دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

فاسدة ، وهكذا. وحيث إنّ استعمالات المتشرّعة تتبع الاستعمالات الشرعيّة فنستكشف تلك الحقيقة الموجودة في محاورة المتشرّعة عن عموم المعنى الموضوع له حين الاعتبار من قبل الشارع المقدّس.

بيان ثمرة النزاع

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى بيان الثمرة في هذا النزاع المفصّل المتقدّم مع تلك الأدلّة المتكثّرة.

وقد ذهب المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى أنّ الثمرة على مسلك الأعمّي عبارة عن التمسّك بالإطلاق إذا كان التكليف واردا على المقسم ، وكان المولى في مقام البيان. بخلاف مسلك الصحيحي حيث لا يجوز له التمسّك بالإطلاق ، وذلك من جهة أنّ مرجع الشكّ على قول الصحيحي يكون إلى الشكّ في المحصّل. وكلّما كان الشكّ في المحصّل فللمكلّف أن يتمسّك بالاشتغال دون الإطلاق ، فلا بدّ من إتيان الجزء المشكوك بمقتضى الاشتغال لنيل فراغ الذمّة عن التكليف الذي جاء في الذمّة من قبل المولى ، فلمّا كان الشكّ في المحصّل والفراغ فلا محالة يكون مرجعه هو الاشتغال لا التمسّك بالإطلاق.

وبالجملة ، فقد انتهى كلامنا إلى بيان ما يترتّب من الثمرة على كلّ من مشكلي الصحيح والأعمّ ، وقد التزموا بأنّ الثمرة على مسلك الأعمّي إنّما تكون هي البراءة تمسّكا بالإطلاق عند ما شكّ في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيّته له ، بعد ورود الحكم على المقسم عند فرض صدق العنوان والمسمّى على المأتيّ به.

خلافا لشيخنا الأنصاري قدس‌سره حيث أورد على ذلك أنّ هذه الثمرة ليست من

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٣ ـ ٤٤.

٣٨١

الثمرات المترتّبة على قول الأعمّي ؛ لأنّ عدم مشكوك الجزئيّة ليس من شرائط المأمور به ، فإذا لم يكن عدم مشكوك الجزئية شرطا في المأمور به فلا محالة يدور أمره بين الوجوب والإباحة.

فلا يبقى على هذا مجال لجريان البراءة ، بل التمسّك بالبراءة وعدم جواز التمسّك بها إنّما يكون من فروع مسألة الانحلال وعدم الانحلال ، فإذا انحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي في غير المشكوك فيكون لجريانها في المشكوك مجال واسع ، وإلّا فلا.

فعلى هذا لا بدّ لنا من النظر في موارد ورود الأمر فيها من قبل الشارع المقدّس ، ففي كلّ مورد يكون الشكّ في الإطلاق والتقييد كليهما لا يمكن لنا التمسّك بالبراءة ، لعدم تماميّة الإطلاق ، ولعدم تحقّق الانحلال بالنسبة إلى تعلّق العلم الإجمالي بالتكليف في ذمّة المكلّف. وفي كلّ مورد تمّ الإطلاق وكان الشكّ في التقييد فلا محالة ينحلّ العلم الإجمالي بالتكليف ، فيجوز التمسّك بالإطلاق ، هذا.

وقد ذكروا أيضا أنّ الثمرة على مسلك الصحيحي إنّما تكون هي الاشتغال في مشكوك الجزئية والشرطيّة ، لأنّه يكون من سنخ الشكّ في المحصّل. وكلّما كان مرجع الشكّ إلى المحصّل فلا بدّ من الرجوع إلى الاشتغال والعمل بالاحتياط في إتيان المشكوك.

وفيه أنّ هذه الثمرة تتبع الأوّل طابق النعل بالنعل ؛ إذ اولئك الأشخاص إمّا أن يلتزموا بأنّ الجامع والمقسم على مسلك الصحيحي إنّما هو عبارة عن عنوان الصحّة ، فلا يخفى عليك أنّه لا يمكننا المساعدة عليه بوجه من الوجوه بالضرورة والبداهة ، وذلك من جهة أنّه لا شكّ في أنّ عنوان الصحّة ليس من الموجودات المتأصّلة في الوجود ، بل الحقّ أنّه أمر انتزاعي ينتزع من إتيان

٣٨٢

المكلّف المأمور به في الخارج تامّ الأجزاء والشرائط ، كما أنّ عنوان الباطل والفاسد أمر منتزع من عدم تمامية المأمور به في الخارج من حيث الأجزاء والشرائط.

فانقدح على ضوء ما ذكرنا أنّه كيف يعقل أن يكون المأمور به وما تعلّق به التكليف نفس عنوان الصحّة ، والحال أنّه غير موجود بالأصالة ، بل ينتزع وجوده من إتيان المأمور به في الخارج تامّ الأجزاء والشرائط.

وعلى كلّ حال فإنّ المراد من الجامع إذا كان هو الأمر المركّب فقد علمت استحالته ، وإذا كان هو الأمر البسيط الذي هو عبارة عن عنوان الصحّة فقد أوضحنا لك أنّ عنوان الصحّة ليس من الموجودات المتأصّلة في الوجود ، بل إنّما هو أمر انتزاعي ينتزع عن ذات تحقّق المأمور به في الخارج بإتيان تامّ الأجزاء والشرائط.

