العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

وفي «العتبيّة» عزو وفاته ثم نزوله إلى مالك ، ولعلّ ابن حزم انخدع بذلك. وقد سبق أن شرحنا حال «العتبيّة» في العدد (٣٤) ١٣٦١ ه‍ ، وليس في ذلك القول كبير خطورة غير ضعف مدرك الوفاة ، حيث كان مع الجماعة في الإيمان بالنزول ، كما صرّح بذلك في «الفصل» و «المحلّى».

وقال الآلوسيّ : والصحيح كما قال القرطبي : أنّ الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم ، وهو اختيار الطبري ، والرواية الصحيحة عن ابن عباس اه.

وقال ابن جرير بعد نقله روايات تفسير التوفّي بالنوم أو القبض أو الموت : «وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال معنى ذلك : أني قابضك من الأرض ، ورافعك إليّ ، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ينزل عيسى ابن مريم» ، ثم ساق أحاديث في النزول ، ثم ردّ ردا مشبعا على من زعم تكرّر الإحياء والإماتة بالنسبة إلى عيسى عليه‌السلام.

وليس في قوله «وأولى الأقوال بالصحة» ما يحتجّ به على أن تلك الأقوال مشتركة في أصل الصحة ، كيف وقد ذكر بينها ما هو معزوّ إلى النصارى ، ولا يتصوّر أن يصحّ ذلك في نظره ، بل كلامه هذا من قبيل ما يقال : «فلان أذكى من حمار ، وأفقه من جدار» ، كما يظهر من عادة ابن جرير في تفسيره عند نقله لروايات مختلفة ، كائنة ما كانت قيمتها العلمية ، وقد يكون بينها ما هو باطل حتما ، فلا يكون لصاحب المقال إمكان التمسك بمثل تلك العبارة في تقوية الروايات المردودة.

وأما قوله تعالى : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) [المائدة : ١١٧] فبمعنى قبضتني بالرفع إلى السماء ، كما يقال : توفّيت المال إذا قبضته ، وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور ، وروي عن أبي عليّ الجبّائيّ المعتزليّ ـ وهو من أجرأهم في الشذوذ ـ أنّ المعنى (أمتّني) ، وادّعى أنّ رفعه عليه‌السلام إلى السماء كان بعد موته ، وإليه ذهب النصارى كما قال الآلوسيّ ، وقال القرطبي : «قيل : هذا يدل على أنّ الله عزوجل توفّاه قبل أن يرفعه ، وليس بشيء ، لأنّ الأخبار تظاهرت برفعه ، وأنه في السماء حيّ» اه.

وقد سبق بيان حقيقة التوفّي بحيث لا يدع أدنى ريبة. وما يقال من أنّ المتبادر من التوفّي هو الموت ، فيمكن أن يسلّم ذلك بالنظر إلى اليوم ، لكن تطوّر اللغة في زمن متأخّر إلى معنى ، لا يستلزم أن يكون هذا المعنى مفهوما من اللفظ في تخاطب الصحابة رضي الله عنهم وقت نزول القرآن الحكيم ، ولو كان هذا المعنى مفهوما من لفظ التوفّي إذ ذاك ، لكان (حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : ٤٢] لغوا في قوله تعالى : (اللهُ)

٦١

(يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : ٤٢] ، وجلّ كلام الله من أن يقع فيه لغو. ولا تعويل في تفسير كتاب الله على تخاطب اليوم بل على التخاطب في عهد التنزيل كما لا يخفى.

والرسالة مثلا تستعمل بمعنى الواجب اليوم ، استعمالا شائعا منذ زمن غير بعيد ، فحاشا أن نفهم من الرسالة الواردة في نصوص الكتاب والسنة هذا المعنى بتلك المناسبة ، فنلغي معنى الوحي والرسالة من الله سبحانه ، لأنّ مسايرة التطوّر في اللغة في تطوير معاني الكتاب الحكيم ، تكون تحريفا للكلم عن مواضعه حتما.

