دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

لحقيقة المعنى الحرفي بأنّه في الحقيقة ونفس الأمر من حيث المفهوم يكون من قبيل المعنى الاسمي ، يعني أنّ كلمة «من» تكون في عالم الاعتبار والوضع الواقعي النفس الأمري مترادفة لكلمة «الابتداء» بلا أيّ تصوّر فرق بينهما من هذه الجهة والمفهوم. نعم ، فرق بينهما في مقام الاستعمال ؛ إذ الأسماء إنّما تستعمل مستقلّة عند المحاورة ، والحروف بعنوان الآلية والأدوية في مقام الاستعمال.

وبعبارة أوضح : إنّ علقة الوضعيّة تختلف باختلاف اللحاظ في الحروف والأسماء بالنسبة إلى مقام الاستعمال من حيث الآليّة والاستقلالية ، نظير الواجب المشروط عند من يقول بثبوته في الخارج ، لأنّه يختلف باختلاف الأحوال في الوجوب وعدمه. فإذن العلقة الوضعيّة في الحروف والأسماء إنّما تكون من قبيل الواجب المشروط ، لأنّها ربما تلاحظ مستقلّة ، كما أنّ الأمر يكون كذلك في المعنى الاسمي بخلاف المعنى الحرفي ، فإنّه يلاحظ بعنوان الآليّة والأدوية بالنسبة إلى مقام الاستعمال عند من يكون عارفا بالحال.

وبعبارة أوضح اخرى : إنّ علقة الوضعيّة من باب التمثيل تكون نظير بعض الألفاظ التي هي وحيدة من حيث أصل المادّة ، ولكنّها مختلفة المعاني بلحاظ التلفّظ عند الاستعمال من حيث القراءة بالفتح والضمّ والكسر ، كلفظ «البرّ» فإنّه إذا قرئ بالفتح يدلّ على غير المعنى الذي يستفاد منه إذا قرئ بالكسر ، كما أنّه يدلّ على معنى ثالث إذا تلفّظ به بالضمّ ، مع أنّ المادّة الأصليّة التي هي عبارة عن «الباء والراء» مشتركة في جميع تلك التلفّظات.

كما تختلف مادّة واحدة من الألفاظ باختلاف التقديم والتأخير كلفظ «العلم» الذي معناه معلوم مشخّص إذا كان اللام في الوسط بخلاف ما إذا قرئ «لمع» بأن يقع العين في الآخر واللام في الأوّل والميم في الوسط ، فإنّه يدلّ على غير المعنى

١٢١

المشخّص في الأوّل.

وبالجملة ، إنّ القائل بهذا المسلك يقول بعدم الفرق بين الاسم والحرف من حيث المفهوم بلحاظ الوضع ، ولأجل ذلك ذكر صاحب الكفاية ـ على ما سيأتي في مبحث المشتقّ ـ أنّ استعمال كلّ منهما في مكان الآخر ليس بمجاز بل حقيقة (١) ، ولكنّه يكون على خلاف الشرط بالنسبة إلى مقام الاستعمال ، لأنّ الحروف إنّما لوحظت بالنسبة إلى مقام الاستعمال أن تستعمل بعنوان الآلية والمعاني الاسميّة إنّما تستعمل مستقلّة.

وملخّص الكلام بالنسبة إلى المقام الأوّل أعني التحقيق في كيفية المعنى الحرفي ـ إلى حدّ الآن ـ أنّ المسألة تكون ذات أقوال عند الأصحاب ، وقد عرفت القول الأوّل المنسوب إلى الشيخ الرضي قدس‌سره وتبعيّة المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره له بأنّ المعنى الحرفي والاسمي لا اختلاف فيهما من حيث المفهوم والمعنى بوجه من الوجوه ، بل هما من هذه الجهة متّحدان بالأصل والحقيقة. نعم ، إنّما الاختلاف الذي يمكن أن يتصوّر بينهما باللحاظ والاعتبار بالنسبة إلى مقام الاستعمال ، وإلّا فكلمة «ابتداء» وكلمة «من» وهكذا كلمة «على» بالنسبة إلى استعلاء وكلمة «في» بالنسبة إلى الظرفيّة مشتركات من حيث المفهوم في طبيعة معنى واحد على حدّ سواء ، من دون وجدان أيّ وجه افتراق وامتياز لإحداهما على الاخرى من هذه الجهة.

نعم ، بينهما فرق لحاظي في مرتبة الاستعمال ؛ إذ الاستعمال في الأسماء استقلالي وفي الحروف آلي ، وقد بيّن ذلك صاحب الكفاية قدس‌سره حيث إنّ الاستقلالية والآلية غير مربوطتين بكيان المفهوم والموضوع له ، بل هما

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٠.

١٢٢

خارجتان عن حريم المعنى ، إذ المفهوم والمعنى فيهما في حدّ ذاته غير متّصف بالاستقلالية في الأسماء وبالآليّة في الحروف.

بل قد تقدّم في البحث المتقدّم أنّهما إنّما تكونان من توابع الطور وشئون الاستعمال ، على أنّه استدلّ على عدم إمكان أخذهما أي الاستقلالية في الأسماء والآلية في مفهومهما في مقام الوضع بوجوه :

الوجه الأوّل : بنحو الوضوح عبارة عن أنّ التصوّر ولحاظ المعنى في مقام الاستعمال فلا جرم يكون ممّا لا مناص عنه ، وعليه فلا يخلو المقام من أن يكون هذا التصوّر واللحاظ عين التصوّر واللحاظ المأخوذ في المعنى الموضوع له أو يكون غيره ، فعلى الأوّل يلزم تقدّم الشيء على نفسه ، والثاني لا يقبله الوجدان والضرورة ؛ إذ لا يوجد في مقام الاستعمال إلّا لحاظ واحد ، مع أنّ الملحوظ بما هو ملحوظ غير قابل لأن يتعلّق به لحاظ آخر ، لأنّ القابل لطروء الوجود التصوّري والذهني ليس إلّا الذات ونفس المعنى ، والمعنى الموجود غير قابل لوجود آخر.

