دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

العامّ في الفصل ، بل إنّما يلزم منه دخوله في الخاصّة ، ولا مانع في ذلك بوجه من الوجوه ، إذ قد يتقيّد العرض العامّ بقيد فيكون خاصّا. والدليل على ذلك أنّه ربما يأتي بعنوان المعرّف لشيء واحد في مقام التعريف معرّفات عديدة ، كما سبق ذلك عن قريب آنفا ، فيقال في مقام تعريف الحيوان : إنّه حسّاس متحرّك بالإرادة ، مع أنّ الشيء الواحد ليس إلّا فصل الواحد.

فما أفاده السيّد الشريف من استلزام أخذ مفهوم الشيء في المفهوم الاشتقاقي دخول العرض في الفصل (١) غير تامّ بالقطع واليقين.

ثمّ بعد ذلك أورد شيخنا الاستاذ قدس‌سره على من التزم بدخول الشيء في مفهوم المشتقّ بأنّ ذلك مستلزم لأن يكون الفصل داخلا في الجنس فضلا عن دخول العرض العامّ في الذاتي (٢).

بيان ذلك أنّه لا شكّ في أنّ الشيء ليس إلّا الجنس بالنسبة إلى جميع الأجناس ، فيصحّ أن يقال : إنّ الشيء هو جنس الأجناس ، لأنّه ينطبق على جميع الموجودات من الجوامد والجواهر والأعراض والعرضي ، بل يطلق على الامور الاعتبارية ، بل على نفس الجنس وخالق الجنس ، بل على ذات واجب الوجود بالضرورة من الوجدان.

وبعبارة اخرى : إنّ الناطق بمعنى التكلّم أو إدراك الكليات وإن كان من لوازم الإنسان وعوارضه ، إلّا أنّه بمعنى صاحب النفس الناطقة فصل حقيقي ، فيلزم من أخذ مفهوم الشيء في مفهوم المشتقّ دخول العرض العامّ في الفصل.

والحاصل إذا كان الشيء جنسا عاليا لجميع الأجناس فلا يمكن أخذه في

__________________

(١) انظر هامش المطالع : ٨.

(٢) أجود التقريرات : ٦٩ ـ ٧٠.

٥٦١

مفهوم المشتقّ ؛ لأنّ ذلك مستلزم لأن يكون الجنس والعرض العامّ داخلا في الفصل. فإذن لا بدّ لنا من الالتزام بأنّ المشتقّ إنّما يكون فرارا بسيطا عن ذلك المحذور.

وفيه أنّ صدور مثل هذا السنخ من الكلام منه قدس‌سره من الغرائب ، وذلك من جهة أنّ الشيء كيف يعقل أن يكون جنسا عاليا لجميع الموجودات ، مع أنّه يطلق حتّى على الامور الاعتباريّة التي ليس لها وجود إلّا بالاعتبار ، فضلا عن أن يكون لها جنس وفصل ، بل هو يطلق على الله تعالى شأنه ، مع أنّه عزوجل ليس بمعروض لشيء من الأعراض ذاتا أزلا وأبدا ، بل إنّ الشيء يطلق على المحال والممتنع. فإذن كيف يعقل أن يقال : إنّ الشيء يكون جنسا عاليا لجميع الأجناس ، والحال أنّ الجنس والفصل غير متصوّرين إلّا في خصوص الجواهر دون الأعراض والامور الاعتبارية والمحالات التي غير ممكنة الوجود ، فضلا عن صيرورتها جوهرا في الخارج ، مع أنّ الشيء يطلق على جميع تلك الأشياء من تلك الامور على نسق واحد. فإذن كيف يمكن الالتزام بأنّ الشيء يكون جنسا عاليا لجميع الأجناس ؟ بل الصحيح أنّ الشيء في الواقع إنّما يكون من قبيل خارج المحمول الذي يحمل على الذات ، نظير حمل الوجود على الماهيّة.

وبالجملة هذا من غرائب ما صدر منه قدس‌سره فإنّ صاحب النفس الناطقة هو الإنسان وهو نوع لا فصل. إذن لا مناص من الالتزام بكون الناطق فصلا مشهوريا وضع مكان الفصل الحقيقي ، لتعذّر معرفته غالبا بل دائما.

فالمتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام أنّ حمل الشيء على الذات ليس حمل العرض على المعروض ، بل هو من سنخ العارض الذي يلحق بالذات للإشارة إليها به لفظا لا معنى. فكم فرق بين العرض والعارض اللاحق بالذات لفظا لا معنى ؟ فلا يخفى عليك أنّ الشيء بهذا التعبير يمكن أن يكون محمولا

٥٦٢

على ذات الباري تعالى ، لأنّ بذلك الاعتبار خارج موضوعا عن باب العارض والمعروض.

وأغرب منه ما أفاده قدس‌سره ـ كما تقدّمت الإشارة إليه ـ من أنّ الشيء ليس من العرض العامّ في شيء بل هو جنس من الأجناس وجهة مشتركة بين الجميع (١).

وذكر أنّ العرض العامّ ما كان خاصّة للجنس القريب أو البعيد كالماشي والتحيّز ، والشيئية تعرض لكلّ ماهيّة من الماهيّات وتنطبق عليها ، فهي جهة مشتركة بين جميع الماهيّات ، وليس وراءها أمر آخر يكون ذلك الأمر هو الجهة المشتركة وجنس الأجناس لتكون الشيئية عارضة عليه وخاصّة له كما هو شأن العرض العام.

