التيسير في التفسير للقرآن - ج ٤

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

تفسير

سورة مريم

رقم السورة ـ ١٩ ـ

٣٠١
٣٠٢

سورة مريم

* س ١ : ما هو فضل سورة مريم؟!

الجواب / قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ هذه السورة أعطي من الحسنات بعدد من ادّعى لله ولدا سبحانه لا إله إلا هو ، وبعدد من صدّق زكريا ويحيى وعيسى وموسى وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم‌السلام عشر حسنات ، وعدد من كذّب بهم ، ويبنى له في الجنّة قصر أوسع من السّماء والأرض في أعلى جنة الفردوس ، ويحشر مع المتقين في أوّل زمرة السابقين ، ولا يموت حتى يستغني هو وولده ، ويعطى في الجنة مثل ملك سليمان عليه‌السلام : ومن كتبها وعلّقها عليه لم ير في منامه إلّا خيرا ، وإن كتبها في حائط البيت منعت طوارقه ، وحرست ما فيه ، وإن شربها الخائف أمن» (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : «من كتبها وجعلها في إناء زجاج ضيّق الرأس نظيف ، وجعلها في منزله كثر خيره ، ويرى الخيرات في منامه ، كما يرى أهله في منزله ... (٢).

* س ٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(كهيعص) (١) [سورة مريم : ١]؟!

الجواب / وردت روايات عديدة عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام نذكر منها :

١ ـ دخل رجل على جعفر الصادق عليه‌السلام فسأله عن (كهيعص) ،

__________________

(١) خواص القرآن : ص ٤٤.

(٢) خواص القرآن : ص ٤٤.

٣٠٣

فقال عليه‌السلام : «كاف : كاف لشيعتنا ، هاء : هاد لهم ، ياء : وليّ لهم ، عين : عالم بأهل طاعتنا ، صاد : صادق لهم وعده ، حتى يبلغ بهم المنزلة التي وعدها إيّاهم في بطن القرآن» (١).

٢ ـ قال سعد بن عبد الله القميّ ، في حديث له مع أبي محمد الحسن بن عليّ العسكري عليه‌السلام : قال له : «ما جاء بك ، يا سعد؟» فقلت : شوّقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا.

قال : «والمسائل التي أردت أن تسأل عنها؟». قلت : على حالها ، يا مولاي ، قال : «فسل قرّة عيني عنها». وأومأ بيده إلى الغلام ـ يعني ابنه القائم عليه‌السلام ـ فقال لي الغلام : «سل عمّا بدا لك». وذكر المسائل إلى أن قال : قلت : فأخبرني ـ يا بن رسول الله ـ عن تأويل (كهيعص)؟

قال : «هذه الحروف من أنباء الغيب ، أطلع الله عليها عبده زكريا ، ثمّ قصها على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك أنّ زكريا عليه‌السلام سأل ربه أن يعلّمه أسماء الخمسة ، فأهبط الله عليه جبرائيل عليه‌السلام فعلّمه إياها ، فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن عليهم‌السلام ، سرى عنه همّه وانجلى كربه ، وإذا ذكر الحسين عليه‌السلام خنقته العبرة ، ووقعت عليه البهرة.

فقال ذات يوم : إلهي ، ما لي إذا ذكرت أربعا منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصّته ، فقال : (كهيعص) فالكاف : اسم كربلاء ، والهاء : هلاك العترة ، والياء : يزيد (لعنه الله) ، وهو ظالم الحسين عليه‌السلام ، والعين : عطشه ، والصاد : صبره. فلمّا سمع بذلك زكريا عليه‌السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ، ومنع فيها الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب ، وكانت ندبته : إلهي ،

__________________

(١) معاني الأخبار : ص ٢٨ ، ح ٦.

٣٠٤

أتفجع خير خلقك بولده ، إلهي أتنزل بلوى هذه الرّزية بفنائه ، إلهي ، أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة ، إلهي أتحل كربة هذه الفجيعة بساحتهما.