وأما قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : ١٥٩] ، فالضميران في (بِهِ) و (مَوْتِهِ) يعودان على عيسى ، لأنه المتحدّث عنه في السّياق ، ولأنّ عود أحدهما على غير ما يعود عليه الآخر فيه تشتيت للضمائر ، وهذا مما ينزه عنه الكتاب الكريم ، ولذا قال أبو حيان ـ وأنت تعرف منزلته في العربية ـ «والظاهر أنّ الضميرين في به ، وموته عائدان على عيسى ، وهو سياق الكلام ، والمعنيّ : من أهل الكتاب : الذين يكونون في زمان نزوله» ا ه ولا صارف عن الظاهر.

وقال ابن كثير : «وهذا القول هو الحقّ كما سنبينه بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى ، لأنه المراد من سياق الآي في بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلّم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شبّه لهم ، فقتلوا الشّبه وهم لا يتبيّنون ذلك ، ثم إنه رفعه إليه وأنه باق حيّ ، وأنّه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلّت عليه الأحاديث المتواترة» اه. ثم ساق أحاديث كثيرة في النزول ، في (١ ـ ٥٧٨) كما فعل مثل ذلك في باب الملاحم والفتن في أواخر «تاريخه» في القسم غير المطبوع منه (١).

وكلام ابن جرير واضح جدا في تعيين إرجاع الضميرين إلى عيسى رواية ودراية ، وكذا ما ذكرناه في العدد (٣٤ ـ ١٣٦١ ه‍) في هذا الصدد.

وقد صحّ عن أبي هريرة في «الصحيحين» إرجاعهما إليه ، كما صحّ عن ابن عباس في رواية محمد بن بشار ، عن ابن مهدي ، عن الثوري ، عن أبي حصين ، عن ابن جبير ، عنه عند ابن جرير وابن كثير ، وهذا سند كالجبل في الصحة ، بل الرواية مستفيضة عنه بطرق أخرى.

__________________

(١) ثم طبع هذا القسم من تاريخ ابن كثير باسم «النهاية» لابن كثير.

٦٢

وأين هذا من سند فيه عتّاب بن بشير ، وخصيف ، أو سند فيه أبو هارون الغنوي إبراهيم بن العلاء وعكرمة ، أو جويبر والضحاك ، أو محمد بن حميد وأبو تميلة يحيى بن واضح وحسين بن واقد وعكرمة ، أو أبو حذيفة موسى بن مسعود وشبل وعبد الله بن أبي نجيح؟

ولا يلتفت في باب الرواية إلى غير الصحيح عند وجود الصحيح ، كما لا يلتفت إلى ما يوجب ترك موجب السياق أو إخراج اللفظ عن مدلوله الظاهر حيث لا صارف ، فعلم أن الاحتمال هنا لم ينشأ من دليل ، فلا يخلّ بكون الآية نصّا في النزول.

وميل الزمخشري إلى عود ضمير (مَوْتِهِ) [سبإ : ١٤] ، على الكتابي ، إنما نشأ من رواية شهر بن حوشب عنده ظنا منه أنها صحيحة ، لأنه لا تعويل على الرأي والدراية عند ثبوت الرواية عن المعصوم ، أو عمن تلقى من المعصوم ، لأنه «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» عند أهل الدين. ولو علم أنّ رواية محمد بن السائب الكلبي عن شهر مردودة عند أهل النقد لما عرّج عليها.

ثم قول النووي تعويلا على قراءة أبيّ بن كعب ، مخالف لمذهبه في القراءات الشاذة. وقراءة أبيّ هذه في سندها عتّاب بن بشير وخصيف ، وكلاهما ضعيف ، والقراءة الشاذة ما لم يصحّ سندها لا يحتجّ بها في باب التفسير عند أهل العلم.

ثم ترجيح إرجاع الضمير إلى الكتابيّ في (مَوْتِهِ) [سبإ : ١٤] لما في ذلك من المحافظة على عموم الإيمان لكل كتابي ، ففيه هدم مصر ، لبناء قصر! لأنّ فيه إخراج كلمة (قَبْلَ) من معناها ، بحمل الإيمان هنا على الإيمان أثناء الموت لا قبله ، وحمل الإيمان على خلاف المعنى المتبادر منه وهو الإيمان النافع ، على أنّ ما لا ينفع لا يسمّى إيمانا في الشرع ، وإلغاء ما أقسم الله عليه بقوله : (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) [النّساء : ١٥٩].