وأمّا الوجه الثاني : فلا يخفى عليك أنّ أخذ اللحاظ الآلي والأدوي فيما وضعت له الحروف ملازم لأخذ اللحاظ الاستقلالي فيما وضعت له الأسماء ، فعلى هذا التقريب فلا يمكن تصوّر التفرقة بينهما بكون الموضوع له متّصفا بالجزئي في الحروف وبالكلّي في الأسماء.

وأمّا الوجه الثالث : فإنّه لو كان هذا اللحاظ صحيحا فيلزمه عدم صحّة الحمل وعدم إمكان الامتثال من دون لحاظ تجريد الموضوع والمحمول عن التقييد بالوجود الذهني ، لعدم انطباق ما في الذهن بما هو في الذهن على ما في العين والخارج بما هو في الخارج.

فتلخّص أنّ المعنى الحرفي وإن كان لا ينفكّ لحاظه عن كونه آليّا ، كما أنّ

١٢٣

المعنى الاسمي غير منفكّ عن لحاظ الاستعمال في مرحلة الاستعمال ، إلّا أنّ ذلك لا يصير منشأ لأخذهما في الموضوع له فيهما ، بل غاية ما يترتّب على ذلك هو اشتراط الواضع ذلك الشرط بالنسبة إلى مقام ومرحلة الاستعمال.

وقد تقدّم أنّ هذا الشرط ليس على نحو أخذ الشروط في المعاملات والعقود والإيقاعات ، فإنّه في أمثال المقام لا يرجع إلى معنى محصّل ، وذلك من جهة عدم الدليل عليه. وعلى فرض وجود الدليل فلا ملزم لوجوب العمل على طبقه ما لم يكن مرجعه إلى القيد في الموضوع أو الموضوع له ، على أنّ ذلك الاشتراط لو ثبت وثبت لزوم اتّباعه ووجوب الوفاء على طبقه فلا يكون مستلزما لاستهجان استعمال الحرف في موضع الاسم ، وهكذا العكس ، بل المحذور النهائي أنّ مخالفة الشرط تترتّب عليه المؤاخذة ، فهذا غير مربوط بعدم اختصاص علقة الوضعيّة بحالة دون اخرى ، بل مرجع الاشتراط بحسب الواقع عبارة عن أنّ علقة الوضعيّة في باب الحروف والأدوات مختصّة بحالة خاصّة وهي ما إذا تصوّر المتكلّم المعنى الموضوع له في الحروف في مرحلة الاستعمال آليّا ، وفي الأسماء تعلّق اللحاظ بحالة اخرى وهي عبارة عن اللحاظ في مرحلة الاستعمال استقلاليّا.

بيان ذلك من باب التوضيح هو أنّ الوضع بما أنّه من الأفعال الاختيارية لشخص الواضع فله الاختيار أن يخصّصه بأيّ خصوصيّة أراد ، فله أن يخصّص علقة الوضعيّة في الحروف بحالة خاصّة ، وفي الأسماء بحالة اخرى ، بل إنّ ذلك له متصوّر بل واقع في شيء واحد يجعله علامة لإرادة امور متعدّدة من جهة اختلاف حالاتها الطارئة من حيث الخلع واللبس ، وذلك مثل ما إذا فرض أنّ المولى قد تعهّد مع عبد أنّه إذا لبس الفرو في وقت كذا فهو علامة لورود الغنم ، وإذا خلعه فهو علامة لأمر آخر في وقت آخر.

١٢٤

كما أنّ هذا الأمر منقول عن الفرق الصوفية حيث يبدّل الخدم ملابسهم بملابس أخرى ـ عند ورود المريدين ـ وتلك علاقة بينهم وبين مرشدهم بحالة المريد ، فيصرف المرشد بتلك العلاقة أنّ المريد قد جاء بهديّة مثلا.

ومن هنا وقفت على أنّ الآلية والاستقلالية خارجتان عن حريم المعنى والموضوع له اللفظ في الحروف والأسماء ، ولم يؤخذا بعنوان القيد المقوّم في المفهوم والموضوع له فيهما ، بل أخذهما إنّما يكون من قيود العلقة الوضعيّة ومقوّماتها. ولأجل ذلك كان استعمال كلّ واحد من الحرف والاسم في موضع الآخر بلا علقة وضعيّة وإن كان طبيعيّ المعنى من سنخ واحد في كليهما ، حسب ما عرفت. ولأجل ذلك المانع لا يصحّ ذلك الاستعمال.

وقد انتهى كلامنا إلى الوجه الثالث من الاستدلال المتقدّم توضيحه إلى حدّ الآن ، وملخّصه ببيان أوضح أنّه لا يخفى عليك أنّ القيد ربّما يكون من الجهات الراجعة إلى اللفظ ، وربّما يكون من الجهات الراجعة إلى المعنى دون اللفظ ، وربّما لا يرجع إلّا إلى نفس الوضع فقط.

أمّا على الوجه الأوّل فقد عرفت اختلاف اللفظ باختلاف الحركات والسكنات ، وبالتقديم والتأخير في الحروف الأصليّة المشخّصة الممتازة بالذات عن غيرها ، أو باختلاف في الترتيب ، ونمثّل لك ذلك بالنسبة إلى كلمة «بر» التي يختلف معناها باختلاف الحركات والسكنات عند التلفّظ «برّ» بالكسر و «برّ» بالضمّ و «برّ» بالفتح ، والمعنى يختلف في الأوّل والثاني والثالث ، مع عدم الاختلاف والتفاوت والامتياز فيها من حيث المادّة والحروف الأصليّة بوجه من الوجوه أصلا وأبدا ، وقد مثّلنا لك كذلك كلمة «علم» آنفا في أنّ معناها يختلف بتقديم وتأخير بعض حروفها الأصليّة عن محلّها كعمل ولمع ، بل يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى بقيّة الموادّ المتّحدة في أصل الحروف.