وعلى ضوء هذا البيان فاللازم من أخذ الشيء في المشتقّ دخول الجنس في الفصل ، لا دخول العرض العامّ فيه ، بل قال قدس‌سره ولم يظهر لنا بعد وجه تعبير المحقّق الشريف عنه بالعرض العامّ وإن ارتضاه كلّ من تأخّر عنه. ومن الواضح أنّه كما يستحيل دخول العرض العامّ في الفصل كذلك يستحيل دخول الجنس فيه ، لأنّ كلّ واحد من الجنس والفصل ماهيّة تباين الماهيّة الاخرى ذاتا وحدّا ، فلا يكون أحدهما ذاتيا للآخر ، فالحيوان ليس ذاتيا للناطق وبالعكس ، بل هو لازم أعمّ بالإضافة إليه ، وذلك لازم أخصّ.

فانقدح بذلك أنّه يلزم من دخول الجنس في الفصل انقلاب الفصل إلى النوع ، وهو محال بالقطع واليقين.

وقد ذكر هو قدس‌سره أيضا أنّه لو كان الشيء مأخوذا في مفهوم المشتقّ يلزم التكرار عند الإخبار بأنّ زيدا يكون هو القائم أو الكاتب.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٦٩ ـ ٧٠.

٥٦٣

وفيه أنّه لا نرى تكرارا من إخبار المخبر بأنّ القائم هو زيد بالمراجعة إلى أهل المحاورة ، إذ لا فرق بين أن يقال : زيد قائم ، وبين أن يقال : إنّ الكتابة ثابتة لزيد.

ثمّ بعد ذلك ذكر قدس‌سره أيضا بأنّ الالتزام بأخذ الشيء في مفهوم المشتقّ ملازم لبروز اللغوية في الكلام ؛ إذ قول المخبر بأنّ زيدا قائم أو كاتب يتحلّل بالتحليل التأليفي إلى أنّ (زيد) شيء وذات ثبتت له الكتابة والقيام ، ومن الواضحات أنّ ذلك تكرّر ، فيكون لغوا في الكلام ، فيكون قبيحا.

وفيه أنّ هذا الاحتمال يكون أوّل الكلام بعد التسليم بعدم صحّة حمل المبدأ على الذات بأن يقال : زيد قيام ، إذا فرض عدم صحّة حمل المبدأ على زيد ، فالمخبر مخيّر في مقام الإخبار عن تلبّس زيد بالقيام بين أن يقول : زيد قائم ، أو : أنّ زيد ذات وشيء ثبت له القيام أو الكتابة ، إلى آخر المشتقّات ، من دون أن يرى أهل المحاورة والعرف والأدب لغوية أو تكرارا ، فضلا عن كونه قبيحا.

وذكر قدس‌سره أيضا أنّه لو كان الشيء مأخوذا في مفهوم المشتقّ يكون المشتقّ مركّبا من المبدأ والذات والنسبة ، فإذا كان المشتقّ مركّبا من هذه الأجزاء الثلاثة فيكون شبيها بالمعنى الحرفي ، فلا بدّ من أن يكون مبنيّا مع أنّه لم يقل به أحد ؛ إذ من الواضحات النحوية أنّ المشتقّ يدخله الإعراب.

وفيه أنّ الشبه كيف ما اتّفق لا يصير موجبا للبناء في المسائل النحوية ، بل الشبه بالحرف إذا كان بحسب الحقيقة ونفس الأمر يصير موجبا للبناء ، بخلاف ما نحن فيه ، إذ المشتقّ من حيث المبدأ ليس معنى حرفيّا ليكون شبيها بالحرف من حيث المعنى ، لأنّ المشتقّ بحسب الواقع والحقيقة من حيث المبدأ موضوع لمفهوم اسمي ، وإنّما الشبه نشأ من ناحية الهيئة ، وذلك السنخ من الشبه لا يصير موجبا للبناء المانع عن إعراب المشتقّ.

٥٦٤

فهذه الأشكال صارت بمنزلة المحاذير التي تلقّاها شيخنا الاستاذ قدس‌سره مانعا مستحكما لعدم صحّة الالتزام بالتركيب والتأليف في مفهوم المشتقّ ، بل جعل نفسه متعبّدا بالبساطة في مفهومه لأجلها.

فصار المتحصّل من النتيجة بمسلكه الشريف أنّ خروج مفهوم الشيء عن مفهوم المشتقّ أمر واضح بالبداهة من الضرورة ، تمسّكا بتلك الأدلّة في نظره المبارك ، سواء قلنا بأنّ الشيء عرض عامّ أو جنس ، وسواء كان الناطق فصلا حقيقيا أم كان أظهر الخواصّ وفصلا مشهوريا ، فإنّ دخول الجنس في اللازم كدخوله في الفصل الحقيقي من المحالات المسلّمة بالقطع واليقين ، هذا تمام كلامه زيد في علوّ مقامه.

ولكن قد عرفت غرابة استدلاله قدس‌سره بما لا مزيد عليه ، إذ الشيء لا يعقل أن يكون جنسا عاليا للأشياء تماما ، من الواجب ، والممكن ، والممتنع ـ كما وقفت على ذلك فيما تقدّم من الأمثلة المتعدّدة الكثيرة ـ إذ أنّه وإن كان صادقا ومنطبقا على جميعها حتّى على المحالات والممتنعات ـ كما يدلّ على ذلك صحّة أن يقال : اجتماع النقيضين شيء محال ، وشريك الباري كذلك عزوجل ، وهكذا أمثال تلك الأمثلة ـ ولكن لا يخفى عليك كما سبق أنّ صدقه كذلك ليس صدقا ذاتيّا بعنوان العارض والمعروض الحقيقي ، ليقال : إنّه جنس عال له ، إذ من البديهي استحالة الجامع الماهوي بين المقولات المتأصّلة والماهيّات المنتزعة والامور الاعتبارية ، بل الحقّ عدم إمكان وعدم تعقّل الجامع الماهوي بين المقولات المتأصّلة بذاتها وأنفسها.