وأما ترك العامّ على عمومه هنا ، فمن عدم التدبّر في الملابسات ، لأنّ لام جواب القسم ونون التأكيد مما يمحّض الفعل للاستقبال ، فيكون (لَيُؤْمِنَنَ) [النّساء :

١٥٩] بمعنى : أنه يؤمن كلّ كتابيّ موجود في زمن خاصّ من أزمنة المستقبل ، يعينه تقييده بلفظ (قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : ١٥٩] ، فيكون الكلام مصروفا إلى ما بعد نزول عيسى ، كقوله عليه‌السلام : «ينزل فيكم عيسى ابن مريم» ، فإنه بمعنى : أنه ينزل في الأمّة الموجودين بعد النزول ، لا الموجودين في زمنه عليه‌السلام.

والتخصيص بالقرائن والملابسات في الكتاب والسنة في غاية الكثرة ، فعلم أن الرواية والدراية تطابقتا على إرجاع الضميرين إلى عيسى عليه‌السلام.

٦٣

وأما قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : ٦١] فقد اعترف بطل الخروج على المتوارث بعود الضمير فيه على عيسى ، وعدم احتمال عوده على غيره ، لكن ظنّ أنه يجد في السّياق ما يمكّنه من صرفه عن وجهته ، ولم يعلم أن كون الخطاب للمشركين وأهل الجاهلية يضرّه ولا ينفعه ، لأنهم لا يقرّون بحدوث عيسى بدون أب ، ولا بإبرائه الأكمه والأبرص ، وإحيائه الموتى بإذن الله. وإنما هذا وذاك مما نصّ عليه القرآن الكريم وهم لا يؤمنون به ، فكيف يتصور إقامة الحجة عليهم بما لا يقرّون به؟

فتعيّن أنّ عود الضمير إلى عيسى ، باعتبار أنّ نزوله من أشراط الساعة ، فأصبح نصا في النزول لا يعدل عنه.

وقراءة «لعلم للسّاعة» بفتحتين قراءة عدة من الصحابة والتابعين كما في «البحر» وغيره ، لكن تغاضى عنها الشيخ مع صحة سندها ، حيث لم تكن هذه القراءة على هواه ، لأنها تعيّن عود الضمير إلى عيسى باعتبار أنّ نزوله من أشراط الساعة ، مع أنه كان شديد التمسك بالقراءة المنسوبة إلى أبيّ بن كعب ، مع الضعف في سندها كما سبق ، لأنه كان يعدّها من صالحه ، وهكذا يكون الهوى!

وقد جاء في صحيح ابن حبّان بسند صحيح بطريق مصدع ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : ٦١] قال : نزول عيسى ابن مريم من قبل يوم القيامة.

فهل يمكن لمن يخضع لمعايير العلم أن يتعنّت بعد هذا كلّه في ردّ ما عليه الجماعة؟ وقد فهم أهل التفسير أمثال الزمخشري من إشارات آيات سوى ما تقدّم رفع عيسى ونزوله ، فهما يدلّ على يقظة بالغة. وفي إيضاح مداركهم طول نستغني عن الخوض فيها بصرائح الآيات المتقدمة.

فظهر مما سبق كلّ الظهور بطلان قول الشيخ : «ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة الظن بنزول عيسى أو رفعه ، فضلا عما يفيد القطع الذي يكوّن عقيدة ويكفّر منكره كما يزعمون».

واتضح أيضا أنّ نصوص القرآن الحكيم وحدها تحتّم عليه القول برفع عيسى حيّا ، ونزوله في آخر الزمان ، حيث لا اعتداد باحتمالات خيالية لم تنشأ من دليل ، كيف والأحاديث قد تواترت في ذلك ، واستمرّت الأمّة خلفا عن سلف على الأخذ بها ، وتدوين موجبها في كتب الاعتقاد من أقدم العصور إلى اليوم ، فما ذا بعد الحق إلا الضلال.