ثم كان يقول : إلهي ، ارزقني ولدا تقرّ به عيني على الكبر ، واجعله وارثا وصيّا ، واجعل محله مني محل الحسين ، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ، ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده ، فرزقه الله يحيى عليه‌السلام وفجعه به ، وكان حمل يحيى عليه‌السلام ستة أشهر ، وحمل الحسين عليه‌السلام كذلك» (١).

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) (١٠) [سورة مريم : ١٠ ـ ٢]؟!

الجواب / قال أبو جعفر عليه‌السلام ـ في رواية أبي الجارود ـ قوله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) يقول : «ذكر ربك عبده فرحمه» ، (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) يقول : «ضعف» (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) يقول : «لم يكن دعائي خائبا عندك». (وَإِنِّي خِفْتُ

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة : ص ٤٥٤ ، ح ٢١.

٣٠٥

الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) يقول : «خفت الورثة من بعدي» (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) يقول : «لم يكن لزكريا يومئذ ولد يقوم مقامه ، ويرثه ، وكانت هدايا بني إسرائيل ونذورهم للأحبار ، وكان زكريا رئيس الأحبار ، وكانت امرأة زكريا أخت ـ أم ـ مريم بنت عمران بن ماثان ، وبنو ماثان ، إذ ذاك رؤساء بني إسرائيل وبنو ملوكهم ، وهم من ولد سليمان بن داود ، فقال زكريا (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) يقول : لم يسمّ باسم يحيى أحد قبله (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) فهو اليؤوس (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) صحيحا من غير مرض» (١).

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١١) [سورة مريم : ١١]؟!

الجواب / قال الصادق عليه‌السلام : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام حين سألوه عن معنى الوحي ، فقال : منه وحي النبوّة ، ومنه وحي الإلهام ، ومنه وحي الإشارة ـ وساقه إلى أن قال ـ وأمّا وحي الإشارة فقوله عزوجل (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي أشار إليهم ، لقوله تعالى : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً)(٢)» (٣).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٤٨.

(٢) آل عمران : ٤١.

(٣) المحكم والمتشابه : ص ١٦.

٣٠٦

وقال الشيخ الطوسي رحمه‌الله تعالى : حكى الله تعالى أن زكريا «خرج على قومه من المحراب» وهو الموضع الذي يتوجه إليه للصلاة. وقال ابن زيد محرابه مصلاه. والأصل فيه مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله «فأوحى إليهم» قيل : معناه أشار إليهم وأومأ بيده. والإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفي بسرعة من الأمر. وأصله السرعة من قولهم : الوحي الوحا أي الإسراع.

وقيل : كتب لهم على الأرض ، والوحي الكتابة.

وقوله «إن سبحوا بكرة وعشيا» أي أوحى إليهم بأن سبحوا ، ومعناه صلوا بكرة وعشيا ... وقيل للصلاة تسبيح ، لما فيها من الدعاء والتسبيح ، ويقال : فرغت من سبحتي أي صلاتي (١).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥) [سورة مريم : ١٥ ـ ١٢]؟!

الجواب / ١ ـ قال يزيد الكناسي : سألت أبا جعفر عليه‌السلام : أكان عيسى بن مريم عليه‌السلام حين تكلم في المهد حجّة الله على أهل زمانه؟ فقال : «كان يومئذ نبيّا حجة لله غير مرسل ، أما تسمع لقوله حين قال : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٢)».

قلت : فكان يومئذ حجّة لله على زكريا في تلك الحال وهو في المهد؟

__________________

(١) التبيان : ج ٧ ، ص ١١٠ ـ ١١١.

(٢) مريم : ٣٠ و ٣١.