١٢٥

وهكذا على الوجه الثاني ، إذ يختلف المعنى باختلافه ، وإنّما نمثّل لك ذلك بالنسبة إلى هيئة كلمة القاعد مثلا ، فإنّها هيئة واحدة ، ولكنّها مع ذلك تختلف باختلاف العوارض من الخصوصيّات والحالات الطارئة عليها ، فإنّها إذا كانت مسبوقة بالقيام يطلق عليها لفظ القاعد ، وإذا كانت ملحوقة بالاضطجاع يطلق عليها لفظ الجالس ، ويكون الأمر على ذلك المنوال في غير ذلك من الموارد.

بقي الكلام في بيان الوجه الثالث ، فإنّ فيه أيضا تختلف علقة الوضعيّة باختلافه نظير لحاظ الآليّة والاستقلاليّة ، فإنّها باعتبار تقيّدها بالآليّة تفترق عمّا إذا قيّدت بالاستقلاليّة ، وعند ذلك فلمّا كانت العلقة منحصرة ومختصّة في الحروف بما إذا اريد المعنى الآلي ، فمن البديهي الواضح أنّها تكون في الحروف والأدوات غير ما قصد في الأسماء ، فيتميّز في كلّ واحدة منها بامتياز وحالة خاصّة تكون مضادّة للحالة الاخرى ، ولأجل ذلك قال قدس‌سره في مبحث المشتقّ : إنّ استعمال لفظ الابتداء في موضع كلمة «من» ليس استعمالا في غير موضوع له ، بل ليس هو إلّا استعمالا فيه ولكنّه من دون علقة الوضعيّة ، فبحسب النتيجة الحاصلة إلى حدّ الآن إنّ هذا القول ينحلّ إلى نقطتين :

الاولى : نقطة الاتّحاد والاشتراك ، وهي أنّ الحروف والأسماء متّحدتان في أصل المفهوم ، بمعنى أنّ طبيعيّ المعنى مشترك فيهما ، والآليّة والاستقلاليّة غير داخلتين في حريم المعنى ، بل هما خارجتان عن حريمه ، فذات المعنى في حدّ نفسه لا مستقلّ ولا غير مستقلّ.

والثانية : جهة الامتياز ، وهي نقطة أنّ ملاك الحرفيّة ومعيارها ملاحظة المعنى آلة في الحروف ، وما به الامتياز والملاك في الاسميّة عبارة عن ملاحظة المعنى استقلالا ، فبذلك يمتاز كلّ واحد منهما عن الآخر ، ولله الحمد في الأوّل والآخر.

ولكنّ الإنصاف أنّ كلا من هذين النقطتين لا يمكننا المساعدة عليهما.

١٢٦

أمّا النقطة الاولى ـ فمضافا إلى ما يظهر لك في ما سيأتي من بيان المختار في المعنى الحرفي من بطلان هذا القول من أصله ـ فإنّ هذه النقطة لو كانت من حيث الصحّة في محلّها لكان استعمال كلّ واحد من الاسم والحرف في معنى الآخر من الصحّة في نهاية الوضوح ، مع أنّ هذا الالتزام كذب محض ، إذ لا شكّ لأحد في أنّ استعمال كلّ واحد منهما في مكان الآخر يكون من الأغلاط المسلّمة ، مع أنّ هذه النقطة لو كانت مسلّمة أي كون الحروف والأسماء متّحدين ومشتركين من جهة أصل طبيعيّ المعنى فلا بدّ من أن يكون استعمال كلّ واحد منهما في معنى الآخر بمكان من الصحّة مع أنّ عدم صحّة ذلك واضح على نحو الشمس في رابعة النهار.

بيان ذلك أنّ من المسلّمات صحّة استعمال اللفظ في معنى آخر بأدنى مناسبة وجدت بينهما في المحاورة ، بل إنّ ذلك مورد قبول عند كلّ من الأصحاب ، فإذا كان ذلك الاستعمال صحيحا فلا ينبغي لك الشكّ في الحكم بالصحّة في مورد استعمال الحروف في مكان الأسماء على وجه الأولويّة ، إذ أي مناسبة يمكن أن تفرض لصحّة الاستعمال من اتّحاد المعنى واشتراكهما في أصل طبيعي المعنى ؟ والحال أنّ الاستعمال فيما نحن فيه ـ علاوة على عدم صحّته ـ لا شكّ لأحد في كونه من الأغلاط الواضحة عند الكلّ.

وبالجملة ، مضافا إلى ما ظهر لك من بطلان هذا القول عند تكلّمنا في بيان أصل حقيقة معنى الحرفي في حدّ ذاته ، فإنّ استعمال كلّ واحد من الاسم والحرف في معنى الآخر يكون من الأغلاط عند الأصحاب في المحاورة ، والحال أنّه لا شكّ في صحّة استعمال اللفظ في غير ما وضع له بأدنى مناسبة من المناسبات الموجودة فيه.

مع أنّ المعنى الحرفي والاسمي لو كانا متّحدين بحسب الحقيقة والطبيعة

١٢٧

فلا بدّ من أن يكون استعمال كلّ منهما في معنى الآخر بمكان من الصحّة بالوجدان والضرورة ؛ إذ أيّ مناسبة تكون أقوى في حسن صحّة استعمال أحد اللفظين في مكان الآخر من اتّحادهما في الموضوع له والمسمّى من حيث طبيعي المعنى بحسب الواقع والحقيقة ؟ مع أنّه لا شكّ ولا شبهة في كون استعمال كلّ واحد من الاسم والحرف في مكان الآخر يعدّ من الأغلاط الواضحة كالافق المبين بالقطع واليقين.