٦٤

السنّة وثبوت العقيدة

وفي العدد (٥١٨) مقال بهذا العنوان يقول كاتبه في مفتتحه : إنه بيّن فيما سبق أنه «ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة الظنّ برفع عيسى ونزوله ، فضلا عما يفيد اليقين».

وقد علم القارئ الكريم بما قرّرناه في الفصل السابق بطلان هذا الزّعم من كل ناحية ، وأثبتنا أنّ في القرآن الحكيم نصوصا قاطعة تدل على الرفع والنزول ، وعلى هذا الفهم درج أئمة الأمّة وعلماؤها ولا سيما المفسّرين على تعاقب الدهور ، وإنما روي موته ثم رفعه عن وهب بن منبّه ومحمد بن إسحاق ، وهما إنما حكيا ذلك عن أهل الكتاب ، وذلك من ضرورة قولهم بقتله وصلبه.

وقد كذّب القرآن ذلك ، فلم يبق إلا قول أهل الحق : إنه رفع حيّا ، وسينزل قبل يوم القيامة ، ومن حمل التوفّي على الموت ، مثل قتادة والفرّاء جعل قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] من باب تقديم ما هو مؤخّر في الوقوع ، لنكتة ، كقوله تعالى : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) [آل عمران : ٤٣].

وأما ابن حزم فقد قال بموته ، ثم رفعه ، ثم نزوله اغترارا منه بما في «العتبيّة» المشروح حالها في العدد (٣٤ ـ ١٣٦١ ه‍) من مجلة الإسلام ، وما فيها من عزو موته إلى مالك رواية ساقطة عند أهل النقد ، وحمل التوفّي على الموت إخراج للكلمة عن وضعها ، كما يعلم من كلام ابن قتيبة وابن جرير والزمخشري وغيرهم.

وبعد هذا الحمل لا بدّ من الحمل على التقديم والتأخير كما فعل قتادة والفرّاء ، جمعا بين الأدلة ، لأن الواو لا تفيد الترتيب ، ونسبة إنكار رفعه حيّا إلى المعتزلة مطلقا تساهل ، وإنما هو قول الجبّائي ، وهو كثير الشذوذ ، ومن جملة شذوذه أنه يرى عدم جواز الأخذ بخبر الآحاد عقلا ، فإذا أخذ كاتب المقال برأيه هذا يخلص من أخبار الآحاد بمرّة واحدة.

٦٥

وما لفرد لا يصحّ أن ينسب إلى جماعته ، وها هو خطيب المعتزلة ولسانهم الناطق تراه في «الكشاف» يقرّ بالرفع والنزول على طول الخطّ ، وكذا الإماميّة عند دفاعهم عن خروج المهديّ ، فلا يكون منكر الرفع والنزول إلّا مفارقا للجماعة ، جاريا مع الهوى ، منابذا للكتاب والسنة ، ونبذ ما عليه الجماعة ، المستمدّ من الكتاب والسنة ، والميل إلى رأي مستمدّ من أهل الكتاب : إبعاد في الشذوذ ، وقد قال ابن أبي عبلة : الرأي الشاذّ إنما يحمله الرجل الشاذّ.

ثم ذكر الكاتب الفرق بين خبر الآحاد والخبر المتواتر ، بإطالة مستغنى عنها ، ونقل كلمات بعض أهل العلم في ذلك ببتر وتزيّد ، على أمل أن يجد فيها ما يغطّي على شذوذه ، والواقع أن من قال : إنّ خبر الآحاد يفيد العمل فقط ، يريد بالعمل ما يشمل عمل الجوارح وعمل القلب ـ وهو الاعتقاد ـ كما نصّ على ذلك البزدوي نفسه ، حيث قال في آخر مبحث خبر الآحاد :

فأمّا الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور ، ومن ذلك ما هو دونه ، لكنه يوجب ضربا من العلم ، على ما قلنا ، وفيه ضرب من العمل أيضا ، وهو عقد القلب عليه ، إذ العقد فضّل على العلم والمعرفة ، وليس من ضروراته ، قال الله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النّمل : ١٤] ، وقال تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] ، فصحّ الابتلاء بالعقد ، كما صحّ الابتلاء بالعمل بالبدن».