وعلى كلّ حال فقد عرفت ذهاب المحقّق صاحب الكفاية إلى جعل الثمرة هي التمسّك بالإطلاق عند الأعمّي إذا كان المولى في مقام البيان ، بخلاف من يقول بالصحّة ، لأنّه لا يجوز له التمسّك بالإطلاق ، إذ مرجع الشكّ عنده يكون الشكّ في المحصّل ، فلا مناص للمكلّف إذا شكّ في المحصّل إلّا التمسّك بالاشتغال في إتيان المشكوك ، ليكون على يقين من الفراغ. هذا.

ولا يخفى عليك أنّ التمسّك بالإطلاق على مسلك الأعمّي ليس بمكان من السهولة ، بل هو مقيّد بقيود متعدّدة ومقدّمات عديدة :

منها : أن يكون المولى في مقام البيان.

ومنها : أن يكون الحكم واردا على المقسم ، حتّى يكون قابلا للانطباق والصدق على كلّ من فردي الصحيح والفاسد ، كانطباق الكلّي الطبيعي على مصاديقه وأفراده.

٣٨٣

ومنها : أنّ يكون المولى في مقام بيان تمام مقصوده بالجدّ والحتم ، بخلاف ما إذا لم يكن في مقام بيان تمام مقصوده كما إذا كان في مقام البيان في الجملة ، كقول الطبيب للمريض : ادخل السوق واشتر الدواء ، إذ من الواضحات أنّ الطبيب عند أمثال تلك البيانات ليس في مقام بيان تمام المقصود من اشتراء الدواء والأكل كيفما اتّفق ، فلا يجوز للمريض أن يتمسّك بإطلاق كلام الطبيب في تلك الموارد في شرب كلّ ما يشكّ في صدق الدواء عليه من الأدوية والحبوب ، بل لا بدّ في أمثال تلك الموارد من الرجوع إلى الطبيب حتّى يدلّه على المقصود من المعالجة بالتفصيل والدقّة بالنسبة إلى استعمال الدواء.

والحاصل إذا لم يكن المولى في مقام البيان بالنسبة إلى تمام مقصوده فلا يجوز للعبيد والمكلّفين التمسّك بإطلاق كلامه ، كما لا يجوز التمسّك بإطلاق كلامه فيما إذا لم يكن في مقام البيان من الأصل والأساس ، أو كان ولكنّ الحكم لم يكن واردا على المقسم ، كما سيأتي بيان ذلك في باب الإطلاق والتقييد مفصّلا كقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)(١) لنأخذ بإطلاقه حتّى في صدقه على ماء الكبريت ، إذ المولى إذا لم يكن في مقام البيان ، ولم يكن الحكم من قبله واردا على المقسم بحيث لم يكن قابلا للانطباق على الأفراد الصحيحة والفاسدة ، فكيف يجوز التمسّك بإطلاق كلامه في نفي مشكوك الجزئية عن المأمور به ؟

وبالجملة عند الأعمّي يجوز التمسّك بالإطلاق مع تماميّة هذه المقدّمات. بخلاف مسلك الصحيحي ، فإنّه محروم من التمسّك بالإطلاق في نفي مشكوك الجزئية والشرطية ، بل لا بدّ من الإتيان ، لأنّه يكون من قبيل الشكّ في المحصّل ،

__________________

(١) الفرقان : ٤٨.

٣٨٤

الذي لا بدّ من الاحتياط والاشتغال في تحصيل اليقين بالفراغ من إتيان مشكوك الجزئيّة والشرطية في طريق اليقين بالامتثال ، لأنّ اشتغال اليقيني يقتضي الفراغ والبراءة اليقينيّة.

ثمّ بعد ذلك لا يبعد أن يكون التمسّك بالإطلاق وعدم التمسّك على كلّ من قولي الأعمّي والصحيحي على نسق واحد ؛ لأنّه إذا أحرز أنّ المولى كان في مقام بيان تمام مقصوده ، ومع ذلك سكت عن ذلك المشكوك الجزئية والشرطية في أنّهما دخيلان في صحّة المأمور به أم لا ، فيستكشف من سكوته مع أنّه يكون في مقام بيان تمام ما له دخل في مقصوده أنّهما لا ربط لهما في حصول غرض المولى بالنسبة ما أمر به ، فبما أنّ المولى يكون في مقام بيان تمام مقصوده ومع ذلك سكت عنهما نستكشف أنّ غرض المولى من التكليف غير مربوط بهذين المشكوكين ، فيصحّ التمسّك بالإطلاق بكلّ من القولين.

ولكنّ الحقّ أنّه ليس في العبادات إطلاق حتّى يمكننا التمسّك به في نفي مشكوك الجزئية والشرطية إذا شكّ فيهما.

ولكن فيه إشكال واضح ؛ لأنّ الإطلاق يكون على قسمين : لفظي وحالي ، والأوّل له باب مختصّ به سيأتي البحث عنه عند بابه ، وهو عبارة عن باب الإطلاق والتقييد ، بخلاف الإطلاق الحالي والمقامي الذي لا ربط له بباب اللفظ ، فهو عبارة عمّا إذا أحرز المكلّف أنّ حاله ومقامه يكون حال البيان ومقام البيان ، لكون الوقت وقت الحاجة ، وترك البيان والحال هذه مخلّ بالمقصود ويكون من قبيل الإغراء بالجهل وتفويت المصلحة. وذلك مثل ما إذا أمر المولى عبده بالدخول في السوق لاشتراء كلّ ما يحتاج إليه من المأكولات والمشروبات والأدوية والألبسة اللازمة في ضيق الوقت ، ففي مثل ذلك المورد الذي احرز كون المولى في حالة آبية عن التأخير ، والمولى متوجّه إلى تلك الخصوصيّة ،

٣٨٥

ومع ذلك سكت عن الزائد ، فلنا ولكلّ مكلّف أن يتمسّك بإطلاق حاله ومقامه في نفي مشكوك الجزئيّة ، ونستكشف أنّه غير مربوط بغرض المولى في التكليف ، لأنّه كان في مقام البيان ، ومع التوجّه سكت ولم يبيّن دخالته في الغرض من التكليف. بل يمكن أن يقال : إنّ عدم البيان في أمثال تلك الموارد بيان على النفي والعدم ، فلا ينبغي الشكّ في أنّ ذلك التمسّك مختصّ بالأعمّي دون الصحيحي.