وملخّص الكلام في بطلان النقطة الاولى أنّ لازمها صحّة استعمال كلّ من الاسم والحرف في مكان الآخر ، والحال أنّه من أوضح أقسام الأغلاط في المحاورة واللغة.

والوجه في ذلك هو أنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي وفي غير المعنى الموضوع له إذا كان جائزا من ناحية العلقة الخارجيّة والمناسبات الأجنبيّة ، مع فرض انتفاء العلقة الوضعيّة بينه وبين ذلك المعنى الحقيقي ، كان مقتضاه الحكم بالصحّة بمناط القطعيّة إذا كانت العلقة ذاتيّة وداخليّة بلحاظ اتّحاد المعنى الحقيقي بالنسبة إليهما. ومن الضروري أنّه كيف يمكن الحكم بصحّة الاستعمال إذا كانت المناسبة الشباهة الخارجيّة وجهة من جهات أجنبية ، والحكم بعدم الصحّة إذا كانت المناسبة هي الاتحاد في المعنى الذي يعدّ من المناسبات الداخليّة والذاتيّة ؟

وبعبارة أفصح : إنّ القدر الجامع في إثبات الأولويّة بالنسبة إلى ما نحن فيه في صحّة هذا الاستعمال ـ أي استعمال الحرف في مكان الاسم والاسم في مكان الحرف ـ وبين صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازي ، هو انتفاء العلقة الوضعيّة في كليهما معا.

ولكن لذلك الاستعمال جهة مزيّة خاصّة بها يتقدّم ويمتاز على ذلك

١٢٨

الاستعمال ، وهي عبارة عن أنّ الاستعمال هنا استعمال في المعنى الموضوع له ، لفرض اتّحادهما واشتراكهما في أصل طبيعي المعنى الواحد فيهما ذاتا ، بخلاف ذاك الاستعمال ، فإنّه استعمال مجازي في غير ما وضع له بلحاظ جهة شباهة من المناسبات والعنايات الخارجيّة.

فلا يذهب عليك أنّه إذا صحّ ذلك الاستعمال مع هذه المناسبة الاعتبارية الضعيفة ، فكيف يمكن أن لا يكون صحيحا بالاتكاء على ذلك الدليل المعتمد الأصيل ، مع أنّه ليس بصحيح ، بل هو من الأغلاط الواضحة في المحاورة ؟

فانقدح ـ بما ذكرناه في المقام إلى حدّ الآن بأوضح وجه من البيان ـ عدم اتّحاد الحرف والاسم بوجه من الوجوه من حيث المعنى ، على أنّهما على حدّ من التباين مع أنّه لا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد ، فلا يجوز استعمال أحدهما في مكان الآخر حتّى على نحو المجاز. وذلك دليل على أنّهما من المتباينين من حيث الحقيقة والذات بحيث لا يصحّ اجتماعهما في الاستعمال حتّى على نحو العناية والمجاز.

وأمّا الإيراد على النقطة الثانية ، فلا يخفى عليك أنّ الآليّة والاستقلالية التي ذكروهما في المعنى الحرفي والاسمي أصلهما مأخوذ من مير سيّد شريف ، فهو شيّد أركانهما بالتنظير والتمثيل بالمرآة حيث قال :

إنّ الإنسان ربّما ينظر في المرآة بالاستقلال بعنوان الخبرويّة ودرك عنصرها ولأجل تشخيص أبعادها من العرض والطول والقطر وما لها من الصفاء والجودة من حيث القارورة ، واخرى ينظر فيها من حيث الآليّة والطريقيّة لأجل أن يرى صورته بالانعكاس فيها ، فيكون النظر الثاني فيها بعنوان أنّها تكون وجها لإراءة الغير على نحو يكون ذلك هو الملاك التامّ للنظر إليها بحيث لو لا ذلك لما ينظر فيها.

١٢٩

وكيف كان فإنّ ملاك الآليّة في الحروف وملاك الاستقلاليّة في الأسماء ، الذي اخذ ميزانا في الفرق بين الحرف والاسم في النقطة الثانية ، لا يسمن ولا يغني من جوع ، فلا يمكننا المساعدة عليهما بوجه من الوجوه ، بل بطلانهما أظهر من أن يخفى.

بيان ذلك : أمّا أوّلا فمن جهة أنّ الآليّة قد تلاحظ في المعاني الاسميّة أيضا ، وذلك مثل ما إذا كان الاسم عنوانا وكاشفا لإراءة الغير من الأفراد الداخلة تحته كالموارد التي يكون الوضع فيها عامّا والموضوع له خاصّا ، على أنّ هذا الأساس من أصله يكون باطلا ، وذلك من جهة أنّه لا شكّ ولا شبهة أنّه في بعض الموارد يكون الواقع والمعنى من حيث التحقّق معلوما مشخّصا لنا من دون أيّ احتياج في ذلك إلى دلالة حرف من الحروف.

وذلك مثل ما إذا كنّا على يقين بدخول زيد في دار من البيت على نحو الإجمال ، ولكن دخوله يكون في دار أيّ شخص من الأشخاص على نحو التعيين غير مشخّص لنا. إذن لا شكّ في أنّك لا تحتاج في هذه الصورة إلى دلالة كلمة (في) على دخول زيد في الدار ، لأنّك عالم بذلك من ناحية الخارج ، وعندئذ لا تكون كلمة (في) في هذه الصورة مرآة لإراءة هذا المعنى بوجه من الوجوه.

ويكون نظير ذلك أيضا فيما إذا كنت عالما بأنّ لهذا المال الموجود في الخارج الذي يكون في معرض التلف مالك على نحو الإجمال ، ولكن لا تدري بالتفصيل أنّه يكون معلّقا بزيد أو بعمرو ؛ إذ لا خفاء أنّه في هذه الصورة ليست لكلمة (لام) نحو مرآتية وآلية على الاختصاص ؛ إذ الاختصاص من الخارج معلوم ومشخّص.

