التيسير في التفسير للقرآن - ج ٤

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

سمع إبليس بأكل آدم عليه‌السلام فرح وتسلّى ببعض ما فيه ، وقال : سوف أغويه (١).

وقال جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام : «فلمّا نام آدم عليه‌السلام ، خلق الله من ضلع جنبه الأيسر ما يلي الشّراسيف (٢) وهو ضلع أعوج ، فخلق منه حوّاء ، وإنّما سميت بذلك لأنها خلقت من حيّ ، وذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها)(٣) فكانت حوّاء على خلق آدم عليه‌السلام ، وعلى حسنه وجماله ، ولها سبعمائة ظفيرة مرصّعات بالياقوت واللؤلؤ والجواهر والدّر ، محشوّة بالمسك ، شكلاء (٤) دعجاء (٥) غنجاء (٦) ، غضّة (٧) ، بيضاء ، مخضوبة الكفّين ، تسمع لذوائبها خشخشة ، وهي نفيسة متوّجة ، وهي على صورة آدم عليه‌السلام غير أنّها أرق منه جلدا ، وأصفى منه لونا ، وأحسن منه صوتا ، وأدعج منه عينا ، وأقنى منه أنفا ، وأصفى منه سنّا ، وأصغر منه سنّا ، وألطف منه نباتا ، وألين منه كفّا ، فلمّا خلقها الله تعالى ، أجلسها عند رأس آدم وقد رآها في نومه ، وقد تمكّن حبّها في قلبه ـ قال ـ فانتبه آدم عليه‌السلام من نومته فقال : يا ربّ ، من هذه؟ فقال الله تعالى : هذه أمتي حوّاء. قال : يا

__________________

(١) تحفة الإخوان : ص ٦٥ «مخطوط».

(٢) الشّرسوف : الطرف اللّيّن من الضّلع مما يلي البطن ، جمعها شراسيف. «المعجم الوسيط ـ شرس ـ ج ١ ، ص ٤٧٨».

(٣) النساء : ١.

(٤) الشكلاء : مؤنث الأشكل ، وهو ما فيه حمرة وبياض مختلطان. «أقرب الموارد ـ شكل ـ ج ١ ، ص ٦٠٦ ـ ٦٠٧».

(٥) دعجت العين : اشتدّ سوادها وبياضها واتّسعت ، فهي دعجاء. «المعجم الوسيط» ـ دعج ـ ج ١ ، ص ٢٨٤».

(٦) غنجت المرأة : تدلّلت على زوجها بملاحة ، كأنها تخالفه وليس بها خلاف. «المعجم الوسيط ـ غنج ـ ج ٢ ، ص ٦٦٤».

(٧) الغضّ : الطريّ الحديث من كلّ شيء. «المعجم الوسيط ـ غضّ ـ ج ٢ ، ص ٦٥٤».

٦١

ربّ ، لمن خلقتها؟ قال : لمن أخذ بها الأمانة ، وأصدقها الشّكر. قال : يا ربّ ، أقبلها على هذا. فتزوّجها ـ قال ـ فزوّجه إيّاها قبل دخول الجنّة».

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «رأى هذا في المنام وهي تكلّمه ، وهي تقول له : أنا أمة الله وأنت عبد الله ، فاخطبني من ربّك».

وقال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «طيّبوا النكاح ، فإنّ النساء عند الرجال لا يملكن لأنفسهن ضرّا ولا نفعا ، وإنّهنّ أمانة الله عندكم فلا تضارّوهنّ ولا تعضلوهن» (١).

وقال جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : «إنّ آدم عليه‌السلام رأى حوّاء في المنام ، فلمّا انتبه ، قال : يا ربّ ، من هذه التي أنست بقربها؟ قال الله تعالى : هذه أمتي ، وأنت عبدي ، يا آدم ، ما خلقت خلقا هو أكرم عليّ منكما ، إذا أنتما عبدتماني وأطعتماني ، وقد خلقت لكما دارا ، وسمّيتها جنّتي فمن دخلها كان وليّي حقّا ، ومن لم يدخلها كان عدوّي حقا. فقال آدم عليه‌السلام : ولك يا ربّ ، عدوّ وأنت ربّ السماوات؟ قال الله تعالى : يا آدم ، لو شئت أجعل الخلق كلّهم أوليائي لفعلت ولكني أفعل ما أشاء ، وأحكم ما أريد. قال آدم عليه‌السلام : يا ربّ ، فهذه أمّتك حوّاء قد رقّ لها قلبي ، فلمن خلقتها؟ قال الله تعالى : خلقتها لك لتسكن الدنيا فلا تكن وحيدا في جنّتي قال : فأنكحنيها يا ربّ. قال : أنكحتكها بشرط أن تعلّمها مصالح ديني ، وتشكرني عليها ، فرضي آدم بذلك ، فاجتمعت الملائكة ، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل أن اخطب. فكان الولي ربّ العالمين ، والخطيب جبرئيل الأمين ، والشهود الملائكة المقرّبين ، والزوج آدم عليه‌السلام أبا النبيّين ، فتزوّج آدم عليه‌السلام بحوّاء على الطاعة والتقى والعمل الصالح ، فنثرت الملائكة عليهما من نثار الجنّة» (٢).

__________________

(١) تحفة الإخوان : ص ٦٦ «مخطوط».

(٢) تحفة الإخوان : ص ٦٧ «مخطوط».

