التيسير في التفسير للقرآن - ج ٤

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

إبراهيم لقومه وأبيه فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) إلى قوله تعالى (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ).

قال ؛ فلمّا نهاهم إبراهيم عليه‌السلام ، واحتج عليهم في عبادتهم الأصنام فلم ينتهوا ، فحضر عيد لهم ، فخرج نمرود ، وجميع أهل مملكته إلى عيدهم ، وكره أن يخرج معه إبراهيم ، فوكّله ببيت الأصنام فلمّا ذهبوا ، عمد إبراهيم إلى طعام فأدخله بيت الأصنام ، فكان يدنو من صنم صنم ، ويقول له : كل ، وتكلّم ، فإذا لم يجبه أخذ القدوم (١) فكسر يده ورجله ، حتى فعل ذلك بجميع الأصنام ، ثمّ علّق القدوم في عنق الكبير منهم ، الذي كان في الصدر.

فلما رجع الملك ومن معه من العيد نظروا إلى الأصنام مكسّرة ، فقالوا : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) ، وهو ابن آزر ، فجاءوا به إلى نمرود ، فقال نمرود لآزر خنتني ، وكتمت هذا الولد عنّي؟ فقال : أيها الملك ، هذا عمل أمه ، وذكرت أنها تقوم بحجّته.

فدعا نمرود أم إبراهيم ، فقال لها : ما حملك على أن كتمتني أمر هذا الغلام حتى فعل بآلهتنا ما فعل؟ فقالت : أيها الملك ، نظرا مني لرعيّتك. قال : وكيف ذلك؟ قالت : رأيتك تقتل أولاد رعيّتك ، فكان يذهب النسل ، فقلت : إن كان هذا الذي يطلبه دفعته إليه ليقتله ، ويكفّ عن قتل أولاد الناس ، وإن لم يكن ذلك بقي لنا ولدنا ، وقد ظفرت به ، فشأنك ، وكفّ عن أولاد الناس ، فصوّب رأيها ، ثم قال لإبراهيم عليه‌السلام : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) يا إبراهيم؟ قال عليه‌السلام : (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ).

قال الصادق عليه‌السلام : «والله ما فعله كبيرهم ، وما كذب إبراهيم عليه‌السلام

__________________

(١) القدوم : آلة للنّجر والنّحت. «المعجم الوسيط ـ قدم ـ ج ٢ ، ص ٧٢».

٤٢١

فقيل له : كيف ذلك؟ فقال : «إنّما قال : فعله كبيرهم هذا إن نطق ، وإن لم ينطق فلم يفعل كبيرهم هذا شيئا».

فاستشار نمرود قومه في إبراهيم عليه‌السلام ، فقالوا له (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) فقال الصادق عليه‌السلام : «كان فرعون إبراهيم وأصحابه لغير رشدة ، فإنهم قالوا لنمرود : (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) وكان فرعون موسى وأصحابه لرشدة ، فإنه لما استشار أصحابه في موسى قالوا : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)(١)».

فحبس إبراهيم عليه‌السلام ، وجمع له الحطب ، حتى إذا كان اليوم الذي ألقى فيه نمرود إبراهيم عليه‌السلام في النار. برز نمرود وجنوده ـ وقد كان بني لنمرود بناء ينظر منه إلى إبراهيم عليه‌السلام كيف تأخذه النار ـ فجاء إبليس واتخذ لهم المنجنيق ، لأنه لم يقدر أحد أن يقرب من تلك النار ، وكان الطائر إذا مرّ في الهواء يحترق ، فوضع إبراهيم عليه‌السلام في المنجنيق ، وجاء أبوه فلطمه لطمة ، وقال له : ارجع عما أنت عليه.

وأنزل الربّ ملائكة إلى السماء الدنيا ، ولم يبق شيء إلا طلب إلى ربّه ، وقالت الأرض : يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره ، فيحرق؟ وقالت الملائكة : يا ربّ خليلك إبراهيم يحرق؟ فقال الله عزوجل : أمّا إنه إن دعاني كفيته. وقال جبرئيل عليه‌السلام : يا ربّ ، خليلك إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره ، فسلّطت عليه عدوّه يحرقه بالنار؟ فقال : اسكت ، إنما يقول هذا عبد مثلك يخاف الفوت ، وهو عبدي آخذه إن شئت ، فإذا دعاني أجبته.

