دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي

دراسات الأصول في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي أصغر المعصومي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-339-3
الصفحات: ٦٠٨

في صلاة الجماعة شرعا ، إلّا أنّ الناس لا يرونهم في مقام المتقمّص لهذه الشئون العظيمة السامية المقدّسة.

بل إنّ مثل هؤلاء الأشخاص إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر والمعصية لا يكون أوقع في نفوس الناس ، فيضحكون عليهم بمعنى الاعتراض بأن ليس ذلك في شأنكم ، إذ كنتم مرتكبين لتلك المعاصي الكبيرة ، مع أنّ هذه المناصب من المناصب العلمائيّة. فكيف بمنصب الإمامة والخلافة ، فإنّه بعد الرسالة يكون من أجلّ وأعظم المناصب الإلهية ، وكيف يمكن أن يناله الظالم الذي تلبّس بالظلم في لحظة من أوّل تكليفه وإن كان انقضى عنه الظلم في بعد تلك اللحظة ، فضلا عن العصاة بالكفر والشرك والظلمة العبدة للأصنام والأوثان في سنين متمادية.

وقد أشار إلى عدم نيلهم لذلك المنصب في الباقي من عمرهم بعد دخولهم في الإسلام بالاستبصار إطلاق الحكم في الآية المباركة وأخذ كلمة «لا ينال» في كلامه تعالى بصيغة المضارع من دون أن يقيّدها بزمن دون آخر.

والحاصل : أنّ فطرة الامّة والناس على أنّ المتقمّص لمنصب الإمامة والولاية الكبرى من الخلافة الإلهية ـ التي هي من أعظم المناصب في عالم الاعتبار بعد الرسالة ـ لا بدّ من أن يكون مثالا منزّها منحصرا ساميا للمجتمع من أوّل تولّده وتكليفه إلى آخر عمره من حيث التزكية والتجلية في سيرته وأخلاقه ودرايته وتوجّهه بالمبدإ والمعاد والمعرفة ، ومبرّأ عن أيّة منقصة خلقية وخلقية وقدوة للناس وزعيما وركنا وقائدا مثاليّا لهم ، فلو أنّ احدا اعتاد شرب الخمر والزنا أو اللواط في زمان ، كما تقدّم مفصّلا ، ثمّ تاب وترك وبعد ذلك ادّعى منصب الخلافة من الله ، فالناس في جبلّتهم يرونه من الكاذبين ولا يقبلون دعواه في ذلك ، لأجل أنّهم يرونه ساقطا بارتكاب تلك المعاصي عن شأنيّة ذلك المقام المنيع ، إذ الناس

٥٤١

لا يرونه قابلا لأن يتصدّى لهذا المنصب الإلهي ، بل يعتقدون أنّه تبارك وتعالى لا يجعله خليفة لهم.

فإنّ الخليفة هو ممثّل من قبله تعالى ، والممثّل من تلك الناحية المقدّسة ومن قبله لا بدّ من أن يكون مثالا روحيّا للبشر ، ونورا في الزجاجة الصافية في هداية الناس إلى مكارم الأخلاق ، ومربّيا لهم في سيرته ، وداعيا إلى الله تعالى بأخلاقه الحميدة وأعماله الرحيمة الكريمة ، ليكون أوقع في النفوس بالأثر الطيّب البعيد من الشكّ والريب ، كالطبيب الحبيب الخليل الشريف الذي يعالج الأمراض المزمنة صعبة العلاج بالحذاقة والرحمة ، كرسول ربّ العالمين أفضل الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه الأنجبين الأطيبين عليهم‌السلام.

ولا يذهب عليك أنّ هذا ليس بمعنى اعتبار العصمة قبل الخلافة ليقال : إنّها لا تعتبر قبلها ، بل من جهة أنّ الخلافة لعلوّ شأنها وجلالة قدرها ومكانتها لا بدّ أن يكون المتصدّي لها مثالا أعلى للمجتمع الإنساني في علوّ الشأن وجلالة القدر والمكانة ، فمن عبد الوثن في زمن طويل كيف يكون أهلا لذلك ، وكيف يجوز أن يجعله الله تعالى ممثّلا وهاديا وسراجا منيرا في هداية الامّة. والحال أنّه كغيره من أفراد الامّة ولا امتياز له عن البقيّة في شيء.

وقد كفاك شاهدا على المدّعى أنّ المرتكز في أذهان العرف سقوط العاصي عن شأنيّة التصدّي للامور الخطيرة ، بل لا بدّ من أن يكون المتصدّي من قبل زمان تكليفه معروفا بالإيمان والأمانة والصداقة والسلامة والتقوى ، وغير مرتكب لشيء من الظلم والعصيان فضلا عن النفاق والكفر والشرك ؛ لأنّ المرتكب لتلك المعاصي يسقط في أنظار الناس عن أهليّة ذلك المقام المنيع ، بحيث لا يرون له توقيرا ، فضلا عن أن يصدّقون أنّه قائم بمقام المرجعيّة ، فكيف بمقام الإمامة والخلافة ، بل إنّه إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر يقومون في

٥٤٢

مقابله معترضين عليه بأنّك لست أهلا لذلك ، لأنّك كنت مباشرا لمخالفة المعروف وارتكاب المعاصي بالعمد والاختيار.

وقد تلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ المتصدّي لمنصب الخلافة علاوة على العصمة الإلهيّة التي لا ربط لها بالعرف لا بدّ من أن يكون واجدا لتلك اللياقة والأهلية بعدم قربه بالظلم والمعاصي والصفات الرذيلة من قبل زمان بلوغه إلى زمان موته.