فإذن كيف يمكن تعقّل أن يكون الشيء جامعا ماهويا بين ذاته تعالى وبين غيره من العرضيّات والجوهريات من مخلوقاته ؟ وهذا واضح لمن يكون له أدنى تأمّل بالجواهر والأعراض والأنواع والأجناس.

٥٦٥

وملخّص التوضيح في الختام : أنّ صدق مفهوم الشيء على الواجب والممكن والممتنع على منهج واحد ، من دون أيّ وجه فرق بين أن يقال : الله شيء ، وبين أن يقال : زيد شيء ، وشريك الباري شيء ، إذ من البديهيّ أنّه لا يعقل أن يكون صدقه على الجميع ذاتيّا ، فبالقطع واليقين ـ كما سبق ـ يكون لا محالة لفظيّا عرضيّا ملحقا بالذات بالعرض والعناية.

فما ذكره قدس‌سره من أنّ الشيء جنس لما تحته من الأجناس العالية لا يخطر بقلب المتعقّل له وجه يمكن أن يصدّقه ، فإذن كلّما تأمّلنا في كلامه هذا لا يحصل لنا معنى محصّل لكلامه.

إذ أنّه إن أراد بالجنس معناه الفلسفي المصطلح عليه عند أهله فهو غير ممكن وغير معقول ، وإن تبادر بذهنه المقدّس معنى آخر فلا نعقله ، إذ من الضروري بالبداهة والإشراق أنّ الشيء إمّا جنس أو عرض حقيقي عامّ ، فلا ثالث.

ودعوى أنّه لا مانع من أن يكون جنسا لما تحته من المقولات الواقعيّة التي هي أجناس عاليات ، مدفوعة أوّلا : بأنّ صدق الشيء بما له من المفهوم على الجميع على حدّ سواء ونسق فارد ، وليس صدقه على المقولات ذاتيّا وعلى غيرها عرضيا.

وثانيا : بأنّ الشيء لا يمكن أن يكون جنسا للمقولات الحقيقيّة كما ذكرنا ذلك غير مرّة بما لا مزيد عليه ، لاستحالة جامع حقيقي بينها ، بل قد وقفت فيما تقدّم من البرهان على ذلك في محلّه أنّ الجامع الحقيقي الحكمي غير معقول بين نفس ذات المقولات التسع العرضيّة ، فضلا عن تعقّل جامع بين جميع المقولات.

فصار المتحصّل من جميع ما أوضحناه في المقام أنّ مفهوم الشيء غير ممكن ، بل مستحيل لأن يكون جنسا لما يكون مندرجا تحته من الأجناس العالية.

٥٦٦

فإذن نرجع إلى تحقيق ما سبق منّا من أنّ مفهوم الشيء مفهوم عامّ مبهم مندمج في غاية الاندماج والإبهام العاري عن كلّ خصوصيّة من الخصوصيّات ، كمفهوم الأمر والذات ، فيصدق على كلّ الشيء والأشياء بتمامها جميعا ، لكنّه صدقا عرضيّا إلحاقيّا ظاهريّا لفظيّا ، فيكون شبيها بالعرض العامّ لا من سنخ العرض الواقعي المقابل للجوهر ، فإنّه أي العرض المقابل للجوهر لا يصدق على وجود الواجب تعالى ، ولا على غيره من الاعتبارات والانتزاعات وأمثالها ، ومن البديهيات الواضحات أنّ الشيء بما له من المفهوم يصدق على جميع الموجودات على نهج واحد.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ مرادنا من العرض والعارض هاهنا ما هو خارج عن ذات الشيء ومحمول عليه ، فيقال لمثل ذلك العارض في الاصطلاح : بخارج المحمول ، فهذا يكون هو الضابط للعرض العامّ والخاصّ ، والعموم والخصوص يختلفان بالإضافة ، فالماشي عرض عامّ باعتبار وإضافة ، وخاصّ باعتبار آخر وإضافة اخرى.

وعلى إشراق هذا البيان في التعبير عن الضابط انقدح بطلان ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من البيان له في الضابط للعرض العامّ ، وهو ما كان خاصّة للجنس القريب أو البعيد كالماشي والتحيّز مثلا (١) وذلك لعدم الشاهد والبرهان عليه ، بل الشاهد والبرهان على خلافه كما مرّ ، ولذا ذكروا أنّ الوجود من عوارض الماهية بمعنى : أنّه خارج عن حيطة ذاتها ويحمل عليها.

فما ذكره السيّد الشريف وغيره من المحقّقين : من أنّ الشيء عرض عامّ ، هو الصحيح.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٦٩.

٥٦٧

بخلاف ما ذكره قدس‌سره من أنّه على تقدير أخذ مصداق الشيء في المشتقّ لزم انقلاب مادّة الإمكان إلى الضرورة ، فجوابه انقدح عمّا ذكرناه فيما سبق ، فهو عبارة عن أنّ المأخوذ ليس واقع الشيء ومصداقه ، بل الحقّ أنّ المأخوذ ليس إلّا مفهوم المبهم بالتقريب المتقدّم ، كما وقفت عليه مفصّلا بما لا مزيد عليه.

وعلى فرض التسليم بأنّ المأخوذ ليس إلّا واقع الشيء ومصداقه لا يصير موجبا للانقلاب كما توهّمه السيّد الشريف ، وإنّما سنتكلّم في بيان ذلك تفصيلا عن قريب بحول الملك العلّام ، وليس عدم أخذ ذلك إلّا من ناحية مانع آخر تقدّم شرحه.