فدعا إبراهيم عليه‌السلام ربّه بسورة الإخلاص : «يا الله ، يا واحد ، يا أحد ، يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، نجّني من النار

__________________

(١) الشعراء : ٣٦ و ٣٧.

٤٢٢

برحمتك». قال : فالتقى جبرئيل معه في الهواء وقد وضع في المنجنيق ، فقال : يا إبراهيم ، هل لك إليّ من حاجة؟ فقال إبراهيم عليه‌السلام : أما إليك فلا ، وأمّا إلى ربّ العالمين فنعم. فدفع إليه خاتما مكتوبا عليه : «لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ألجأت ظهري إلى الله ، وأسندت أمري إلى الله ، وفوضت أمري إلى الله». فأوحى الله إلى النار : (كُونِي بَرْداً) فاضطربت أسنان إبراهيم عليه‌السلام من البرد حتى قال : (وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ).

وانحطّ جبرئيل ، وجلس معه يحدّثه في النار ، فنظر إليه نمرود ، فقال : من اتّخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم. فقال عظيم من عظماء أصحاب نمرود : إني عزمت على النار أن لا تحرقه. فخرج عمود من النار ونحو الرجل فأحرقه ، فآمن له لوط وخرج معه مهاجرا إلى الشام ، ونظر نمرود إلى إبراهيم عليه‌السلام في روضة خضراء في النار ، ومعه شيخ يحدّثه ، فقال لآزر : ما أكرم ابنك على ربّه!

قال : وكان الوزغ ينفخ في نار إبراهيم ، وكا الضّفدع يذهب بالماء ليطفئ به النار. قال : ولما قال الله للنار : (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) لم تعمل النار في الدنيا ثلاثة أيام ، ثم قال الله عزوجل : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) ، وقال الله عزوجل : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) يعني الشام ، وسواد الكوفة ، وكوثى ربّا (١).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧١. وكوثى ـ بالعراق ـ في موضعين : كوثى الطريق : وكوثى ربّا ، وبها مشهد إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وهما قريتان ، وبينهما تلول من رماد يقال إنّها رماد النار التي أوقدها نمرود لإحراقه. (مراصد الإطلاع : ج ٣ ، ص ١١٨٥).

٤٢٣

* س ٢٨ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ) (٧٢) [سورة الأنبياء : ٧٢]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم ، قال : ولد الولد ، وهو يعقوب (١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) ، قال : «ولد الولد نافلة» (٢).

* س ٢٩ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٧٣) [سورة الأنبياء : ٧٣]؟!

الجواب / قال زيد بن علي عليه‌السلام : كنت عند أبي علي بن الحسين عليهما‌السلام ، إذ دخل عليه جابر بن عبد الله الأنصاريّ ، فبينما هو يحدّثه إذ خرج أخي محمد من بعض الحجر فأشخص جابر ببصره نحوه ، ثم قال له : يا غلام ، أقبل. فأقبل ، ثمّ قال : أدبر. فأدبر ، فقال : شمائل كشمائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما اسمك ، يا غلام؟ قال : «محمد». قال : ابن من؟ قال : «ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام. قال : إذن أنت الباقر ، فانكبّ عليه ، وقبّل رأسه ويديه ، ثم قال : يا محمد ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرئك السّلام. قال : «وعلى رسول الله أفضل السّلام ، وعليك يا جابر بما فعلت السّلام».

ثم عاد إلى مصلاه ، فأقبل يحدّث أبي ، ويقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لي يوما : «يا جابر ، إذا أدركت ولدي محمدا فأقرئه مني السّلام ، أما أنّه سميّي ، وأشبه الناس بي ، علمه علمي ، وحكمه حكمي ، سبعة من ولده أمناء

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧٣.

(٢) معاني الأخبار : ص ٢٢٤.

٤٢٤

معصومون ، أئمّة أبرار ، والسابع منهم : مهديّهم الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما». ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)(١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن الأئمة في كتاب الله عزوجل إمامان : قال الله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) ، لا بأمر الناس ، يقدّمون أمر الله قبل أمرهم ، وحكم الله قبل حكمهم.

وقال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)(٢) يقدّمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزوجل» (٣).