وبذلك يعلم وجه تدوين أخبار الآحاد في كتب الحديث في المغيّبات وأمور الآخرة ، كما يعلم أنه لا يوجد تلازم كلّيّ بين العلم والاعتقاد على ما سبق تفصيله ، فالآن قد ظهر من يفهم معنى «العقيدة» ومن لا يفهمه حقا. ومن تزبّب قبل أن يتحصرم ، يلقى ما يلقاه من تزعّم قبل أن يتعلّم.

ثمّ من قال : إنّ خبر الآحاد لا يفيد العلم ، يريد خبر الآحاد من حيث هو بالنظر إلى رأي جماعة ، وإلا فخبر الآحاد الذي تلقّته الأمّة بالقبول يقطع بصدقه ، كما نصّ على ذلك أبو المظفّر السّمعانيّ في «القواطع».

وقد حكى السّخاويّ في «فتح المغيث» عن جماعة من المحقّقين : إفادة خبر الآحاد العلم عند احتفافه بالقرائن ، بل قال جماعة : إنّ ما اتّفق عليه البخاريّ ومسلم يفيد في غير مواضع النقد منه العلم ، لاحتفافه بالقرائن ، ومنهم الغزالي.

٦٦

ثم العمل بخبر الآحاد ثابت بالدليل القطعيّ المفيد للعلم ، كما نصّ على ذلك أبو الحسن الكرخي ، والسمعانيّ في «القواطع» ، والغزاليّ في «المستصفى» ، وعبد العزيز البخاريّ في «شرح أصول فخر الإسلام».

والاعتقاد عمل قلبي يؤخذ من خبر الآحاد ، كما سبق من فخر الإسلام ، فيكون إنكار أخذ الاعتقاد من خبر الآحاد إنكارا للدليل القطعيّ المفيد للعلم الموجب للعمل بخبر الآحاد ، أعمّ من أن يكون عمل الجوارح ، وعمل القلب ـ وهو الاعتقاد ـ ما ذا يكون موقف الكاتب إزاء هذا؟ حتى على فرض أنّ خبر النزول خبر آحاد؟

فيعلم أن حفّاظ الأمة ما كانوا عابثين في تدوينهم لأخبار الآخرة والأمور الغيبية في كتبهم ، ولا كان الأئمة لاعبين في تدوينهم السمعيات في كتب العقائد ، رغم خيال هذا الكاتب.

ثم تأويل الغزاليّ لقول بعض المحدّثين : «إنّ خبر الآحاد يفيد العلم» بالعلم بوجوب العمل به ، لا يمكن تأويل كلام ابن حزم به ، لأنه ينافي صريح كلامه في «الإحكام» ١ : ١٢٤ ، حيث قال بعد سرد مقدّمات : «وإذا صحّ هذا فقد ثبت يقينا أنّ خبر الواحد العدل عن مثله مبلّغا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّ مقطوع به ، موجب للعلم والعمل معا». ومعه في هذا الرأي أناس ذكرهم هناك ، والعالم البعيد عن الهوى لا يقتصر في النقل على ما يحسبه نافعا له بدون تمحيص ، بل يرى الحقّ هو النافع حيثما كان.

وحديث نزول عيسى على فرض أنه خبر آحاد ، مما اتّفق البخاريّ ومسلم عليه بدون نكير من أحد من حيث الصناعة الحديثية ، وتلقّاه الأمة بالقبول خلفا عن سلف ، واستمرّ علماء الأمة على اعتقاد مدلوله على توالي القرون ، فيتحتم الأخذ به.

هذا إذا فرض أنه خبر آحاد ، فكيف وهو متواتر قطعا ، على ما ذكرنا من نصوص أهل الشأن في ذلك ، فيكون إنكار ذلك بعد الإلمام بأطراف الحديث بالغ الخطورة ، نسأل الله السلامة.