٣٠٧

فقال : «كان عيسى في تلك الحال آية للناس ، ورحمة من الله لمريم حين تكلّم فعبر عنها ، وكان نبيّا حجّة على من سمع كلامه في تلك الحال ، ثمّ صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان ، وكان زكريّا الحجّة لله عزوجل على الناس بعد ما صمت عيسى سنتين ، ثمّ مات زكريا عليه‌السلام ، فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة ، وهو صبيّ صغير ، أما تسمع لقوله عزوجل (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ، فلما بلغ عيسى عليه‌السلام سبع سنين تكلم بالنبوّة والرسالة حين أوحى الله تعالى إليه ، فكان عيسى الحجّة على يحيى وعلى الناس أجمعين» (١).

٢ ـ قال أبو حمزة الثمالي : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فما عنى الله بقوله في يحيى : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا)؟ قال : «تحنّن الله».

قال : قلت : فما بلغ من تحنّن الله عليه؟ قال : «كان إذا قال : يا ربّ ، قال الله عزوجل : لبيك يا يحيى» (٢).

٣ ـ قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : «إنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم ولد ويخرج من بطن أمّه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث حيا فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا ، وقد سلّم عيسى بن مريم عليه‌السلام على نفسه في هذه الثلاثة مواطن ، فقال : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)(٣)» (٤).

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٣١٣ ، ح ١.

(٢) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٨٨ ، ح ٣٨.

(٣) مريم : ٣٣.

(٤) الخصال : ص ١٠٧ ، ح ٧١.

٣٠٨

* س ٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) (٣٤) [سورة مريم : ٣٤ ـ ١٦]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم القمي : ثمّ قصّ الله عزوجل خبر مريم بنت عمران عليهم‌السلام ، فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) قال : خرجت إلى النخلة اليابسة (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) قال : في محرابها (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) يعني جبرائيل عليه‌السلام (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً

٣٠٩

سَوِيًّا قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) يعني إن كنت ممّن يتقي الله.

قال لها جبرائيل عليه‌السلام : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) فأنكرت ذلك ، لأنّها لم يكن في العادة أن تحمل المرأة من غير فحل ، فقالت : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) ولم يعلم جبرائيل عليه‌السلام أيضا كيفيّة القدرة ، فقال لها : (كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا).

ـ [وقال علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) : «خرجت من دمشق حتى أتت كربلاء ، فوضعته في موضع قبر الحسين عليه‌السلام ، ثمّ رجعت من ليلتها» (١)].

قال : فنفخ في جيبها ، فحملت بعيسى عليه‌السلام بالليل ووضعته بالغداة ، وكان حملها تسع ساعات من النهار ، جعل الله لها الشهور ساعات ، ثم ناداها جبرائيل عليه‌السلام : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) أي هزّي النخلة اليابسة ، فهزّت ، وكان ذلك اليوم سوقا ، فاستقبلها الحاكة ، وكانت الحياكة أنبل صناعة في ذلك الزمان ، فأقبلوا على بغال شهب ، فقالت لهم مريم : أين النخلة اليابسة؟ فاستهزءوا بها وزجروها ، فقالت لهم : جعل الله كسبكم نزرا ، وجعلكم في الناس عارا ، ثم استقبلها قوم من التجّار ، فدلّوها على النخلة اليابسة ، فقالت لهم : جعل الله البركة في كسبكم ، وأحوج الناس إليكم ، فلمّا بلغت النّخلة أخذها المخاض ، فوضعت عيسى عليه‌السلام ، فلمّا نظرت إليه : قالت : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) ماذا أقول لخالي ، وما ذا أقول لبني إسرائيل؟

__________________

(١) التهذيب : ج ٦ ، ص ٧٣ ، ح ١٣٩.

٣١٠

(فَناداها) عيسى (مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي نهرا (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) أي حرّك النّخلة (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) أي طيّبا ، وكانت النخلة قد يبست منذ دهر طويل ، فمدّت يدها إلى النخلة ، فأورقت وأثمرت ، وسقط عليها الرّطب الطري ، فطابت نفسها. فقال لها عيسى : قمطيني وسوّيني ، ثم افعلي كذا وكذا ، فقمّطته وسوّته ، وقال لها عيسى : (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) وصمتا.