٦٢

وعنه : قال أبو بصير : أخبرني كيف كان خروج آدم عليه‌السلام من الجنّة؟

فقال الصادق عليه‌السلام : «لمّا تزوّج آدم عليه‌السلام بحوّاء أوحى الله تعالى إليه : يا آدم ، أن اذكر نعمتي عليك ، فإنّي جعلتك بديع فطرتي ، وسوّيتك بشرا على مشيئتي ، ونفخت فيك من روحي ، وأسجدت لك ملائكتي ، وحملتك على أكتافهم ، وجعلتك خطيبهم ، وأطلقت لسانك بجميع اللغات ، وجعلت ذلك كلّه شرفا لك وفخرا ، وهذا إبليس اللّعين قد أبلسته ولعنته حين أبى أن يسجد لك وقد خلقتك كرامة لأمتي ، وخلقت أمتي نعمة لك ، وما نعمة أكرم من زوجة صالحة ، تسرّك إذا نظرت إليها ، وقد بنيت لكما دار الحيوان من قبل أن أخلقكما بألف عام ، على أن تدخلاها بعهدي وأمانتي.

وكان الله تعالى عرض هذه الأمانة على السماوات والأرضين ، وعلى الملائكة جميعا ، وهي أن تكافئوا على الإحسان ، وتعدلوا عن الإساءة. فأبوا عن قبولها ، فعرضها على آدم عليه‌السلام ، فتقبّلها ، فتعجّبت الملائكة من جرأة آدم عليه‌السلام في قبول الأمانة ، يقول الله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(١) وما كان بين أن قبل الأمانة آدم وبين أن عصى ربّه إلا كان بين الظهر والعصر ، ثم مثل الله تعالى لآدم عليه‌السلام ولحوّاء ، اللعين إبليس ، حتى نظر إلى سماجته (٢) ، فقيل له : (هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى)(٣) ثم ناداه الربّ : إنّ من عهدي إليكما أن تدخلا الجنّة ، وتأكلا منها رغدا حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ، فقبلا هذا

__________________

(١) الأحزاب : ٧٢

(٢) سمج الشيء : قبح ، يسمج سماجة ، إذا لم يكن فيه ملاحة. «لسان العرب ـ سمج ـ ج ٢ ، ص ٣٠٠».

(٣) طه : ١١٧.

٦٣

العهد كلّه ، فقال : يا آدم ، أنت عندي أكرم من ملائكتي إذا أطعتني ورعيت عهدي ، ولم تكن جبّارا كفورا. وفي كلّ ذلك يقبل الأمانة والعهد ، ولا يسأل ربه التوفيق والعصمة ، وشهد الملائكة عليه.

ثم مكث آدم عليه‌السلام وحواء مكلّلين متوّجين مكرّمين لمّا دخلا الجنة حتى كانا في وسط جنّات عدن ، نظر آدم وإذا هو بسرير من جوهر ، له سبعمائة قائمة من أنواع الجواهر ، وله سرادقات (١) كثيرة ، وعلى ذلك السرير فرش من السندس والاستبرق ، وبين الفراشين كثبان من المسك والكافور والعنبر ، وعلى السرير أربع قباب : فيه الرضوان والغفران والخلد والكرم ، فناداه السرير : إليّ يا آدم ، فلك خلقت ، ولك زيّنت. فنزل آدم عن فرسه ، وحوّاء عن ناقتها ، وجلسا على السرير بعد أن طافا على جميع نواحي الجنة ثم قدّم لهما من عنب الجنة وفواكهها فأكلا منها ، ثم تحوّلا إلى قبّة الكرم ، وهي أزين القباب ، وعن يمين السرير يومئذ جبل من مسك ، وعن يساره جبل من عنبر ، وشجرة طوبى قد أظلّت على السرير ، فأحبّ آدم عليه‌السلام أن يدنو من حوّاء ، فأسبلت القباب ستورها ، وانظمّت الأبواب ، وتغشّاها وكان معها كأهل الجنّة في الجنّة خمسمائة عام من أعوام الدنيا في أتمّ السرور وأنعم الأحوال. وكان آدم عليه‌السلام ينزل عن السرير ، ويمشي في منابر الجنّة ، وحوّاء خلفه تسحب سندسها ، وكلّما تقدما من قصر نثرت عليهما من ثمار الجنّة حتى يرجعا إلى السرير ، وإبليس (لعنه الله) خائف لما جرى عليه من طعنهم له بالحراب ورجمهم إياه ، وصار مختفيا عن آدم عليه‌السلام وحوّاء ، فبينما هو كذلك وإذا هو بصوت عال : يا أهل السماوات ، قد سكن آدم وحوّاء الجنة بالعهد والميثاق ، وأبحت لهما جميع ما في الجنّة إلّا شجرة الخلد ، فإن قرباها وأكلا منها كانا من الظالمين».

__________________

(١) السرادقات : جمع سرادق ، ما أحاط بالبناء. «لسان العرب ـ سردق ـ ج ١٠ ، ص ١٥٧».