الثاني (١) : ذكر صاحب الفصول قدس‌سره (٢) بأنّ مفهوم الشيء لو كان داخلا في مفهوم الشيء يلزم انقلاب الإمكان إلى الضرورة ، كما ينقلب إذا كان واقع الشيء مأخوذا في مفهوم المشتقّ ، لأنّ الشيئية لا تنفكّ عن الأشياء ، بل الشيئية إنّما تكون لازما ضروريّا لتمام الأشياء ، بلا فرق بين الإنسان وغيره من المخلوقات. فإذن لو اخذ مفهوم الشيء في المشتقّات يلزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضروريّة ، مع أنّ جميع تلك القضايا والهيئات المشتقّة بأجمعها وتمامها ليست إلّا من سنخ القضايا الممكنة ، فإنّ قولنا : «الإنسان ضاحك» من القضايا الممكنة ، نظرا إلى أنّ كلا من ثبوت الضحك وعدمه ممكن للإنسان ، فلو كان معنى الكاتب شيء له الكتابة فالقضيّة ضروريّة ، باعتبار أنّ صدق الشيء بما هو على جميع الأشياء ضروري ، فلو كان الشيء مأخوذا في المشتقّ لزم الانقلاب ،

__________________

(١) أي الوجه الثاني من وجوه استدلال القائلين بالبساطة.

(٢) الفصول الغرويّة : ٦١.

٥٦٨

فإذن كيف يمكن أخذ الشيء في المشتقّ على نحو الإرسال والإبهام أو الإجمال ؟

وجوابه ينقدح ممّا تقدّم عن صاحب الكفاية وما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سرهما (١) وبيان ذلك أنّ الشيء تارة يلاحظ مطلقا ولا بشرط بنحو الإرسال الحقيقي ، واخرى يلاحظ مقيّدا بقيد ، وذلك القيد والاعتبار إمّا أن يكون مباينا للإنسان ، أو يكون من القيود المساوية له ، أو عامّا أو خاصّا.

فلا يخفى عليك أنّه إن لوحظ على النحو الأوّل من الإرسال والإطلاق بنحو لا بشرط فثبوته وإن كان للإنسان وغيره ضروريا ، إلّا أنّه خارج عن الفرض.

وإن لوحظ على الشكل الثاني فلا جرم أنّ القيد الملحوظ فيه إذا كان أمرا مباينا للإنسان امتنع ثبوته له ، كما إذا لوحظ الشيء مقيّدا بالطيران إلى السماء ، أو أمثال ذلك ، فإنّه مع هذا القيد يستحيل صدقه عليه ، فبالبداهة أنّ الامتناع في مثل تلك الموارد من الواضحات الضروريّة.

وإن كان القيد أمرا مساويا له ، فهو إمّا أن يكون ممكن الثبوت له ، أو ثبوته ضروري. فعلى الأوّل : فإنّ القضية ممكنة ، كقولنا : الإنسان ضاحك أو متعجّب أو كاتب أو قائم ، وكلّ ما يكون من هذا السنخ من الأوصاف فهي ممكنة. وعلى الشكل الثاني : هو ضروري بالقطع واليقين ، كقولك : الإنسان متكلّم أو ناطق.

وإن كان عامّا فثبوته له دائما ضروري ، كقولنا : الإنسان حيوان أو ماش أو جوهر ، وما يكون بهذا الشكل من القضايا.

وإن كان خاصّا فثبوت الإنسان له ضروري على عكس المقام ، كقولك : زيد إنسان ، العربيّ إنسان ، العجمي إنسان ، إلى ما لا نهاية له من الأمثلة في

__________________

(١) أجود التقريرات : ٧١ ـ ٧٢.

٥٦٩

مثل هذا المقام.

وهذا السنخ من القضية ـ أي ثبوت الإنسان للأخصّ منه ـ إنّما يكون ضروريا إذا لوحظ الإنسان لا بشرط ، وأمّا لوحظ بشرط شيء من العلم أو الصبر أو الكتابة وأمثال ذلك فلا يكون ثبوته لزيد أو نحوه ضروريا ، بل هو ممكن وإن كان ثبوته لمن يكون متّصفا بهذا الشيء فعلا ضروريا.

والسرّ في كلّ ذلك هو أنّ المحمول ليس ذات المقيّد بما هي ، بل المقيّد بما هو مقيّد على نحو تقيّد جزء وقيد خارج.

وبهذا انقدح لك أنّ ثبوت مفهوم الشيء بما هو ومطلقا لما صدق عليه وإن كان ضروريا ، إلّا أنّه لا يستلزم أن يكون ثبوته مقيّدا بقيد ما وبشرط شيء أيضا كذلك ، لما وقفت عليه من اختلاف شيء باختلاف الوجوه والاعتبارات والقيود المأخوذة فيه وجوبا وإمكانا وامتناعا (١).

فانقدح بذلك التوضيح أنّ ما أفاده المحقّق صاحب الفصول قدس‌سره من لزوم انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضرورية في صورة أخذ مفهوم الشيء في المشتقّ غير صحيح ، بل الحقّ في المقام أنّ كلامه هذا بحسب الدقّة العقلية لا محصّل له عند التعقّل أصلا وأبدا.

فصار المتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام استبانة عدم وجود دليل معتمد لدعوى الانقلاب ، وإن فرض أنّ المأخوذ في المشتقّ يكون هو مصداق الشيء وواقعه وليس إلّا هو. وذلك من جهة أنّ قضية «الإنسان كاتب» وإن انحلّت على هذا التقريب إلى قضية «الإنسان إنسان ثبت له الكتابة» إلّا أنّ المحمول فيها ليس هو الإنسان وحده ليكون ثبوته للإنسان من سنخ ثبوت الشيء لنفسه الذي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٥ ، فوائد الاصول : ٧١ ـ ٧٢.

٥٧٠

هو ضروري ، بل إنّما المحمول هو الإنسان المقيّد بالكتابة ومن المعلوم أنّ ثبوته بهذا العنوان والوصف لا يكون ضروريا.