على أنّه لا بدّ من أن يكون واجدا لجميع الصفات الفاضلة والأوصاف الحميدة من العلم ، والحلم ، والحكمة ، والصبر ، ومكارم الأخلاق ، والزهد ، والورع ، والتقوى ، والخشية ، والعلم على حدّ الأعلى ، حتّى يكون لحكومته هيبة ووقار عظيم عند عامّة الناس والامّة والملّة.

فانقدح بذلك البيان تمامية دلالة الآية الشريفة في الجهة التي تمسّك الإمام عليه‌السلام بها على عدم نيل الظالمين لمنصب الخلافة ولو كانوا من نسل إبراهيم الخليل.

ومن العجائب أنّ الفخر الرازي مع كونه من الملتزمين بكون المشتقّ حقيقة في المتلبّس فقط مع ذلك قال : يشترط في الخليفة أن لا يكون متلبّسا بالظلم (١) ، والحال أنّه صدّق خلافتهم مع علمه بكونهم متلبّسين بالكفر والشرك والظلم في سنين متمادية وليس هذا إلّا من جهة أنّه تعالى شأنه يجري الحقّ على لسان العدوّ.

والحاصل حدوث الظلم يكفي في عدم نيل الظالم لمنصب العهد والخلافة ، ونشاهد ذلك في من اجري عليه الحدّ وولد الزنا ، حيث لا يجوز الائتمام بهما

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ٤١ ، الطبعة الثانية في تفسير الآية : ١٢٤ من سورة البقرة.

٥٤٣

حتّى بعد تطهيرهما بالحدّ ؛ إذ قد ذكرنا كرارا لو أنّ أحدا اعتاد شرب الخمر والزنا أو اللواط في زمان ثمّ ترك وتاب ، وبعد ذلك ادّعى منصب الخلافة من الله تعالى لم تقبل دعواه ، من جهة أنّ الناس لا يرونه قابلا لأن يتصدّى لهذا المنصب الإلهي ، بل يعتقدون أنّ الله لا يجعله خليفة لهم ، فإنّ الخليفة هو ممثّل من قبله تعالى ، والممثّل من قبله لا بدّ أن يكون مثالا روحيّا للبشر ومربّيا لهم بسيرته ، وداعيا إلى الله تعالى بأخلاقه وأعماله ، ليكون أثره أثرا طيّبا وساميا في القلوب والنفوس ، وهذا كنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه الأطيبين عليهم‌السلام.

وليس معنى هذا اعتبار العصمة قبل الخلافة حسب ما تقدّم غير مرّة ليقال : إنّها لا تعتبر قبلها ، بل من جهة أنّ الخلافة بما لها من علوّ الشأن وجلالة القدر من المكانة لا بدّ أن يكون المتصدّي لها مثالا أعلى للمجتمع الإنساني في علوّ الشأن وجلالة القدر والمكانة.

فمن عبد الوثن في زمن معتدّ به كيف يكون أهلا لذلك ، وكيف يجعله الله تعالى ممثّلا وهاديا للامّة ؟ والحال أنّه كغيره من سائر أفراد الامّة ولا امتياز له عن البقيّة في شيء بوجه من الوجوه الاعتبارية ، وهذا ممّا يقتضيه طبع المقام بمناسبة الحكم والموضوع عند الاعتبارات العقلائية.

وممّا يؤكّد ذلك المطلب هنا الأمران اللذان اخذ أحدهما في متن الآية المباركة أيضا :

الأوّل : نفس إطلاق الحكم فيها ، فإنّ الإتيان بصيغة المضارع في الآية الشريفة ، وهي كلمة «لا ينال» بلا تقييدها بوقت خاصّ يدلّ على عدم اختصاص الحكم بزمن دون آخر ، وأنّه ثابت أبدا لمن تلبّس بالظلم ولو آناً ما.

الثاني : ما قد ورد في عدّة من الأحاديث والروايات من النهي عن الصلاة

٥٤٤

خلف المحدود والمجذوم والأبرص وولد الزنا والأعرابي (١) ، فتدلّ على أنّ المتلبّس بأحد هذه العناوين غير لائق أن يتصدّى لهذا لمنصب الكبير ، لعدم المناسبة بينهما ، وهي بالأولويّة اليقينيّة القطعيّة تدلّ على أنّ المتلبّس بالظلم وعبادة الوثن أولى بعدم اللياقة للجلوس على كرسيّ الخلافة ، لعلوّ المنصب وعظمة قبح المعصية على أنّ المحدود بالحدّ الشرعي كما تقدّم آنفا في زمان ما لا يليق للمنصب المزبور إلى الأبد وإن تاب وطهر بعد ذلك وصار من الأتقياء الأبرار الأخيار.

فانقدح بما أوضحنا لك في المقام أنّ النتيجة المطلوبة من الآية المباركة من الاستدلال بها على عدم لياقة عبدة الأصنام للخلافة أبدا غير مبتن على النزاع في وضع المشتقّ للأعمّ أو لخصوص المتلبّس بالمبدإ ، بل ومن مطاوي ما ذكرناه ينقدح أنّه لا تترتّب ثمرة على النزاع في وضع المشتقّ أصلا وأبدا بالقطع واليقين ، وذلك من جهة أنّ الظاهر من العناوين الاشتقاقيّة المأخوذة في موضوعات الأحكام أو متعلّقاتها بنحو القضايا الحقيقيّة هو أنّ فعلية الأحكام تدور مدار فعليّتها حدوثا وبقاء ، وبزوالها يزول الحكم بالقطع واليقين لا محالة وإن قلنا بأنّ المشتقّ موضوع للأعمّ ، فمن هذه الجهة لا فرق بينها وبين العناوين الذاتية.