* س ٣٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٧٧) [سورة الأنبياء : ٧٧ ـ ٧٤]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي (رحمه‌الله تعالى) : (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ومعناه : وأعطينا لوطا حكمة وعلما. وقيل : الحكم النبوة. وقيل : هو الفصل بين الخصوم بالحق أي : جعلناه حاكما ، وعلمناه ما يحتاج إلى العلم به.

__________________

(١) كفاية الأثر : ص ٢٩٧.

(٢) القصص : ٤١.

(٣) الكافي : ج ١ ، ص ١٦٨ ، ح ٢.

٤٢٥

(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) وهي قرية «سدوم» على ما روي. والخبائث التي كانوا يعملونها هي أنهم كانوا يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم. وقيل : هي ما حكى الله تعالى : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) وغير ذلك من القبائح. وأراد بالقرية أهلها. ثم ذمهم فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) أي : خارجين عن طاعة الله تعالى (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي : في نعمتنا ومنتنا. (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : بسبب أنه من الصالحين أي : بسبب أنه من الصالحين الذين أصلحوا أفعالهم ، فعملوا بما هو الحسن منها ، دون القبيح. وقيل : أراد بكونه من الصالحين أنه من الأنبياء (١).

وقال : ثم عطف سبحانه قصة نوح ـ وداود ـ ، على قصة إبراهيم عليه‌السلام ولوط ، فقال : (وَنُوحاً إِذْ نادى) أي : دعا ربه فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً). وقال : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) ، وغير ذلك (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل إبراهيم ولوط (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي : أجبناه إلى ما التمسه. (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي : من الغم الذي يصل حره إلى القلب ، وهو ما كان يلقاه من الأذى طول تلك المدة ، وتحمل الاستخفاف من السقاط من أعظم الكرب (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : منعناه منهم بالنصرة حتى لم يصلوا إليه بسوء. وقيل : معناه نصرناه على القوم. ومن بمعنى على ... (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) صغارهم وكبارهم ، وذكورهم وإناثهم (٢).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ١٠٠ و ١٠٢.

(٢) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ١٠٠ و ١٠٢.

٤٢٦

* س ٣١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٧٩) [سورة الأنبياء : ٧٩ ـ ٧٨]؟!

الجواب / قال أبو بصير قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) قلت : حين حكما في الحرث كانت قضية واحدة؟

فقال : «إنّه كان أوحى الله عزوجل إلى النبيّين قبل داود عليه‌السلام إلى أن بعث الله داود عليه‌السلام : أيّ غنم نفشت في الحرث فلصاحب الحرث رقاب الغنم ، ولا يكون النفش إلّا بالليل ، فإنّ على صاحب الزرع أن يحفظه بالنهار ، وعلى صاحب الغنم حفظ الغنم بالليل ، فحكم داود عليه‌السلام بما حكمت به الأنبياء عليهم‌السلام من قبله.

وأوحى الله عزوجل إلى سليمان عليه‌السلام : أيّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج من بطونها ، وكذلك جرت السنّة بعد سليمان عليه‌السلام ، وهو قول الله عزوجل : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) فحكم كلّ واحد منهما بحكم الله عزوجل» (١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كان في بني إسرائيل رجل له كرم ، وتفشت فيه غنم لرجل آخر بالليل ، وقضمته وأفسدته ، فجاء صاحب الكرم إلى داود عليه‌السلام فاستعدى على صاحب الغنم ، فقال داود عليه‌السلام : اذهبا إلى سليمان ليحكم بينكما. فذهبا إليه ، فقال سليمان عليه‌السلام : إن كانت الغنم أكلت الأصل والفرع فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم وما في بطنها ، وإن كانت ذهبت بالفرع ولم تذهب بالأصل فإنه يدفع ولدها إلى صاحب الكرم.

__________________

(١) الكافي : ج ٥ ، ص ٣٠٢ ، ح ٣.

٤٢٧

وقد كان هذا حكم داود عليه‌السلام ، وإنّما أراد أن يعرّف بني إسرائيل أن سليمان عليه‌السلام وصيّه بعده ، ولم يختلفا في الحكم ، ولو اختلف حكمهما لقال : كنّا لحكمهما شاهدين» (١).