٦٤

قال : «فلمّا سمع إبليس اللعين ذلك فرح فرحا شديدا ، وقال : لأخرجنّهما من الجنّة. ثمّ أتى مستخفيا في طرق السماوات. حتى وقع على باب الجنة ، وإذا بالطاووس وقد خرج من الجنة ، وله جناحان ، إذا نشر أحدهما غطى به سدرة المنتهى ، وله ذنب من زمرّدة صفراء ، وهو من الجواهر ، وعلى كلّ جوهر منه ريشة بيضاء ، وهو أطيب طيور الجنّة صوتا وتغريدا ، وأحسنها ألحانا بالتسبيح والثناء لله رب العالمين ، وكان يخرج في وقت ويمرّ صفح (١) السماوات السبع ، يخطر في مشيه ، ويرجّع في تسبيحه ، فيعجب جميع الملائكة من حسن صورته وتسبيحه ، فيرجع إلى الجنّة. فلمّا رآه إبليس دعا به بكلام ليّن ، وقال : أيّها الطائر العجيب الخلقة ، حسن الألوان ، طيّب الصّوت ، أي طائر أنت من طيور الجنّة؟ قال : أنا طاوس الجنّة ، ولكن مالك ـ أيها الشخص ـ مذعور ، كأنّك تخاف طالبا يطلبك؟ فقال إبليس : أنا ملك من ملائكة الصفيح (٢) الأعلى مع الملائكة الكرّوبيّين الذين لا يفترون عن التسبيح ساعة ولا طرفة عين ، جئت أنظر إلى الجنة وإلى ما أعد الله لأهلها فيها ، فهل لك أن تدخلني الجنّة وأعلّمك ثلاث كلمات ، من قالهنّ لا يهرم ولا يسقم ولا يموت؟ فقال الطاوس : ويحك ـ أيها الشخص ـ أهل الجنّة يموتون؟ قال إبليس : نعم ، يموتون ويهرمون ويقسمون إلا من كانت عنده هذه الكلمات. وحلف على ذلك ، فوثق به الطاوس ولم يظن أنّ أحدا يحلف بالله كاذبا ، فقال : أيّها الشخص ، ما أحوجني إلى هذه الكلمات ، غير أني أخاف أنّ رضوان خازن الجنان يستخبرني عنك ، لكن أبعث إليك بالحيّة ، فإنّها سيّدة دوابّ الجنّة».

__________________

(١) صفح كلّ شيء : وجهه وناحيته. «لسان العرب ـ صفح ـ ج ٢ ، ص ٥١٦».

(٢) الصّفيح : من أسماء السّماء. «النهاية ـ صفح ـ ج ٣ ، ص ٣٥».

٦٥

قال : «ودخل الطاوس الجنّة ، وذكر للحيّة جميع ذلك فقالت : وما أحوجني وإياك إلى هذه الكلمات. قال الطاوس : قد ضمنت له أن أبعث بك إليه ، فانطلقي إليه سريعا قبل أن يسبقك سواك ، فكانت الحيّة يومئذ على صورة الجمل ، ولها قوائم ، ولها زغب مثل العبقريّ (١) ما بين أسود وأبيض وأحمر وأخضر وأصفر ، ولها رائحة كرائحة المسك المشاب بالعنبر ، وكان مسكنها في جنّة المأوى ، ومبركها على ساحل نهر الكوثر ، وكلامها التسبيح والثناء لله رب العالمين ، وقد خلقها الله تعالى قبل أن يخلق آدم عليه‌السلام بمائة عام ، وكانت تأنس بحوّاء وآدم عليه‌السلام ، وتخبرهما بكلّ شجرة في الجنّة.

فخرجت الحيّة مسرعة من باب الجنّة فرأت إبليس لعنه الله على ما وصفه الطاوس ، فتقدّم إليها إبليس بالكلام الطيّب ، وقال لها مثل ما قال للطاوس ، فقالت الحيّة : وكيف أدخلك ولا يحلّ لك ركوبي؟ فقال لها إبليس : إنّي أرى بين نابيك فرجة واسعة ، واعلمي أنّها تسعني ، واجعليني فيها وأدخليني الجنّة حتى أعلّمك هذه الكلمات الثلاث. فقالت الحيّة : إذا حملتك في فمي ، فكيف أتكلّم إذا كلّمني رضوان؟ فقال لها اللعين : لا عليك ، فإنّ معي أسماء ربّي إذا قلتها لا ينطق بي ولا بك أحد من الملائكة. فدخلت والملائكة ساهون عن محاورتهما ، غير أنّ حوّاء كانت قد افتقدت الحيّة فلم تجدها ، وكانت مؤتلفة بها لحسن حديثها ، والحيّة مع إبليس يحلف لها ويخادعها ـ قال ـ ولم يزل إبليس يحلف لها ويخدعها ، حتى وثقت به وفتحت فاها ، فوثب إبليس وقعد بين أنيابها ، وخرج منه ريح فصار نابها سمّا إلى آخر الأبد ـ قال ـ فضمّته الحيّة ودخلت الجنّة ، ولم يكلّمها رضوان للقدر والقضاء السابق بعلم الرّحمن ، حتى إذا توسّطت الحيّة الجنّة ، قالت له : أخرج من

__________________

(١) العبقريّ : ضرب من البسط. «تاج العروس ـ عبقر ـ ج ٣ ، ص ٣٧٩».

٦٦

فمي وعجّل قبل أن يفطن بك رضوان. قال إبليس : لا تعجلي ، فإنّما حاجتي في الجنة آدم وحوّاء ، فإني أريد أن أكلّمهما من فيك ، فإن فعلت ذلك علّمتك الكلمات الثلاث. فقالت الحيّة : هاتيك قبّة حوّاء فاخرج إليها وكلّمها. قال : لا أكلمها إلّا من فيك ، فحملته الحيّة إلى قبّة حوّاء ، فقال إبليس من فم الحيّة : يا حوّاء ، يا زينة الجنّة ، ألست تعلمين أني معك في الجنّة ، وأني أحدّثك وأخبرك بكل ما في الجنة ، وأنّي صادقة في كل ما أحدّثك به؟ فقالت حواء : نعم ، وما عرفتك إلّا بصدق الحديث. قال إبليس : يا حوّاء ، أخبريني ما الذي أحلّ لكما في الجنّة ، وحرّم عليكما؟ فأخبرته بما نهاهما عنه. فقال إبليس : ولماذا نهاكما ربّكما عن شجرة الخلد؟ قالت : لا علم لي بذلك. قال إبليس : أنا أعلم ، إنما نهاكما ربّكما لأنه أراد أن يفعل بكما مثل ما فعل بذلك العبد الذي مأواه تحت الشجرة ، الذي أدخله قبل دخولكما بألف عام».