فانقدح أنّ ما هو المعروف في الحروف بأنّ علقة الوضعيّة فيها اخذت على

١٣٠

نحو الآلية والمرآتية لا يرجع إلى أصل وأساس أصيل.

وبالجملة ، قد انتهى كلامنا إلى الجواب عن النقطة الثانية ، وملخّص الجواب كما تقدّم بالتفصيل أنّ لازم ذلك يشمل الجملة الاسميّة بأن تنقلب من الاسمية إلى الحرفية ، لوجود ملاك الحرفيّة فيها ، وذلك فيها إذا اتي في الكلام بذلك اللحاظ من الآلية والمرآتية ، نظير التبيّن المأخوذة في الآية الشريفة لجواز الأكل والشرب في قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ)(١) ؛ إذ لا شكّ في أنّها اخذت في الكلام مرآة وكاشفا على طلوع الفجر من دون أن يكون له دخل في حرمة الأكل والشرب بوجه من الوجوه ، وبهذا البيان ظهر لك في أنّ كون الكلمة متّصفة بالحرف لا يتوقّف على فرض لحاظه بالآلية والمرآتية.

وبعبارة اخرى : إذا كان الملاك والعلّة في صيرورة المعنى حرفيّا تارة واسميا مرّة اخرى منحصرا في خصوص لحاظ الآليّة في الحرف ولحاظ الاستقلالية في الأسماء ، بحيث يفرض المعنى بحدّ ذاته لا مستقلا ولا غير مستقلّ ، فكلّ ما كان النظر إليه آليا فهو معنى حرفي ، فيلزم صيرورة جملة من الأسماء حروفا. على أنّ ما اشتهر بين الأصحاب من أنّ المعنى الحرفي لا بدّ من أن يلاحظ آلة ، لا أساس له.

بيان ذلك : أنّه لا فرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في هذا الوجه بوجه من الوجوه بداهة ، إذ كما أنّ اللحاظ الاستقلالي وإرادة الآلي متعلّقان بالمعنى الاسمي في مرحلة الاستعمال ، كذلك قد يتعلّقان بالمعنى الحرفي ، فإنّه هو المقصود بالإفادة والإفهام في كثير من الموارد.

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

١٣١

بيان ذلك : يتّضح ذلك في مثل ما إذا كان عنصر الموضوع والمحمول معلومين عند المخاطب ، ولكنّه كان جاهلا بما لهما من الخصوصيّة ، وكان مورد السؤال تلك الخصوصية ، وأجاب الناطق عن تلك الخصوصية على طبق السؤال. فلا يخفى عليك أنّ السائل والناطق المجيب إنّما ينظران إلى هذه الخصوصيّة نظرة استقلالية.

وذلك مثل ما إذا كان أصل مجيء زيد مشخّصا معلوما ، ولكن كانت كيفيّة مجيئه غير معلومة ، بمعنى أنّه جاء منفردا أو لا بل مع غيره ، فتكون هذه الخصوصيّة موردا للاستفهام والسؤال ، فأجاب الناطق بأنّه جاء مع بكر. والغرض المنظور بالاستقلال والمقصد الأساسي كذلك عند الإفادة والاستفادة في مقام التخاطب في أمثال تلك الموارد ليس إلّا هذه الخصوصيّة فقط التي تكون من المعاني الحرفيّة من دون أيّ ربط بالمفهوم الاسمي ، فإنّه معلول بلا شكّ وريب.

وهذا الذي أشرنا إليه في المقام تعمّ به البلوى في غالب المحاورات عند الإفادة والاستفادة ؛ إذ النظر الاستقلالي والمقصد الأساسي من الإفهام والتفهّم في أمثال تلك الموارد مجلوب إلى هذه الخصوصيّات المتعلّقة بالمفاهيم الاسمية.

القول الثاني : في المعنى الحرفي ، وقد ذهب بعض إلى إنكار المعنى الحرفي من أصله (١) ، بمعنى أنّ الحروف لم توضع لمعنى ، بل إنّما وضعت لإراءة الخصوصيّة ؛ لتكون علامة لبيان كيفية إرادة مدخولاتها كحركات النصب والرفع

__________________

(١) قال في فوائد الاصول (١ : ٤٧) : حكي نسبة ذلك القول إلى الشيخ الرضي.

١٣٢

والجرّ غير موضوعة لشيء من المعاني ، وإنّما وضعت إعرابا لتكون علامة وقرينة لإفهام خصوصيّة من خصوصيّات من صدر عنه الفعل وممّن وقع عليه الفعل ، أي خصوصية الفاعلية بالنسبة إلى مدخولها.

وبالجملة ، فكما أنّ كلّ واحد من حركات الإعراب من الفتح والكسر والضمّ يفيد خصوصيّة متعلّقة بمدخولها من دون أن يكون وضعا بالنسبة إليها ، فكذلك وضع الحروف بالنسبة إلى بيان خصوصية مدخولها ؛ إذ الفتحة إنّما تكون العلامة التي تفيد خصوصيّة مدخولها من المفعولية ، كما أنّ الكسرة تفيد جهة اخرى من الخصوصية فيه ، كالضمّة التي تفيد جهة ثالثة من الخصوصيّات.

فتكون هذه النتيجة بعينها موجودة في كلّ واحد من كلمات الحروف ، إذ كلمة (في) تفيد إرادة خصوصية بالنسبة إلى الظرفية غير ما تتحصّل من كلمة (من) من الخصوصيّة ، وكذلك سائر الحروف مع كثرتها من دون أن يكون لها وضع متحقّق ومعان مخصوصة ليصحّ أن يقال : إنّها موضوعة بإزاء تلك المعاني.

