التفسير. إذ تصريح الواضع وإن كان أيضا من طرق كشف الحقيقة إلّا أنّه في نهاية الندرة. وأمّا التبادر فهو وإن كان مثبتا للوضع كما تقدّم ، ولكنّه لا بدّ

٣٠٢

من أن ينتهي إلى العلم بالوضع إمّا من ناحية تصريح الواضع أو من طريق الاطّراد ، والأوّل في نهاية الندرة ، فيتعيّن الثاني بالسبر والتقسيم.

هذا تمام الكلام في بيان الاطّراد بعون الله الملك المنّان.

٣٠٣

تعارض الأحوال

بقي الكلام بالنسبة إلى بيان تعارض الأحوال ، فلا يخفى عليك أنّ الاصوليّين ذكروا للّفظ أحوالا متعدّدة من التخصيص والتقييد والمجاز والاشتراك والإضمار والنسخ ولكنّهم التزموا بأنّ اللفظ إذا استعمل وتردّد أمره بين واحد منها وبين الحقيقة أنّ المحكّم يكون هو الحقيقة دون واحد منها ، تمسّكا بأصالة الحقيقة ، فيثبتون بها الحقيقة ويلتزمون بأنّ اللفظ حقيقة في المستعمل فيه.

بخلاف ما إذا خرجت الحقيقة من الأطراف ودار أمر الاستعمال بين تلك الامور خاصّة من التجوّز والإضمار والتخصيص والتقييد والنسخ والعموم ، فإنّهم وإن ذكروا وجوها للترجيح بالنسبة إلى تقديم بعضها على البعض في سبيل أولويّة بعضها على الآخر عند التعارض والدوران. ولكن المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره أنكرها ، لعدم وجه الاعتماد عليها ، لأنّها وجوه استحسانية لا دليل على اعتبارها ، وجعل المدار المتيقّن هو الظهورات العرفيّة العقلائيّة (١) ، فكلّ واحد منها إذا كان هو الأظهر فهو المتّبع وإلّا فلا ، وما أفاد هو قدس‌سره يكون هو الجدير بالاعتماد.

وعلى هذا فلا مجال لإطالة الكلام في ذلك المقام ، فالأولى صرف عنان الكلام إلى بيان الحقيقة الشرعية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٥.

٣٠٤

الأمر التاسع

الحقيقة الشرعية

الأمر التاسع : في الحقيقة الشرعيّة ، فلا بدّ لنا من التكلّم فيها من جهات :

الجهة الاولى : قال جماعة منهم المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّه تظهر الثمرة فيها بحمل الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ـ كألفاظ العبادات والمعاملات ـ على المعاني الشرعية بناء على الثبوت ، وعلى المعاني اللغوية بناء على عدم الثبوت (١).

وقيل بالتوقّف في المقام بناء على الثاني ، بدعوى أنّ الحقيقة الشرعيّة وإن لم تثبت ، إلّا أنّه لا شبهة في صيرورة المعاني الشرعية من المجازات المشهورة من ناحية كثرة استعمال هذه الألفاظ في هذه المعاني ، والمختار في تعارض الحقيقة مع المجاز المشهور التوقّف ، بل إنّما المشهور ذهبوا إلى ذلك ، ولكن خالفهم في ذلك السيّد المرتضى قدس‌سره (٢) بناء منه على حجّية أصالة الحقيقة تعبّدا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٧.

(٢) انظر الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ١٣.

٣٠٥

حسب ما نسب إليه ذلك ، وأمّا من حيث اعتبار الظهور فلا يبقى لها ظهور في معانيها الحقيقية. هذا.

ولكنّ الإنصاف بالنظر إلى الحقيقة في المقام أنّه لا ثمرة لهذا المبحث من الأصل والأساس كما اختار ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره ، وذلك من ناحية أنّ الكبرى المذكورة ـ وهي حمل الألفاظ المستعملة في لسان الشارع على المعاني اللغوية ، أو التوقّف بناء على عدم الثبوت ، وعلى المعاني الشرعية بناء على الثبوت ـ وإن كانت مسلّمة ، إلّا أنّ الصغرى غير مسلّمة ، لعدم الشكّ في المراد الاستعمالي عند استعمال هذه الألفاظ ، سواء قلنا بإثبات الحقيقة الشرعية ، أم قلنا بعدم الإثبات ، لأنّها على كلّ من التقديرين استعملت في عرف المتشرّعة في تلك المعاني الشرعيّة بالقطع واليقين. فإذن لا يبقى لنا مورد للشكّ في المراد عند استعمالها فيها (١).

