التيسير في التفسير للقرآن - ج ٤

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

تفسير

سورة الحجر

رقم السورة ـ ١٥ ـ

٤١
٤٢

سورة الحجر

* س ١ : ما هو فضل سورة الحجر؟!

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ هذه السورة أعطي من الحسنات بعدد المهاجرين والأنصار ، ومن كتبها بزعفران وسقاها امرأة قليلة اللّبن كثر لبنها ، ومن كتبها وجعلها في عضده ، وهو يبيع ويشتري ، كثر بيعه وشراؤه ، ويحبّ الناس معاملته ، وكثر رزقه بإذن الله تعالى ما دامت عليه» (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : «من كتبها بزعفران وسقاها امرأة قليلة اللبن كثر لبنها ، ومن كتبها وجعلها في خزينته أو جيبه ، وغدا وخرج وهي في صحبته فإنّه يكثر كسبه ، ولا يعدل أحد عنه بما يكون عنده ممّا يبيع ويشتري ، وتحبّ الناس معاملته» (٢).

* س ٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣) [سورة الحجر : ٣ ـ ١]؟!

الجواب / معنى (الر) قد تقدّم (٣) وقال الصادق عليه‌السلام : «معناه أنا الله الرءوف» (٤).

__________________

(١) خواص القرآن : ٣ «قطعة منه».

(٢) خواص القرآن : ص ٣.

(٣) تقدم في الحديث من تفسير الآيات (١ ـ ٢) من سورة يونس.

(٤) معاني الأخبار : ص ٢٢ ، ح ١.

٤٣

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة ، نادى مناد من عند الله : لا يدخل الجنّة إلّا مسلم. فيومئذ (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ). ثمّ قال : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي يشغلهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) قال : هو إذا خرجت أنا وشيعتي ، وخرج عثمان وشيعته ، ونقتل بني أميّة ، فعندها يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» (٢).

وقال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال الله عزوجل : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(٣) لا تدفع عنها عذابا قد استحقّته عند النّزع (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ)(٤) يشفع لها بتأخير الموت عنها (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ)(٥) لا يقبل منها فداء مكانه ، يمات ويترك هو فداء.

قال الصادق عليه‌السلام : وهذا اليوم يوم الموت ، فإنّ الشفاعة والفداء لا يغني عنه ، فأمّا في القيامة ، فإنّا وأهلنا نجزي عن شيعتنا كلّ جزاء ، ليكوننّ على الأعراف ـ بين الجنة والنار ـ محمّد ، وعليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين عليهم‌السلام ، والطيّبون من آلهم ، فنرى بعض شيعتنا في تلك العرصات ، ممّن كان مقصّرا ، في بعض شدائدها ، فنبعث عليهم خيار شيعتنا ، كسلمان ، والمقداد ، وأبي ذرّ ، وعمّار ، ونظرائهم في العصر الذي يليهم ، ثمّ في كلّ عصر إلى يوم القيامة ، فينقضّون عليهم كالبزاة والصّقور ، ويتناولونهم كما

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٢.

(٢) مختصر بصائر الدرجات : ص ١٨.

(٣) البقرة : ٤٨.

(٤) البقرة : ٤٨.

(٥) البقرة : ٤٨.

٤٤

تتناول البزاة والصّقور صيدها ، فيزفّونهم إلى الجنّة زفّا. وإنّا لنبعث على آخرين من محبّينا من خيار شيعتنا كالحمام ، فيلتقطونهم من العرصات كما يلتقط الطير الحبّ ، وينقلونهم إلى الجنان بحضرتنا. وسيؤتى بالواحد من مقصّري شيعتنا في أعماله ، بعد أن قد حاز الولاية والتقيّة وحقوق إخوانه ، ويوقف بإزائه ما بين مائة وأكثر من ذلك ، إلى مائة ألف من النصّاب ، فيقال له : هؤلاء ـ فداؤك من النار فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنّة ، وأولئك النّصّاب النار ، وذلك ما قال الله عزوجل : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني بالولاية : (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) في الدنيا ، منقادين للإمامة ، ليجعل مخالفوهم فداءهم من النار» (١).