كما أنّ الأمر يكون كذلك بالنسبة إلى حال الإمام عليه‌السلام في صحيحة حمّاد ؛ لأنّه يبيّن بالمباشرة فيها جزئية التكبيرة ، والقراءة ، والركوع ، والسجود ، والتشهّد ، والسلام ، فلحمّاد عند ذلك إذا شكّ في جزئية مثل الاستعاذة في الصلاة أن يتمسّك بإطلاق بيانه في نفي جزئيّته عن الصلاة ، وليس للصحيحي التمسّك بذلك ، للشكّ في صدق عنوان الصلاة على الفاقد لذلك الجزء المشكوك ، هذا بحسب الكبرى.

وأمّا بالنسبة إلى الصغرى فلا يذهب عليك أنّ المتتبّع يجد ورود روايات مطلقة حتّى في باب الصلاة ، فضلا عن الصوم ، والحجّ ، والزكاة ، والخمس ، مضافا إلى إطلاق الآيات النازلة فيها ـ دون باب الصلاة ـ يكون أكثر من أن يحصى. فعليك بالمراجعة إليها في أبواب بيان الشرائط والأجزاء من الصلاة والزكاة والحجّ والصوم ، فيجوز التمسّك بإطلاقها في نفي مشكوك الجزئية كما لا يخفى ، إذ ورود الإطلاقات في غير الصلاة من الصوم والحجّ وأمثالهما كتابا وسنّة أظهر من أن يخفى ، لوضوح عنوانها من حيث الموضوع له والمفهوم ، فبعد صدق العنوان والأخذ بما ذكر لها من الأجزاء والشرائط المعلومة فلا مانع من التمسّك بإطلاقها في نفي الزائد المشكوك عنها عند الأعمّي ، بعد فرض صدق العنوان عليها من حيث التسمية واعتبار الشارع عند الوضع.

وقد انتهى كلامنا إلى ما ذكروا للمسألة من الثمرات :

٣٨٦

الاولى : ما هو المشتهر بينهم من أنّ الأعمّي له أن يتمسّك بالبراءة في موارد الشكّ في الأجزاء والشرائط ، دون الصحيحي ، فإنّه لا مناص له إلّا التمسّك بقاعدة الاشتغال والعمل بالاحتياط في تلك الموارد.

ولكنّ الإنصاف عند التحقيق عدم صحّة ذلك ، ولا فرق في التمسّك بالبراءة أو الاشتغال بين القولين بوجه من الوجوه من تلك الجهة ، وذلك من جهة أنّا لو التزمنا بالوضع للأعمّ فالتمسّك بالبراءة كما تقدّم مبتن على القول بانحلال الإجمالي في مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، فإنّه إن قلنا بالانحلال وأنّ العلم الإجمالي ينحلّ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عن وجوب الأكثر والتقييد الزائد. وذلك من جهة انّ مسألتنا هذه إنّما تكون من إحدى صغريات كبرى مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين اللذين قد تعلّق التكليف في المقام بالطبيعي الجامع بين المطلق والمقيّد معلوم لنا تفصيلا ، وهو عبارة عن (الماهيّة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات) وإنّما هو شكّنا في تعلّقه به على نحو الإطلاق بمعنى عدم تقييده بشيء لا جزءا ولا شرطا ، أو على نحو التقييد به بأحد النحوين المزبورين.

فحينئذ إن قلنا بانحلال العلم الإجمالي في تلك المسألة والرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد عن المقدار المعلوم كما هو كذلك ، فنقول هنا أيضا بالانحلال والرجوع إلى البراءة عن التقييد الزائد. وأمّا لو قلنا بعدم انحلال العلم الإجمالي في تلك المسألة فلا بدّ من العمل والرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، فبذلك انقدح أنّه لا ملازمة بين القول الأعمّي والرجوع إلى البراءة.

وأمّا عند الصحيحي فإن قلنا بأنّ متعلّق التكليف عنوان بسيط وخارج عن الأجزاء والشرائط ، وإنّما هي سبب لوجوده ، فلا محالة يكون الشكّ في جزئية شيء أو شرطيّته شكّا في المحصّل ، فلا بدّ من القول بالاشتغال والعمل

٣٨٧

بالاحتياط في إتيان الجزء والشرط المشكوك ، إلّا أنّ هذا مجرّد فرض لا واقعية له في الخارج ، بل الواقع يكون في جهة خلاف ذلك الفرض والبحث ، إذ المفروض أنّ متعلّق التكليف هو الجامع بين الأفراد الصحيحة ، ونسبته إلى الأجزاء والشرائط نسبة الطبيعي إلى أفراده ، أو نسبة العنوان إلى معنونه ، وعلى كلا التقديرين فلا يكون المأمور به مغايرا في الوجود مع الأجزاء والشرائط ومسبّبا عنها.