وفي الجملة ، فإنّ ألفاظ الكتاب والسنّة قد وصلت إلينا من النبيّ المعظّم صلى‌الله‌عليه‌وآله بواسطة الأئمّة عليهم‌السلام ، لا سيّما من بعد زمان الصادقين إلى زمان غيبة إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف. ومن البديهي الواضح الجدّي أنّ الحقيقة الشرعيّة وإن سلّم عدم إثباتها ، ولكنّه لا ينبغي الريب أنّ الحقيقة الشرعية في زمان الأئمّة عليهم‌السلام متحقّقة يقينا ، وعلى ذلك التسليم فلا يبقى لنا مورد شكّ في مراد الشارع المقدّس من استعمال هذه الألفاظ حتّى نحتاج إلى العلاج أو التوقّف ليكون ذلك ثمرة للبحث في هذه الألفاظ الواردة في العبادات والمعاملات وأمثالهما من الكتاب والسنّة.

وقد بقي هنا تنبيه يمكن أن يكون ذلك من الإشكال على ما ذكرناه في المقام ،

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ٣٣.

٣٠٦

وهو أنّ ما ذكرتم لا يتمّ في الألفاظ التي وصلت إلينا من النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون وساطة الأئمة عليهم‌السلام ، فهذا المقدار يكفي في وجود الثمرة للبحث في هذه المسألة.

وفيه أنّ ذلك مجرّد فرض لا يسمن ولا يغني من جوع ؛ إذ لا واقعيّة له حتّى عند الفارض. فصارت النتيجة الحاصلة من هذا المبحث ـ بعد الإقرار بعدم ترتّب الثمرة عليه ـ أنّ هذه المسألة من المباحث العلمية المحضة فقط وليس إلّا.

الجهة الثانية : اعلم أنّ المراد من الحقيقة الشرعيّة على فرض إثباتها إن كان نحو الوضع التعييني كوضع الآباء أسامي أبنائهم عند الأرحام والأقرباء في محلّ واحد بعنوان يوم التسمية ، فذلك من البطلان لا يحتاج إلى البيان ؛ إذ لو كان لنقل إلى تمام الامّة بالتواتر المسلّم لما فيه من الاهتمام ، لأنّها من المسائل التي تعمّ بها البلوى لجميع الامّة في كلّ يوم وشهر وسنة بالنسبة إلى كلّ مكلّف من الرجال والنساء في جميع العصور والأزمان ، مع أنّ مثل هذا النقل والوضع في هذه الألفاظ مقطوع العدم من شخص واحد من الأصحاب ، فضلا عن أن يكون متواترا بطرق كثيرة من الأصحاب.

ولا تقاس هذه المسألة بمسألة الغدير في نصب الأمير عليه‌السلام ـ في اجتماع الناس على رءوس الأشهاد كالنور في مشكاة الملكوت بإثبات شمس عالم الوجود المأمور بإظهاره وإثباته من قبل الله الذي بيده الخلق والأمر في الملك والملكوت ، حيث قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)(١) ، والحال أنّها جعلت في ظلم الإنكار إلى حدّ حدث شكّ فيه على ما نقل عن بعض الأبرار ، لقيام المكذّبين على الإنكار بإحداث المحتملات الواهية الكثيرة في

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

٣٠٧

أفكار المتفكّرين من الرجال ، بحيث بقيت آثار ذلك النفاق إلى الآن ميراثا في قلوب النساء ورجال والعلم والفقه والتأريخ من الأخيار ، فضلا عن العوام والجهّال ـ فإنّه قياس مع الفارق ، لأنّ السبب في إنكار ذلك حبّ الدنيا ، فإنّه رأس كلّ خطيئة ، والرئاسة التي دأب عليها أهلها حتّى بالنسبة إلى إنكار الخالق البارئ المصوّر والرسول الأكرم ، فكيف بأمير المؤمنين ويعسوب الدين الذي اجتمع على إنكار خلافته كلّ من الحاسدين من أهل الحقد ، بحيث ينادي هو عليه‌السلام بسبب هذا الإنكار الشنيع رسول الله بحزن وشجن حيث قال : أصبحنا يا رسول الله بعدك من المستضعفين ، كما يقول هارون عليه‌السلام لأخيه موسى عليه‌السلام : (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)(١) ، (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي)(٢) ؛ لأنّ ذلك الأمر كان شاقّا على المنافقين وعلى كلّ من يخطر بباله القاصر طمع التصدّي لهذا الأمر العظيم في غياب النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبالجملة ، فلمّا كان هذا الأمر العظيم على خلاف طبائعهم الحاسدة وأنّهم كانوا طامعين في هذه الرئاسة العامّة ، فأقدموا على إعدامه وإنكاره بالتشكيكات الواهية الكاذبة.