نعم ربما ثبت في بعض الموارد بمناسبة الحكم والموضوع من ناحية المناسبة الداخلية أو الخارجية أنّ حدوث العنوان علّة محدثة ومبقية معا ، وقد تقدّم في خلال البحث التذكير بمثل هذا العنوان المأخوذ في الحكم كرارا ومرارا ، كمثال

__________________

(١) منها : حسنة زرارة وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام. راجع الوسائل ٨ : ٣٢٥ ، الباب ١٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٦ ، والصفحة ٣٢٤ ، الحديث ٣.

٥٤٥

الظلم الذي يمنع الظالم عن تصدّي العهد من الإمامة والخلافة.

وعلى كلّ حال فلا أثر للقول بأنّ المشتقّ وضع للأعمّ أو للأخصّ في أمثال تلك الموارد ؛ إذ على كلا الشكلين والتقديرين كانت الأحكام في فعليّتها تابعة لفعليّة العناوين المأخوذة في متعلّقاتها وموضوعاتها ، وبانقضائها وزوالها عن ذات المتلبّس بها تنقضي الحكم من الأصل والأساس كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه بتاتا.

ومن هذه الناحية لم يذهب أحد من فقهائنا إلى ترتّب أحكام الحائض والنفساء والمستحاضة والزوجيّة وما شاكلها بعد انقضاء المبدأ عنها ، حتّى على القول بكون المشتقّ موضوعا للأعمّ ، بل الحقّ أنّه لم يحتمل ابتناء هذه المسائل وما شاكلها على النزاع في مسألة المشتقّ.

فانقدح لك في نهاية الشوط أنّ المسألة تبقى بلا ثمرة مهمّة ليعتمد عليها.

وقد بقي الكلام بالنسبة إلى ما تقدّم من الفخر الرازي أنّ ما نسبه شيخنا الاستاذ (١) إليه من أنّه اعترف بدلالة الآية الشريفة على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة للخلافة الإلهيّة أبدا ، لكونهم متعبّدين للوثن والصنم في زمان معتدّ به في ذلك الزمان فيشملهم قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، فتدلّ على عدم اللياقة إلى الأبد ، غير صحيح ، فمن أراد الاطلاع فليرجع إلى كلامه في كتابه عند استدلاله بالآية الشريفة.

هذا تمام الكلام في بيان استدلال الإمام بالآية المباركة في عدم لياقتهم للخلافة.

وفي الختام فإنّ النتيجة الحاصلة من جميع ما ذكرناه حول القولين بالنسبة إلى

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٨٢.

٥٤٦

وضع المشتقّ امور متعدّدة :

الأوّل : أنّ الوضع للمتلبّس أو الأعمّ غير مبتن على القول بالبساطة والتركيب في المفاهيم الاشتقاقية.

الثاني : أنّ تصوير الجامع على القولين ـ البساطة والتركيب ـ ممكن بأحد الوجهين المتقدّمين.

الثالث : أنّ المشتقّ موضوع للمتلبّس دون الأعمّ وذلك بوجوه :

الأوّل : التبادر.

والثاني : صحّة السلب.

والثالث : ارتكاز التضادّ بين المشتقّين المتضادّين في المبدأ.

الرابع : أنّ قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) دلّ على عدم لياقة عبدة الأوثان والأصنام للخلافة الإلهية أبدا.

الخامس : أنّه لا ثمرة تترتّب على النزاع في وضع المشتقّ.

هل المشتقّ بسيط أم مركّب ؟

وقد انتهى كلامنا إلى بيان كيفية بساطة المشتقّ أو تركيبه.

واعلم أنّه وقع الكلام في أنّ المفاهيم الاشتقاقية بسيطة ، أو أنّها مركّبة ، وعليه فالمسألة ذات قولين.

ذهب المشهور من المتأخّرين إلى بساطتها ، منهم السيّد الشريف (١) والمحقّق الدواني (٢) قدس‌سرهما خلافا لجماعة منهم : صاحب شرح المطالع ، لأنّه ذهب إلى التركيب ، حيث قال في مقام تعريف الفكر : بأنّه ترتيب امور معلومة لتحصيل

__________________

(١ و ٢) حاشية شرح المطالع : ١١.

٥٤٧

أمر مجهول (١).

إذ أنّهم قد عرّفوا الفكر بأنّه عبارة عن ترتيب امور معلومة لتصوّر أمر مجهول ، كتركيب تأليف جملة (حيوان الناطق) لكشف حقيقة الإنسان الذي كان أمرا مجهولا للمتفكّر.

وقد اورد على ذلك التعريف بأنّه يصحّ تعريف الشيء بالخاصّة وبالفصل وحده ، بمعنى أنّ معرّف الأمر المجهول يمكن أن تكون خاصّة من خواصّ الشيء أو فصله وحدّه ، إذ يصحّ أن يقال في جواب «الإنسان ما هو» : بأنّه الضاحك ، من دون أن يكون محتاجا إلى ترتيب عدّة من الامور المعلومة ، بلا لزوم أن يكون ذلك التعريف بالحدّ أو بالرسم التامّ.

فيصحّ أن يقال في مقام التعريف بالخاصّة كما تقدّم آنفا : الإنسان ضاحك ، بالرسم الناقص ، كما يمكن أن يكون بالحدّ أو بالرسم التامّ.

وبالجملة لا يجب أن يكون التعريف دائما بالحدّ أو بالرسم التامّ ، بل كما يمكن أن يكون به ، يمكن أن يكون بالحدّ أو الرسم الناقص ، فيقال : الإنسان ضاحك أو ناطق ، فلا يكون تعريف الفكر بهذا تعريفا جامعا لخروج تعريف الشيء بالحدّ أو الرسم الناقص عنه ، لعدم ترتيب امور معلومة فيه ، بل التعريف في ذلك الحين ليس إلّا بأمر واحد.