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٨) [سورة الحجر : ٨ ـ ٤]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي أجل مكتوب. ثمّ حكى قول قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي هلّا تأتينا بالملائكة؟

فردّ الله عزوجل عليهم ، فقال : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) قال : لو أنزلنا الملائكة لم ينظروا وهلكوا (٢).

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ص ٢٤١.

(٢) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٣.

٤٥

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [سورة الحجر : ٩]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسيّ (رحمه‌الله تعالى) : وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) يعني القرآن ... (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ـ فيها أقوال ـ.

١ ـ لحافظون من الزيادة والنقصان. ومثله قوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(١).

٢ ـ لحافظون حتى نجزي به يوم القيامة أي لقيام الحجة به على الجماعة من كل من لزمته دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣ ـ الهاء في قوله (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) يجوز أن تكون كناية عن النبي ، فكأنه قال : إنا نحن نزلنا القرآن وإنا لمحمد لحافظون.

٤ ـ وقيل : معناه وإنا له لحافظون من أن تناله أيدي المشركين ، فيسرعون إلى إبطاله ، ومنع المؤمنين من الصلاة به.

وفي هذه الآية دلالة على حدوث القرآن ، لأن ما يكون منزلا ومحفوظا لا يكون إلا محدثا ، لأن القديم لا يجوز عليه ذلك ولا يحتاج إلى حفظه (٢).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (١٣) [سورة الحجر : ١٣ ـ ١٠]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسيّ (رحمه‌الله) : يقول الله عزوجل لنبيه

__________________

(١) حم السجدة : ٤١ ، فصلت : ٤٢.

(٢) التبيان : ج ٦ ، ص ٣٢٠.

٤٦

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسلية له عن كفر قومه (لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) قال ابن عباس وقتادة : شيع الأمم واحدهم شيعة لمتابعة بعضهم بعضا في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد من مملكة أو عمارة أو بادية أو نحو ذلك من الأمور الجارية في العادة ، والمرسل محذوف لدلالة (أَرْسَلْنا) عليه.

وقوله (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أخبار منه تعالى أنه لم يبعث رسولا فيما مضى إلا وكانت أممهم تستهزئ بهم ، واستهزاؤهم بهم حملهم عليهم واستبعادهم ما دعوا إليه واستيحاشهم منه ، واستكبارهم له ، حتى توهموا أنه مما لا يكون ، ولا يصح مع مخالفته لما وجدوا عليه آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم ، فكان عندهم كأنه دعا إلى خلاف المشاهدة وإلى ما فيه جحد الضرورة والمكابرة.

والهزؤ إظهار ما يقصد به العيب على إيهام المدح ، وهو بمعنى اللعب والسخرية.

وقوله : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) قيل في معناه قولان :

١ ـ كذلك نسلك القرآن الذي هو الذكر بإخطاره على البال ليؤمنوا به ، فهم لا يؤمنون به ، ماضين على سنة من تقدمهم ، من تكذيب الرسل ، كما سلكنا دعوة الرسل في قلوب من سلف من الأمم ...

٢ ـ وقيل : يسلك الاستهزاء بإخطاره على البال ليجتنبوه ، ولو كان المراد أنه يسلك الشرك في قلوبهم ، لكان يقول : إنهم لا يؤمنون بالشرك ولو كانوا كذلك ، كانوا محمودين غير مذمومين ...

ومعنى قوله : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي في إهلاك من أقام على الكفر بالمعجزات بعد مجيء ما طلب من الآيات ، ويحتمل أن يكون المراد

٤٧

وقد خلت سنة الأولين في تكذيب رسلهم والكفر بما جاءوا به (١).

* س ٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٨) [سورة الحجر : ١٨ ـ ١٤]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم قال : (وَلَوْ فَتَحْنا) أيضا (عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) قال : منازل الشّمس والقمر (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) بالكواكب (٢).

ورواه الطّبرسي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣).

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ)(٤).

وقال علي بن إبراهيم : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) قال : لم تزل الشّياطين تصعد إلى السّماء وتتجسّس ، حتى ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥).

وقال عليّ بن إبراهيم : وروي عن آمنة أمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها قالت : لما

__________________

(١) التبيان : ج ٦ ، ص ٣٢٠.

(٢) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٣.

(٣) مجمع البيان : ج ٦ ، ص ٥٠٩. وفيه : بالكواكب النيّرة.