ودعوى انحلال القضية على هذا التقريب إلى قضيّتين أحدهما ضرورية والاخرى ممكنة ، فيعود المحذور ، فيكون كرّا على ما فرّ.

تندفع : بأنّا لا نتعقّل وجها يمكن الاعتماد عليه للانحلال أصلا وأبدا إلّا مجرّد الدعوى. فإذن تصبح الدعوى بلا دليل ، فدعوى بلا دليل لا قيمة لها ، فإذن لا نسلّم الانحلال.

بيان ذلك أنّه إن اريد بالانحلال الانحلال الحقيقي بأن يقال : أنّ قضيّة : «الإنسان كاتب» مثلا تنحلّ حقيقة إلى القضيّتين المذكورتين.

فنرد عليه : أنّا لا نتعقّل له مفهوما صحيحا ، وما يكون هنا قابلا للتصديق أنّ المحمول منحلّ إلى أمرين ، وهذا ليس من سنخ انحلال القضية إلى قضيّتين بوجه من الوجوه في شيء ، إلّا إذا قيل : إنّ مرادهم من انحلال القضية هو ذلك.

فمن الواضح أنّ مرادهم من الانحلال لو كان كذلك ، فنحن نلتزم به ، فلا بأس به ولا محذور فيه ، إذ المحذور إنّما يكون في انقلاب مادّة الإمكان إلى الضرورة.

وكيف ما كان فقد علمت أنّ الالتزام بتركّب المشتقّ لا يوجب انقلاب القضية الممكنة إلى الضروريّة. فصار المتحصّل من مجموع كلامنا إلى هنا عدم وجود أيّ محذور لأخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتقّ إلّا ما تقدّم منّا ذكره ، وعلى كلّ حال فإنّ الأمر أظهر من أن يخفى على طالب الحقيقة وهو مستغن عن إطالة البحث والكلام كما عن شيخنا المحقّق قدس‌سره (١) وغيره من المحقّقين قدس‌سرهم.

__________________

(١) نهاية الدراية : ١٢٨.

٥٧١

والثالث : ما تقدّم من المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في مقام الاستدلال على بساطة المشتقّ من أنّ أخذ مفهوم الشيء في المفاهيم الاشتقاقية يستلزم تكرّر الموضوع في قضية (زيد قائم) وقضية (الإنسان كاتب) وأمثالهما ، والتكرار مع كونه لغوا يكون على خلاف الوجدان عند المحاورة ومتفاهم العرف من استعمال المشتقّات في اللسان الدارج في جميع الأقطار عند استعمالاتها في الكلام.

وفيه : أنّه قد تقدّم جوابه في أثناء البحث مفصّلا من بيان كيفية أخذ الشيء فيها على نحو الإبهام والإرسال والعاري عن كلّ الخصوصيّات المتصوّرة ، إلّا قيام المبدأ به ، بلا وجه تعيّن له في الانطباق على ذوات معيّنة في الخارج ، كزيد وعمر وبكر وخالد وأشكالهما ، وبهذا التقريب المبهم إذا اخذ مفهوم الشيء فلا يلزم التكرار بوجه من الوجوه أصلا وأبدا في مثل قولنا : «زيد قائم والإنسان قائم» إلّا بتخيّلات عقلية غير العرفية ؛ إذ من البديهي أنّه لا فرق بين جملة «الإنسان كاتب» وجملة «الإنسان شيء له الكتابة» فكما لا نرى تكرارا في استعمال الأوّل في نظر العرف ، كذلك العرف لا يرى تكرارا في الجملة الثانية ، كالأوّل على مسلك التركيب الذي يكون هو الصحيح المختار ، فإنّ تكرار الجملة الثانية ليس إلّا إعادة عين الجملة الاولى بحسب استظهار العرفي بالقطع واليقين كالافق المبين. إذن ليس هنا تكرار موضوعا ، إذ لا يخفى أنّ حقيقة تكرار اللغو عبارة عن إعادة اسم الأوّل بعينه ، مثل أن يقال : زيد زيد ، وضرب ضرب ، مرّة ثانية ، وهذا المعنى من التكرار كذب محض فيما نحن فيه ، وليس له وجود عند جميع المحاورات وهو يكون منتفيا بانتفاء الموضوع هنا ، وقد تقدّم أنّه يلزم إذا كان المأخوذ في مفهوم المشتقّات مصداق الشيء بالواقعية الخارجية في الواقع

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٤.

٥٧٢

ونفس الأمر فقد أثبتنا في ما سبق أنّه غير مأخوذ في مفهوم المشتقّ بما لا مزيد عليه ، وقد عرفت أنّ المأخوذ فيها ليس إلّا مفهوم الشيء على نحو الإرسال والإبهام والاندماج ، وعلى هذا التقريب فلا وجه للتكرار أصلا وأبدا.

والرابع : ما استدلّ به على البساطة شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّ الواضع إنّما يلاحظ الفائدة عند الوضع في أخذ الشيء في المفاهيم الاشتقاقيّة ، صونا للوضع عن اللغويّة ، وهو قد صدر عن واضع حكيم.

فلا يخفى عليك أنّه على فرض التسليم بإمكان أخذ الشيء في المبادئ الاشتقاقية من حيث الواقع ونفس الأمر بحسب الثبوت ، إلّا أنّه من حيث الإثبات غير واقع في الخارج ، لعدم الفائدة في ذلك الأخذ ، لكونه لغوا محضا ، فلا يجوز صدوره عنه ، وغاية ما يمكن تصوّره من الفائدة في المقام ليس إلّا توهّم عدم صحّة حمله على الذات بدونها ، وذلك لوجود الملاك في صحّة الحمل بدون هذه الفائدة ، وهو عبارة عن اعتبار المبدأ في المشتقّات لا بشرط ، إذ لا يشترط في ملاك صحّة حمله على الذات بأزيد من ذلك حتّى نحتاج إلى لحاظ فائدة اخرى ، كما سيأتي الكلام في ذلك بالبيان الواضح بحول الله تعالى وقوّته.