[ـ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده ـ ثم قال ـ قالت مريم : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي صمتا (١)] ـ كذا نزلت ـ (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).

ففقدوها في المحراب ، فخرجوا في طلبها ، وخرج خالها زكريّا ، فأقبلت وهو في صدرها ، وأقبلت مؤمنات بني إسرائيل يبزقن في وجهها ، فلم تكلّمهنّ حتى دخلت في محرابها ، فجاء إليها بنو إسرائيل وزكريا فقالوا لها : (يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي عظيما من المناهي (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا).

ومعنى قولهم (يا أُخْتَ هارُونَ) أنّ هارون كان رجلا فاسقا زانيا فسبّوها به ، من أين هذا البلاء الذي جئت به ، والعار الذي ألزمته لبني إسرائيل؟.

ـ [وذكر مقاتل بن سليمان في قوله تعالى (يا أُخْتَ هارُونَ) قال : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «هارون هذا الذي ذكروه هو هارون أخو موسى عليه‌السلام». ثمّ قال مقاتل : وتأويل (يا أُخْتَ هارُونَ) يا من هي من نسل

__________________

(١) الكافي : ج ٤ ، ص ٨٧ ، ح ٣.

٣١١

هارون ، كما قال تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً)(١) ، (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً)(٢) يعني بأخيهم أنّه من نسلهم وجنسهم ـ](٣) ـ فأشارت إلى عيسى عليه‌السلام في المهد ، فقالوا لها : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)!؟ فأنطق الله عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فقال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا).

ـ [قال أبو عبد الله عليه‌السلام : [نفاعا](٤).

[قال معاوية بن وهب : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربّهم ، وأحبّ ذلك إلى الله عزوجل ، ما هو؟

فقال : «ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم عليه‌السلام ، قال : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٥)».

وقال الصادق عليه‌السلام : «زكاة الرؤوس ، لأنّ كل الناس ليس لهم أموال ، وإنّما الفطرة على الفقير والغنيّ والصغير والكبير»](٦).

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يخاصمون (٧).

__________________

(١) الأعراف : ٦٥.

(٢) الأعراف : ٧٣.

(٣) أمالي المرتضى : ج ٢ ، ص ١٩٧.

(٤) معاني الأخبار : ص ٢١٢ ، ح ١.

(٥) الكافي : ج ٣ ، ص ٢٦٤ ، ح ١.

(٦) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٤٨.

(٧) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٥٠.

٣١٢

* س ٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٥) [سورة مريم : ٣٥]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسي (رحمه‌الله تعالى) : «ما كان الله أن يتخذ من ولد» إخبار منه تعالى بأنه لم يكن الله أن يتخذ من ولد على ما يقوله النصارى. ثم قال منزها لنفسه عن ذلك «سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» أي يفعله لا يشق عليه بمنزلة ما يقال كن فيكون (١).

* س ٨ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦) [سورة مريم : ٣٦]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي (رحمه‌الله تعالى) : قوله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ، من فتح الهمزة ، ففيه أربعة أوجه :

١ ـ إن المعنى وقضى أن الله ربي وربكم.

٢ ـ إنه معطوف على كلام عيسى أي : وأوصاني بأن الله ربي وربكم.

٣ ـ ذلك عيسى بن مريم وذلك أن الله ربي وربكم.

٤ ـ إن العامل فيه فاعبدوه ، والتقدير ولأن الله ربي وربكم (فَاعْبُدُوهُ) فحذف الجار.

ـ ومن كسر الهمزة جاز أن يكون معطوفا على قوله (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أي : وقال إن الله ربي وربكم. وجاز أن يكون ابتداء كلام من الله تعالى ، أو أمر من الله لرسوله أن يقول ذلك.

وقوله : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) معناه : هذا طريق واضح فألزموه.