بخلاف مسألة وضع أسامي العبادات والمعاملات والطهارات والحدود والقصاص ، فإنّهم كانوا من المشتاقين لنقلها وجمعها وضبطها والعمل بها ؛ إذ كلّ ذلك كان دخيلا في مقاصدهم الواقعيّة والظاهريّة ، لا سيّما بالنسبة إلى الأخير ؛ لأنّه كان دخيلا في جلب توجّه الناس إليهم الذي يقرّر ويثبت رئاستهم الكاذبة ، ولأجل ذلك كان نقل مسألة إثبات الحقيقة الشرعيّة بنحو الوضع التعييني إذا

__________________

(١) طه : ٩٤.

(٢) الأعراف : ١٥٠.

٣٠٨

كانت ثابتة مورد رغبة الكلّ من الموافق والمخالف ، وليس ببعيد أن يدّعى عدم الخلاف فيها بالنسبة إلى كلّ الأصحاب والصحابة ، بحيث لو فرض المخالف لمسألة الوضع في ثبوت الحقيقة الشرعيّة فهو فرض نادر كالمعدوم لا يعتنى به ولا يكون مضرّا بالنقل التواتري.

فصارت النتيجة أنّ الوضع التعييني في ثبوت الحقيقة الشرعيّة من قبل الشارع على النحو الذي تقدّم في وضع أسامي الأبناء من الآباء بالاتفاق مقطوع العدم بلا شكّ وريب ، وهذا القسم الأوّل من الوضع.

وأمّا القسم الثاني : وهو عبارة عن الوضع التعييني الآخر ، كما ذهب إليه المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره في المقام (١) ، بمعنى حصوله من ناحية كثرة استعمال الشارع هذه الألفاظ في تلك المعاني المحدثة ـ لو لم نقل بثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة ـ بحيث من ناحية كثرة استعمال الشارع هذه الألفاظ في هذه المعاني الشرعية ـ لا سيّما عند كونه في مقام البيان من التيمّم والطهارات والأغسال والعبادات والمعاملات الدارجة في ما بينهم في كلّ يوم مرّات كثيرة بالنسبة إلى كثرة ابتلاء المكلّفين بها في جميع أقطار البلاد العربيّة في كلّ يوم بالنسبة إلى كلّ مكلّف بأزيد من خمس مرّات ـ تحصّل الوضع بالنسبة إلى هذه الألفاظ لتلك المعاني الشرعيّة المقدّسة بالقطع واليقين كالشمس في الافق المبين في تمام أقسام العبادات ، فلا يذهب عليك أنّ ما أفاده قدس‌سره قابل للقبول والتصديق بلا ريب وترديد.

ولكن مع ذلك كلّه قد أنكره حدّا إلى حدّ الاستحالة شيخنا الاستاذ المحقّق النائيني قدس‌سره (٢) وذلك من ناحية عدم إمكان الجمع بين اللحاظين ، أحدهما بعنوان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٦.

(٢) أجود التقريرات : ٣٣.

٣٠٩

الاستعمال بمقصد تفهيم المقصود من الاستعمال ، والثاني بمقصد التسمية والجعل والاعتبار بعنوان تثبيت الوضع على نحو التعيّن في استعمال واحد ؛ إذ ذلك السنخ من الاستعمال من قبيل الجمع بين اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ ؛ إذ اللفظ في الأوّل غير ملحوظ بالقطع واليقين ، لأنّه اخذ آليّا وفانيا في المعنى ، إذ اللفظ إنّما يكون قنطرة المعنى ، بحيث إنّه مندكّ في المعنى على نحو أنّ اللبّ في تحرير المقصود من التمسّك بالألفاظ ليس إلّا إراءة المعنى وتفهيمه للمخاطب ، بحيث لو لا ذلك الغرض الأقصى لم يتكلّم بذلك اللفظ أصلا وأبدا. بخلاف الثاني ، فإنّ المقصود الأصلي إنّما يكون متوجّها إلى ذات وضع اللفظ وتعيينه بعنوان الاسم للمعنى والمسمّى فقط ، ومن الواضح عدم إمكان الجمع بين هذين اللحاظين إلّا أن يكون اللاحظ أحول العينين.

وفيه : أنّ هذا الإشكال ليس له محلّ ومجال ، فضلا عن أن يكون بمرحلة الاستحالة ، لأنّ هذا السنخ من اللحاظ والاستعمال بلغ مراحل الوقوع والتحقّق فضلا عن التصوّر والإمكان ، وذلك نظير من يستعمل اللفظ في المعنى الذي وضع له بقصد التعليم وتفهيم اللغة العربية.