وملخّص الكلام أنّ هذا القائل التزم بأنّه لا وضع ولا مفهوم للحروف بحسب الواقع ونفس الأمر ، بل هذه الحروف إنّما لوحظت في الكلام للخصوصيّات والتزيين نظير تقارن الكلام بألف ولام الزينة.

وبعبارة موجزة : إنّ الكلام في مقام التخاطب بلحاظ البلاغة والفصاحة في بيان جهات من الخصوصيات ربّما يقترن بتلك الحروف للإشارة إليها ، كإشارة الحركات الإعرابيّة من الفتح والكسر والضمّ ، التي تكون علامات الفاعلية والمفعولية والمضاف إليه وأمثال ذلك.

ولكنّ الإنصاف أنّ هذا القول كالقول الأوّل يكون كطرفي الإفراط والتفريط من حيث البطلان ، إذ لا يخلو من المناقضة.

بيان ذلك : أنّه في صدر العنوان التزم بعدم مفهوم محصّل للحروف بالذات

١٣٣

وفي نفس الأمر والواقع ، ثمّ عقّب كلامه بعد ذلك بأنّ الحروف إنّما اخذت في الكلام علامة وإشارة إلى الخصوصيات المقرونة به في مقام التخاطب والإفهام ، فكأنّه أقرّ بدلالة الحروف على تلك الخصوصيات ؛ إذ لا ينبغي الشكّ في أنّ القائل بالوضع والمفهوم للحروف لا يريد أزيد من ذلك.

وبعبارة اخرى : إنّ الخصوصيات التي دلّت عليها الحروف كما التزم بذلك هذا القائل ليست بعينها إلّا المعنى الحرفي الذي وضع الحرف بإزائه ، فالحروف بإقرار هذا القائل إنّما وضعت لتلك الخصوصيّات ؛ إذ المفروض أنّ تلك المعاني الحرفيّة من الخصوصيّات غير مستفادة من الأسماء ، لعدم دخولها في المفاهيم الاسمية ، فإذن لا مناص له من الالتزام بدلالة الحروف عليها ، فهذا الالتزام منه مساوق للاعتراف بوضع الحروف بإزاء تلك الخصوصيات ، ومع هذا الاعتراف إذا قال بعدم الوضع والدلالة للحروف فذلك يعدّ من التناقض في الكلام والالتزام ، فبطلانه لا يحتاج إلى البرهان.

فصارت النتيجة أنّ هذا القول إنّما يكون في نهاية التفريط ، كما أنّ ما ذهب إليه المحقّق صاحب الكفاية والشيخ الرضي في غاية الإفراط ، فانقدح بما ذكرنا في المقام من التوضيح حال المقيس عليه ، وهو عبارة عن حركات الإعراب بلا شكّ وارتياب.

القول الثالث : لا يخفى أنّه التزم جماعة بالمفهوم والوضع والمعنى للحروف ، ولكن في قبال المعنى الاسمي على نحو التباين أي المغايرة بينهما ، بمعنى أنّ معاني الحروف ليست كمعاني الأسماء ، ولكن في قبال المعاني الاسمية لها وضع ومعنى ، وأنّها تدلّ على تلك المعاني الخاصّة حسب ما يأتي الإشارة إليه.

١٣٤

وبالجملة ، فقد اختار جماعة من المحقّقين رحمهم‌الله تعالى أنّ للحروف معاني ولكن لا على نحو المعاني الاسمية ، بل إنّهما من حيث المفهوم متباينان بالذات والحقيقة ، ولكن مع اختلاف بينهم في بيان كيفية ما به التباين والامتياز بينهما.

فقد ذهب شيخنا الاستاذ قدس‌سره إلى أنّ التباين بينهما إنّما يكون بالإيجادية في الحروف وبالإخطارية في الأسماء ، وحاصل التفاوت بينهما أنّ المعاني الاسمية بتمامها مفاهيم إخطارية وموجودة في عالم المفهومية ، وأنّها تكون مستقلّة في حدّ ذاتها بما لها من الهويّة في ذلك العالم ، بخلاف المعاني الحرفية فإنّها عبارة عن المفاهيم الأدويّة ، وفي كيانها أنّها معان إيجادية في وعاء الكلام عند التخاطب من دون أن يكون لها نحو تقرّر في عالم المفهوميّة كالمفاهيم الاسمية ، بل لا استقلال لها بذاتها وحقيقتها في عالم المفهومية.

وحاصل الكلام : أنّ الموجودات في عالم الذهن إنّما تكون كالموجودات في عالم العين والخارج ، فكما أنّ في الخارج موجودات مستقلّة وموجودات غير مستقلّة ، فكذلك في عالم الذهن والإدراك تكون الموجودات على نوعين : مستقلّة وغير مستقلّة. نعم ، بينهما فرق من جهة أنّ في موطن المفاهيم لا فرق بين الجواهر والأعراض وسائر المفاهيم الاعتبارية والانتزاعيّة والإضافية ، بخلاف موطن الخارج ، لوجود الفرق بين الجواهر والأعراض ؛ لأنّ الجوهر يتحقّق في الخارج بنفسه بخلاف العرض ، فإنّه في الخارج لا يمكن أن يتحقّق إلّا في الموضوع.

وبعبارة أوضح : إنّ الموجودات في عالم العين على شكلين :

أحدهما : ما يكون له كيان ووجود مستقلّ بذاته لذاته في ذلك العالم ، مثل أنواع الجواهر كالنفس والعقل والصورة والمادّة والجسم ، ولأجل هذه الجهة

١٣٥

قالوا : إنّ وجودها في نفسه بنفسه لنفسه ، لا يحتاج في التكوّن والوجود إلى موضوع متحقّق آخر في الخارج.