فصارت النتيجة أنّه يبقى أخذ مفهوم الشيء والذات في المشتقّات بلا غرض وفائدة ، فيكون أخذه من اللغو المسلّم المحض.

وفيه : أنّ ما أفاده قدس‌سره يكون شبهة في مقابل الضرورة ، إذ من البيّن غير الخفي والواضح لمن يكون عارفا بنظام الحمل أنّ أخذ الذات مندمج في المشتقّ لا محالة ، بل هو ممّا لا بدّ منه ، لضرورة احتياج حمل العوارض على

__________________

(١) أجود التقريرات : ٦٦ ـ ٦٧.

٥٧٣

موضوعاتها إلى ذلك الأخذ ؛ إذ من القطعيّات المسلّمة أنّ وجود العرض في الخارج مباين لوجود الجوهر فيه بالحتم والوجدان وإن كان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، ولكنّنا نعلم بالوجدان أنّهما لا يكونان متّحدين خارجا ، ليصحّ حمل أحدهما على الآخر. ومن المعلوم كما ذكرنا مرارا أنّ المعيار والملاك في صحّة الحمل ليس إلّا الاتّحاد في الوجود ، وهو معدوم ومنتف بين العرض وموضوعه ، وما اكتفي به من اعتبار العرض لا بشرط في كلامه لا يوجب اتّحاده معه ليصحّ حمله ، إذ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه من المغايرة والمباينة بمجرّد فرضه لا بشرط ، لأنّ المغايرة ليست من ناحية الاعتبار لينتفي باعتبار آخر غيره ، بل هي أمر واقعي في الخارج. ومن البديهي أنّ وجود العرض ممتاز عن وجود الجوهر في ذاته ونفسه ، ولذلك لا يتّحد معه بمجرّد لحاظه لا بشرط المحض ، بل لا بدّ من أخذ الذات في مفهومه ليتّحد معه وليصحّ الحمل بذلك الاتحاد.

وبهذا الجواب انقدح جواب ما ذكره هو قدس‌سره خامسا (١) من أنّ أخذ الذات في المشتقّات ملازم لأخذ النسبة فيها أيضا ، وذلك من جهة أنّ المفروض كون المبدأ مأخوذا فيها ، فمن الواضح عند ذلك لزوم اشتمال كلام الواحد على نسبتين في رتبة واحدة وفي عرض واحد ، إحداهما : في تمام القضية ، والثانية : في نفس المحمول وحده فقط. وبطلانه واضح لا يمكن أن يلتزم به أحد أصلا وأبدا ، مع أنّ لازم ذلك ـ كما تقدّمت الإشارة إليه ـ أن تكون هيئات المشتقّات كلّها ملحقة بالمبنيّات لشباهتها بالمعنى الحرفي من ناحية النسبة.

وفيه أنّ ما ذكره من لزوم اشتمال الكلام الواحد على نسبتين في عرض

__________________

(١) أجود التقريرات : ٦٧.

٥٧٤

واحد ، انقدح جوابه عمّا تقدّم من عدم أخذ مصداق الذات فيه خاصّة ، بخلاف أخذ مفهوم الشيء على نحو الإرسال ، بل لو فرض ذلك أي أخذ الذات أيضا لا يلزم هذا المحذور ، وذلك من جهة أنّ النسبة في طرف المحمول لم تلحظ بنفسها وباستقلالها لتكون نسبة تامّة خبريّة في عرض النسبة في تمام القضية ، بل الحقّ أنّها نسبة إضافيّة تقييديّة مغفول عنها في الكلام عند أهل المحاورة. وإنّما تصير تامّة خبرية في فرض صورة الانحلال ، وهي خلاف الفرض ، بل لا مانع من اشتمال الكلام الواحد على نسبة إضافية تقييدية ونسبة تامّة خبريّة ، على أنّه لو كان هذا محذورا فهو غير مختصّ بخصوص المشتقّات ، بل يشمل كثيرا من القضايا والجملات كما لا يخفى.

هذا كلّه على فرض أن يكون المأخوذ في مفهوم المشتقّ مصداق الشيء كما تقدّم ، ولكنّ الحقّ كما عرفت مفصّلا أنّه ليس كذلك ، بل المأخوذ في مفهوم المشتقّ هو ذات مبهمة معرّاة عن كلّ خصوصيّة ما خلا قيام المبدأ بها ، وعلى هذا التقريب انقدح أنّه لا موضوع لما أفاده قدس‌سره.

والأغرب من ذلك ما ذكره ثانيا من المشابهة للحروف ، فكأنّه غفل عن معنى المشابهة في الأسماء بالحروف ؛ إذ من الواضح أنّ مجرّد المشابهة للحروف غير موجب لبناء الاسم ، بل الحقّ أنّ الموجب للبناء في الاسم هو المشابهة الخاصّة للحروف ، وهي مضيّقة بما إذا تشابه الاسم بالحرف بحسب وضعه كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات ، فإنّها بحسب وضعها بما لها من المادّة والهيئة تشبه الحروف ، بخلاف ما كان من الأسماء مشتملا على النسبة بهيئته فقط دون مادّته كالمشتقّات ، فهو ليس كذلك ، فإنّ هذه المشابهة لا توجب البناء.

أو فقل : إنّ مادّة المشتقّات وضعت لمعنى مصدري حدثي مستقلّ بوضع مخصوص لها على حدّ نفسه ، فهي بهذا الوضع غير مشابهة للحروف بوجه من

٥٧٥

الوجوه أصلا وأبدا ، وأمّا هيئتها باعتبار شمولها على النسب وإن كان تشبه الحروف ، إلّا أنّها بهذا المقدار غير موجب للبناء في هيئة المشتقّات.