توضيح ذلك ، أنّ المتعلّم مع ما له من الاشتياق والاهتمام بتعلّم المعنى وفي نفس ذلك الحين يكون في حال لحاظ بأنّ هذا اللفظ موضوع واسم لذلك المفهوم والمعنى في المحاورة من اللغة العربية.

والتحقيق في ذلك أنّ الوضع بما له من المعاني المتقدّمة عند أهلها ، سواء كان بمعنى الالتزام والتعهّد النفساني الذي يكون هو المختار عندنا ، أو بمعنى اعتبار نفسانيّ على كلّ أنواعه وأنحائه ، في مرتبة متقدّمة على الاستعمال.

أمّا على الأوّل ، فلا ستر عليه ؛ إذ من البديهي أنّ التعهّد والتبنّي بذكر لفظ خاصّ عند إرادة تفهيم معنى خاصّ يكون من حيث الرتبة مقدّما على الاستعمال

٣١٠

من دون الاحتياج في بيان ذلك إلى التماس دليل خاصّ لا محالة ، بلا أيّ فرق بين أن يكون إبراز هذا العهد والتعهّد والاعتبار في ضمن كلمة (وضعت) عند الوضع أو أمثالها الدالّة على ذلك التعهّد بالنصّ والتصريح بدلالة المطابقيّة ، أو يكون مظهره ومبرزه هو نفس ذات ذلك استعمال الدالّ على ذلك بالدلالة الالتزاميّة المعتبرة عند أهل الاستدلال بمعونة القرينة المأخوذة في الكلام ، مثل ما إذا قال والد المولود الذكر لزوجته بعنوان التسمية والوضع في ابتداء التولّد : جيئيني بالحسن الذي يكون في المهد.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ اعتبار الملازمة أو الارتباط الخاصّ بين اللفظ والمعنى ـ أو نحوها من المعاني الخاصّة ـ مقدّم على الاستعمال بالبداهة والضرورة ، وإن كان إظهار ذلك بعهدة نفس ذات ذلك الاستعمال المتحقّق لبيان ذلك التعهّد والوضع عند نصب القرينة على تلك الخصوصيّة الوضعيّة التي اريدت من ذلك الاستعمال كالمثال المتقدّم ، وعلى كلّ حال فالاستعمال متأخّر عن الوضع من حيث اللحاظ لا محالة بالضرورة من الوجدان.

ونظير ذلك الهبة ، فإنّه ربما يبرزها بجملة (وهبتك) الدالّة عليها بالمطابقة ، واخرى يظهرها للمتّهب الحاضر عند الواهب بجملة (خذ العباء والثوب والبسهما) مثلا ، الدالّة على الهبة لا بالنصّ والتصريح المطابقي بل بالالتزام والملازمة.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام اندفاع إشكال لزوم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي على جميع المشارب والمسالك التي تقدّمت الإشارة إليها عند بيان تفسير حقيقة الوضع ؛ إذ الوضع إنّما هو عبارة عن أمر نفساني مستقرّ ثابت في وعاء النفس ، والاستعمال أمر خارج عن ذلك الوعاء ، فيكون الوضع سابقا على الاستعمال على الدوام في كلّ زمان ومكان.

٣١١

على أنّا لو أغمضنا وسلّمنا الجمع بين الوضع والاستعمال في رتبة واحدة وآن واحد لم نصدّق استلزامه الجمع بين اللحاظين الآليّ والاستقلاليّ ؛ إذ ذلك اللازم يكون من فروعات مسلك المشهور في مسألة الاستعمال حيث إنّهم يلاحظون الألفاظ في مرحلة الاستعمال من الامور الآلية ، بخلاف مسلك الحقّ من أنّ حال الألفاظ حال المفاهيم والمعاني في مقام الاستعمال ؛ إذ كما أنّ المعاني والمفاهيم ملحوظات بالاستقلال ، فيكون الأمر كذلك بالنسبة إلى الألفاظ. ولأجل ذلك يلتفت المتكلّم إلى الخصوصيّات الصادرة منه حين التكلّم من كونها لغات عربيّة أو فارسيّة أو غيرها من اللغات الدارجة في ألسنة المحاورة عند أهلها ، من دون أن يلزم من الجمع بين الوضع والاستعمال الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي.

فانقدح بما ذكرناه في توضيح المطلب سهولة وقوع الوضع التعييني بناء على أن يكون المتصدّي لذلك من حيث الدلالة هو نفس الاستعمال ، مع القرينة على ذلك.