والشكل الآخر : ما يكون له وجود غير مستقلّ كذلك في هذا العالم ، أي لا بدّ أن يتحقّق في موضوع ؛ ولأجل ذلك يكون غير مستقلّ ؛ لأنّ تحقّقه في الخارج متقوّم بالموضوع ، بمعنى أنّه إذا وجد وجد في الموضوع ، وذلك مثل المقولات التسع العرضية ؛ لأنّ وجوداتها متقوّمة بموضوعاتها ، فلا يمكن تصوّر أيّ عرض متحقّق في الخارج من دون تحقّق موضوعه الذي يتقوّم به ؛ ولأجل ذلك التزموا أنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه.

وبالجملة ، فإنّ المفاهيم الاسمية لها ثبوت بالاستقلال في عالم المفهوم من دون أيّ فرق في ذلك بين الجواهر المتقدّمة بأقسامها ولا الأعراض بأنواعها التسعة ؛ إذ كما يكون للحجر مفهوم في عالم المفاهيم والإدراك ، كذلك يكون للبياض والسواد وأمثالهما أيضا مفهوم بالاستقلال ، على نحو لو فرض أنّه لا مفهوم إلّا مفهوم البياض لكان له استقلال في ذلك الموطن ، من دون أن يكون محتاجا على الاتكاء بالغير بالنسبة إلى سائر المفاهيم ، بل إنّما يكون من هذا القبيل كلّ المفاهيم الاسمية حتّى مثل مفهوم الممتنع كمفهوم شريك الباري والعياذ بالله ، ومفهوم المتناقضين.

وبتعبير آخر : إنّ المعاني الاسمية ليست إلّا المفاهيم الاستقلالية التي لها واقعيّة في عالم التجرّد والإدراك ، على نحو لو فرض عدم وجود أيّ مدرك من العقلاء لها في الخارج ـ كخلوّ كرة الأرض من الإنسان قبل نزول آدم فيها من الجنّة ـ لكانت بما لها من الواقعيّة في عالم المفهوم باقية بحالها من المفهومية الاسمية ، بل لا تحتاج في تلك المواطن إلى الوضع والواضع ، لأنّ وضع الألفاظ بإزاء تلك المفاهيم ليس إلّا من جهة إحضارها إلى أذهان السامعين

١٣٦

في مقام التخاطب.

بل لو كان لنا طريق أحسن وأسهل في طريق التوسّل لإحضارها إلى الأذهان لكنّا مستغنين عن وضع الألفاظ لها ؛ لأنّ علّة الاحتياج إلى وضع الألفاظ ليست إلّا إحضار المعاني في أذهان السامعين في مقام التخاطب والاستعمال عند اقتضاء الحاجة إلى تلك المفاهيم في نظام الحياة الإنسانية.

فانقدح بما ذكرناه في المقام أنّ المعاني الاسمية تكون مستقلّة وأنّها تكون إخطاريّة لها ثبوت وقرار في عالم المفهوم ، بخلاف المعاني الحرفيّة ، إذ ليس لها قرار وثبوت في عالم المفهوم.

وبالجملة ، فقد انتهى كلامنا إلى بيان أحوال الموجودات في عالم العين والخارج ، وقلنا : إنّها تكون على شكلين ، وقد تكلّمنا بالتفصيل في وجود المستقلّ بما لا مزيد عليه ، فكذلك تكون الموجودات في عالم الذهن على نوعين :

منها : ما يكون له وجود مستقلّ في عالم المفهومية والذهن ، وذلك مثل مفاهيم الأسماء بجواهرها وما لها من الأعراض والامور الاعتبارية والانتزاعية ؛ إذ لا ريب في أنّ مثل مفهوم الإنسان والسواد والبياض وأمثالهما من المفاهيم المستقلّة بالذات إنّما تحضر في الأذهان بلا حاجة إلى أيّة معونة ونصرة من الخارجيّات ، بلا فرق في ذلك فيما إذا كانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن ، بل لو فرض أنّه لم يتحقّق في عالم الوجود مفهوم إلّا مفهوما واحدا من باب المثال لما كان هناك ما يمنع من خطوره في الذهن.

فانقدح أنّ حال المفاهيم الاسميّة في عالم المفهوم والذهن هو حال الجواهر في عالم العين والخارج.

ومنها : ما ليس له استقلال في ذلك العالم ، بل هو ـ كما تقدّم في بحث

١٣٧

الأمس ـ متقوّم بغيره كمعاني الحروف والأدوات ، فإنّها بحدّ ذاتها وفي أنفسها متقوّمة بغيرها متّكلة عليه على وجه لا استقلال لها في أيّ وعاء من الأوعية التي فرض وجودها فيه لنقصان في ذاتها ، فعدم الاستقلالية ليس إلّا من ناحية ذلك النقصان الذاتي. فبما ذكرنا تبيّن أنّ عدم الاستقلالية ليس إلّا من ناحية ذلك النقصان لا من جهة اللحاظ فقط ، ولأجل ذلك لا تتبادر هذه الخصوصيات منها عند التكلّم بها بوحدتها من دون إتيان متعلّقاتها في الكلام التركيبي ، ويشهد بذلك أنّه لو أطلقت كلمة (في) بوحدها بلا ذكر متعلّقها فلا يستفاد منها شيء من تلك الخصوصيات.

فصار حاصل ما ذكرناه في المقام أنّ المعاني الاسمية إنّما تكون من سنخ المعاني الإخطارية ، ولها ثبوت وقرار في عالم العين والمفهوم ، بخلاف المعاني الحرفية ، إذ ليس لها بالاستقلال ثبوت وقرار.