وقال الطّبرسيّ : قيل : كان كرما وقد بدت عناقيده ، فحكم داود عليه‌السلام بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان عليه‌السلام : «غير هذا ، يا نبي الله» قال : «وما ذاك» ، قال : «يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها ، حتى إذا عاد الكرم كما كان» ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله. قال : روي ذلك عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله عليهما‌السلام (٢).

* س ٣٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) (٨٠) [سورة الأنبياء : ٨٠]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أوحى الله عزوجل إلى داود عليه‌السلام : إنك نعم العبد لو لا أنك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا ـ قال ـ فبكى داود عليه‌السلام أربعين صباحا ، فأوحى الله عزوجل إلى الحديد أن : لن لعبدي داود. فألان الله تعالى له الحديد ، فكان يعمل كلّ يوم درعا ، فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمائة وستين درعا ، فباعها بثلاثمائة وستين ألفا ، واستغنى عن بيت المال» (٣).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧٣.

(٢) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ٩١.

(٣) التهذيب : ج ٦ ، ص ٣٢٦ ، ح ٨٩٦.

٤٢٨

* س ٣٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) (٨١) [سورة الأنبياء : ٨١]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : في قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) قال : تجري من كلّ جانب (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) قال : إلى بيت المقدس ، والشام (١).

* س ٣٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٨٣) [سورة الأنبياء : ٨٣ ـ ٨٢]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسيّ (رحمه‌الله تعالى) : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي : وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر ، فيخرجون له الجواهر واللآلئ. والغوص : النزول إلى تحت الماء.

(وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي : سوى ذلك من الأبنية كالمحاريب والتماثيل وغيرهما (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) لئلا يهربوا منه ، ويمتنعوا عليه. وقيل : يحفظهم الله من أن يفسدوا ما عملوه ... (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) أي : واذكر يا محمد أيوب حين دعا ربه لما امتدت المحنة به (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) أي : نالني الضر ، وأصابني الجهد. (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي : ولا أحد أرحم منك. وهذا تعريض منه بالدعاء لإزالة ما به من البلاء ، وهو من لطيف الكنايات في طلب الحاجات ، ومثله قول موسى : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَ

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧٤.

٤٢٩

مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي : أجبنا دعاءه ونداءه (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أي : أزلنا ما به من الأوجاع والأمراض.

* س ٣٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (٨٤) [سورة الأنبياء : ٨٤]؟!

الجواب / قال أبو بصير لأبي عبد الله عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قلت : ولده كيف أوتي مثلهم معهم؟

قال : «أحيا له من ولده الذين كانوا ماتوا قبل البليّة ، وأحيا له أهله الذين ماتوا قبل ذلك بآجالهم ، مثل الذين هلكوا يومئذ» (١).

ومن أراد قصّة أيوب فليراجع سورة ص الآيات برقم (٤١ ـ ٤٤).

* س ٣٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨٦) [سورة الأنبياء : ٨٦ ـ ٨٥]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسيّ (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) أي : واذكر هؤلاء الأنبياء ، وما أنعمت عليهم من فنون النعمة.

ثم قال (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) صبروا على بلاء الله ، والعمل بطاعته. فأما إسماعيل فإنه صبر ببلد لا زرع به ولا ضرع ، وقام ببناء الكعبة. وأما إدريس فإنه صبر على الرعاء إلى الله ، وكان أول من بعث إلى قومه ، فدعاهم إلى الدين فأبوا ، فأهلكهم الله تعالى ، ورفعه إلى السماء السادسة. وأما ذو

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ، ص ٢٥٢ ، ح ٣٥٤.

٤٣٠

الكفل ، فاختلف فيه ، فقيل : إنه كان رجلا صالحا ، ولم يكن نبيا ، ولكنه تكفل لنبي بصوم النهار ، وقيام الليل ، وأن لا يغضب ، ويعمل بالحق ، فوفى بذلك ، فشكر الله ذلك له وقيل : هو نبي اسمه ذو الكفل ، ولم يقص الله خبره مفصلا. وقيل : هو الياس ، وقيل : كان نبيا ، وسمي ذا الكفل بمعنى أنه ذو الضعف ، فله ضعف ثواب غيره ممن هو في زمانه ، لشرف عمله. وقيل : هو اليسع بن خطوب الذي كان مع الياس ، وليس اليسع الذي ذكره الله في القرآن. تكفل لملك جبار ، إن هو تاب دخل الجنة ، ودفع إليه كتابا بذلك ، فتاب الملك ، وكان اسمه كنعان ، فسمي ذا الكفل ، والكفل في اللغة هو الخط.