قال : «فوثبت حوّاء من سريرها لتنظر ذلك العبد ، فخرج إبليس من فم الحيّة كالبرق الخاطف ، حتّى قعد تحت الشجرة ، فأقبلت حوّاء فرأته ، فلمّا قربت منه ، نادته : أيّها الشخص ، من أنت؟ قال : أنا خلق من خلق الله تعالى ، وأنا في هذه الجنّة منذ ألف عام ، خلقني كما خلقكما بيده ، ونفخ فيّ روحه ، وأسجد لي ملائكته وأسكنني جنّته ، ونهاني عن أكل هذه الشجرة ، فكنت لا آكل منها حتى نصحني بعض الملائكة ، وقال لي : كل منها ، فإنّ من أكل منها كان مخلّدا في الجنة أبدا ، وحلف لي أنّه لمن الناصحين ، فوثقت بيمينه وأكلت منها ، فأنا في الجنّة إلى يومي هذا كما ترين ، وقد أمنت من الهرم والسّقم والموت والخروج من الجنّة. فقال لها إبليس بعد ما حكى لها : والله ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلّا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. فناداها : يا حوّاء ، كلي منها ، فإنّها أطيب ما أكلت من ثمار الجنّة ، فأسرعي إليها واسبقي زوجك ، فإنّ من سبق كان له الفضل على صاحبه ، أما تنظرين

٦٧

إليّ كيف آكل منها؟ هذا والحيّة واقفة تسمع ما يقول إبليس (لعنه الله) لحوّاء ، فالتفت حوّاء للحيّة ، وقالت : أنت معي منذ أدخلني الله الجنّة ، ولم تخبريني بهذا الكلام؟! وسكتت الحيّة ، ولم تدر ما يقول إبليس اللعين في جواب حوّاء ، ورغبت عن الكلام ، وما كان من أمرها الذي قد ضمن لها إبليس أن يعلّمها الثلاث كلمات.

فأقبلت حوّاء إلى آدم عليه‌السلام ، كانت مسرورة بقول الحيّة لها ، ومقالة إبليس تحت الشجرة ، وأخبرته بخبر الحيّة والشخص وقد حلف لهما نصحا ، وذلك قوله تعالى : (وَقاسَمَهُما إِنِّي)(١) وقرب القدر المقدور والقضاء المبرم ، وخروجهم من الجنّة ، وهو الأمر المحتوم ، فركنا جميعا إلى قول إبليس اللعين وقسمه فتقدّمت حوّاء إلى تلك الشجرة ، ولها أغصان لا تحصى ، وعلى الأغصان سنابل ، كلّ حبّة منها مثل القلّة ، ولها رائحة كالمسك الأذفر ، أشدّ بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، فأخذت سبع سنابل من سبعة أغصان ، فقال اللعين : كلي منها يا حواء ، يا زينة الجنّة. فأكلت واحدة ، وادّخرت لها واحدة ، وجاءت بخمس منها إلى آدم عليه‌السلام ، ولم يكن لآدم عليه‌السلام في ذلك أمر ولا نهي ، بل كان ذلك في سابق علم الله تعالى حين افتخرت السّماء على الأرض ، وشكت الأرض إلى ربّها ، وقال : يا أرض اسكني. وقال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(٢). فتناول آدم عليه‌السلام من السنابل سنبلة واحدة من يدها ، وقد نسي العهد المأخوذ عليه ، فذلك قوله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(٣) ، أي جزما ـ قال ـ فذاق آدم عليه‌السلام من الشجرة كما ذاقت حواء ، فذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ

__________________

(١) الأعراف : ٢١.

(٢) البقرة : ٣٠.

(٣) طه : ١١٥.

٦٨

بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما)(١).

وقال ابن عبّاس (رضي الله عنه) : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «والذي نفسي بيده ، ما ساغ آدم عليه‌السلام ، من تلك السنابل إلا سنبلة واحدة حتى طار التاج عن رأسه ، وتعارى من لباسه ، وانتزعت خواتيمه ، وسقط كل ما كان على حوّاء من لباسها ، وحليّها ، وزينتها ، وكلّ شيء طار عنها ، وناداه لباسه وتاجه : يا آدم ، طال حزنك ، وكثرت حسرتك ، وعظمت مصيبتك ، فعليك السّلام ، وهذه ساعة الفراق إلى يوم التّلاق ، فإنّ ربّ العزّة عهد إلينا أن لا نكون إلا على عبد مطيع خاشع. وانتفض السّرير من فراشه وطار في الهواء ، وهو ينادي : آدم المصطفى قد عصى الرحمن وأطاع الشيطان ، وحوّاء قد انتفضت ذوائبها عنها ، وما كان فيها من الدرّ والجواهر واللؤلؤ ، وانحلّت المنطقة من وسطها ، وهي تقول : لقد عظمت مصيبتكما وطال حزنكما ، ولم يبق عليهما من لباسهما شيء (وَطَفِقا) أي أقبلا : (يَخْصِفانِ عَلَيْهِما) أي يرفعان عليهما (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي ورق التين (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ)(٢).

قال ابن عباس : إنّ الله تعالى حذّر أولاد آدم كما حذّر آدم عليه‌السلام في قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما)(٣). قال : وجعل كلّ واحد منهما ينظر إلى عورة صاحبه ، وهرب إبليس مبادرا ، وصار مختفيا في بعض طرق السماوات ، ولم يبق شيء إلّا نادى آدم : يا عاصي ، وغضّ أهل الجنة أبصارهم عنهما ، وقالوا : أخرجتما

__________________

(١) تحفة الإخوان : ص ٦٧ «مخطوط» ، والآية من سورة الأعراف : ٢٢.

(٢) الأعراف : ٢٢.

(٣) الأعراف : ٢٧.