(٤) والرجيم : هو المرجوم باللعن ، المشؤوم ، المطرود من مواضع الخير ، إذ لا يذكره مؤمن إلا لعنه. وقيل : المرمي بالشهب. انظر تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ص ١٦ ، مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٥٠٩ ، مجمع البحرين ـ رجم ـ ج ٦ ، ص ٦٨.

(٥) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٣.

٤٨

حملت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم أشعر بالحمل ، ولم يصبني ما يصيب النساء من ثقل الحمل ، ورأيت في نومي كأنّ آتيا أتاني ، فقال لي : قد حملت بخير الأنام. ثم وضعته يتّقي الأرض بيديه وركبتيه ، ورفع رأسه إلى السّماء ، وخرج منّي نور ، أضاء ما بين السّماء والأرض.

ورميت الشّياطين بالنجوم ، وحجبوا من السّماء ، ورأت قريش الشّهب تتحرّك وتزول وتسير في السماء ففزعوا ، وقالوا : هذا قيام الساعة. واجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة ، وكان شيخا كبيرا مجرّبا ، فسألوه عن ذلك ، فقال : أنظروا إلى هذه النجوم التي تهتدون بها في ظلمات البرّ والبحر ، فإن كانت قد زالت فهي الساعة ، وإن كانت ثابتة فهو لأمر قد حدث.

وكان بمكّة رجل يهوديّ يقال له : يوسف ، فلمّا رأى النجوم تتحرّك وتسير في السماء ، خرج إلى نادي قريش وقال : يا معشر قريش ، هل ولد الليلة فيكم مولود؟ فقالوا : لا ، فقال : أخطأتم والتوراة ، قد ولد في هذه الليلة آخر الأنبياء وأفضلهم ، وهو الذي نجده في كتبنا ، أنه إذا ولد ذلك النبيّ رجمت الشياطين ، وحجبوا من السّماء. فرجع كلّ واحد إلى منزله يسأل أهله ، فقالوا : قد ولد لعبد الله بن عبد المطّلب ابن. فقال اليهوديّ : أعرضوه عليّ ، فمشوا معه إلى باب آمنة ، فقالوا لها : أخرجي ابنك ينظر إليه هذا اليهوديّ ، فأخرجته في قماطه ، فنظر في عينيه ، وكشف عن كتفه ، فرأى شامة سوداء عليها شعرات ، فسقط إلى الأرض مغشيّا عليه ، فضحكوا منه ، فقال : أتضحكون ، يا معشر قريش؟ هذا نبيّ السيف ، ليبيدنّكم ، وذهبت النبوّة من بني إسرائيل إلى آخر الأبد. وتفرّق الناس يتحدّثون بخبر اليهوديّ.

فلمّا رميت الشياطين بالنجوم أنكرت ذلك ، واجتمعوا إلى إبليس ، فقالوا : قد منعنا من السماء ، وقد رمينا بالشّهب! فقال : اطلبوا ، فإنّ أمرا قد حدث في الدنيا. فتفرّقوا ، فرجعوا ، وقالوا : لم نر شيئا. فقال إبليس : أنا لها

٤٩

بنفسي. فجال ما بين المشرق والمغرب ، حتى انتهى إلى الحرم فرآه محفوفا بالملائكة ، وجبرئيل على باب الحرم بيده حربة ، فأراد إبليس أن يدخل ، فصاح به جبرئيل ، فقال : اخسأ يا ملعون. فجاء من قبل حراء ، فصار مثل الصّرّ (١) ، ثمّ قال : يا جبرئيل حرف أسألك عنه. قال : وما هو؟ قال : ما هذا ، وما اجتماعكم في الدنيا؟ فقال : نبيّ هذه الأمّة قد ولد ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم. قال : هل لي فيه نصيب؟ قال : لا. قال : ففي أمّته؟ قال : بلى. قال : قد رضيت (٢).

* س ٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢٠) [سورة الحجر : ٢٠ ـ ١٩]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم قوله : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي الجبال : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) قال : لكلّ ضرب من الحيوان قدّرنا شيئا مقدّرا (٣).

وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) : «فإن الله تبارك وتعالى أنبت في الجبال الذهب والفضّة والجوهر والصّفر والنّحاس والحديد والرّصاص والكحل والزرنيخ ، وأشباه ذلك لا يباع إلّا وزنا» (٤).