وفي كتاب النبوة بالإسناد عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال : كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام أسأله عن ذي الكفل ، وما اسمه ، وهل كان من المرسلين؟ فكتب عليه‌السلام : إن الله بعث مائة ألف نبي ، وأربعة وعشرين ألف نبي ، المرسلين منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، وإن ذا الكفل منهم. وكان بعد سليمان بن داود ، وكان يقضي بين الناس ، كما يقضي داود عليه‌السلام ، ولم يغضب قط إلا لله تعالى ، وكان اسمه عدويا بن أدارين.

(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) أي : وأدخلنا هؤلاء الذين ذكرناهم من الأنبياء في نعمتنا. وأراد : غمرناهم بالرحمة. ولو قال رحمناهم لما أفاد ذلك ، بل أفاد أنه فعل بهم الرحمة (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : إنما أدخلناهم في رحمتنا ، لأنهم كانوا ممن صلحت أعمالهم (١).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ١٠٧.

٤٣١

* س ٣٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٨٨) [سورة الأنبياء : ٨٨ ـ ٨٧]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم ، هو يونس ، (وَذَا النُّونِ) أي ذا الحوت (١).

وروي عن علي بن محمد بن الجهم ، عن الرضا عليه‌السلام ، فيما سأله المأمون عن عصمة الأنبياء ، فقال الرضا عليه‌السلام : «نعم». قال له : أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ).

قال الرضا عليه‌السلام : «ذلك يونس بن متّى عليه‌السلام ، ذهب مغاضبا لقومه (فَظَنَ) بمعنى استيقن (أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أيّ لن نضيّق عليه رزقه ، ومنه قول الله تعالى : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)(٢) أي ضيّق وقتّر ، (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) أي : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لتركي مثل هذه العبادة التي قد فرّغتني لها في بطن الحوت ، فاستجاب الله له ، وقال تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(٣)».

فقال المأمون : «لله درّك ، يا أبا الحسن» (٤).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام ـ في رواية أبي الجارود ـ في قوله تعالى : (وَذَا

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧٤.

(٢) الفجر : ١٦.

(٣) الصافات : ١٤٣ و ١٤٤.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ١ ، ص ٢٠١ ، ح ١.

٤٣٢

النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) يعني من أعمال قومه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) يقول : ظنّ أن لن يعاقب بما صنع» (١).

وقال الشيخ الطبرسي : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أي : من بطن الحوت (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي : ننجيهم إذا دعونا به ، كما أنجينا ذا النون (٢).

* س ٣٨ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٩٠) [سورة الأنبياء : ٩٠ ـ ٨٩]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) قال : كانت لا تحيض فحاضت.

وقال : قوله تعالى : (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً). راغبين راهبين (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زهد يحيى بن زكريا عليهما‌السلام أنه أتى بيت المقدس ، فنظر إلى المجتهدين من الأحبار والرّهبان عليهم مدارع الشّعر ، وبرانس (٤) الصوف ، وإذا هم قد خرقوا تراقيهم ، وسلكوا فيها السلاسل ، وشدّوها إلى سواري المسجد ، فلما نظر إلى ذلك أتى أمّه ، فقال : يا أمّاه ،

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧٥.

(٢) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ١٠٩.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧٥.

(٤) البرنس : كل ثوب رأسه منه ملزوق به. «مجمع البحرين ـ برس ـ ج ٤ ، ص ٥٢».

٤٣٣

انسجي لي مدرعة من شعر ، وبرنسا من صوف ، حتى آتي بيت المقدس فأعبد الله مع الأحبار والرّهبان. فقالت له أمّه : حتى يأتي نبي الله واستأمره (١) في ذلك.