٦٩

من جنّتكما! وناداه فرسه الميمون ـ وقد خلقه الله من مسك الجنة وجميع طيبها من الكافور والزّعفران والعنبر وغير ذلك ، وعجن بماء الحيوان ، وعرفه من المرجان ، وناصيته من الياقوت ، وحافره من الزّبرجد الأخضر ، وسرجه من الزّمرّد ، ولجامه من الياقوت ، وله أجنحة من أنواع الجواهر ، وليس في الجنّة دابّة أحسن من فرس آدم عليه‌السلام إلّا البراق ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فضل البراق على سائر دوابّ الجنّة ، كفضلي على سائر النبيّين» ، وقال ابن عباس : قد خلق الله الميمون فرس آدم عليه‌السلام قبل أن يخلق آدم عليه‌السلام بخمسمائة عام ـ : يا آدم ، هكذا العهد بينك وبين الله تعالى؟!

وانقبضت أشجار الجنّة عنهما حتّى لم يتمكّنا أن يستترا بشيء منها ، فكلّما قرب من شجرة ، نادته : إليك عنّي يا عاصي. فلما كثرت عليه الملامة والتوبيخ ، مرّ هاربا ، وإذا هو بشجرة الطّلح قد التفّت على ساقيه فمسكته بأغصانها ، ونادته : إلى أين تهرب ، يا عاصي؟ فوقف آدم فزعا مرعوبا مبهوتا ، وظنّ أنّ العذاب قد أتاه ، وجعل ينادي : الأمان ، الأمان ، وحوّاء مجتهدة أن تستر نفسها بشعرها ، وهو ينكشف عنها ، فلمّا أكثرت عليه ، ناداها : يا بادية السّوء ، هل تقدرين على أن تستّري بي ، وقد عصيت ربّك؟ فقعدت حوّاء عند ذلك ، ووضعت ذقنها على ركبتها كيلا يراها أحد ، وهي تحت الشجرة وآدم واقف قد قبضت عليه شجرة الطلح.

قال ابن عباس : فنودي جبرئيل : «ألا ترى إلى بديع فطرتي آدم ، كيف عصاني؟ يا جبرئيل ، ألا ترى إلى حواء أمتي ، كيف عصتني ، وطاوعت عدوّي إبليس؟» فاضطرب جبرئيل الأمين لما سمع نداء رب العالمين ، وداخله الخوف وخرّ ساجدا ، وحملة العرش قد سكنت حركاتهم ، وهم يقولون : سبحانك ، قدّوس قدّوس ، سبّوح سبّوح ، الأمان الأمان. فأخذ جبرئيل عليه‌السلام يعدّ على آدم عليه‌السلام ما أنعم الله تعالى به عليه ، ويعاتبه على المعصية ،

٧٠

فاضطرب آدم عليه‌السلام فزعا ، وارتعد خوفا ، حتى ذهب كلامه ، وجعل يشير إلى جبرئيل عليه‌السلام : «دعني أهرب من الجنة خوفا من ربّي ، وحياء منه». قال جبرئيل عليه‌السلام : إلى أين تهرب ـ يا آدم ـ وربّك أقرب الأقربين ومدرك الهاربين؟ فقال آدم : «يا جبرئيل ، ردّني أنظر إلى الجنّة نظرة الوداع». فجعل آدم عليه‌السلام ينظر عن يمينه وعن شماله ، وجبرئيل لا يفارقه ، حتى صار قريبا من باب الجنّة ، وقد أخرج رجله اليمنى وبقيت رجله اليسرى ، فنودي : «يا جبرئيل ، قف به على باب الجنّة حتى يخرج معه أعداؤه الذين حملوه على أكل الشجرة ، يراهم ويرى ما يفعل بهم». فأوقفه جبرئيل ، وناداه الربّ : «يا آدم ، خلقتك لتكون عبدا شكورا ، لا لتكون عبدا كفورا».

فقال آدم عليه‌السلام : «يا ربّ ، أسألك أن تعيدني إلى تربتي التي خلقت منها ترابا كما كنت أولا». فأجابه الربّ : «يا آدم ، قد سبق في علمي ، وكتبت في اللوح أن أملأ من ظهرك الجنّة والنار». فسكت آدم.

قال ابن عباس : لمّا أمرت حوّاء بالخروج ، وثبت إلى ورقة من ورق تين الجنّة ، طولها وعرضها لا يعلمه إلا الله تعالى لتستتر بها ، فلمّا أخذتها ، سقطت من يدها ، ونطقت : يا حوّاء ، إنك لفي غرور ، إنه لا يسترك شيء في الجنّة بعد أن عصيت الله تعالى. فعندها بكت حوّاء بكاء شديدا ، وأمر الله الورقة أن تجيبها ، فاستترت بها ، فقبض جبرئيل عليه‌السلام بناصيتها حتى أتى بها إلى آدم عليه‌السلام وهو على باب الجنّة ، فلمّا رأت آدم ، صاحت صيحة عظيمة ، وقالت : يا لها من حسرة ، يا جبرئيل ، ردّني أنظر إلى الجنّة نظر الوداع ، فجعلت تومئ بنظرها إلى الجنّة يمينا وشمالا ، وتنظر إليها بحسرة ، فأخرجا من الجنّة ، والملائكة صفوف لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، ينظرون إليهما. ثمّ أتي بالطاوس ، وقد طعنته الملائكة حتى سقطت أرياشه ، وجبرئيل يجرّه ، ويقول له : اخرج من الجنّة خروج آيس ، فإنّك مشؤوم أبدا ما بقيت ، وسلبه

٧١

تاجه ، واجتثّ أجنحته.