وبالجملة ، فإنّ كلّا من السبب والمسبّب موجود في الخارج بوجود مستقلّ على هويّته واستقلاله ، كالقتل المسبّب عن مقدّمات خارجيّة ، أو الطهارة الخبثيّة المسبّبة عن الغسل ، بل الحدثيّة المسبّبة عن الوضوء والغسل والتيمّم عند من يقول بذلك. فإذا كان المأمور به أمرا بسيطا مسبّبا عن شيء آخر ومترتّبا عليه وجودا ، فلا جرم يرجع الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته بالإضافة إلى سببه إلى الشكّ في المحصّل ، ولا إشكال في الرجوع معه إلى العمل بالاحتياط والاشتغال في مورده.

ولكن من الواضحات أنّ المقام لا يكون من ذلك الباب ، إذ قد تقدّم أنّ الجامع الذي فرض وجوده بين الأفراد الصحيحة أمره دائر بين أن يكون من الماهيّات المتأصّلة المركّبة أو البسيطة ، أو من الماهيّات الاعتبارية والعناوين الانتزاعية.

وعلى كلّ تقدير لا بدّ من أن يكون منطبقا على الأجزاء والشرائط الخارجيّة انطباق الكلّي على أفراده ، ومعه لا يرجع الشكّ إلى الشكّ في المحصّل ليكون المرجع فيه الاحتياط وقاعدة الاشتغال ؛ إذ على الأوّل المفروض أنّ الجامع هو عين الأجزاء والشرائط ، فالأجزاء مع شرائطها بأنفسها متعلّقة للأمر ، ووحدتها ليست وحدة حقيقية ، بل وحدة اعتبارية ، بداهة أنّه لا تحصل من ضمّ ماهية الركوع إلى ماهيّة السجود ماهيّة ثالثة غير ماهيّتها الأوّلية.

٣٨٨

وعليه فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عند الشكّ في اعتبار شيء زائد على المقدار المعلوم ـ بناء على صحّة الانحلال في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ـ لأنّ تعلّق التكليف عندئذ بالمقدار المتيقّن من الأجزاء والشرائط وقيودها معلوم ، والشكّ في غيره شكّ في التكليف ، فالمرجع عند الشكّ فيه يكون هو البراءة ، وبناء على عدم الانحلال في تلك المسألة فالمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

وبقي الكلام بالنسبة إلى الثاني ، ففي الثاني الأمر يكون كذلك ، لأنّ الطبيعي يكون عين أفراده في الخارج ومتّحدا معها في وعاء العين ، فالأمر المتعلّق به متعلّق بالأجزاء مع شرائطها ، سواء قلنا بأنّ متعلّق الأوامر الطبائع ، أم قلنا بأنّه الأفراد. أمّا على الثاني فواضح بلا خفاء ، وأمّا على الأوّل فلا ينبغي الريب في اتّحاد الطبيعي مع أفراده ، نهاية الأمر أنّ الخصوصيّات الفرديّة غير دخيلة في ذلك.

فعلى كلا القولين يرجع الشكّ في اعتبار شيء جزءا أو شرطا إلى الشكّ في إطلاق المأمور به وتقييده ، لا إلى أمر خارج عن دائرة المأمور به ، فبناء على الانحلال في تلك المسألة يكون المرجع فيه البراءة عن التقييد بالنسبة إلى مشكوك الجزء والشرط.

وقد بقي الكلام على الوجه الثالث ، فلا يذهب عليك أنّ الأمر فيه يكون كذلك أيضا ، لأنّ الأمر الانتزاعي لا وجود له خارجا ليتعلّق به الأمر ، وإنّما الموجود حقيقة هو منشأ الانتزاع ، ومن الواضحات الأوّلية عند التأمّل أنّ الأمر إنّما يتعلّق في الحقيقة بمنشإ الانتزاع ، وأخذ ذلك الأمر الانتزاعي في لسان الدليل متعلّقا للأمر إنّما هو لأجل الإشارة إلى ما هو متعلّق الحكم في القضية.

وحاصل النتيجة في نهاية الشوط أنّ الشكّ في اعتبار جزء أو قيد على جميع

٣٨٩

الوجوه الثلاثة يرجع إلى الشكّ في تقييد نفس المأمور به بقيد زائد على المقدار المتيقّن ، فبناء على ما هو الصحيح المختار عندنا من انحلال العلم الإجمالي عند دوران الواجب الارتباطي بين الأقلّ والأكثر يكون المرجع هنا أيضا هو البراءة. فتلخّص أنّ أخذ الصحّة بمعنى التمامية في المسمّى لا يمنع عن جريان البراءة على القول بالانحلال كما هو القوي.

وقد عرفت أنّ النتيجة المترتّبة على جميع ما ذكرناه في المقام عبارة عن أنّ القول بوضع الألفاظ للأعمّ لا يلزمه جريان البراءة دائما ، كما أنّ القول بوضعها للصحيح لا يلزمه الالتزام بالاشتغال كذلك ، بل هما في تلك الجهة على حدّ سواء ، فإنّ جريان البراءة وعدمه معتمدان على الانحلال وعدمه في تلك المسألة لا على الوضع للصحيح أو الأعمّ كما هو واضح.

وبهذا البيان انقدح بطلان ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّه على الصحيحي لا مناص من التمسّك بقاعدة الاشتغال والاحتياط ، كما أنّه على الأعمّي لا مناص من الرجوع إلى البراءة.

بتقريب أنّ تصوير الجامع على الصحيحي لا يمكن إلّا بتقييد المسمّى بعنوان بسيط خاصّ إمّا من ناحية علل الأحكام ، أو من ناحية معلولاتها. وأنّ هذا العنوان خارج عن المأتي به ومأخوذ في المأمور به ، وعليه فالشكّ في اعتبار شيء جزءا أو شرطا لا محالة يوجب الشكّ في حصول العنوان المزبور ، فيرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في المحصّل ، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال دون البراءة.