وقد أجاب عنه صاحب المطالع قدس‌سره (٢) بأنّ المعرّف بحسب المفهوم والإدراك وإن كان أمرا بسيطا ، إلّا أنّه بحسب التحليل العقلي ينحلّ إلى التركيب ، لأنّ الضاحك والناطق والماشي وأمثالها عند التحليل العقلي عبارة عن الشيء الذي

__________________

(١) شرح المطالع : ١١.

(٢) راجع شرح المطالع : ١١.

٥٤٨

ثبت له الضحك والنطق والمشي. فإذن يكون التعريف في محلّه ، إذ الخاصّة أو الفصل وإن كانت في بداية الأمر وبالنظر السطحي أمرا واحدا ، إلّا أنّها في الواقع ونفس الأمر في النظر الدقيق كما تقدم آنفا تنحلّ إلى ذات ونطق ، كما أنّ الأمر كذلك في مثال الضاحك ، فلا يكون هنا ترتيب أمر واحد ، بل ترتيب امور معلومة عند النفس لتحصيل شيء مجهول.

وأشكل عليه المحقّق الشريف في الهامش : بأنّه لا يمكن أخذ الشيء في مفهوم المشتقّ ، وذلك لأنّ المأخوذ فيه إن كان مفهوم الشيء فيلزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضرورية ، فمن باب المثال جملة «الإنسان ضاحك» قضية ممكنة ، فإذا انحلّت إلى قولنا : «الإنسان إنسان له الضحك» صارت قضيّة ضروريّة ، لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، وهو خلف (١).

وقد أورد على هذا الجواب سيّد مير شريف في حاشية المطالع بأنّ المراد من الضاحك إذا كان هو الشيء الذي ثبت له الضحك أو النطق ، فذلك مستلزم لأن يكون عرض العامّ داخلا في الذاتي ، لأنّ النطق إنّما يكون من ذاتيّات الإنسان ، بخلاف الشيء ، فإنّه عرض عامّ يطلق على جميع الأشياء حتّى على نفسه في عالم المفهوم.

هذا إذا كان المراد من الشيء هو مفهومه المطلق العامّ الذي يتبادر إلى الذهن عند الإطلاق ، وإذا كان المراد من الشيء مصداقه فتنقلب القضية الممكنة إلى الضروريّة.

وكيف كان لا شكّ في أنّ كلّ واحد من صاحب المطالع وسيّد مير شريف معترف بأنّ المفهوم المشتقّ الذي يتفاهم من اللفظ عند الإطلاق يكون بسيطا ،

__________________

(١) انظر هامش شرح المطالع : ١١.

٥٤٩

بل ذلك من المتسالم عليه عند الكلّ بلا نزاع فيه منهم ؛ إذ لا يخفى أنّ المستفاد من لفظ (القائم) إنّما يكون هو الشيء البسيط الذي يعبّر عنه في لغة الفرس بالراست ، كما أنّ المتفاهم من إطلاق لفظ (الإنسان) يكون عبارة عن مفهوم الذي لا تأليف ولا تركيب فيه عند الاستظهار والإدراك إذا لم يكن السامع ملتفتا إلى الحيوان الناطق.

فعلى هذا الضوء من البيان انقدح أنّ محلّ النزاع هو البساطة والتركيب بحسب التحليل والواقع النفس الأمري ، لا بحسب الإدراك والتصوّر وخطور المفهوم في الذهن من الإطلاق ، وذلك من جهة أنّ البساطة الإدراكيّة تجتمع مع تركّب المفهوم حقيقة ، ضرورة أنّ المستفاد في مرحلة التصوّر من كلّ لفظ مفرد عند الإطلاق معنى بسيط ، سواء كان في الواقع بسيطا أم مركّبا ، من دون أيّ فرق في ذلك الذي ذكرناه بين المشتقّات وغيرها من الألفاظ التي تدلّ على المعنى.

فإذن لا وجه من حيث المعنى لجعل محلّ البحث البساطة والتركيب بحسب التصوّر والإدراك.

ولأجل ذلك اعترف شارح المطالع ـ كما تقدّم آنفا ـ بالبساطة اللحاظية ، إلّا أنّه قال : ينحلّ إلى شيئين بالدقّة التحليليّة العقليّة ، بمعنى ذات متّصفة بمبدإ الضحك والنطق.

ومن المؤكّدات على ذلك تصدّي المحقّق الشريف لإقامة البرهان على البساطة بأنّ الالتزام بالتركيب مستلزم لأحد المحذورين المتقدّمين ، وظاهر أنّ إثبات البساطة اللحاظية لا يحتاج إلى مئونة البرهان والاستدلال ، إذ المعتمد الوحيد والمرجع الأصيل لإثباتها ليس إلّا فهم أهل العرف والمحاورة واللغة من اللفظ ، دون التحليلات الدقّية والعقلية ، والظاهر أنّه لا إشكال في أنّهم يفهمون

٥٥٠

من المشتقّ معنى واحدا كما يفهمون من غيره من الألفاظ المفردة ذلك (١).