... قال : ثمّ أخرج عليه‌السلام من الجنّة ، وأبرزه جبرئيل إلى السماوات ، وحجبت عنه حوّاء فلم يرها ونظرت الملائكة إلى آدم عليه‌السلام وهو عريان ، ففزعت منه ، وجعلت تقول : إلهنا ، وهذا آدم بديع فطرتك ، أقله ولا تخذله. وآدم عليه‌السلام قد وضع يده اليمنى على باب الجنّة ، واليسرى على سوأته ، ودموعه تجري على خدّيه ، فوقف آدم عليه‌السلام ، وناداه الربّ جلّ وعلا : «يا آدم». قال : «لبّيك يا ربّي وسيّدي ومولاي وخالقي ، تراني ولا أراك ، وأنت علّام الغيوب». قال الله تعالى : «يا آدم ، قد سبق في علمي ، إذا تاب العاصي تبت عليه ، أتفضّل عليه برحمتي ، يا آدم ، ما أهون الخلق عليّ إذا عصوني ، وما أكرمهم عليّ إذا أطاعوني».

فقال آدم عليه‌السلام : «بحقّ من هو الشّرف الأكبر ، إلا ما أقلت عثرتي ، وعفوت عني» فأتاه النداء «يا آدم ، من الذي سألتني بحقه؟

فقال آدم عليه‌السلام : «إلهي وسيّدي ومولاي وربّي ، هذا صفيّك وحبيبك وخاصّتك وخالصتك ورسولك محمد بن عبد الله ، فلقد رأيت اسمه مكتوبا على العرش ، وفي اللوح المحفوظ ، وعلى صفح السماوات ، وعلى أبواب الجنان ، وقد علمت ـ يا ربّ ـ أنك لا تفعل به ذلك إلّا وهو أكرم الخليقة عندك».

قال ابن عباس : فنوديت حوّاء : «يا حوّاء» ، قالت : «لبيك لبيك ، يا سيّدي ومولاي وربّي ، لا إله إلّا أنت ، قد ذهبت زينتي ، وعظمت مصيبتي ، وحلّت شقوتي ، وبقيت عريانة لا يسترني شيء من جنّتك ، يا ربّ». فنوديت : «يا حوّاء ، من الذي صرف عنك هذه الخيرات التي كنت فيها ، والزينة التي كنت عليها؟».

٧٢

قالت : إلهي وسيّدي ، ذلك خطيئتي ، وقد خدعني إبليس بغروره وأغواني ، وأقسم لي بحقّك وعزّتك إنه لمن الناصحين لي ، وما ظننت أنّ عبدا يحلف بك كاذبا.

قال : «الآن اخرجي أبدا ، فقد جعلتك ناقصة العقل والدّين والميراث والشّهادة والذّكر ، معوجّة الخلقة (١) ، شاخصة البصر ، وجعلتك أسيرة أيّام حياتك ، وحرمتك أفضل الأشياء : الجمعة ، والجماعة ، والسّلام ، والتحيّة ، وقضيت عليك بالطّمث ـ وهو الدم ـ وجهد الحبل ، والطّلق ، والولادة ، فلا تلدين حتى تذوقي طعم الموت ، فأنت أكثر حزنا ، وأكسر قلبا ، وأكثر دمعة ، وجعلتك دائمة الأحزان ، ولم أجعل منكنّ حاكما ، ولا أبعث منكنّ نبيّا».

فقال آدم : «يا ربّ ، إنّك أخرجتني من الجنّة ، وتريد أن تجمع بيني وبين عدوّي إبليس اللعين ، فقوّني عليه ، يا ربّ».

فقال له : «يا آدم ، تقوّ عليه بتقواي وتوحيدي وذكري ، وهو أن تقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وأكثر من ذلك ، فإنّها لعدوّي وعدوّك مثل الشهاب القاتل. يا آدم ، قد جعلت مسكنك المساجد ، وطعامك الحلال الذي ذكر عليه اسمي ، وشرابك ما أجريته من ماء معين ، وليكن شعارك ذكري ، ودثارك ما أنسجته بيدك».

فقال آدم : «زدني ، يا ربّ» قال : «أحفظك بملائكتي» فقال : «يا ربّ ، زدني». فقال : «لا يولد لك ولد إلّا وكّلت به ملائكة يحرسونه» قال : «يا ربّ ، زدني» قال : «لا أنزع التوبة منك ولا من ذرّيّتك ما تابوا إليّ». قال : «زدني ، يا ربّ». قال : «أغفر لك ولولدك ولا أبالي ، وأنا الربّ العلي المتعالي».

قال : فعندها تكلّمت حوّاء ، وقالت : إلهي ، خلقتني من ضلع أعوج ،

__________________

(١) في «ط» : الخلق.

٧٣

وجعلتني ناقصة العقل والدّين والشهادة والميراث والذّكر ، وحرمتني أفضل الأشياء ، وألزمتني الحبل والطّلق ، وصيّرتني بالنّجاسة ، وكيف أخرج من الجنّة وقد حرمتني جميع الخيرات؟ فنوديت : «أن اخرجي ، فإني أرفق قلوب عبادي عليكنّ».

فنوديت : «اخرجي ، فإنّي مخرج منكما ما يملأ الجنّة والنار ، فأما الذين يملؤون الجنّة فمن نبيّ وصدّيق وشهيد ومستغفر ، ومن يصلّي عليكما ، ويستغفر لكما». قال عليه‌السلام : «ما من مؤمن ولا مؤمنة يستغفر لآدم وحوّاء إلّا عرض الاستغفار عليهما ، فيفرحان ، ويقولان : يا ربّ ، هذا ولدنا فلان قد استغفر لنا ، وصلّى علينا ، فتفضّل عليه ، وزد من كرمك وإحسانك إليه» وروي : أنّ من لم يصلّ عليهما عند ذكرهما ، فقد عقّهما.