والوجه في بطلانه هو ما تقدّم من أنّ الجامع على القول بالصحيح على كلّ تقدير لا بدّ من أن ينطبق على الأجزاء والشرائط انطباق الكلّي على أفراده أو

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٧٩.

٣٩٠

فرده ، وعليه كان الشكّ في اعتبار جزء أو قيد في المأمور به من دوران المأمور به نفسه بين الأقلّ والأكثر. فعلى القول بالانحلال كان المرجع فيه البراءة عن وجوب الأكثر ، فيكون من نتائج ذلك أنّ المأمور به بتمام أجزائه وشرائطه هو الأقلّ دون الأكثر.

فقد انقدح لك أنّ القول بالاشتغال معتمد على أن يكون المأمور به عنوانا بسيطا مسبّبا عن الأجزاء والشرائط الخارجيّتين ، بمعنى الاسم المصدري المتحصّل منهما ، وقد أثبتنا أنّ ذلك خلاف المفروض بالوضوح والبداهة.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى ما أفاده قدس‌سره على مسلك الصحيحي ، من أنّه على الصحيحي لا بدّ من تقييد المسمّى بعنوان بسيط إمّا من جهة العلل أو بلحاظ المعلولات.

ففيه أنّه اشتبه الفرق بين الصحّة الفعليّة التي تنتزع عن انطباق المأمور به على المأتيّ به في الخارج ، والصحّة بمعنى التمامية ، فالحاجة إلى التقييد إنّما تكون مسلّمة فيما إذا كان النزاع بين الصحيحي والأعمّي في أخذ الصحّة الفعليّة في المسمّى وعدم أخذها فيه ، فإنّه على الصحيحي لا بدّ من تقييده بعنوان خاصّ كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ، أو نحوه ممّا هو مؤثّر في حصول الغرض.

لكن قد تقدّم أنّه لا يعقل أخذها في المأمور به فضلا عن أخذها في المسمّى ، فلا تكون الصحّة بهذا المعنى موردا للنزاع ، فإنّ النزاع ـ كما تقدّم البحث عنه مرارا ـ إنّما هو في الصحّة بمعنى التماميّة ، ومن البديهيّ أنّها ليست شيئا آخر وراء ذات نفس الأجزاء والشرائط فقط ، ولا هي موضوعة للآثار ، ولا مؤثّرة في حصول الغرض. وعلى هذا فلا تبقى حاجة إلى تقييد المسمّى بعنوان بسيط خارج عنهما.

ولأجل ذلك انقدح لك أنّ هذه المسألة ليست من المسائل الاصولية ، وذلك

٣٩١

من جهة ما بيّناه في ابتداء الكتاب من البحث في مقام الفرق بين المسائل الاصوليّة ومسائل بقيّة العلوم من أنّ كلّ مسألة اصوليّة ترتكز على ركيزتين أساسيّتين :

الاولى : أن تقع كبرى في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلّي الإلهي ، وبهذا الامتياز امتازت المسائل الاصوليّة عن القواعد الفقهية بأجمعها ، حسب ما تقدّم البيان في تلك الجهة بالتفصيل بما لا مزيد عليه.

الثانية : أن يكون وقوعها كبرى في طريق الاستنباط في حدّ ذاتها وبنفسها من دون الاحتياج إلى ضمّ كبرى أو صغرى اصوليّة اخرى إليها ، وبهذه الخصوصيّة امتازت عن مسائل سائر العلوم الدخيلة في الاستنباط من مسائل علم النحو ، والصرف ، والرجال ، والمنطق ، واللغة ، وأمثال ذلك ؛ إذ مسائل هذه العلوم وإن كانت دخيلة في الاستنباط ، إلّا أنّها ليست بحيث لو انضمّت إليها صغرياتها تترتّب عليها نتيجة فقهيّة ، كما لا يخفى.

فانقدح بهذا البيان أنّ هذه المسألة ليست من المسائل الاصوليّة ، بل هي من المسائل اللغوية ، فلا تقع كبرى في قياس الاستنباط مستقلّة بلا ضمّ كبرى اصوليّة إليها ، وهي كبرى مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطييّن.

ويترتّب على ذلك البيان أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة مترتّبة على هذه المسألة ، بل إنّما هي ثمرة لمسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، وهي من مبادئ تلك المسألة ، فالبحث عنها إنّما يكون محقّقا لموضوع البحث عن تلك المسألة ، وهكذا الثمرة الآتية ، فإنّها ثمرة لمسألة المطلق والمقيّد دون هذه المسألة.

نعم هي محقّقة لموضوع التمسّك بالإطلاق ، فالبحث عن جواز التمسّك بالإطلاق وعدمه وإن كان بحثا عن مسألة اصوليّة ، إلّا أنّ البحث عن ثبوت الإطلاق وعدمه بحث عن المبادئ.

٣٩٢

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى بيان الثمرة الثانية ، وهي عبارة عمّا ذكره جماعة وتبعهم المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّه لا مانع من التمسّك بالإطلاق ، أو العموم على القول بالأعمّ عند الشكّ في اعتبار شيء من حيث الجزئيّة أو الشرطية ، ولا يجوز التمسّك به عند الصحيحي ، بل لا بدّ عنده من الرجوع إلى الاصول العملية.

والوجه في ذلك أنّ التمسّك بالإطلاق يتوقّف على إثبات مقدّمات :

الاولى : أن يكون الحكم في القضيّة واردا على المقسم بين قسمين أو أقسام ، بأن تكون له قابليّة الانطباق على أنواع أو نوعين.