__________________

(١) التبيان : ج ٧ ، ص ١١٩.

٣١٣

وقيل : إن المعنى هذا الذي أخبرتكم أن الله أمرني به هو الدين المستقيم الذي لا اعوجاج فيه (١).

* س ٩ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٣٧) [سورة مريم : ٣٧]؟!

الجواب / قال أبو جعفر عليه‌السلام لأحد أصحابه : «الزم الأرض لا تحرّك يدك ولا رجلك أبدا حتى ترى علامات أذكرها لك في سنة ، وترى مناديا ينادي بدمشق ، وخسفا بقرية من قراها ، وتسقط طائفة من مسجدها ، فإذا رأيت الترك جازوها ، فأقبلت الترك حتى نزلت الجزيرة ، وأقبلت الروم حتى نزلت الرّملة ، وهي سنة اختلاف في كلّ أرض من أرض العرب ، وأنّ أهل الشام يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات : الأصهب ، والأبقع ، والسّفياني ، مع بني ذنب الحمار مضر ، ومع السّفياني أخواله من كلب ، فيظهر السّفياني ، ومن معه على بني ذنب الحمار ، حتى يقتلوا قتلا لم يقتله شيء قطّ ويحضر رجل بدمشق ، فيقتل هو ومن معه قتلا لم يقتله شيء قطّ ، وهو من بني ذنب الحمار ، وهي الآية التي يقول الله تبارك وتعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) إلى آخره (٢).

* س ١٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٨) [سورة مريم : ٣٨]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسي (رحمه‌الله تعالى) : وقوله «اسمع بهم

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ، ص ٤٢٢.

(٢) تفسير العيّاشي : ج ١ ، ص ٦٤ ، ح ١١٧.

٣١٤

وابصر يوم يأتوننا» معناه ما أسمعهم وأبصرهم على وجه التعجب ، والمعنى أنهم حلوا في ذلك محل من يتعجب منه ، وفيه تهدد ووعيد أن يسمعون ما يصدع قلوبهم ويردون ما يهيلهم. وقال الحسن وقتادة : المعنى لأن كانوا في الدنيا صما عميا عن الحق ، فما أسمعهم به ، وما أبصرهم به يوم القيامة (يَوْمَ يَأْتُونَنا) أي يوم يأتون المقام الذي لا يملك أحد فيه الأمر والنهي غير الله.

ثم قال تعالى (لكِنِ الظَّالِمُونَ) أنفسهم بارتكاب معاصيه وجحد آياته والكفر بأنبيائه (الْيَوْمَ) يعني في دار الدنيا (فِي ضَلالٍ) عن الحق وعدول عنه بعيد من الصواب (١).

* س ١١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠) [سورة مريم : ٤٠ ـ ٣٩]؟!

الجواب / ١ ـ سئل أبا عبد الله عليه‌السلام عن هذه الآية ، فقال : «ينادي مناد من عند الله ، وذلك بعد ما صار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار : يا أهل الجنّة ، ويا أهل النار ، هل تعرفون الموت في صورة من الصور؟ فيقولون : لا ، فيؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار ، ثم ينادون جميعا : أشرفوا وانظروا إلى الموت ، فيشرفون ، ثمّ يأمر الله به فيذبح ، ثمّ يقال : يا أهل الجنّة خلود فلا موت أبدا ، ويا أهل النار خلود فلا موت أبدا ، وهو قوله تعالى (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) أي قضي على أهل الجنة بالخلود فيها ، وعلى أهل النار بالخلود فيها» (٢).

__________________

(١) التبيان : ج ٧ ، ص ١٢٧.

(٢) الكافي : ج ٨ ، ص ١٤٩ ، ح ١٢٩.

٣١٥

٢ ـ قال علي بن إبراهيم القميّ : كل شيء خلقه الله يرثه الله يوم القيامة (١).