__________________

(١) الصّرّ : طائر كالعصفور أصفر. «أقرب الموارد ـ صرر ـ ج ١ ، ص ٦٤٣».

(٢) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٣.

(٣) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٤.

(٤) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٤.

٥٠

* س ٨ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١) [سورة الحجر : ٢١]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) قال : الخزانة : الماء الذي ينزل من السماء فينبت لكلّ ضرب من الحيوان ما قدّر الله له من الغذاء (١).

وروي عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام أنّه قال : «في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البرّ والبحر ـ قال ـ وهذا تأويل قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) وإنّ بين القائمة من قوائم العرش ، والقائمة الثانية خفقات الطير المسرع مسيرة ألف عام ، والعرش يكسى كلّ يوم سبعين لونا من النور ، لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله ، والأشياء كلّها في العرش كحلقة في فلاة.

وإنّ لله ملكا يقال له : حزقائيل ، له ثمانية عشر ألف جناح ، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، فخطر له خاطر بأن قال : هل فوق العرش شيء؟ فزاده الله مثلها أجنحة أخرى ، فكان له ستّ وثلاثون ألف جناح ، ما بين الجناح ، إلى الجناح خمسمائة عام ، ثمّ أوحى الله إليه : أيّها الملك ، طر ، فطار مقدار عشرين ألف عام ولم ينل رأس قائمة من قوائم العرش ، ثمّ ضاعف الله له في الجناح والقوّة ، وأمره أن يطير ، فطار مقدار ثلاثين ألف عام ، ولم ينل أيضا ، فأوحى الله إليه : أيّها الملك ، لو طرت إلى نفخ الصّور مع أجنحتك وقوّتك ، لم تبلغ إلى ساق العرش. فقال الملك : سبحان ربّي الأعلى ، فأنزل الله عزوجل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)(٢) فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٥.

(٢) الأعلى : ١.

٥١

اجعلوها في سجودكم» (١).

* س ٩ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) (٢٣) [سورة الحجر : ٢٣ ـ ٢٢]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : التي تلقّح الأشجار (٢).

وسأل أبو بصير أبا جعفر عليه‌السلام عن الرّياح ، قال : «ولله عزّ ذكره رياح رحمة لواقح وغير ذلك ، ينشرها بين يدي رحمته ، منها ما يهيج السّحاب للمطر ، ومنها رياح تحبس السّحاب بين السّماء والأرض ، ورياح تعصر السّحاب فتمطره بإذن الله» (٣).

وقال علي بن إبراهيم : في قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي لا تقدرون أن تخزنوه : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) أي نرث الأرض ومن عليها (٤).

* س ١٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٢٥) [سورة الحجر : ٢٥ ـ ٢٤]؟!

الجواب / قال أبو جعفر عليه‌السلام : «هم المؤمنون من هذه الأمّة» (٥).

وقال الشيبانيّ في (نهج البيان) قال : روي عن الصادق عليه‌السلام : «أنّ المستقدمين أصحاب الحسنات ، والمستأخرين أصحاب السّيّئات» (٦).

__________________

(١) روضة الواعظين : ص ٤٧.

(٢) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٥.

(٣) الكافي : ج ٨ ، ص ٩١ ، ح ٦٣.

(٤) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٥.

(٥) تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٢٤٠ ، ح ٦.

(٦) نهج البيان : ج ٢ ، ص ١٦١ «مخطوط».

٥٢

وقال الشيخ الطبرسي : قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) معناه : إن ربك يا محمد ، أو أيها السامع ، هو الذي يجمعهم يوم القيامة ، ويبعثهم بعد إماتتهم للمجازاة ، والمحاسبة (إِنَّهُ حَكِيمٌ) في أفعاله (عَلِيمٌ) بما استحق كل منهم (١).

* س ١١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٦) [سورة الحجر : ٢٦]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) قال : الماء المتصلصل بالطين : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال : حمأ متغيّر (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل خلق المؤمن من طينة الجنّة ، وخلق الكافر من طينة النار ـ وقال ـ إذا أراد الله عزوجل بعبد خيرا ، طيّب روحه وجسده فلا يسمع شيئا من الخير إلا عرفه ولا يسمع شيئا من المنكر إلا أنكره».