ولا ينقضي تعجّبي من المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) فإنّه مع تأكيده على بساطة المشتقّ مفهوما فقد التزم بالتركيب ، وإنّ صدور ذلك منه غريب ؛ لأنّه قال ما هذا لفظه : (إرشاد ، لا يخفى أنّ معنى البساطة بحسب وحدته إدراكا وتصوّرا ، بحيث لا يتصوّر عند تصوّره إلّا شيء واحد ـ لا شيئان ـ وإن انحلّ بالتأمّل والدقّة من ناحية العقل إلى شيئين ، كانحلال مفهوم الحجر والشجر إلى شيء له الشجريّة والحجريّة ، وهكذا الإنسان والحيوان والخشب والحديد وأمثال ذلك مع وضوح بساطة مفهومها.

والمتلخّص : لا تنثلم بالانحلال إلى الاثنينية بالتعمّل العقلي الدقيق وحدة المفهوم والمعنى وبساطته ، كما هو واضح لا يخفى على أحد. وإلى هذا المطلب والمعنى يرجع الإجمال والتفصيل الفارق بين المحدود والحدّ مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا ، وإنّما العقل بالتأمّل يحلّل النوع ويفسّره ويفصّله إلى جنس وفصل بعد ما كان أمرا واحدا إدراكا ، ومفهوما فاردا خطورا وتصوّرا ، وليس عمل التحليل إلّا فتق ما هو من الجمع والرتق.

بيان التعجّب والغرابة منه قدس‌سره عبارة عمّا تقدّم وعرفت من أنّ ما يصلح لأن يكون موردا للبحث والمناقشة والنزاع هو البساطة والتركيب بحسب التحليل العقلي ، لا بحسب الإدراك والتصوّر ؛ إذ من البديهي الضروري أنّ البساطة اللحاظية لا تصلح لأن تكون مدارا للنزاع ومحورا للبحث ومحلّا لتصادم الأدلّة والبراهين العقلية ، بل لا تقع تحت أيّ شيء من المباحث العلمية بلا ريب وشكّ

__________________

(١) هامش شرح المطالع : ١١.

(٢) راجع كفاية الاصول : ٧٤.

٥٥١

كما لا يخفى.

وقد تقدّمت آنفا الإشارة إلى ذلك بأنّ المرجع في إثباتها ليس إلّا فهم العرف والمحاورة الإدراكيّة الظاهريّة ، دون التعمّقات العقليّة ؛ إذ في لوح الذهن لا ينعكس بحسب الواقع إلّا انطباع صورة علميّة واحدة فاردة ، وليس الذهن إلّا مرآتها ، أي مرآة تلك الصورة الواحدة ، سواء كانت قابلة للانحلال والتعدّد والتركيب في الواقع ، كمفهوم الإنسان وأمثاله أم لم تكن ، فمعيار البساطة ومناطها اللحاظية وحدة المفهوم إدراكا ، بل وحدة المفهوم في مرحلة التصوّر في كلّ مفهوم ومدلول للفظ واحد ممّا لم يقع لأحد فيه ريب وشكّ.

وتلخّص من هذا البيان أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره بحسب النتيجة ذاهب إلى التركيب دون البساطة.

وعلى كلّ حال المشهور بين الفلاسفة (١) والمتأخّرين من الاصوليين ومنهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) بساطة المشتقّ في مفاهيم الاشتقاقيّة ، مع إصرارهم الأكيد على أنّه لا فرق بينها وبين المبادئ حقيقة وذاتا ، وإنّما الفرق بينها بالاعتبار بلحاظ الشيء مرّة لا بشرط ، واخرى بشرط لا ، خلافا لجماعة منهم شيخنا المحقّق قدس‌سره (٣) وصاحب شرح المطالع (٤) فذهبوا إلى التركيب.

ويجب علينا أوّلا تحقيق المطلب في أنّ المفاهيم الاشتقاقية بسيطة أو مركّبة ، ثمّ على تقدير التركيب فهل هي مركّبة من مفهوم الشيء والمبدأ أو من واقعه ؟

__________________

(١) انظر الحكمة المتعالية ١ : ٤١٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٦٥.

(٣) انظر نهاية الاصول ١ : ١٢٧.

(٤) شرح المطالع : ١١.

٥٥٢

وكيف كان لا شكّ في أنّ النزاع في البساطة والتركيب ليس في مقام الإدراك ، لأنّ بساطة المشتقّ في مقام الإدراك من الواضحات الاستظهارية عند الكلّ ، بل نزاع البساطة والتركيب في مفهوم المشتقّ مربوط بمقام التحليل والتأمّل العقلي بالتفصيل الدقيق الحقيق المتقدّم.

وعلى كلّ حال قد عرفت أنّ المعروف والمشهور بين المحقّقين المتأخّرين ـ ومنهم المحقّق الدواني والسيّد الشريف وفاقا لشيخنا الاستاذ قدس‌سره ـ بساطة المفاهيم الاشتقاقيّة ، بلا فرق بين المادة والمبدأ والهيئة ؛ لأنّ الهيئة بعينها عبارة عن المادّة ، وإنّما الفرق بينهما يكون بالوجوه والاعتبار.

نظير الإيجاد والوجود إذ الإيجاد بعينه عبارة عن الوجود في الواقع ونفس الأمر بحسب الحقيقة ، ولكن بينهما فرق بالوجوه والاعتبار ؛ إذ الوجود إن لوحظ بالنسبة إلى القابل يصير موجودا ، وإن لوحظ بالنسبة إلى الفاعل يكون إيجادا ، فيكون الفرق بينهما نظير الفرق بين العرض والعرضي كالبياض والأبيض.

ولكنّ الحقّ أنّها مركّبة لا بسيطة ، وتركّبها إنّما هو عبارة عن أخذ مفهوم الشيء فيها.

فلا يخفى عليك أنّ علينا هنا بيان دعويان :

الاولى : أنّ مفاهيم المشتقّات مركّبة لا بسيطة.