فصار المتحصّل من جميع ما فصّلناه لك أنّ شيئا من هذه الوجوه لا يتمّ دليلا معتمدا يمكن الاعتماد عليها لإثبات البساطة في مفهوم المشتقّ ، بل الحقّ الضروري المستحكم المتين هو القول بالتركيب حيث ما أقمنا عليه البرهان والدليل من الضرورة والوجدان بعون الله المستعان.

وقد ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ وجود العرض في حدّ ذاته ونفسه ليس إلّا عين وجوده لموضوعه ، بمعنى أنّ العرض غير موجود بوجودين : أحدهما لنفسه والآخر لموضوعه ، بل وجوده النفسي عين وجوده الرابطي ، فوجوده في الخارج ليس إلّا هو الرابط بين موضوعاته.

وعلى هذا التقريب فحيث إنّ للعرض حيثيّتين واقعيّتين : إحداهما وجوده في نفسه والاخرى وجوده لموضوعه ، فقد يلاحظ بما أنّه شيء من الأشياء ، وأنّ له وجودا بحياله واستقلاله في مقابل وجود الجوهر كذلك ، فهو بهذا الاعتبار عرض مباين لموضوعه وغير محمول عليه. وقد يلاحظ على واقعه بلا مئونة اخرى ، وأنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فهو بهذا الاعتبار عرضي ومشتقّ ، وقابل للحمل على موضوعه ومتّحد معه ، حيث إنّه من شئونه وأطواره ، فإنّ شأن الشيء لا يباينه (١).

ويرد عليه أوّلا : أنّ هذا الفرق الذي ذكره قدس‌سره غير مربوط بالمبدإ والمشتقّ ، فضلا ، عن أن يكون فارقا بينه وبين مبدئه ، بل يكون مائزا وفارقا بين المصدر واسم المصدر.

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ١ : ١١٧ ـ ١١٨.

٥٧٦

بيان ذلك أنّ العرض كالعلم وأمثاله يتحيّث بحيثيّتين واقعيّتين ، الاولى : حيثية وجوده في حدّ نفسه ، والثانية : حيثية وجوده لغيره. فيمكن أن يلاحظ مرّة بإحداهما ، وهي أنّه شيء من الأشياء ، وأنّ له وجودا في نفسه في مقابل الجوهر ، وبهذا الاعتبار يعبّر عنه باسم المصدر.

ويمكن أن يلاحظ مرّة ثانية بالحيثية الاخرى ، وهي أنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، وأنّه من أطواره وعوارضه ، وبهذا الاعتبار يعبّر عنه بالمصدر ، إذ قد اعتبر فيه نسبته إلى فاعل ما دون اسم المصدر.

وإن شئت قلت : إنّ اسم المصدر وضع للدلالة على الوجود المحمولي في قبال العدم كذلك ، والمصدر وضع للدلالة على الوجود النعتي في قبال العدم النعتي ، هذا بحسب المعنى.

وأمّا بحسب الصيغة : ففي اللغة العربية قلّما يحصل التغاير بين الصيغتين ، بل الغالب أن يعبّر عنهما بصيغة واحدة ، كالضرب مثلا ، فإنّه يراد به تارة المعنى المصدري ، واخرى ذات الحدث ، فهما مشتركان في صيغة واحدة. وأمّا في اللغة الفارسيّة ففي الغالب أنّ لكلّ واحد منهما صيغة مخصوصة فيقال : كتك وزدن ، وگردش وگرديدن ، وآزمايش وآزمودن ، إلى غير ذلك من الأمثلة في اللغة الفارسية.

وقد انقدح من ذلك التقريب بالوضوح والإشراق أنّ المصدر أو اسم المصدر لا يصلح لأن يكون أصلا في مبدأ المشتقّات ، وذلك من جهة اشتمال كلّ واحد منهما على خصوصيّة إضافيّة زائدة ، مع أنّ المبدأ الجاري والساري فيها بعنوان الأصل الاشتقاقي لا بدّ أن يكون لفظا ومعنى خاليا وعاريا عن كلّ إضافة وخصوصيّة من الإضافات والخصوصيات الزائدة على ذاته ، حتّى عن مثل هذين اللحاظين والخصوصيتين المتقدّمين ، فمن باب المثال : إنّ المبدأ في كلمة

٥٧٧

(ضرب) ليس إلّا عبارة عن «الضاد والراء والباء» فهو المبدأ لتمام المشتقّات ، على نحو يكون المصدر واسم المصدر أيضا مشتقّا منه مثل سائر المشتقّات.

فالأحسن من كلّ تشبيه وتعبير أن يقال : إنّ المبدأ في المشتقّات يكون كالهيولى الاولى بالنسبة إلى الصور المختلفة الواردة عليها ، فكما أنّها مجرّدة منقّحة عن تمام الخصوصيات لتتقبّل ـ بما لها من القابلية والاستعداد ـ كلّ ما يرد عليها من الصور والأشكال المختلفة بالسماحة والسهولة ، إذ لو لا ذلك التجرّد فلا تبقى لها قابلية تقبّل صورة واحدة منها ترد عليها ، فضلا عن أن تقبّل تلك الأمواج من الصور الكثيرة المختلفة من ابتداء الخلقة إلى يوم القيامة ، ولا يمكن أن تكون هي المادّة الوحيدة القابلة لما يرد عليها من مجموع صور الأشياء من بدء الخلقة بيده تبارك وتعالى.