وبعبارة اخرى : لا شكّ ولا شبهة في أنّه ليس للحروف من حيث الاستقلال مفهوم بوجه من الوجوه ، بل إنّما الحروف وضعت لإيجاد الارتباط بين المفاهيم المستقلّة المتعدّدة عند التخاطب والتفاهم ، كقولك في مقام الإخبار : إنّ زيدا دخل في الدار ؛ إذ كلمة (في) إنّما وضعت لكي توجد الارتباط بين زيد والدار بالدخول أو الخروج أو البقاء ، وأمثال ذلك من الخصوصيات والتلبّسات من القيام والقعود والنوم واليقظة.

فيكون إيجاد الارتباط بين (زيد) و (الدار) اللذين لهما استقلال في وعاء المفهوم بواسطة كلمة (في) ، فيكون الموجد لهذا الارتباط بين هذين المفهومين هو كلمة (في) ، والأمر كذلك بالنسبة إلى سائر كلمات الحروف التي تجري في الكلام في كلّ محاورة ولسان كالكاف واللام وغيرهما.

فتحصّل أنّ سبب إيجاد الارتباط بين زيد والدار بالدخول ليس إلّا كلمة

١٣٨

(في) إذ لم يكن قبل مجيء كلمة (في) هذا النحو من الارتباط بين زيد والدار ، كما نرى نظير ذلك بين مضامين العقود والإيقاعات عند التلفّظ بإنشائهما بمثل صيغة «بعث واشتريت» اللتين هما سببان لإيجاد الملكيّة في عالم الاعتبار عند من يقول بأنّ هذه الحروف والألفاظ سبب لحصول التمليك والتملّك ، وذلك من جهة أنّ حقيقة التمليك والتملّك ثابت في عالم الاعتبار من حيث المفهوم ، إلّا أنّ التلفّظ بهذه الصيغ إنّما يسبّب إيجاد هذه المضامين في عين الاعتبار الخارجي.

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية في عالم المفهوم حال المقولات التسع العرضية في عالم العين والخارج.

إذا عرفت ذلك فلنا أن نقول : إنّه صار من الواضحات من جميع ما بيّنّاه في المقام أنّ المفاهيم الاسميّة بما أنّها كانت إخطاريّة وثابتة ومستقلّة ومتقرّرة في عالم المفهوم والمعنى ، فمن المستحيل أن تكون الأسماء والألفاظ موجدة إيّاها في الكلام ، لأنّها موجودات تكوينية ، ومن الضروري عدم إمكان كونها إيجادية بهذا المعنى أي بأن تكون الألفاظ سبب إيجادها ، بل إنّها تخطر إلى الذهن عند التكلّم بألفاظها ؛ إذ قد عرفت أنّ معانيها تتبادر في الذهن عند التكلّم بها سواء كانت مفردة أم كانت في كلام مركّب تأليفي ، إلّا أنّه لمّا لم تكن بينها رابطة ذاتية توجب ارتباط بعضها ببعض قضت الحاجة في مقام الإفهام والتفهيم بوجود رابط ليربط بعضها إلى البعض الآخر ، وهو منحصر في الحروف فقط وتوابعها ، فإنّ شأنها ليس إلّا إيجاد الربط بين المفهومين المتباينين المستقلّين.

ومن هذه الجهة قلنا : إنّ معانيها إيجادية محضة نسبية ككلمة (من) و (على) و (إلى) وأمثالها ، أو غير نسبية كألفاظ النداء والتشبيه والتمنّي والترجّي ، بل مطلق الحروف المثبتة بالفعل ، فإنّها في كلّ من القسمين موضوعة لإيجاد المعنى الربطي بين المظروف والظرف أي بين المفهومين من الاسمية في التركيب

١٣٩

الكلامي ، وذلك مثل كلمة (في) فإنّها جيء بها لإيجاد الارتباط بين الظرف والمظروف.

فكما أنّ كلمة (بعت) يوجد تلك المضامين المتقدّمة ، فكذا كلمات الحروف مثل كلمة (على) لأنّها لإيجاد معنى ربطي بين المستعلي والمستعلى عليه ، ونظير كلمة (من) لإيجاد الربط بين المبتدأ به والمبتدأ منه ، كما أنّ كلمة (بعت) يوجد تلك المضامين من التمليك والتملّك مع كلمة (اشتريت) ، فبما أنّه قبل إتيان كلمة (في) لم يكن أيّ ربط بين زيد والدار. وكذلك لم يكن شيء من الربط بين القيام وزيد قبل تحقّق الهيئة التركيبية بصورة (زيد قائم) ، فربط القيام ب (زيد) إنّما وجد بتشكّل تلك الهيئة التركيبية مع الفرق بأنّ الحروف بنفسها موجدة لهذا الارتباط الخاصّ.

فإذا عرفت المقصود من تفسير المعنى الحرفي بأنّه يكون غيريا لا نفسيا بخلاف المعنى الاسمي فأنت بالمقايسة تميّز بينهما كما هو حقّه.

وملخّص الكلام : أنّه لا ينبغي التشكيك لأحد في ما ذكرناه في المقام في بيان المعنى الحرفي ؛ إذ من الضروري عند صاحب الوجدان أنّه ليس لكلمة (في) في عالم المفاهيم مفهوم مستقلّ كمفهوم الظرفية والوعاء ليخطرا إلى الذهن كما يخطران إلى الذهن عند التكلّم بكلمة الظرفية والوعاء بالقطع واليقين.

فتحصّل أنّ الحروف في الكلام تكون نظير الخيط من باب المثال ، فكما أنّ الخيط يوجب الارتباط بين الأعداد المتباينة والمنفصلة من السبحة ، فكذلك الحروف. ولأجل ذلك يقولون : إنّ الحروف تدلّ على معنى في الغير والاسم يدلّ على معنى في نفسه. ومن هنا عرفت وجه تشبيه من ليس له احترام إلّا من ناحية الغير بالمعنى الحرفي ، لأنّه غير محترم بالذات وإنّما احترامه منحصر بالغير ، كمن يكون في أطراف المرجع الديني.

١٤٠