فلما دخل زكريا عليه‌السلام أخبرته بمقالة يحيى ، فقال له زكريا : يا بنيّ ، ما يدعوك إلى هذا ، وإنما أنت صبي صغير؟ فقال له : يا أبت ، أما رأيت من هو أصغر سنّا مني وقد أدركه الموت؟ قال : بلى ، ثم قال لأمّه : انسجي له مدرعة من شعر ، وبرنسا من صوف. ففعلت ، فتدرّع المدرعة على بدنه ، ووضع البرنس على رأسه ، ثم أتى بيت المقدس ، فأقبل يعبد الله عزوجل مع الأحبار حتى أكلت مدرعة الشعر لحمه.

فنظر ذات يوم إلى ما قد نحل من جسمه ، فبكى ، فأوحى الله عزوجل إليه ، يا يحيى ، أتبكي مما قد نحل من جسمك! وعزتي وجلالي لو اطلعت إلى النار اطّلاعة لتدرّعت مدرعة الحديد فضلا عن المنسوج (٢). فبكى حتى أكلت الدموع لحم خدّيه ، وبدت للناظرين أضراسه ، فبلغ ذلك أمّه ، فدخلت عليه ، وأقبل زكريا عليه‌السلام ، واجتمع الأحبار والرهبان فأخبروه بذهاب لحم خديه ، فقال : ما شعرت بذلك.

فقال زكريا عليه‌السلام : يا بنيّ ، ما يدعوك إلى هذا؟ إنما سألت ربّي أن يهبك لي لتقرّ بك عيني. قال : أنت أمرتني بذلك ، يا أبت. قال : ومتى ذلك ، يا بني. قال : ألست القائل : إن بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها إلّا البكاءون من خشية الله؟ قال : بلى؟ فجدّ واجتهد ، وشأنك غير شأني.

فقام يحيى فنفض مدرعته ، فأخذته أمّه ، فقالت : أتأذن لي ـ يا بني ـ أن أتخذ لك قطعتي لبود تواريان أضراسك ، وتنشّفان دموعك؟ قال لها : شأنك ،

__________________

(١) أي أستشيره.

(٢) المنسوج : وهي الألبسة المتخذة من الشعر.

٤٣٤

فاتّخذت له قطعتي لبود تواريان أضراسه ، وتنشفان دموعه ، فبكى حتى ابتلتا من دموع عينيه. فحسر عن ذراعيه ، ثم أخذهما فعصرهما ، فتحدرت الدموع من بين أصابعه ، فنظر زكريا إلى ابنه ، وإلى دموع عينيه ، فرفع رأسه إلى السماء ، فقال : اللهم إن هذا ابني ، وهذه دموع عينيه ، وأنت أرحم الراحمين.

وكان زكريّا عليه‌السلام إذا أراد أن يعظ بني إسرائيل يلتفت يمينا وشمالا ، فإن رأى يحيى عليه‌السلام لم يذكر جنّة ولا نارا ، فجلس ذات يوم يعظ بني إسرائيل ، وأقبل يحيى وقد لفّ رأسه لعباءة ، فجلس في غمار الناس ، والتفت زكريا يمينا وشمالا فلم ير يحيى عليه‌السلام ، فأنشأ يقول : حدّثني حبيبي جبرئيل عن الله تبارك وتعالى : أن في جهنم جبلا يقال له السكران ، وفي أصل ذلك الجبل واد يقال له الغضبان ، لغضب الرحمن تبارك وتعالى ، في ذلك الوادي جبّ قامته مائة عام ، في ذلك الجبّ توابيت من نار ، في تلك التوابيت صناديق من نار ، وثياب من نار ، وسلاسل من نار ، وأغلال من نار.

فرفع يحيى عليه‌السلام رأسه ، فقال : واغفلتاه عن (السكران). ثم أقبل هائما على وجهه ، فقام زكريا عليه‌السلام من مجلسه ، فدخل على أم يحيى ، فقال لها : يا أمّ يحيى ، قومي فاطلبي يحيى ، فإني قد تخوّفت أن لا نراه إلا وقد ذاق الموت. فقامت ، فخرجت في طلبه حتى مرّت بفتين من بني إسرائيل ، فقالوا لها : يا أم يحيى ، أين تريدين؟ قالت : أريد أن أطلب ولدي يحيى ، ذكرت النار بين يديه ، فهام على وجهه.