وقال : «الطّينات ثلاث : طينة الأنبياء ، والمؤمن من تلك الطينة ، إلا أن الأنبياء من صفوتها ، هم الأصل ولهم فضلهم ، والمؤمنون الفرع من طين لازب ، كذلك لا يفرّق الله عزوجل بينهم وبين شيعتهم ـ وقال ـ طينة الناصب من حمإ مسنون ، وأما المستضعفون فمن تراب ، لا يتحوّل مؤمن عن إيمانه ، ولا ناصب عن نصبه ، ولله المشيئة فيهم» (٣).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قال الله للملائكة : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(٤) قال : وكان ذلك من الله تقدمة منه إلى الملائكة احتجاجا منه عليهم ، وما كان الله ليغيّر ما بقوم إلّا بعد الحجّة عذرا ونذرا ، فاغترف الله

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ، ص ١١٢.

(٢) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧٥.

(٣) الكافي : ج ٢ ، ص ٢ ، ح ٢.

(٤) الحجر : ٢٨ و ٢٩.

٥٣

غرفة بيمينه ـ وكلتا يديه يمين (١) ـ من الماء العذب الفرات ، فصلصلها في كفّه فجمدت ، ثم قال : منك أخلق النبيّين والمرسلين وعبادي الصالحين ، الأئمّة المهديّين ، الدّعاة إلى الجنّة ، وأتباعهم إلى يوم القيامة ولا أبالي ، ولا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون.

ثم اغترف الله غرفة بكفّه الأخرى من الماء الملح الأجاج ، فصلصلها في كفّه فجمدت ، ثم قال لها : منك أخلق الجبّارين ، والفراعنة ، والعتاة ، وإخوان الشياطين ، وأئمّة الكفر ، والدعاة إلى النار ، وأتباعهم إلى يوم القيامة ، ولا أبالي ، ولا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون. واشترط في ذلك البداء فيهم ، ولم يشترط في أصحاب اليمين البداء لله فيهم ثمّ خلط الماءين في كفه جميعا فصلصلهما ، ثمّ أكفأهما قدّام عرشه وهما بلّة من طين» (٢).

* س ١٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ)(٣٥) [سورة الحجر : ٣٥ ـ ٢٧]؟!

الجواب / قال أبو بصير ، للصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : أخبرني عن

__________________

(١) قال المجلسي (رحمه‌الله) : لمّا كانت اليد كناية عن القدرة ، فيحتمل أن يكون المراد باليمين القدرة على الرحمة والنعمة والفضل ، وبالشمال القدرة على العذاب والقهر والابتلاء ، فالمعنى : أنّ عذابه وقهره وإمراضه وإماتته وسائر المصائب والعقوبات لطف ورحمة لاشتمالها على الحكم الخفيّة والمصالح العامة ، وبه يمكن أن يفسر ما ورد في الدعاء : والخير في يديك. بحار الأنوار : ج ٥ ، ص ٢٣٨.

(٢) تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٢٤٠ ، ح ٧.

٥٤

خلق آدم ، كيف خلقه الله تعالى؟

قال : «إن الله تعالى لمّا خلق نار السّموم ، وهي نار لا حرّ لها ولا دخان ، فخلق منها الجان ، فذلك معنى قوله تعالى : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) وسمّاه مارجا ، وخلق منه زوجه وسمّاها مارجة ، فواقعها فولدت الجان ، ثم ولد الجانّ ولدا وسمّاه الجنّ ، ومنه تفرّعت قبائل الجنّ ، ومنهم إبليس اللعين ، وكان يولد الجانّ الذكر والأنثى ، ويولد الجنّ كذلك توأمين ، فصاروا تسعين ألفا ذكرا وأنثى ، وازدادوا حتى بلغوا عدّة الرمال.