فبذلك التقريب انقدح أنّ مبدأ الاشتقاق نظير الهيولى في النقاوة والتجرّد عن جميع الخصوصيات ، حتّى خصوصيّة المصدريّة واسم المصدريّة. فأين هذا من المصدريّة واسم المصدريّة ، فإنّ كلّ واحد منهما متلبّس بخصوصية زائدة على نفس ذات الحدث المشترك بينهما ؟

فبما بيّناه لك من التنقيح ظهر لك أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الفرق المذكور غير فارق بين المبادئ والمشتقّات ، بل هو يفرّق بين المصدر واسم المصدر.

وثانيا : لا ينبغي الشكّ في أنّ وجود العرض يباين وجود الجوهر خارجا ، مع الاعتراف بأنّ وجوده في حدّ ذاته عين وجوده لموضوعه ، ولكن لا يخفى عليك أنّ ذلك ليس بمعنى أنّ وجوده ليس إلّا وجود عين موضوعه ، بل من الواضحات القطعيّة اليقينيّة أنّه يكون غيره في الواقع ونفس الأمر من حيث الحقيقة في وعاء التكوين ، ومن الضروري أنّه ليست هذه المغايرة والمباينة بالفرض والاعتبار

٥٧٨

ليكون منتفيا بالاعتبار ولحاظ آخر.

وبهذا التقريب كيف يمكن له أن يقول : إنّ العرض إن لوحظ لا بشرط وعلى ما هو في الواقع ، يكون وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، وأنّه طور من أطواره وشأن من شئونه ومرتبة من وجوده ، فهو متّحد معه.

ولو لوحظ بشرط لا وعلى كيانه واستقلاله وهويّته وحياله وأنّه شيء من الأشياء فهو مغاير له ، فإنّ كلّ ذلك لا يصحّح اتّحاده مع موضوعه وجودا بالأصل والحقيقة ، إذ من البديهي أنّ مجرّد اعتباره لا بشرط وكونه من عوارضه وأطوار وجود موضوعه وشئونه لا يوجب انقلاب الشيء عمّا هو عليه من المغايرة والمباينة إلى الاتّحاد بينهما وجودا.

وقد ذكرنا سابقا عند تعرّضنا لبحث صحّة السلب : أنّ حمل شيء على شيء متوقّف على المغايرة من ناحية ، والاتّحاد من جانب آخر ، بأن يكونا موجودين بوجود واحد ، بحيث ينسب ذلك الوجود الواحد إلى كلّ واحد منهما بالذات أو بالعرض ، أو إلى أحدهما بالذات وإلى الآخر بالعرض ، وما بالعرض لا بدّ من أن ينتهي لا محالة إلى ما بالذات. ومن البديهيّات الواضحة أنّ العرض كما يباين الجوهر مفهوما ، كذلك يباينه وجودا ، ومجرّد اعتباره لا بشرط بالإضافة إلى موضوعه لا يوجب اتّحاده معه حقيقة وخارجا بلا شكّ ولا ريب.

وثالثا : لو اعترفنا بتمامية ما أفاده قدس‌سره فلا يخفى أنّه يتمّ بالنسبة إلى المشتقّات التي تكون مباديها من المقولات التسع العرضيّة ، التي يكون وجودها في حدّ ذاتها في نفس الأمر عين وجودها في وعاء الخارج لموضوعاتها. ولكنّك قد عرفت فيما سبق أنّ البحث والنزاع لا يختصّ بها وحدها فقط ، بل النزاع يشمل ويعمّ المشتقّات التي تكون مباديها من الامور الاعتباريّة كالملكيّة والزوجيّة وما شاكلهما ، أو من الامور الانتزاعيّة كالإمكان والوجوب والامتناع ، أو من

٥٧٩

الامور العدميّة.

ومن البيّن الواضح الظاهر أنّ اعتبار اللابشرط في هذه المشتقّات لا يجدي في شيء ، إذ من البديهي أنّ العدم ليس من عوارض ذات المعدوم ، وكيف يتعقّل اتّحاده معها إذا لوحظ لا بشرط ؟ فإنّه لا وجود له حتّى يقال : إنّ وجوده طور من أطوار وجود موضوعه ، والامتناع ليس من عوارض ذات الممتنع ، وذلك من جهة أنّه لا وجود له خارجا حتّى يمكن أن يقال : إنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، والوجوب ليس عرضا مقوليا لذات الواجب تعالى ، والإمكان ليس من عوارض ذات الممكن كالإنسان مثلا ، وكذا الملكيّة ليست من عوارض ذات المالك أو المملوك بمعنى العرض المقولي ، ولا وجود لها خارجا حتّى يمكن أن يقال : إنّه ملحوظ لا بشرط ، وأنّ وجودها في حدّ ذات نفسها عين وجودها لمعروضها.

وبالجملة ، لو صدّقنا اتّحاد العرض لموضوعه خارجا فلا نصدّق الاتّحاد في هذه الموارد ، فانقدح بهذا البيان أنّ التفكيك في وضع المشتقّات بين هذه الموارد وتلك الموارد التي يكون المبدأ فيها من الأعراض ـ بأن نلتزم بوضعها في تلك الموارد لمعان بسيطة متّحدة مع موضوعاتها ، وفي هذه الموارد لمعان مركّبة ـ أمر غير ممكن ، إذ من الواضحات البديهيّة أنّ وضع المشتقّات بما لها من شتات أشكالها يكون متّحد النسق ، فكلّ واحد من مسلك البساطة والتركيب بحسب المعنى يكون متّحد الشكل بالنسبة إلى جميع تلك الموارد بالقطع واليقين على ما هو الظاهر.

ورابعا : مع الإغماض عن تمام تلك البراهين الواضحة وتصديقنا بأنّ كلّ وصف متّحد مع موضوعه ، بلا فرق بين ما كان من المقولات أو من الامور الاعتبارية أو الانتزاعات ، ولكن لا يخفى عليك أنّا لا نصدّق ذلك في المشتقّات

٥٨٠