فمضت أم يحيى والفتية معها ، حتى مرّت براعي غنم ، فقالت له : يا راعي ، هل رأيت شابا من صفته كذا وكذا؟ فقال لها : لعلّك تطلبين يحيى بن زكريا؟ قالت : نعم ، ذاك ولدي ، ذكرت النار بين يديه ، فهام على وجهه ، فقال : إني تركته الساعة على عقبه ثنيّة كذا وكذا ، ناقعا قدميه في الماء ، رافعا نظره إلى السماء ، يقول : وعزّتك ـ يا مولاي ـ لا ذقت بارد الشراب حتى أنظر

٤٣٥

إلى منزلتي منك.

فأقبلت أمه ، فلما رأته أم يحيى دنت منه ، فأخذت برأسه ، فوضعته بين يديها ، وهي تناشده بالله ينطلق معها إلى المنزل ، فانطلق معها حتى أتى المنزل ، فقالت له أمه : هل لك أن تخلع مدرعة الشعر ، وتلبس مدرعة الصوف ، فإنه ألين؟ ففعل ، وطبخ له عدس ، فأكل واستوفى ، فنام ، فذهب به النوم فلم يقم لصلاته ، فنودي في منامه : يا يحيى بن زكريا أردت دارا خيرا من داري ، وجوارا خيرا من جواري؟ فاستيقظ فقام ، فقال : يا ربّ ، أقلني عثرتي ، إلهي فو عزّتك لا أستظل [بظل] سوى بيت المقدس.

وقال لأمّه : ناوليني مدرعة الشعر ، فقد علمت أنكما ستورداني المهالك. فتقدّمت أمه فدفعت إليه المدرعة ، وتعلقت به ، فقال لها زكريا عليه‌السلام : يا أمّ يحيى ، دعيه ، فإنّ ولدي قد كشف له عن قناع قلبه ، ولن ينتفع بالعيش. فقام يحيى عليه‌السلام فلبس مدرعته ، ووضع البرنس على رأسه ، ثم أتى بيت المقدس ، فجعل يعبد الله عزوجل مع الأحبار حتى كان من أمره ما كان» (١).

* س ٣٩ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) (٩٤) [سورة الأنبياء : ٩٤ ـ ٩١]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم ، في قوله تعالى : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ

__________________

(١) الأمالي : ص ٣٣ ، ح ٢ ابن بابويه.

٤٣٦

فَرْجَها) قال : مريم ، لم ينظر إليها بشر ، قال : قوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) قال : ريح مخلوقة ، قال (١) : يعني من أمرنا. قال : قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي لا يبطل سعيه (٢).

* س ٤٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٩٥) [سورة الأنبياء : ٩٥]؟!

الجواب / قال محمد بن مسلم : قال أبو عبد الله ، وأبو جعفرعليهما‌السلام: «كل قرية أهلك الله أهلها بالعذاب لا يرجعون في الرّجعة».

فهذه الآية من أعظم الدلالات في الرجعة ، لأنّ أحدا من أهل الإسلام لا ينكر أن الناس كلهم يرجعون إلى القيامة ، من هلك ومن لم يهلك ، وقوله تعالى : (لا يَرْجِعُونَ) ، أيضا عنى في الرّجعة ، فأمّا إلى القيامة فيرجعون (٣).

وقال بعض المعاصرين في كتاب له في الرجعة : بالإسناد ، في قوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

قال الصادق عليه‌السلام : «كلّ قرية أهلك الله أهلها بالعذاب لا يرجعون في الرجعة ، وأمّا في القيامة فيرجعون ، ومن محض الإيمان محضا ، وغيرهم ممّن لم يهلكوا بالعذاب ومحضوا الكفر محضا يرجعون» (٤).

__________________

(١) وقيل : روح مخلوقة بأمر الله.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧٥.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧٥.

(٤) الرجعة للميرزا محمد مؤمن الأسترابادي : ص ٢٠ «مخطوط».

٤٣٧

* س ٤١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٩٦) [سورة الأنبياء : ٩٦]؟!

الجواب / قال أبو بصير ـ في حديث خبر ذي القرنين ، وقد تقدّم في سورة الكهف (١) ـ قال عليه‌السلام فيه : «إذا كان قبل يوم القيامة في آخر الزمان انهدم ذلك السد ، وخرج يأجوج ومأجوج إلى الدنيا ، وأكلوا الناس ، وهو قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)(٢).