وتزوّج إبليس بامرأة من ولد الجانّ يقال لها : لهبا بنت روحا بن سلساسل ، فولدت منه بيلقيس وطونة في بطن واحد ، ثم شعلا وشعيلة في بطن واحد ، ثمّ دوهر ودوهرة في بطن واحد ، ثم شوظا وشيظة في بطن واحد ، ثم فقطس وفقطسة في بطن واحد ، فكثر أولاد إبليس (لعنه الله) حتى صاروا لا يحصون ، وكانوا يهيمون على وجوههم كالذرّ ، والنّمل ، والبعوض ، والجراد ، والطّير ، والذباب. وكانوا يسكنون المفازو (١) والقفار ، والحياض ، والآجام ، والطرق ، والمزابل ، والكنف (٢) ، والأنهار ، والآبار ، والنواويس (٣) ، وكلّ موضع وحش ، حتى امتلأت الأرض منهم. ثم تمثّلوا بولد آدم بعد ذلك ، وهم على صور الخيل ، والحمير ، والبغال ، والإبل ، والمعز ، والبقر ، والغنم ، والكلاب ، والسباع ، والسلاحف.

فلمّا امتلأت الأرض من ذريّة إبليس (لعنه الله) أسكن الله الجانّ الهواء دون السّماء ، وأسكن ولد الجنّ في سماء الدنيا ، وأمرهم بالعبادة والطاعة وهو

__________________

(١) المفاوز : جمع مفازة ، البرّيّة القفر. «لسان العرب ـ فوز ـ ج ٥ ، ص ٣٩٣».

(٢) الكنف : واحدها الكنيف ، وهو الحضيرة المتّخذة للإبل والغنم ، والمرحاض. «المعجم الوسيط ـ كنف ـ ج ٢ ، ص ٨٠١».

(٣) النواويس : جمع ناووس أو ناؤوس ، مقبرة النصارى. ويطلق على حجر منقور تجعل فيه جثة الميّت. «أقرب الموارد ـ نوس ـ ج ٢ ، ص ١٣٥٨».

٥٥

قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(١).

وكانت السّماء تفتخر على الأرض ، وتقول : إنّ ربّي رفعني فوقك ، وأنا مسكن الملائكة ، وفيّ العرش والكرسيّ والشمس والقمر والنجوم ، وخزائن الرحمة ، ومنّي ينزل الوحي. فقالت الأرض : إنّ ربّي بسطني واستودعني عروق الأشجار والنبات والعيون ، وخلق فيّ الثمرات والأنهار والأشجار. فقالت لها السماء : ليس عليك أحد يذكر الله تعالى؟

فقالت الأرض : يا ربّ ، إنّ السماء تفتخر عليّ ، إذ ليس عليّ أحد يذكرك. فنوديت الأرض : أن اسكني ، فإنّي أخلق من أديمك صورة لا مثل لها من الجنّ (٢) ، وأرزقه العقل والعلم والكتاب واللسان ، وأنزل عليه من كلامي ، ثم أملأ بطنك وظهرك وشرقك وغربك على مزاج تربك في اللون ، والحريّة ، والسريّة ، وافتخري يا أرض على السماء بذلك.

ثم استقرّت الأرض وسألت ربها أن يهبط إليها خلقا ، فأذن لها بذلك ، على أن يعبدوه ولا يعصوه ـ قال ـ وهبط الجنّ وإبليس اللعين وسكنا الأرض ، فأعطوا على ذلك العهد ، ونزلوا وهم سبعون ألف قبيلة يعبدون الله حقّ عبادته دهرا طويلا.

ثمّ رفع الله إبليس إلى سماء الدنيا لكثرة عبادته ، فعبد الله تعالى فيها ألف سنة ، ثمّ رفع إلى السماء الثانية ، فعبد الله تعالى فيها ألف سنة ، ولم يزل يعبد الله في كلّ سماء ألف سنة حتى رفعه الله إلى السماء السابعة ، وكان أوّل يوم في السماء الأولى السبت ، والأحد في الثانية ، حتى كان يوم الجمعة صيّر في السماء السابعة ، وكان يعبد الله حقّ عبادته ، ويوحّده حقّ توحيده ، وكان بمنزلة عظيمة حتّى إذا مرّ به جبرئيل وميكائيل ، يقول بعضهم لبعض : لقد

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) في «ط» : الحسن.

٥٦

أعطي هذا العبد من القوّة على طاعة الله وعبادته ما لم يعط أحد من الملائكة.

فلمّا كان بعد ذلك بدهر طويل ، أمر الله تعالى جبرئيل أن يهبط إلى الأرض ، ويقبض من شرقها وغربها وقعرها وبسطها قبضة ، ليخلق منها خلقا جديدا ، ليجعله أفضل الخلائق» (١).