وأمّا الكلام في المقام الثاني أي بالنسبة إلى الوقوع ، فمن الضروري وقوع ذلك كما تقدّم في ضمن الردّ الذي ذكرناه عن إشكال شيخنا الاستاذ قدس‌سره من عدم إمكان ذلك ، إذ الظاهر من أحوال أهل العرف لمن يكون مطّلعا عليها أنّه لا ينبغي الشبهة في وقوع الوضع التعييني بهذه المثابة في الخارج ، بل ذلك من حيث الوقوع بلغ إلى حدّ من الكثرة بين العرف والعقلاء بحيث يعدّ التشكيك فيه بمنزلة إنكار أمر ضروري قد صدر من العقلاء في جميع البلدان والعصور كوضع الأعلام الشخصية لا سيّما بالنسبة إلى المعاني الجديدة المستحدثة. وعليه فدعوى تحقّق الحقيقة الشرعيّة بالوضع التعييني على النهج المذكور ـ في الجملة ـ غير قابل للإنكار.

٣١٢

هذا تمام الكلام في بيان إمكان وتحقّق الحقيقة الشرعية من ناحية الاستعمال على المختار ، وفاقا للمحقّق صاحب الكفاية ، وخلافا لشيخنا الاستاذ قدس‌سرهما.

بقي الكلام في أنّ ذلك الاستعمال هل هو استعمال حقيقي أو مجازي ، أو لا هذا ولا ذاك ؟ فيه خلاف ، بل فيه قولان. اختار صاحب الكفاية قدس‌سره الاحتمال الأخير ، بدعوى أنّه لا يكون من الاستعمال الحقيقي ، من جهة أنّ الاستعمال الحقيقي إنّما يكون استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له ، والمفروض أنّه لا وضع قبل هذا الاستعمال ليكون الاستعمال استعمالا فيه ، وأمّا أنّه لا يكون من الاستعمال المجازي فلأجل أنّ الاستعمال المجازي استعمال اللفظ في المعنى المجازي المناسب للمعنى الحقيقي الموضوع له ، والمفروض أنّه لا تحقّق للوضع في شيء قبل هذا الاستعمال ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن تعقّل المجاز.

هذا تمام الكلام في تقرير كلامه عن الإشكال في المقام بالنسبة إلى هذا الاستعمال.

ولكنّ الإنصاف عدم صحّة ما أفاد قدس‌سره في المقام على جميع المسالك المتقدّمة عند بيان معنى الوضع ، إذ الاستعمال في جميع ذلك حقيقة لا سيّما على مسلك المختار بأنّ الوضع عبارة عن التعهّد والالتزام ، لأنّ الوضع أمر قائم بالنفس ويكون الاستعمال كاشفا عنه ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، نظير باب العقود مثل البيع والصلح والهبة بأنّها قرارات نفسانية وهذه الصيغ والأفعال كاشفة عنها ، على أنّا قد ذكرنا فيما مضى أنّ صحّة الاستعمال لا تدور مدار لابدّية كونه من باب الحقيقة أو المجاز ، بل تكون في المحاورة استعمالات كثيرة صحيحة من دون أن تكون متّصفة بأحدهما إذا كان حسنا عند الطبع ، وقد علمت أنّه يكون من هذا القبيل إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله بالتفصيل الذي

٣١٣

لا مزيد عليه.

وقد انقدح ممّا قدّمناه سابقا بما له من التحقيق أنّ الإطلاقات المذكورة ليست من سنخ الاستعمال بوجه من الوجوه في شيء في تلك الأمثلة على التفصيل المتقدّم ، كما أنّه لا يبقى ترديد لأحد إلى حدّ الآن ـ حسب ما تقدّم بيانه آنفا ـ أنّ هذا الاستعمال استعمال واقعي حقيقي ويكون في الموضوع له.

بيان ذلك أنّك قد علمت أنّ الوضع إنّما يكون من الامور النفسانية ، وأنّه من حيث الرتبة متقدّم على الاستعمال على جميع المشارب والمسالك في الوضع من التفسير في معنى الوضع ، وعليه فالوضع يحصل قبل الاستعمال ، فإذا حصل الوضع قبيل الاستعمال فالاستعمال صدر من أهله ووقع في محلّه وفي الموضوع له ، وهذا من الوضوح يكون كالنار على المنار.