الثانية : لا بدّ من إحراز كون الشارع أو المتكلّم في مقام البيان ولو من ناحية أصل من الاصول العقلائيّة ، وعدم كونه في مقام الإهمال أو الإجمال.

الثالثة : إحراز عدم نصب القرينة على التعيين.

فإذا تمّت هذه المقدّمات نستكشف بها الإطلاق بالنسبة إلى مقام الثبوت ، وأنّ مراده الاستعمالي موافق لمراده الجدّي الحقيقي ، من دون أن تكون لأيّ خصوصيّة مدخليّة في مقصوده من الحكم بالإطلاق الذي تعلّق بالمقسم ، فعند ذلك إذا شكّ في دخل خصوصيّة من الخصوصيّات فيه ندفعها بالتمسّك بالإطلاق بالنسبة إلى مقام الإثبات ، فبما أنّ هذه المقدّمات تامّة بلا إشكال على القول بالوضع للأعمّ ، إذ الحكم حينئذ قد تعلّق بالطبيعي الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة.

فإن احرز أنّ المتكلّم أو الشارع يكون في مقام البيان عند عدم القرينة بوجه من الوجوه على التقييد ، فلا مانع من التمسّك بالإطلاق في دفع ما شكّ في

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٣ ـ ٤٤.

٣٩٣

اعتباره من حيث الجزئيّة والشرطية ، وذلك من جهة أنّه شكّ في اعتبار شيء زائد على ما يصدق عليه اللفظ ، ومن الواضحات أنّه في مثله لا بأس ولا مانع عن التمسّك بالإطلاق في دفع عدم اعتبار أمر المشكوك.

وبالجملة ، فعلى القول بالأعمّ إذا تمّت المقدّمتان الأخيرتان يجوز التمسّك بالإطلاق لدفع كلّ خصوصيّة شكّ في دخالتها في المأمور به جزءا أو شرطا ، لتماميّة المقدّمة الاولى على الفرض ، وعليه فما ثبت اعتباره شرعا بأحد الشكلين المذكورين فهو والزائد عليه حيث إنّه مشكوك فيه ولم يحرز اعتباره فالمرجع فيه وفي دفعه هو التمسّك بالإطلاق ، وبذلك نثبت عدم اعتباره.

وهذا بخلاف القول بالوضع لخصوص الصحيح ، فإنّ المقدّمة الاولى على هذا القول معدومة ، إذ الحكم حينئذ لم يرد إلّا على الصحيح الواجد لجميع الأجزاء والشرائط ، فلو عرض الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته فلا جرم يرجع الشكّ إلى الشكّ في صدق اللفظ على الفاقد للمشكوك فيه ، لأجل احتمال دخله في الموضوع له والمسمّى ، ومعه لا يبقى مجال للتمسّك بالإطلاق.

فصار المتحصّل من جميع ما ذكر في المقام جواز التمسّك بالإطلاق على القول بالأعمّ ، دون الصحيح في موارد الشكّ في الأجزاء والشرائط.

نعم على القول بالأعمّ لو شكّ في كون شيء ركنا للصلاة ، أو لم يكن فلا يجوز التمسّك بالإطلاق ، إذ الشكّ فيه يرجع عند ذلك إلى الشكّ في صدق اللفظ ، ومعه لا يمكن التمسّك بالإطلاق حسب ما تقدّم بيانه.

وهذه الثمرة محلّ إشكال وإيراد من وجوه متعدّدة :

الأوّل : أنّه لا فرق بين المسلكين في عدم جواز التمسّك بالإطلاق وعدم جوازه بوجه من الوجوه ، وذلك من جهة أنّ المناط والمعيار في الجواز هو كون المتكلّم والحاكم في مقام البيان عند عدم نصب القرينة على التقييد في مقام

٣٩٤

الحاجة ، فمن البديهي أنّه على ذلك فكما أنّ الأعميّ يتمسّك بالإطلاق فيما إذا احتمل دخل المشكوك في المأمور به زائدا على المقدار المتيقّن ، فكذلك الصحيحي يتمسّك به إذا شكّ في الاعتبار بالنسبة إلى أمر زائد على المقدار المعلوم المسلّم ، ولأجل ذلك فإنّ الفقهاء يتمسّكون بإطلاق صحيحة حمّاد (١) حيث إنّ حال الإمام عليه‌السلام في تلك الصحيحة حال البيان في وقت الحاجة ، لأنّه شرع في توضيح كيفيّة حال الصلاة لحمّاد بالمباشرة فيها بالقيام والنيّة والتكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهّد والسلام ، فبعد ما أحرز حمّاد أنّ حاله عليه‌السلام حال البيان ولم ينصب القرينة على جزئيّة المشكوك وشرطيّته ودخالته في المأمور به فلا محالة يحرز عدم دخله من دون فرق في ذلك بين القول بالوضع للصحيح والقول بالوضع للأعمّ.

فالمتلخّص أنّ العبرة إنّما هي بكون المتكلّم في مقام البيان وعدم إتيان القرينة في كلامه على دخل المشكوك في مقصوده من الحكم ، لا بكون الوضع لخصوص الأعمّ أو الصحيح دون الأعمّ كما هو الظاهر ، هذا تمام الكلام بالنسبة إلى الإيراد الأوّل.

وفيه أنّ الجواب عن هذا الإيراد قد انقدح عمّا تقدّم ، وإجماله عبارة عن أنّ التمسّك بالإطلاق موقوف على إحراز المقدّمات الثلاث ، منها إحراز تعلّق الحكم بالجامع من ناحية المراد الاستعمالي وقابلية انقسامه إلى قسمين أو أقسام. فهذه المقدّمة لا بدّ من إثباتها وإحرازها ، وإلّا فلا يعقل الإطلاق في مقام الثبوت كي يستكشف ذلك بالإطلاق في مقام الإثبات ، وحيث إنّه على القول الصحيح قد تعلّق الحكم بحصّة خاصّة وهي خصوص الحصّة الصحيحة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ : ٤٥٩ ـ ٤٦٠ ، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث الأوّل.