فقالت حوّاء : أسألك ـ يا ربّ ـ أن تعطيني كما أعطيت آدم. فقال الربّ عزوجل : «إنّي قد وهبتك الحياء والرّحمة والأنس ، وكتبت لك من ثواب الاغتسال والولادة ما لو رأيته من الثواب الدائم ، والنعيم المقيم ، والملك الكبير ، لقرّت به عينك. يا حوّاء ، أيما امرأة ماتت في ولادتها حشرتها مع الشهداء. يا حوّاء ، أيّما امرأة أخذها الطلق إلّا كتبت لها أجر شهيد ، فإن تحمّلت وولدت ، غفرت لها ذنوبها ولو كانت مثل زبد البحر ورمل البرّ وورق الشجر ، وإن ماتت فهي شهيدة ، وحضرتها الملائكة عند قبض روحها ، وبشّروها بالجنّة ، وتزفّ إلى بعلها في الآخرة ، وتفضّل على سائر الحور العين بسبعين درجة» فقالت حوّاء : حسبي ما أعطيت.

قال : وتكلّم إبليس اللّعين ، وقال : يا ربّ إنك أغويتني وأبلستني ، وكان ذلك في سابق علمك ، فانظرني إلى يوم يبعثون ، قال : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)(١) وهي النفخة الأولى. قال : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ

__________________

(١) الحجر : ٣٧ و ٣٨.

٧٤

صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)(١) قال : (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)(٢).

قال : إنك أنظرتني ، فأين مسكني إذا هبطت إلى الأرض؟ قال : «المزابل» قال : فما قراءتي؟ قال : «الشعر» قال : فما مؤذّني؟ قال : «المزمار». قال : فما طعامي؟ قال : «ما لم يذكر عليه اسمي». قال : فما شرابي؟ قال : «الخمور جميعها». قال : فما بيتي؟ قال : «الحمّام». قال : فما مجلسي؟ قال : «الأسواق ، ومحافل النّساء النائحات». قال : فما شعاري؟ قال : «الغناء» قال : فما دثاري؟ قال : «سخطي» قال : فما مصائدي؟ قال : «النساء».

قال إبليس : لا خرجت محبّة النساء من قلبي ، ولا من قلوب بني آدم. فنودي : «يا ملعون إني لا أنزع التوبة من بني آدم حتى ينزعوا بالموت ، فاخرج منها فإنك رجيم ، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين» (٣) ...

* س ١٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨) [سورة الحجر : ٣٨ ـ ٣٦]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إلى يوم الوقت المعلوم ، يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة ، فيموت إبليس ما بين النفخة الأولى والثانية» (٤).

وقال عليه‌السلام : «يوم الوقت المعلوم ، يوم يذبحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصّخرة التي في بيت المقدس» (٥).

__________________

(١) الأعراف : ١٦ و ١٧.

(٢) الأعراف : ١٨.

(٣) تحفة الإخوان : ص ٧٠ «مخطوط».

(٤) علل الشرائع : ص ٤٠٢ ، ح ٢.

(٥) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٢٤٥.

٧٥

وقال عبد الكريم بن عمرو الخثعمي : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إبليس قال : أنظرني إلى يوم يبعثون ، فأبى الله ذلك عليه ، فقال : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) فإذا كان يوم الوقت المعلوم ظهر إبليس لعنه الله في جميع أشياعه منذ خلق الله آدم عليه‌السلام إلى يوم الوقت المعلوم ، وهي آخر كرة يكرّها أمير المؤمنين عليه‌السلام».

قلت : وإنها لكرّات؟ قال : «نعم ، إنها لكرّات وكرات ، ما من إمام في قرن إلّا ويكرّ في قرنه ، ويكرّ معه البرّ والفاجر في دهره ، حتى يديل الله عزوجل المؤمن من الكافر ، فإذا كان يوم الوقت المعلوم كرّ أمير المؤمنين عليه‌السلام في أصحابه ، وجاء إبليس في أصحابه ، ويكون ميقاتهم في أرض من أراضي الفرات يقال لها (الرّوحاء) قريبا من كوفتكم ، فيقتتلون قتالا لم يقتتل مثله منذ خلق الله عزوجل العالمين ، فكأنّي أنظر إلى أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام قد رجعوا إلى خلفهم القهقهرى مائة قدم ، وكأنّي أنظر إليهم وقد وقعت بعض أرجلهم في الفرات ، فعند ذلك يهبط الجبّار عزوجل (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ)(١) ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمامه ، بيده حربة من نور ، فإذا نظر إليه إبليس رجع القهقرى ناكصا على عقبيه ، فيقولون له أصحابه : أين تريد وقد ظفرت؟ فيقول : إنّي أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ربّ العالمين ، فيلحقه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيطعنه طعنة بين كتفيه ، فيكون هلاكه وهلاك جميع أشياعه ، فعند ذلك يعبد الله عزوجل ولا يشرك به شيء ، ويملك أمير المؤمنين عليه‌السلام أربعا وأربعين ألف سنة ، حتى يلد الرجل من شيعة علي عليه‌السلام ألف ولد من صلبه ذكر ، في كلّ سنة ذكر ، وعند ذلك تظهر الجنتان المدهامّتان ، عند مسجد الكوفة وما حوله بما شاء الله» (٢).

__________________

(١) البقرة : ٢١٠.

(٢) مختصر بصائر الدرجات : ص ٢٦.

٧٦

وقال وهب بن جميع مولى إسحاق بن عمّار : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول إبليس : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) قال له وهب : جعلت فداك ، أيّ يوم هو؟

قال : «يا وهب ، أتحسب أنّه يوم يبعث الله فيه الناس؟ إنّ الله أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا ، فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة ، وجاء إبليس حتى يجثو بين يديه على ركبتيه ، يا ويله من هذا اليوم ، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه ، فذلك اليوم هو الوقت المعلوم» (١).