الثانية : أنّ الجزء الذي مركّبة منه عبارة عن مفهوم الشيء دون مصداقه.

وأمّا من ذهب إلى أنّها مركّبة من المبدأ ومصداق الشيء والذات فهو ذهب إلى الباطل بالقطع واليقين ؛ إذ أنّ ذلك مستلزم لأن يكون مفهوم المشتقّ متكثّر المعنى ؛ إذ من البديهي أنّ الذوات متباينة بالضرورة من الوجدان ، لأنّ ذات الجدار بعنصره مباينة لذات (زيد) كما أنّهما مباينتان لذات (الصلاة) وهكذا بالنسبة إلى بقيّة الذوات.

٥٥٣

فقولنا : زيد قائم والجدار قائم والصلاة قائمة ، فبالضرورة نجد أنّ تلك الذوات التي اخذت في كلّ واحدة من هذه الجمل مباينة للذات المأخوذة في غيرها ، إذ ذات (زيد) المأخوذة في القائم غير ذات (جدار) الذي اتّحد مع القائم في جملة : الجدار قائم أو في جملة الصلاة قائمة ، ومن الواضح أنّ الذات المأخوذة في كلّ واحدة من هذه الجمل مباينة للذات المأخوذة في غيرها.

فبذلك البيان انقدح أنّه إذا كان المأخوذ في مفهوم المشتقّ هو واقع الذات لتكثّر مفهوم القائم لا محالة ، فلا مناص من أن يكون الوضع عامّا والموضوع له خاصا ، وهذا لا يجتمع مع المفهوم العرفي ، بل يخالفه بالقطع واليقين ، كالشمس في الافق المبين ، وقد عرفت فيما سبق أنّ المشتقّات كالجوامد موضوعة لمعنى العامّ على نحو يكون الموضوع له فيها كالوضع عامّا ، من دون أن تكون من سنخ متكثّر المعنى ، بل إنّما تكون من سنخ متّحد المعنى ، كمعنى الجوامد الذي ليس من سنخ متكثّر المعنى.

فعلى هذا ظهر أنّ الأمر دائر بين بساطة المفاهيم الاشتقاقية وأخذ مفهوم الشيء فيها ، والحقّ كما عليه أهله مع الثاني دون الأوّل.

فإذا عرفت ذلك ، فلا يذهب عليك أنّه لا بدّ لنا قبل التكلّم في ذلك أن نفسّر لك ما هو المراد من الذات المأخوذة في مفاهيم المشتقّات ، لتكون أبصر بمحلّ البحث في هذا المجال وكيفية الحال.

فنقول : إنّ المراد منها ذات مبهمة مندمجة في نهاية الاندماج والإجمال والإبهام ، على نحو تكون عريانة عن كلّ قيد وتلبّس من التلبّسات والخصوصيّات والإضافات إلّا قيام المبدأ بها ، فهي لأجل إبهامها واندماجها قابلة للحمل على الواجب والممكن والممتنع على منهج واحد. فيكون المراد من الشيء عبارة عن المفهوم الكلّي المحض في نهاية الإجمال والإبهام

٥٥٤

والاندماج الذي تكون نسبة إطلاقه على تمام الموجودات من الجوامد والجواهر والأعراض والعرضي كالسرعة والشدّة وغير ذلك من الأمثلة على حدّ واحد ونسق فارد.

وبتعبير آخر فإنّ المراد من الشيء إنّما هو عبارة عن المفهوم المجمل الذي يعبّر عنه في اللسان الفارسي بال (چيز) على نحو من الإبهام ، بحيث لا يمكن الإشارة إليه إلّا ب (ما) الموصولة ، لأنّها في إبهامها تكون عين المبدأ أو غيره. ومن هذه الناحية يصحّ إطلاقه ـ كما تقدّم آنفا ـ على الجوهر والعرض ، والأمر الاعتباري والانتزاعي ، والزمان وما فوقه ، كالواجب تعالى وغيره بمنوال واحد وسلك فارد ، بلا لحاظ أيّ عناية في شيء منها.

وقد عرفت فيما سبق أنّها تكون كالموصولات في جهة الاندماج والإبهام ، لأنّها أيضا مبهمة من جميع القيود والخصوصيّات والجهات بنهايتها ، إلّا من ناحية صلتها ، ولأجل ذلك أدخل في سلك المبهمات.

وبذلك انقدح أنّ المشتقّ يكون كذلك من هذه الناحية ، ولأجل ذلك يصحّ التعبير عنها ب (ما) و (من) الموصولتين كما تقدّم غير مرّة ، أو بكلمة (الذي) على حسب شأن الموضوعات باعتبار كونها من سنخ ذوي العقول وغيرها من الموجودات والأشياء. فإذا قيل : «هذا هو العالم» فلا يتبادر منه بإطلاقه إلّا من هو متّصف بمبدإ العلم ، كما أنّه يكون كذلك في مثال القائم والماشي والكاتب والصابر ، إذ لا يتبادر منها عند الإطلاق إلّا من ثبت له القيام والمشي والكتابة والبصر ، وهكذا إلى آخر المشتقّات.

فإذا وقفت على ما بيّناه لك من التوضيح فاعلم أنّ ما يدلّك على تركيب المعاني الاشتقاقية التي أوضحناها لك بما لا مزيد عليه أمران ، وذانك الأمران يتلخّصان في الوجدان والبرهان.

٥٥٥

أمّا الأوّل : فلا يخفى عليك أنّ المتبادر في العرف والمحاورة من هيئة المشتقّ عند إطلاقها هو الذات المتلبّسة بالمبدإ على نحو الإبهام والاندماج ، فمن باب المثال أنّ من البديهي أنّ المتبادر من إطلاق لفظ (ضارب) هو تمثّل الذات المبهمة المتلبّسة بمبدإ الضرب في لوح نفس السامع في الواقع والوجدان. وبعبارة اخرى : وجدانيّة تلك الواقعيّة غير قابلة للارتياب والإنكار.