٣٩٥

فالمقدّمة الاولى معدومة ، فالإطلاق اللفظي على القول بالصحيح غير معقول.

وأمّا الاستشهاد على ذلك بتمسّك الفقهاء بإطلاق صحيحة حمّاد المتقدّمة فهو خلط بين الإطلاق الحالي والإطلاق اللفظي ، فإنّ إطلاق الصحيحة إطلاق مقامي ، وهو أجنبيّ عن الوضع والإطلاق اللفظي الدلالي الذي يتقوّم بإحراز صدق المفهوم بعنوان الوضع على المورد المشكوك فيه. والإطلاق الذي لا يمكن التمسّك به عند الصحيحي عبارة عن إطلاق اللفظي دون إطلاق المقامي ، فإنّ التمسّك به أي بالإطلاق المقامي مشترك فيه بين الصحيحي والأعمّي ، بلا فرق بين المسلكين.

والوجه في ذلك أنّ المعتبر في الإطلاق اللفظي أن يكون مصبّ الحكم في القضيّة هو الطبيعي الجامع القابل للانطباق على حصص عديدة ، ولا أقلّ من حصّتين ، وإذا ثبت ذلك أوّلا تصل النوبة إلى إحراز بقيّة المقدّمات من كون المتكلّم في مقام البيان ، وعدم تعرّضه لنصب القرينة على إرادة الخلاف. ولأجل هذه الجهة لا مجال لقائل بوضع الألفاظ لخصوص الصحيح أن يتمسّك بالإطلاق ، وذلك من جهة الشكّ في صدق المفهوم على الفاقد لما يحتمل دخله في المسمّى.

بخلاف الإطلاق الأحوالي فإنّه لا يعتبر فيه ذلك الشرط ، بل المعتبر فيه سكوت المتكلّم عن البيان حين إيراد الحكم على نفس الأجزاء والشرائط أو الأفراد.

فمن باب المثال إذا كان المولى في مقام بيان ما يحتاجه اليوم من اللحم والخبز والأرز ، واللبن ، والحليب ، والزبد ، وغيرها من اللوازم ، فأمر عبده بالدخول في السوق لشرائها ولم يذكر الدهن مثلا فيما فرض أنّه كان في مقام البيان ولم يذكر ذلك ، فيستكشف منه عدم إرادته له ، وإلّا لأظهره وأبانه.

٣٩٦

وبهذا البيان انقدح لك أنّ المكلّف هنا لا يحتاج في مثل هذا الشكل من الإطلاق إلى وجود لفظ مطلق في القضيّة ، بل هو مناقض له كما عرفت آنفا ، والإطلاق في الصحيحة يكون من هذا القبيل ، فإنّه سلام الله عليه كان في مقام بيان الأجزاء والشرائط ، فبتركه وعدم بيانه يستكشف عدم دخله في المقصود من المأمور به.

وبالنتيجة فإنّ أحد الإطلاقين أجنبي عن الإطلاق الآخر من الأصل والأساس ، وجواز التمسّك بأحدهما غير ملازم لجواز التمسّك بالآخر ، كما أنّه لا فرق في جواز التمسّك بالإطلاق الأحوالي بين القول بالوضع للصحيح ، والقول بالوضع للأعمّ. فما أورده المستشكل من الإشكال لا محصّل له في اللبّ والمعنى.

الثاني : أنّ الأعمّي يكون في رديف الصحيحي من حيث عدم جواز التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار جزء أو قيد في المأمور به ، وذلك من جهة أنّ أدلّة العبادات جميعا بتمامها من الكتاب والسنّة مجملة ، لعدم ورود شيء منها في مقام البيان ، لكون المتكلّم بها فيها في مقام الإهمال والإجمال ، فلا يجوز التمسّك بإطلاقها من هذه الناحية ، لعدم تماميّة إطلاقها مع هذا الاحتمال.

غاية ما في الباب أنّ عدم جواز التمسّك على هذا القول من ناحية واحدة ، وهي عدم ورود مطلقات العبادات في مقام البيان ، لأنّ جميعها واردة بلحاظ التشريع ومقام التشريع والجعل ، من دون أيّ توجّه ونظر لها إلى خصوصيّتها من حيث الكمّية والكيفيّة.

والصحيحي ليس له التمسّك بالإطلاق من ناحيتين ، إحداهما عدم ورود المطلقات في مقام البيان ، وثانيتهما عدم تعلّق الجامع والمقسم. فصارت النتيجة هي عدم جواز التمسّك بالإطلاق على كلا القولين.

٣٩٧

والجواب عنه : ـ مضافا على كونه من سنخ الإخبار بالمغيّبات وأنّه رجم بالغيب ـ أنّ الأمر ليس كما توهّم بالنسبة إلى جميع آيات الأحكام في العبادات ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) وهو في مقام البيان ، فإنّ المفهوم من كلمة (الصيام) عرفا كفّ النفس عن الأكل والشرب ، وليس هذا إلّا معناه اللغوي ، فالصيام بهذا المفهوم والمعنى كان ثابتا في الشرائع والأديان الماضية بقرينة قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(٢) حيث لم يعتبر فيه سوى الكفّ عن الأكل والشرب عند تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

نعم ، إنّ ذلك تختلف كيفيّته باختلاف الشرائع ، ولكنّ كلّ تلك الاختلافات ترجع إلى الخارج عن الموضوع له الصيام وماهيّته ، بل قد يعتبر فيه كما في شرع الإسلام الكفّ عن عدّة امور أخر أيضا ، كالجماع ، والارتماس في الماء ، والكذب على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، وإن لم يكن الكفّ عنها معتبرا في سائر الشرائع والأديان السالفة.