* س ١٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) [سورة الحجر : ٤٠ ـ ٣٩]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسيّ (رحمه‌الله تعالى) : (قالَ) إبليس (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قيل فيه أقوال :

١ ـ إن الإغواء الأول والثاني بمعنى الإضلال ، أي : كما أضللتني لأضلنهم ، وهذا لا يجوز لأن الله سبحانه لا يضل عن الدين إلا أن يحمل على أن إبليس كان معتقدا للخير.

٢ ـ إن الإغواء الأول والثاني بمعنى التخييب أي : بما خيبتني من رحمتك ، لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك ...

٣ ـ إن معناه بما أضللتني عن طريق جنتك ، لأضلنهم بالدعاء إلى معصيتك.

٤ ـ بما كلفتني السجود لآدم الذي غويت عنده ، فسمي ذلك غواية كما

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٢٤٢ ، ح ١٤ ، وتأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٥٠٩ ، ح ١٢.

٧٧

قال فزادتهم رجسا إلى رجسهم لمّا ازدادوا عندها ...

والباء في قوله : (بِما أَغْوَيْتَنِي) قيل : إن معناه القسم ها هنا ... وقيل : بمعنى السبب : أي بكوني غاويا لأزينن ، كما يقال بطاعته لندخلن الجنة ، وبمعصيته لندخلن النار. ومفعول التزيين محذوف ، وتقديره لأزينن الباطل لهم أي : لأولاد آدم ، حتى يقعوا فيه. ثم استثنى من جملتهم فقال : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وهم الذين أخلصوا عبادتهم لله ، وامتنعوا عن عبادة الشيطان ، وانتهوا عما نهاهم الله عنه. ومن قرأ (الْمُخْلَصِينَ) بفتح اللام ، فهم الذين أخلصهم الله بأن وفقهم لذلك ، ولطف لهم فيه ، ليس للشيطان عليهم سبيل ... (١).

* س ١٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤٢) [سورة الحجر : ٤٢ ـ ٤١]؟!

الجواب / قال الصادق عليه‌السلام ، عن قوله : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) : «هو أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

وقال جابر : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أرأيت قول الله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ما تفسير هذا؟ قال : «قال الله : إنّك لا تملك أن تدخلهم جنّة ولا نارا» (٣).

وعن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، قال : «ليس على هذه العصابة خاصّة سلطان».

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ، ص ١١٧.

(٢) تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٢٤٢ ، ح ١٥.

(٣) تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٢٤٢ ، ح ١٦.

٧٨

قال : قلت : وكيف ـ جعلت فداك ـ وفيهم ما فيهم؟ قال : «ليس حيث تذهب ، إنّما قوله : (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أن يحبّب إليهم الكفر ويبغّض إليهم الإيمان» (١).

* س ١٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤) [سورة الحجر : ٤٤ ـ ٤٣]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم القميّ : وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) «فوقوفهم على الصراط».

وأمّا : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) فبلغني ـ والله أعلم ـ أنّ الله جعلها سبع درجات ، أعلاها الجحيم ، يقوم أهلها على الصّفا منها ، تغلي أدمغتهم فيها كغلي القدور بما فيها.

والثانية : لظى : (نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى)(٢).

والثالثة : سقر (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ)(٣).

والرابعة : الحطمة (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ)(٤) تذر كلّ من صار إليها مثل الكحل ، فلا تموت الروح ، كلّما صاروا مثل الكحل عادوا.

والخامسة : الهاوية ، فيها مالك ، ويدعون : يا مالك ، أغثنا ، فإذا أغاثهم

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٢٤٢ ، ح ١٧.

(٢) المعارج : ١٦ ـ ١٨.

(٣) المدثر : ٢٨ ـ ٣٠.

(٤) المرسلات : ٣٢ و ٣٣.

٧٩

جعل لهم آنية من صفر من نار ، فيها صديد ـ ماء يسيل من جلودهم ـ كأنّه مهل (١) ، فإذا رفعوه ليشربوا منه ، تساقط لحم وجوههم فيها من شدّة حرّها ، وهو قول الله : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)(٢) ومن هوى فيها هوى سبعين عاما في النار ، كلّما احترق جلده ، بدّل جلدا غيره.

والسادسة : السعير ، فيها ثلاثمائة سرادق من نار ، في كلّ سرادق ثلاثمائة قصر ، ثلاثمائة بيت من نار ، في كلّ بيت ثلاثمائة لون من عذاب النار ، فيها حيّات من نار ، وجوامع من نار ، وعقارب من نار ، وسلاسل من نار ، وأغلال من نار ، وهو الذي يقول الله تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً)(٣).

والسابعة : جهنّم ، وفيها الفلق ، وهو جبّ في جهنّم ، إذا فتح أسعر النار سعرا ، وهو أشدّ النار عذابا ، وأما صعود ، فجبل من صفر من نار وسط جهنّم ، وأمّا أثام ، فهو واد من صفر مذاب ، يجري حول الجبل ، فهو أشدّ النار عذابا (٤).

وسأل رجل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الجزء وجزء الشيء؟

فقال : «من سبعة» ، إنّ الله يقول : (لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم» (٥).

__________________

(١) المهل : ما ذاب من صفر أو حديد ، وضرب من القطران. «لسان العرب ـ مهل ـ ج ١١ ، ص ٦٣٣».

(٢) الكهف : ٢٩.

(٣) الإنسان : ٤.

(٤) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٦.

(٥) تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٢٤٣ ، ح ٢٠.

٨٠