* س ١٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (٤١) [سورة مريم : ٤١]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسي (رحمه‌الله تعالى) : أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكر إبراهيم في الكتاب الذي هو القرآن ، وسماه كتابا ، لأنه مما يكتب. والمعنى أقصص عليهم أو اتل عليهم. وكذلك فيما بعد. ثم قال (إِنَّهُ) يعني إبراهيم (كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) والصديق هو الكثير التصديق بالحق حتى صار علما فيه. وكل نبي صديق لكثرة الحق الذي يصدق فيه مما هو علم فيه وإمام يقتدى به ، من توحيد الله وعدله ... (٢).

* س ١٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠) [سورة مريم : ٥٠ ـ ٤٢]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام ـ في الحديث الذي ابتلى إبراهيم ربّه

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٥١.

(٢) التبيان : ج ٧ ، ص ١٢٨.

٣١٦

بكلمات : «ثمّ العزلة عن أهل البيت والعشيرة مضمّن معناه في قوله : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بيان ذلك في قوله تعالى : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) إلى قوله تعالى (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا).

ودفع السيئة بالحسنة ، وذلك لمّا قال له أبوه : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) فقال في جواب أبيه (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا).

ثم الحكم والانتماء إلى الصالحين في قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(١) يعني بالصالحين الذين لا يحكمون إلا بحكم الله عزوجل ، ولا يحكمون بالآراء والمقاييس حتى يشهد له من يكون بعده من الحجج بالصدق ، بيان ذلك في قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(٢) أراد في هذه الأمّة الفاضلة ، فأجابه الله ، وجعل له ولغيره من أنبيائه لسان صدق في الآخرين ، وهو علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ، وذلك قوله عزوجل (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)(٣).

وقال الصادق عليه‌السلام ، في خبر : «أنّ إبراهيم عليه‌السلام كان قد دعا الله أن يجعل له لسان صدق في الآخرين ، فقال الله تعالى : (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) يعني علي بن أبي طالب عليه‌السلام» (٤).

__________________

(١) الشعراء : ٨٣.

(٢) الشعراء : ٨٤.

(٣) معاني الأخبار : ص ١٢٦ ، ح ١.

(٤) مناقب ابن شهر آشوب : ج ٣ ، ص ١٠٧.

٣١٧

* س ١٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣) [سورة مريم : ٥٣ ـ ٥١]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسيّ (رحمه‌الله تعالى) : قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر (مُخْلَصاً) ـ بفتح اللام ـ بمعنى أخلصه الله للنبوة. الباقون ـ بالكسر ـ بمعنى أخلص هو العبادة لله.

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاذْكُرْ) موسى (فِي الْكِتابِ) الذي هو القرآن.

وسماه كتابا : لأنه يكتب. وأخبر أن موسى كان مخلصا بطاعاته وجه الله تعالى دون رياء الناس ، وأنه لم يشرك في عبادته سواه. ومن فتح اللام أراد أن الله أخلصه لطاعته بمعنى أن لطف له ما اختار عنده إخلاص الطاعة. وإنه لم يشب ذلك بمعصيته له ، وأنه مع ذلك كان رسولا لله تعالى إلى خلقه ، قد حمله رسالة يؤديها إليهم (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) وهو العلي برسالة الله إلى خلقه ، وبما نصب له من المعجزة الدالة على تعظيمه وتبجيله ، وعظم منزلته. وهو مأخوذ من النبأ ، وهو الخبر بالأمر العظيم.

ثم أخبر الله تعالى أنه ناداه (مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) فإنه قال له (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) والطور جبل بالشام ناداه من ناحيته اليمنى ، وهو يمين موسى عليه‌السلام. وقوله (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) معناه قربناه من الموضع الذي شرفناه وعظمناه بالحصول فيه ليسمع كلامه تعالى. وقال ابن عباس ومجاهد قرب من أهل الحجب حتى سمع صريف القلم.