وقال ابن عباس : فلمّا أراد الله أن ينفخ في آدم الرّوح ، خلق روح آدم عليه‌السلام ليست كالأرواح ، وهي روح فضلها الله تعالى على جميع أرواح الخلق من الملائكة وغيرها ، فذلك قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، وقال الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(٢). قال : فلمّا خلق الله تعالى روح آدم عليه‌السلام أمر بغمسها في جميع الأنوار ، ثم أمرها أن تدخل في جسد آدم عليه‌السلام بالتأنّي دون الاستعجال ، فرأت الرّوح مدخلا ضيّقا ومنافذ ضيّقة ، فقالت : يا ربّ ، كيف أدخل من الفضاء إلى الضّيق؟ فنوديت : أن ادخلي كرها. فدخلت الرّوح من يافوخه إلى عينيه ففتحهما آدم عليه‌السلام فجعل ينظر إلى بدنه ولا يقدر على الكلام ، ونظر إلى سرادق العرش مكتوبا عليه : لا إله إلا الله ، محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصارت الرّوح إلى أذنيه ، فجعل يسمع تسبيح الملائكة. ثم جعلت الرّوح تدور في رأسه ودماغه ، والملائكة ينظرون إليه ،

__________________

(١) تحفة الإخوان : ص ٦٢ «مخطوط». وقد ذكرنا في الآية السابقة رواية تخص الآيات من سورة الحجر برقم (٢٨ ـ ٢٩).

(٢) قال محمد بن مسلم : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) كيف هذا النفح؟ فقال عليه‌السلام : «إن الروح متحرك كالريح ، وإنّما سمّي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح ، وإنّما أخرجه على لفظ الريح لأن الأرواح مجانسة للريح ، وإنّما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح ، كما قالت لبيت من البيوت : بيتي ، ولرسول من الرسل : رسولي ـ خليلي ـ وأشباه ذلك ، وكلّ ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبّر». (الكافيّ ج ١ ، ص ١٠٣ ، ح ٣). والآية [الإسراء : ٨٥].

٥٧

ويتوقّعون متى يؤمرون بالسّجود ليسجدوا ، وإبليس اللعين يضمر خلاف ذلك. وقد أخبر الله تعالى الملائكة قبل خلقه بذلك ، قوله تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(١). ثمّ صارت الرّوح إلى الخياشيم ، ففتحت العطسة المجاري المسدودة وسارت إلى اللسان ، فقال آدم عليه‌السلام : «الحمد لله الذي لم يزل». فهي أوّل كلمة قالها ، فناداه الرّبّ : يرحمك ربّك ـ يا آدم ـ لهذا خلقتك ، وهذا لك ولذريتك ، ولمن قال مثل مقالتك. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس على إبليس أشدّ من تسميت العاطس» قال : فصارت الروح في جسد آدم عليه‌السلام حتى بلغت الساقين والقدمين ، فاستوى آدم قائما على قدميه في يوم الجمعة عند زوال الشمس.

قال جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : «كانت الرّوح في رأس آدم عليه‌السلام مائة عام ، في صدره مائة عام ، وفي ظهره مائة عام ، وفي بطنه مائة عام ، وفي عجزه وفي وركيه مائة عام ، وفي ساقيه وقدميه مائة عام».

فلمّا استوى آدم قائما ، نظرت إليه الملائكة كأنّه الفضّة البيضاء ، فأمرهم الله بالسّجود له ، فأوّل من بادر إلى السجود جبرئيل ، ثم ميكائيل ، ثم عزرائيل ، ثم إسرافيل ، ثم الملائكة المقرّبون. وكان السجود لآدم يوم الجمعة عند الزوال ، فبقيت الملائكة في سجودها إلى العصر ، فجعل الله تعالى هذا اليوم عيدا لآدم عليه‌السلام ولأولاده ، وأعطاه الله تعالى فيه الإجابة في الدّعاء ، وفي يوم الجمعة وليلتها أربع وعشرون ساعة ، في كلّ ساعة يعتق سبعون ألف عتيق من النار (٢).

__________________

(١) سورة ص : ٧١ و ٧٢.

(٢) تحفة الإخوان : ص ٦٣ «مخطوط».