وقال علي بن إبراهيم : إذا كان في آخر الزمان خرج يأجوج ومأجوج إلى الدنيا ، ويأكلون الناس (٣).

* س ٤٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) (٩٧) [سورة الأنبياء : ٩٧]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي (رحمه‌الله تعالى) : قوله (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) أي : الموعود الصدق ومعناه : اقترب قيام الساعة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) معناه : فإذا القصة أن أبصار الذين كفروا تشخص في ذلك اليوم أي : لا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم وهوله ، ينظرون إلى تلك الأهوال ، (يا وَيْلَنا) أي : يقولون يا ويلنا (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) اشتغلنا بأمور الدنيا وغفلنا عن هذا اليوم ، فلم نتفكر فيه (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) بأن عصينا

__________________

(١) تقدّم في الحديث من تفسير الآيات (٨٣ ـ ٩٨) من سورة الكهف.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٤٠.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧٦.

٤٣٨

الله تعالى ، وعبدنا غيره (١).

* س ٤٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (١٠٣) [سورة الأنبياء : ١٠٣ ـ ٩٨]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم ، في قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) إلى قوله تعالى : (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ).

في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «لمّا نزلت هذه الآية وجد (٢) منها أهل مكّة وجدا شديدا ، فدخل عليهم عبد الله بن الزّبعري (٣) ، وكفّار قريش يخوضون في هذه الآية ، فقال ابن الزّبعري : أمحمّد تكلّم بهذه الآية؟ قالوا : «نعم». قال : لئن اعترف بهذه لأخصمنّه. فجمع بينهما فقال : يا محمد ، أرأيت الآية التي قرأت آنفا ، أفينا وفي آلهتنا خاصّة ، أم في أمم من الأمم الماضية وآلهتهم؟

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ١١٥.

(٢) وجد : حزن. «الصحاح ـ وجد ـ ج ٢ ، ص ٥٤٧».

(٣) عبد الله بن الزّبعري بن قيس السّهمي القرشي ، أبو سعد : شاعر قريش في الجاهلية ، كان شديدا على المسلمين إلى أن فتحت مكة ، فهرب إلى نجران ، فقال فيه حسان أبياتا ، فلمّا بلغته عاد إلى مكة ، فأسلم واعتذر ، ومدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمر له بحلّة. الأغاني : ص ١٤ ، ح ١١ ، شرح شواهد المغني : ج ٢ ، ص ٥٥١ ، أعلام الزركلي : ج ٤ ، ص ٨٧.

٤٣٩

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل فيكم وفي آلهتكم ، وفي الأمم الماضية وفي آلهتهم. إلّا من استثنى الله.

فقال ابن الزّبعري : لأخصمنّك ـ والله ـ ألست تثني على عيسى خيرا ، وقد عرفت أن النصارى يعبدون عيسى وأمّه ، وأن طائفة من الناس يعبدون الملائكة ، أفليس هؤلاء مع الآلهة في النار؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا. فضجّت قريش وضحكوا ، وقالوا : خصمك ابن الزّبعري. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قلتم الباطل ، أما قلت إلا من استثنى الله وهو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ).

قال : «قوله تعالى : (حَصَبُ جَهَنَّمَ) يقول : يقذفون فيها قذفا». قال : «قوله تعالى : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) يعني الملائكة وعيسى بن مريم عليهما‌السلام» (١).

وقال عمرو بن أبي شيبة : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ابتداء منه : «إنّ الله إذا بدا له أن يبين خلقه ويجمعهم لما لا بد منه ، أمر مناديا ينادي فيجتمع الإنس والجن في أسرع من طرفة عين ، ثمّ أذن لسماء الدنيا فتنزل وكانت من وراء الناس ، وأذن للسماء الثانية فتنزل وهي ضعف التي تليها ، فإذا رآها أهل السماء الدنيا قالوا : جاء ربنا. قالوا : وهو آت ـ يعني أمره ـ حتى تنزل كلّ سماء ، تكون كل واحدة منها من وراء الأخرى ، وهي ضعف التي تليها.

ثم ينزل أمر الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور ، ثم يأمر الله مناديا ينادي : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ)(٢)».

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٧٦.

(٢) الرحمن : ٣٣.

٤٤٠