وعلى ذلك إذا شككنا في دخالة شيء في هذه الماهية بعنوان الشرط وعدم دخله كذلك ، فلا مانع من أن نتمسّك بالإطلاق في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) في إثبات عدم دخله واعتباره ، فحال الآية المباركة حال قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٣) أو (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٤) وأشكالهما من سائر آيات الأحكام.

__________________

(١) البقرة ١٨٣.

(٢) البقرة : ١٨٧.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

(٤) النساء : ٢٩.

٣٩٨

فكما لا إشكال ولا مانع من التمسّك بإطلاقهما في باب البيع وسائر المعاملات عند الشكّ في اعتبار شيء فيها ، فكذلك لا مانع ولا إشكال من التمسّك بإطلاق هذه الآية الكريمة المباركة في باب الصوم والحجّ والزكاة والصدقات عند الشكّ في دخل شيء في صحّتها شرعا ، هذا.

مضافا إلى ما في السنّة من الروايات والأحاديث المطلقة الواردة في مقام البيان كقوله عليه‌السلام في التشهّد : (يتشهد) (١) ، فإنّ مقتضى إطلاقه عدم اشتراط أمر زائد على نفس ذات الشهادتين ، فلو عرض الشكّ في اعتبار التوالي بينهما فيدفع بالإطلاق ، وكذا غيره من الأحاديث ونصوص الباب ، فلاحظ وتأمّل فيها حتّى تتبيّن لك حقيقة الحال.

هذا كلّه على تقدير تسليم أن يكون الضابط في كون المسألة اصوليّة ترتّب ثمرة الفعليّة عليها ، ولكنّ الحقّ أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ الضابط للمسألة الاصوليّة إمكان وقوعها في طريق قياس الاستنباط لا فعليّة وقوعها.

وبالجملة ، فإنّ ملخّص ما ذكرناه في المقام عن جواب هذا الإيراد أمران :

الأوّل : أنّ المطلق الوارد في مقام البيان من الكتاب والسنّة موجود ، وليس الأمر كما توهّمه هذا القائل.

الثاني : مع التنزّل عن ذلك وتسليم أنّ الحاكم والمتكلّم لم يكن في مقام البيان في تلك المطلقات الواردة في العبادات من الكتاب والسنّة ؛ إلّا أنّ إمكان ترتّب هذه الثمرة بها الغنى والكفاية في كون هذه المسألة من المسائل الاصوليّة ؛ إذ قد عرفت من أنّ المعيار فيها إمكان وقوعها في طريق استنباط حكم شرعي كلّي ، لا فعليّة ذلك كما تقدّم.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٤٠٦ ، الباب ٨ من أبواب التشهّد ، الحديث ١.

٣٩٩

إلّا أنّ الإشكال الذي يرد هنا هو ما ذكرناه آنفا من أنّ هذه الثمرة لم تكن ثمرة لهذه المسألة ، ولا تترتّب عليها بلا واسطة ، بل هي من ثمرات كبرى مسألة المطلق والمقيّد ، وهذه المسألة من صغريات تلك الكبرى ومن مبادئها ، من جهة أنّ البحث فيها في الحقيقة عن ثبوت الإطلاق وعدم ثبوته ، والبحث عن جواز التمسّك به وعدم جوازه بحث عن المسألة الاصوليّة دونه ، كما لا يخفى.

الوجه الثالث : أنّ الإطلاق والتقييد في العبادات إنّما يلاحظ بالإضافة إلى المأمور به ومتعلّق الأمر ، لا بالقياس إلى المسمّى بما هو ، ضرورة أنّ الإطلاق أو التقييد في كلام الشارع أو غيره إنّما يكون بالقياس إلى مراده ، وأنّه مطلق أو مقيّد ، لا إلى ما هو أجنبيّ عنه ، وعلى ذلك فلا فرق بين القولين والمسلكين ، فكما أنّ الصحيحي ليس في إمكانه التمسّك بالإطلاق فكذلك الأعمّي.

أمّا الصحيحي ، فلما علمت من عدم إحرازه الصدق على فاقد الجزء المشكوك أو الشرط المشكوك الاعتبار ، لاحتمال دخله في المسمّى.

وأمّا الأعمّي ، فلأجل علمه بتقيّد المسمّى بالصحّة ، وأنّها مأخوذة في المأمور به ومتعلّق الأمر ، إذ المأمور به في طلب المولى عند الإتيان إنّما يكون حصّة خاصّة من المسمّى ، وهي ليست إلّا الحصّة الصحيحة المحصّلة لغرض الشارع من التكليف ؛ إذ من البديهي أنّ الحاكم والشارع لا يطلب ولا يأمر بإتيان الحصّة الفاسدة ، ولا بما هو الجامع بينه وبين الصحيح ، وعلى هذا التقريب فلا يمكن التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته ، للشكّ حينئذ في صدق المأمور به على الفاقد للشيء المشكوك فيه بالوضوح والإشراق.

وبالجملة ، فلا فرق بين أن تكون الصحّة مأخوذة في المسمّى ، وأن تكون مأخوذة في المأمور به ، فعلى كلا التقديرين لا يمكن التمسّك بالإطلاق ، غاية

٤٠٠