ولكن مع ذلك كلّه لو أغمضنا عن تلك البراهين الواضحة بل تنزّلنا عن ذلك وقبلنا عدم كون الوضع من الامور النفسانيّة من الالتزام والتعهّد واعتبار الملازمة ونحوه من أمثال ذلك ، بل التزمنا بأنّ للإبراز والكاشف دخل فيه من حيث الحقيقة جزءا أو قيدا على نحو بدونه لا يتحقّق الوضع ، كما هو الحال عند من يقول بتلك الجزئية في تحقّق عنوان العقود من البيع والإجارة والصلح والنكاح والهبة والعتق والتحرير وأمثال ذلك من الامور الاعتبارية ، على نحو لا تتحقّق هذه العناوين إذا لم تكن مقرونة بتلك الكواشف القولية والفعلية ، عند من يقول بقيام الفعل مقام القول والصيغة كما في المعاطاة عند العرف ، بل للإبراز دخل فيها خبرا أو قيدا بحيث إنّ مجرّد ذلك الاعتبار النفساني ولو كان في نهاية شوق البائع والناكح إذا لم يكن مكشوفا بصيغ الكلام لا يتحقّق ذلك العنوان عند العرف ، فلا يكون معتبرا إذا تجرّد عن الكاشف بحيث يكون اقترانه بالكاشف دخيلا في تحقّقه عند العرف بعنوان الجزء.

٣١٤

فلا يصدق عرفا على مجرّد ذلك الاعتبار ـ ما دام مكنونا في باطنه ـ ملكيّة المبيع وحلّية المنكوحة للناكح وللمشتري ، مثلا عنوان البيع الذي يكون لازما عند العرف مشروط بإبرازه وإظهاره باللفظ الذي ينبغي أن يكون دالّا على ذلك الاعتبار ، فعنوان البيع لا يصدق عرفا على مجرّد اعتبار البائع ملكية المبيع لزيد مثلا ، واعتبار زيد تملّكه لنفسه في مقابل العوض المعلوم ما لم يبرزه البائع بقوله : بعت أو ملكت ، والمشتري بقوله : اشتريت ، أو قبلت.

فالبيع عبارة عندهم عن الأمر الاعتباري الخاصّ المبرز في الخارج بمبرز وهكذا غيره ، فلو سلّمنا أنّ أمر الوضع أيضا يكون كذلك فلا يكون هذا الاستعمال استعمالا في غير ما وضع له.

والوجه في ذلك هو أنّه لا يعتبر في كون الاستعمال استعمالا حقيقيّا واستعمالا في الموضوع له تقدّم الوضع على الاستعمال ، لعدم الدليل على ذلك ، بل غاية ما يقتضيه ذلك هو أن لا يكون بلا وضع ، وأن لا يكون الوضع متأخّرا عن الاستعمال.

فإذن لا مانع من أن يكونا متقارنين في التحصّل والتحقّق ، فيكفي في كون الاستعمال بعنوان الحقيقة إذا كان الوضع مقارنا له من حيث الزمان ، والمفروض أنّ الوضع والاستعمال في مقامنا هذا يكون بهذا الترتيب وإن كان الاستعمال مقدّما عليه طبعا من حيث الرتبة باعتبار أنّه اخذ جزءا وقيدا له ، إلّا أنّ مجرّد ذلك لا يقتضي تقدّمه عليه من حيث الزمان.

فالحاصل أنّ هذا الاستعمال استعمال في الموضوع له ، وإن قلنا بأنّ الوضع إنّما يتحصّل بنفس ذلك الاستعمال ، وأنّ الاستعمال المذكور إنّما يكون مأخوذا في تحقّق الوضع بعنوان الجزء الأخير من العلّة في تحقّق الوضع ، وأنّه يكون هو المتمّم لتحقّق الوضع. وعلى كلّ حال لا دليل على إخراج هذا

٣١٥

الاستعمال عن الحقيقة.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في المقام ، فإنّه قال : إنّ كثرة الاستعمال إنّما تثبت الوضع التعيّني بعنوان الحقيقة الشرعية في الألفاظ التي وردت عن الشارع في الأحكام الشرعية في الشريعة المقدّسة ، إذا كانت هذه الفروع والمعاني من الفروع والمعاني المستحدثة عن ناحية الشارع في خصوص شريعتنا الإسلامية النبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله الأطهار.

بخلاف ما إذا قيل بأنّ هذه الفروع والأحكام كالصوم والصلاة والحجّ لا اختصاص لها بالشريعة المصطفوية صلى‌الله‌عليه‌وآله بل إنّها كانت ثابتة في الشرائع السابقة على الإسلام كما يدلّ على ذلك قوله تعالى في كتابه الكريم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢) ، وقوله تعالى أيضا : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٣) ، وقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ)(٤) ، وأمثال ذلك كقول الصدّيقة حضرة مريم : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً)(٥) ، وأمثال ذلك من الآيات المقدّسة الواردة في الكتاب الكريم ، وأنّها تدلّ على ثبوت تلك الأحكام والحقائق في الشرائع السابقة.

فمع هذه الدلالة ما ذكرناه في المقام من إثبات تحقّق الوضع بعنوان الحقيقة الشرعيّة في الأحكام الإسلامية بالاستعمال على نحو الوضع التعييني لا يرجع إلى محصّل ، بل إنّ تلك الفروع والأحكام كانت ثابتة بعنوان الحقيقة في الأديان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٦.