وأمّا الثاني : فلا يذهب عليك أنّ المراد من البرهان في المقام عبارة عن أنّه لا يعقل ولا يمكن لحاظ صحّة حمل المشتقّ على الذات إلّا من ناحية مساعدة أخذ مفهوم الشيء فيه ؛ إذ من البديهي غير القابل للإنكار أنّ المبدأ مغاير معها ذاتا وعينا بالقطع واليقين.

وأيضا من الواضحات أنّه مع هذه المغايرة لا يمكن تصحيح حمله عليها بأيّ وجه من الوجوه ، لمانعيّة هذه المغايرة فيما بينهما حقيقة وخارجا ، إذ مجرّد اعتباره لا بشرط لا يوجب اتّحاده معها ، ولا ينقلب عمّا هو عليه من المغايرة والمباينة ، إذ المباينة والمغايرة أمر واقعي بينهما لا اعتباري لتنتفي بأمر اعتباري آخر ، حسب ما تعرف بيانه عن قريب.

وعلى كلّ حال فقد انتهى كلامنا إلى بيان مراد من يقول ببساطة المشتقّ ، فلا يخفى عليك أنّ القائلين بالبساطة استدلّوا عليها بوجوه :

الأوّل : ما عن المحقّق الشريف (١) من أنّ الذات لو كانت مأخوذة في المشتقّات ، فلا يخلو الحال من أن يكون الملحوظ حال الوضع مفهوم الذات ، أو مصداقها.

فإن كان الأوّل لزم دخول العرض العامّ في الفصل كالناطق مثلا ، وهو محال ،

__________________

(١) انظر هامش شرح المطالع : ٨.

٥٥٦

لأنّ الشيء عرض عامّ ، فيستحيل أن يكون مقوّما للجوهر النوعي ، لأنّ مقوّمه ذاتي له ، والعرض العامّ خارج عنه.

وإن كان الثاني لزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضروريّة ، فإن جملة «الإنسان ضاحك» قضيّة ممكنة ، إذ الضحك بما له من المعنى ممكن الثبوت للإنسان ، فلو كان الإنسان الذي هو مصداق الشيء مأخوذا فيه لكان صدقه على الإنسان ضروريّا لا محالة ، لأنّه من ثبوت الشيء لنفسه.

والحاصل فقد عرفت أنّهم عرّفوا الفكر بأنّه عبارة عن ترتيب الامور المعلومة لتصوّر الأمر المجهول ، كتركيب قضيّة جملة «حيوان ناطق» في مقام تعريف الإنسان المجهول عند من يسأل عنه بأنّ الإنسان ما هو ؟ فيقال في جوابه : إنّه حيوان ناطق.

وقد أوردوا على هذا التعريف أنّ المعرّف لأمر المجهول ربما يكون خاصّة من خواصّه من دون لزوم أن يكون فصلا حقيقيّا من فصوله الواقعية ، إذ من الضروري الواضح صحّة أن يقال في جواب من سأل عن الإنسان بأنّه ما هو ؟ بأنّه : «ضاحك» من دون الاحتياج إلى ترتيب امور معلومة.

وقد أجاب صاحب المطالع عن ذلك الإيراد بأنّ المعرّف بحسب المفهوم والإدراك وإن كان بسيطا ، إلّا أنّه بالتحليل الدقيق العقلي يكون مركّبا ، إذ الناطق والضاحك والماشي وأمثالها ـ التي تؤخذ في الكلام بعنوان الجواب ـ وإن كان بسيطا بحسب الظاهر ، ولكن عند التحليل العقلي هو مركّب عن عدّة امور ، إذ قول المجيب في مقام تعريف الإنسان بأنّه ضاحك ، ينحلّ إلى أنّ الإنسان شيء ثبت له الضحك ، وهكذا النطق والمشي. فإذن عرفت أنّ التعريف يكون في محلّه وصدر من أهله.

وقد أورد المحقّق الشريف في حاشية المطالع على هذا الجواب بأنّ المراد من

٥٥٧

الناطق المأخوذ في الكلام عند الجواب في المشتقّات : إمّا أن يكون مفهوم الشيء حال الوضع ، أو ذات مصداق الشيء. فعلى الأوّل يلزم دخول العرض العامّ في الذاتي ، إذ الشيء عرض عامّ يقال على كلّ شيء حتّى على نفسه كما تقدّم ، والنطق ذاتي للإنسان ، فيدخل العرض العامّ في الذاتي. وعلى الثاني تنقلب القضيّة الممكنة إلى الضروريّة ، إذ الضحك بما له من المعنى ممكن الثبوت للإنسان ، فلو كان الإنسان الذي هو مصداق الشيء مأخوذا فيه لكان صدقه على الإنسان ضروريا لا محالة ، لأنّه من ثبوت الشيء لنفسه.

وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ كلّا من صاحب المطالع والسيّد مير شريف معترف بأنّ مفهوم المشتقّ الذي يتبادر إلى الذهن في مقام الإدراك عند الإطلاق يكون بسيطا ، بل يتلقّى منهما أنّ ذلك متسالم عليه عند الكلّ بلا نزاع فيه من أحد منهم ، إذ المستفاد من لفظ القائم ليس إلّا الشيء البسيط الذي يعبّر عنه بالفارسي بال (راست). كما أنّ المتفاهم من إطلاق لفظ الإنسان ليس إلّا المفهوم الذي يعرفه العرف كسائر المفاهيم المدركة عندهم من دون أيّ احتياج إلى أخذ الشيء فيه بالتفسيرين المتقدّمين من المفهوم أو المصداق ، لتلزم تلك المحذورات المتقدّمة.