والمتحقّق في مسألة الرفع والنزول هو الخبر المتواتر. وقد نصّ البزدويّ في آخر بحث المتواتر ، على أنّ منكر المتواتر ومخالفه يصير كافرا ، وذكر في صدد التمثيل للمتواتر «وذلك مثل القرآن ، والصلوات الخمس ، وأعداد الركعات ، ومقادير الزكوات ، وما أشبه ذلك». ونزول عيسى ليس بأقلّ ذكرا في كتب الحديث من مقادير الزكوات.

٦٧

ثم قال البزدوي : «ومن الناس من أنكر العلم بطريق الخبر أصلا ، وهذا رجل سفيه لم يعرف نفسه ، ولا دينه ، ولا دنياه ، ولا أمّه ، ولا أباه». فيعلم من ذلك مبلغ إبعاد الكاتب في النّجعة حيث يقول : «وهكذا تجد نصوص العلماء من متكلّمين وأصوليين مجتمعة على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين ، فلا تثبت به العقيدة» ، ونجد المحقّقين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضروريّ ، لا يصحّ أن ينازع أحد في شيء منه ، ويحملون قول من قال (كابن حزم في حسبان الكاتب) : «إنّ خبر الواحد يفيد العلم» على أن مراده العلم بمعنى الظن ، كما ورد ، أو العلم بوجوب العمل».

وأين اجتماع نصوص العلماء مع قول أمثال أبي حامد الأسفراييني ، وأبي إسحاق الأسفراييني ، والقاضي أبي الطيّب ، وأبي إسحاق الشيرازي ، وشمس الأئمة السّرخسي ، والقاضي عبد الوهاب ، ورواية ابن خويزمنداد عن مالك ، وقول أبي يعلى ، وأبي الخطّاب ، وابن الزاغوني ، وابن فورك ، وغيرهم فيما اتّفق عليه البخاريّ ومسلم ، وفي الخبر المحتفّ بالقرائن ، أو خبر الآحاد مطلقا كما سبق.

والواقع أنّ فريقا قال : إنّ خبر الآحاد إنما يفيد العمل. وهو مذهب الجمهور ، لكن من جملة العمل اعتقاد القلب ، وفريقا قال : إنه يفيد العلم والعمل من غير شرط ، كابن حزم ، وفريقا قال : إنه يفيدهما جميعا عند احتفافه بالقرائن ، وليس قول فريق منهم في صالح كاتب المقال لو تدبّر ، لأنهم متفقون على أنه يفيد العمل القلبيّ ـ وهو الاعتقاد ـ وإفادته العمل مقطوع بها ، والكاتب ينكر هذه الإفادة القطعية.

ثم إنّ المكلّف إذا جزم بخبر آحاد يسمعه في أمر اعتقادي ، فقد تمّ إيمانه المنجي في الآخرة ، لأن المطلوب منه هو الاعتقاد الجازم كائنا ما كان طريق حصول ذلك له ، ولا يستوجب ذلك أن لا يكون في ذلك الأمر أدلّة سواه ، ولا هو بملزم أن يكون هو القائم بالحجّة في عصره ، وإن كان لكلّ مسألة اعتقادية حجج قطعية ، وقد قال عبد العزيز البخاري في «شرح أصول البزدوي» : ذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحّتها توجب علم اليقين ، بطريق الضرورة ، وهو مذهب أحمد بن حنبل» ا ه.

وقول الإمام الشافعي رضي الله عنه : «أتراني خرجت من الكنيسة أو ترى عليّ زنّارا؟!!» لمن سأله أتأخذ بهذا الحديث؟ ـ في حديث من أخبار الآحاد ـ يدلّ على مبلغ تشدّده فيمن يعرض عن الحديث ، كما صحّ ذلك عنه بأسانيد في كثير من الكتب.

٦٨

وأما تأويل الغزالي لقول من قال من بعض المشارقة : «إنّ خبر الواحد يفيد العلم» ، فلا يمشي في توجيه كلام ابن حزم ، لأنه مخالف لصريح قوله كما سبق ، وهذا كلّه على تقدير أنّ حديث نزول عيسى خبر آحاد كما يزعم الكاتب ، وإلا فتواتر هذا الحديث أمر مفروغ منه ، بنصوص أهل الشأن ، والمحتفّ بالقرائن قسيم لخبر الواحد عند الغزالي.