وقيل معناه إن محله منا محل من قربه مولاه من مجلس كرامته. وقيل

٣١٨

قربه حتى سمع صرير القلم الذي كتب به التوراة. وقوله (نَجِيًّا) معناه أنه اختصه بكلامه بحيث لم يسمع غيره ، يقال : ناجاه يناجيه مناجاة إذا اختصه بإلقاء كلامه إليه. وأصل النجوة الارتفاع عن الهلكة ، ومنه النجاة أيضا ، والنجاء السرعة ، لأنه ارتفاع في السير ، ومنه المناجاة ، وقال الحسن : لم يبلغ موسى عليه‌السلام من الكلام الذي ناجاه شيئا قط. ثم أخبر تعالى أنه وهب له من رحمته ونعمته عليه أخاه هارون نبيا ، شد أزره كما سأله (١).

* س ١٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٥٤) [سورة مريم : ٥٤]؟!

الجواب / ١ ـ قال بريد بن معاوية العجلي : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يا بن رسول الله ، أخبرني عن إسماعيل (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، فإن الناس يزعمون أنّه إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام؟

فقال عليه‌السلام : «إسماعيل مات قبل إبراهيم ، وإنّ إبراهيم كان حجّة لله قائما ، صاحب شريعة ، فإلى من أرسل إسماعيل إذن».

فقلت : جعلت فداك ، فمن كان؟

فقال عليه‌السلام : «ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ بعثه الله إلى قومه ، فكذّبوه وقتلوه وسلخوا وجهه ، فغضب الله عليهم ، فوجه إليه أسطاطائيل ملك العذاب ، فقال له : يا إسماعيل : أنا اسطاطائيل ملك العذاب ، وجّهني إليك ربّ العزة لأندب قومك بأنواع العذاب إن شئت. فقال له إسماعيل : لا حاجة

__________________

(١) التبيان : ج ٧ ، ص ١٣٣.

٣١٩

لي في ذلك يا أسطاطائيل ، فأوحى الله إليه : فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال إسماعيل : يا ربّ ، إنك أخذت الميثاق لنفسك بالربوبية ، ولمحمّد بالنبوّة ، ولوصيّه بالولاية ، وأخبرت خير خلقك بما تفعل أمته بالحسين بن علي عليهما‌السلام بعد نبيّها ، وإنّك وعدت الحسين عليه‌السلام أن تكره إلى الدنيا ، حتى ينتقم بنفسه ممن فعل ذلك به ، فحاجتي إليك ـ يا ربّ ـ أن تكرني إلى الدنيا ، حتى أنتقم ممّن فعل ذلك بي كما تكرّ الحسين عليه‌السلام ، فوعد الله إسماعيل بن حزقيل ذلك ، فهو يكرّ مع الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) (١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «... بعثه الله عزوجل إلى قومه ، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه ...» (٢).

٢ ـ قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام لسليمان الجعفري : «أتدري لم سمّي إسماعيل صادق الوعد؟» قال : قلت : لا أدري. قال : «وعد رجلا ، فجلس له حولا ينتظره» (٣).

٣ ـ قال زرارة : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) علّمنا الرسول من النبيّ؟ فقال : «النبي : هو الذي يرى في منامه ، ويسمع الصوت ، ولا يعاين الملك ، والرّسول : يعاين الملك ويكلّمه».

قلت : فالإمام ، ما منزلته؟

قال : «يسمع الصوت ، ولا يرى ، ولا يعاين الملك». ثمّ تلا هذه الآية : «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدّث» (٤)(٥).

__________________

(١) كامل الزيارات : ص ٦٥ ، ح ٣.

(٢) علل الشرائع : ص ٧٧ ، ح ٢.

(٣) علل الشرائع : ص ٧٧ ، ح ١.

(٤) الحج : ٥٢ ، ولفظة «ولا محدّث» ليست في الآية ، ولع لها في قرآن أهل البيت عليهم‌السلام.

(٥) الاختصاص : ص ٣٢٨.

٣٢٠