٥٨

وقال جعفر الصادق عليه‌السلام : «وأبى إبليس (لعنه الله) من أن يسجد لآدم عليه‌السلام استكبارا وحسدا ، فقال الله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(١) والنار تأكل الطين ، وأنا الذي عبدتك دهرا طويلا قبل أن تخلقه ، وأنا الذي كسوتني الريش والنور ، وأنا الذي عبدتك في أكناف السماوات مع الكرّوبيّين والصّافّين والمسبّحين والروحانيّين والمقرّبين. قال الله تعالى : لقد علمت في سابق علمي من ملائكتي الطاعة ومنك المعصية ، فلم ينفعك طول العبادة لسابق العلم فيك ، وقد أبلستك (٢) من الخير كلّه إلى آخر الأبد ، وجعلتك مذموما مدحورا شيطانا رجيما لعينا. فعند ذلك تغيّرت خلقته الحسنة إلى خلقة كريهة مشوّهة ، فوثب عليه الملائكة بحرابها وهم يلعنونه ويقولون له ؛ رجيم ملعون ، رجيم ملعون. فأوّل من طعنه جبرئيل ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم عزرائيل ، ثم جميع الملائكة من كلّ ناحية وهو هارب من بين أيديهم حتى ألقوه في البحر المسجور ، فبادرت إليه الملائكة بحراب من نار ، فلم يزالوا يطعنونه حتى بلغوه القرار ، وغاب عن عيون الملائكة ، والملائكة في اضطراب والسّماوات في رجفان من جرأة إبليس اللّعين وعصيانه أمر الله. قال الله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(٣) حتى عرف اللغات كلها ، حتى لغات الحيّات والضفادع ، وجميع ما في البرّ والبحر».

فانتصب آدم على منبره قائما ، وسلّم على الملائكة ، وقال : «السّلام عليكم ، يا ملائكة ربّي ورحمة الله وبركاته» فأجابه الملائكة : وعليك السّلام

__________________

(١) سورة ص : ٧٥ و ٧٦.

(٢) الإبلاس : الانكسار والحزن. وأبلس من رحمة الله : أي يئس. «الصحاح ـ بلس ـ ج ٣ ، ص ٩٠٩».

(٣) البقرة : ٣١.

٥٩

ورحمة الله وبركاته. فإذا النداء : يا آدم ، لهذا خلقتك ، وهذا السّلام تحيّة لك ولذرّيّتك إلى يوم القيامة».

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما فشا السّلام في قوم إلا أمنوا من العذاب ، فإن فعلتموه دخلتم الجنّة».

قال : فأخذ آدم في خطبته فبدأ يقول : «الحمد لله» فصار ذلك سنّة لأولاده ، وأثنى على الله تعالى بما هو أهله ، ثمّ ذكر علم السماوات والأرضين وما فيها من خلق رب العالمين ، فعند ذلك قال الله تعالى للملائكة : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١) فشهدت الملائكة على أنفسها وأقرّت ، وقالت ؛ (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(٢) قال الله تعالى : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ)(٣) فجعل آدم يخبرهم بأسماء كلّ شيء ، خفيّها وظاهرها ، برها وبحرها ، حتى الذّرّة والبعوضة ، فتعجّبت الملائكة من ذلك ، قال الله تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(٤) يعني ما كتم إبليس من إضمار المعصية.

قال : ونزل آدم عليه‌السلام من منبره ، وزاد الله في حسنه أضعافا زيادة على ما كان عليه من الحسن والجمال ، فلمّا نزل قرّب إليه قطف (٥) من عنب أبيض فأكله ، وهو أول شيء أكله من طعام الجنّة ، فلمّا استوفاه ، قال : «الحمد لله رب العالمين» ، فقال الله تعالى : يا آدم ، لهذا خلقتك ، وهو سنّتك وسنّة ذريّتك إلى آخر الدهر. ثمّ أخذته السنة ، أي النعاس ، مبادئ النوم ، لأنّه لا راحة لبدن يأكل إلّا النّوم ، ففزعت الملائكة ، وقالت : النّوم هو الموت. فلمّا

__________________

(١) البقرة : ٣١.

(٢) البقرة : ٣٢.

(٣) البقرة : ٣٣.

(٤) البقرة : ٣٣.

(٥) القطف : العنقود ساعة يقطف. «أقرب الموارد ـ قطف ـ ج ٢ ، ص ١٠١٦».

٦٠