ولأجل ذلك ذهبا إلى البساطة وفاقا لمشهور المحقّقين المتأخّرين ، بلا فرق في ذلك بين المادّة والهيئة ، إذ الهيئة بعينها هي المادّة في وعاء الواقع ، وإنّما الفرق بينهما يكون بالوجود والاعتبار ، نظير الإيجاد والوجود ، إذ الإيجاد بعينه عبارة عن الوجود من حيث الحقيقة ، وإنّما الفرق بينهما بالاعتبار ، إذ الوجود إن لوحظ بالنسبة إلى القابل يصير موجودا ، وإن لوحظ بالنسبة إلى الموجد والفاعل يسمّى إيجادا ، فيكون سنخ الفرق بينهما نظير العرض والعرضي كالبياض والأبيض.

٥٥٨

وأجاب صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وجماعة من الفلاسفة المتأخّرين منهم السبزواري في حاشيته على المنظومة (٢) عن ذلك الإيراد الذي أورده المحقّق الشريف على التركيب أنّ الناطق فصل مشهوري ، وليس بفصل حقيقي ليكون مقوّما للجوهر النوعي ، وذلك من جهة أنّ الاطلاع على معرفة حقائق الأشياء مختصّ بعلّام الغيوب ، لتعذّر معرفة غيره بها بما لها من الفصول الحقيقيّة ، بل الحقّ عدم إمكان وصول أحد إليها ما عدا خالقها وهو البارئ تعالى عزوجل ، ولأجل ذلك وضعوا مكانه ما هو لازمه وخاصّته ليعرفوه به ويشيروا به إليه.

فلا يخفى عليك أنّ الناطق ليس بفصل حقيقي فلسفي منطقي للإنسان ، بل هو فصل مشهوري بعنوان أظهر الخواصّ وضع مكانه ليشير به إلى الإنسان في مقام التعريف به والإشارة إليه به. وذلك من جهة أنّ النطق المأخوذ في مفهوم الناطق : إن اريد به النطق الظاهري الذي هو خاصّة من خواصّ الإنسان فهو كيف مسموع ، فلا يعقل أن يكون مقوّما للجوهر النوعي. وإن اريد به الإدراك الباطني ـ أعني إدراك الكليّات ـ فهو كيف نفساني وعرض من أعراض الإنسان أيضا ، فكيف يكون مقوّما له ؟ فإنّ العرض إنّما يعرض للشيء بعد تقوّمه بذاته وذاتيّاته وتحصّله بفصله وحدوده الواقعيّة.

وكيف ما كان ليس النطق فصلا حقيقيا للإنسان ، كما أنّ الناهق والصاهل ليس فصلا حقيقيا للحمار والفرس ، وذلك من جهة أنّ الفصول الحقيقيّة لا يمكن الاطّلاع عليها لغير علّام الغيوب ، هذا مع أنّ المراد من النطق إذا كان هو معناه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧١.

(٢) شرح المنظومة : ٣٥.

٥٥٩

اللغوي الذي هو عبارة عن التكلّم باللسان فيكون من مقولة كيف المسموع ، فيكون عرضا من الأعراض العارضة للإنسان. وإن كان بالمعنى الذي اصطلح عليه المنطقيون بأنّه عبارة عن إدراك الكليات مع كونه على خلاف الظاهر المتبادر عند العرف والمحاورة واللغة ، فلا شكّ أنّه بهذا التعبير يكون بمعنى العلم ، فيكون من الصفات النفسانيّة ، فلم يقل أحد أنّ العلم يكون فصلا جوهريا للإنسان في نوعه ، بل يكون عرضا للإنسان ، فإذا كان عرضا للإنسان فلا يلزم دخول العرض العام في الذاتي ، بل يكون من باب دخول العرض في العرض ، فليس في ذلك ضير بوجه من الوجوه.

فتحصّل أنّ النطق بأيّ معنى من المعنيين فسّر فلا يعقل أن يكون فصلا حقيقيّا مقوّما للجوهر النوعي للإنسان ، إذ على فرض كونه من الإدراك الباطني بمعنى إدراك الكليات فقد عرفت أنّه كيف نفساني وعرض من أعراض الإنسان أيضا ، فكيف يكون فصلا مقوّما له ، إذ العرض إنّما يعرض للشيء بعد تقوّمه بذاته وذاتياته وتحصّله بفصله.

على أنّ ما يرشد إلى هذا المعنى الذي ذكره قدس‌سره في المقام في معنى النطق أنّهم اعتبروا الناهق فصلا للحمار ، كما جعلوا الصاهل فصلا للفرس ، مع كونهما من مقولة كيف المسموع ، فلا يعقل أن يقوم الجوهر النوعي به.

ولأجل ذلك ربّما يجعلون لازمين وخاصّتين مكان فصل واحد ، فيقال في مقام التعريف : الحيوان حسّاس متحرّك بالإرادة ، فإنّ الحسّاس والمتحرّك بالإرادة خاصّتان للحيوان ، وليستا بفصلين بوجه من الوجوه ، إذ من الضروري عدم إمكان تعقّل كون شيء واحد يتقوّم بفصلين ، فإنّ كلّ فصل مقوّم للنوع وذاتي له ، فلا يعقل اجتماعهما في شيء واحد.

فانقدح بذلك البيان أنّه لا يلزم من أخذ الشيء في المشتقّ دخول العرض

٥٦٠