(٢) البقرة : ١٨٣.

(٣) مريم : ٣١.

(٤) الحجّ : ٢٧.

(٥) مريم : ٢٦.

٣١٦

المتقدّمة ، وإنّما الشارع تابعهم في ذلك بزيادة جزء أو قيد أو شرط فيها ، وتلك الزيادة لا تضرّ بصدق تلك الحقائق الثابتة في التوراة والإنجيل والصحف من الكتب السماوية المتقدّمة على نزول القرآن.

ويمكن الجواب عن استشكال المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ ثبوت هذه المعاني في الشرائع المتقدّمة لا يضرّ بثبوت الحقيقة الشرعية في شريعتنا ؛ ضرورة أنّ مجرّد الثبوت هناك غير ملازم للتسمية والوضع بهذه الألفاظ الخاصّة ، وليس في المقام إلّا الحكاية والتفسير والتعبير عنها بهذه الألفاظ والعبارات الموجودة في الكتاب الكريم ، ومن البديهيّات والواضحات المسلّمة أنّه لا يدلّ على وجود تلك الألفاظ في الشرائع السابقة ، بل هو لأجل اقتضاء مقام الإفادة ذلك ، فالقرآن إنّما يقول للامّة الإسلامية أنّ الامم السابقة كانت المتكلّفة بتكاليف إلهية ، لا أنّه في مقام بيان الوضع والتسمية ، كما أنّ الأمر يكون كذلك بالنسبة إلى القصص والحكايات التي نطق القرآن بها في الامم الماضية باللغة السريانية ، كما في لغة عيسى بن مريم عليهما‌السلام أو العبرانية كما في لغة موسى بن عمران عليه‌السلام ، ومن البديهي أنّ تلك المعاني كانت يعبّر عنها بألفاظ سريانية أو عبرانية ، وقد نقلت عنها بهذه الألفاظ الخاصّة في شريعتنا لاقتضاء مقام الإفادة والدلالة ذلك.

وإن شئت فقل : إنّ معنى الحقيقة الشرعيّة ليس جعل المعنى واختراعه ، بل إنّما هو عبارة عن جعل اللفظ بإزاء معنى من المعاني بلحاظ الحكاية عنه والدلالة عليه ، من غير فرق بين كون المعنى من المعاني الحديثة أو القديمة في ذلك المقام أو بالعكس ، كالمعاني الحديثة في شريعتنا المقدّسة.

وما ربّما يتوهّم من أنّ الصلاة بهذه اللفظة موجودة في إنجيل برنابا ، لا بلفظة اخرى عبرانيّة أو سريانيّة ، فكما أنّ المعاني لم تكن مستحدثة فيها فكذلك

٣١٧

الألفاظ التي يعبّر بها عنها.

مدفوع بأنّ وجود لفظ الصلاة في الإنجيل الرائج لا تدلّ على وجوده في أصله المعلوم أنّه لم يكن بلسان العربيّة بالقطع واليقين ، هذا مضافا إلى أنّ لفظ (الصلاة) الموجودة في الإنجيل والتوراة لم يكن بتلك الكيفية الموجودة في شرعنا المقدّس بهذا المعنى المركّب من الأجزاء والشرائط الموجودة فيها مع ما لها من الموانع والقواطع بهذه الكيفية المستحدثة لا محالة ، بل إنّما كانت بمعنى الدعاء. فالصلاة بهذه الكيفية والأجزاء والشرائط والموانع مستحدثة لا محالة بلا شكّ وريب في البين بالقطع واليقين.

وربما قيل (١) : إنّ الألفاظ المذكورة الموجودة في الكتاب موضوعة بإزاء تلك المعاني قبل حدوث الشريعة الإسلامية من قبل النبيّ الأكرم من عند الله تعالى ، فالعرب قبلها كانوا قد تعهّدوا لهذه المعاني في استعمالاتهم والتزموا بذكر هذه الألفاظ عند إرادة تفهيمها ، ولأجل ذلك كانوا ينتقلون إلى تلك المعاني بهذه الألفاظ الواردة في الكتاب الكريم من لدن نزول القرآن بهذه الآيات المباركات مثل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٢) ، وقوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٣) ، إلى غير ذلك. والحال أنّهم لا يتردّدون في فهم هذه المعاني من هذه الألفاظ ، ومن الواضح المعلوم أنّ هذا الذي ذكرناه في المقام يكون كاشفا قطعيا عن كون هذه الألفاظ موضوعة بعنوان الحقيقة لهذه المعاني قبل زمن نزول القرآن قبل زمن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) انظر هداية المسترشدين : ٩٨.

(٢) البقرة : ١٨٣.

(٣) مريم : ٣١.

٣١٨

فتحصّل أنّها حقيقة لغوية من دون أن تكون حقيقة شرعية ، وإنّما القرآن الكريم قد نطق بلسانهم وتابعهم في إطلاقها واستعمالها ليكون أوقع في نفوسهم ، حيث إنّهم كانوا مأنوسين بالتعبير عنها بهذه العبارات والألفاظ الموجودة فيها خاصّة.

والجواب عنه : إنّ هذا وإن كان ممكنا في حدّ ذاته إلّا أنّه لا دليل عليه ليكون شاهدا في ذلك في مقام الإثبات من الآيات والروايات أو القرائن الخارجيّة.

أمّا الأخيرتان فمعلوم ، وأمّا الاولى فكالأخيرة ، لأنّ شيئا من هذه الآيات لا تدلّ ولا تشهد على ذلك ، فقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(١) وأمثال تلك الآيات لا تدلّ على أنّ الصوم بهذا اللفظ الخاصّ وهكذا الصلاة والزكاة كان موجودا قبلها ، وأمّا أنّه كان يعبّر عنه وعن الصلاة بهذه الألفاظ الخاصّة فهي غير معلومة ، بل هي ساكتة عن ذلك ، وإنّما التعبير عنه في الآية المباركة وعن الصلاة والزكاة من جهة اقتضاء مقام الإفادة والدلالة لرعاية المعاني والبيان من حيث الفصاحة والبلاغة.

وأمّا انتقال هذه المعاني في أذهان العرب بمجرّد نزول هذه الآيات الكريمة فليس إلّا من جهة أنّ هذه الألفاظ قد تكلّم بها النبيّ وصدرت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما استعملها قبل نزولها ، ثمّ بعد ذلك نزلت الآيات المباركات فحكت عمّا جاء به النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكون ذلك منشأ مستند فهم العرب تلك المعاني من هذه الألفاظ لا محالة.

الوجه الثاني من الجواب : أنّا لو سلّمنا أنّ تسمية هذه المعاني بهذه الألفاظ الحقيقة الشرعية تدور مدار كونها مستحدثة في شرعنا ، إلّا أنّ ثمرة ثبوت

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

٣١٩

الحقيقة الشرعية تترتّب على القول بثبوت الحقيقة في لسان الشارع لا محالة ، ولا أثر لكون هذه المعاني قديمة ومن الامور الثابتة في الشرائع الماضية بالقياس إلى الثمرة المذكورة أصلا وأبدا. ولا يترتّب على كونها من المعاني الشرعيّة الحديثة أثر ما عدا التسمية بالحقائق الشرعية ، فإنّ الثمرة التي ذكرت في المسألة وهي (حمل الألفاظ في استعمالات الشارع المقدّس على المعاني الشرعية بناء على الثبوت) لا تترتّب على كون هذه المعاني مستحدثة في هذه الشريعة ، إذ المراد من تلك الألفاظ في استعمالات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو هذه المعاني في استعمالاته ، سواء قلنا بكونها معاني جديدة وحديثة في شرعنا ، أم كانت معاني ثابتة في الشرائع السابقة. فعلى كلا التقديرين تعهّد الشارع المقدّس لهذه المعاني في استعمالاته قبال معانيها اللغوية ، كانت مسمّيات بالحقائق الشرعية أو بالحقائق اللغوية ، فلا فرق بين التسميتين في ثمرة النزاع أصلا وأبدا.

فتحصّل أنّ ما أفاده قدس‌سره من توقّف ثبوت الحقيقة الشرعية على كون هذه المعاني مستحدثة في هذه الشريعة على تقدير تسليمه لا يترتّب عليه أيّ أثر.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى القسم الثاني وهو عبارة عن وضع التعيّني الذي يوجد من ناحية كثرة الاستعمال لا من ناحية الجعل ونصّ الواضع بعنوان المواضعة والتنصيص على التعيين.

وبالجملة ، فإنّ هذا السنخ من الوضع ـ أي الوضع التعيّني ـ في زمن الأئمة لا سيّما من زمن الصادقين عليهما‌السلام ليس ببعيد وغير قابل للإنكار ، بل إنّه معلوم كالشمس في رابعة النهار ، بل من القريب إلى التصديق ثبوت ذلك السنخ من الوضع في زمن حياة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل وحتّى لا يبعد تحقّقه في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسان تابعيه ، لكثرة استعمال هذه الألفاظ في هذه المعاني وكثرة احتياج المكلّفين إلى السؤال منه صلى‌الله‌عليه‌وآله في طروء مسائل كثيرة

٣٢٠