وأدهى من ذلك كلّه قول الشيخ المتهجم : «ومن هنا يتبيّن أن ما قلناه في الفتوى من (أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيّبات) قول مجمع عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء.

هكذا سلب العقل عن جماعة علماء الأمّة الذين ليس بينهم من يرى رأيه ، وقوله هذا في فتياه بالطل بشقّيه ، كما أنّ تعليقه عليه هنا باطل بطلانا (مركّزا) ، لأنّ خبر الآحاد يفيد عقيدة اتفاقا ، كما ذكرنا نصوص أهل العلم في ذلك آنفا ـ وهم عقلاء ومن يرميهم بفقد العقل أيكون هو العاقل؟ ـ ولا ينافي ذلك ثبوتها بأدلة سواه.

ولو لا الاعتماد والاستناد على أخبار الآحاد في باب المغيّبات لكان حفّاظ الأمّة لاعبين في تدوين ما يتعلق بها في كتبهم ، ولكان علماء التوحيد هازلين حينما يقولون في كتبهم في الأمور الغيبية : صحّ الحديث في ذلك عن المعصوم ، ولا استحالة في حمله على ظاهره.

لأنه من المقرّر عند أهل الحق أنّ النصوص تحمل على ظواهرها ، ما لم يمتنع حملها على ظواهرها ، فإذا امتنع ظاهر النص أوّل إذ ذاك فقط ، فيذكرون الأخذ بالاظهر ما لم يمتنع الأخذ به امتناعا عقليا أو شرعيا.

ثم الغريب كل الغرابة أن يدّعي عن ذلك الحكم الباطل بشقّيه «أنه مجمع عليه» ، مع كونه لا يعير سمعا إلى حجّيّة الإجماع ، كما يعلم من كلامه في العدد (٥١٩) في الرسالة. وهذا مما تضحك منه الثّكلى لظهور بطلان الأصل بشقّيه ، فضلا عن ثبوت الإجماع عليه ، بل لا يصح نقل أحد الشقين عن أحد يعي ما يقوله ، بل القول «بأنّ ذلك ثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء» لا يصدر ممن يزن كلامه.

٦٩

ثم الغريب ممن لا يرى الحجة في أحاديث الصحيحين والسنن والمسانيد والجوامع والمصنفات ، كيف يحتجّ بأقوال أناس من المتأخرين وبينهم من لم ينشف حبر ما كتبه بعد؟!! فابن الصلاح إن كان حجة عنده فيما يقوله في المتواتر ، يكون حجّة أيضا فيما يقوله في الصحيحين ، وهو يقول في مقدمته بالقطع بصحة أحاديثهما ، وحديث نزول عيسى مما اتّفقا على روايته ، فوقع الحقّ وبطل ما كانوا يعملون.

والواقع أنّ قول ابن الصلاح إنما هو في الواتر اللفظي ، فلا يمسّ كلامه كلامنا من قرب ولا بعد ، ثم ظنّه ندرة التواتر اللفظي خلاف الواقع كما توسّع في بيان ذلك الحفّاظ بعده أمثال الزين العراقي وابن حجر والسخاوي والسيوطي وغيرهم ، فأبانوا الدليل وأوضحوا السبيل ، ونقل نصوصهم هنا يخرجنا إلى التوسع فيما يعلمه صغار طلبة العلم.

ولا يستطيع أحد أن ينكر كثرة التواتر المعنوي باشتراك الأحاديث في معنى خاص ، والتواتر في حديث نزول عيسى عليه‌السلام ، تواتر معنوي حيث تشاركت أحاديث كثيرة جدا ، بينها الصّحاح والحسان بكثرة في التصريح بنزول عيسى ، مع اشتمال كل حديث منها على معاني أخرى ، وهذا ما لا يستطيع إنكاره أحد ممن شمّ رائحة علم الحديث.

وليس الاختلاف في شروط التواتر أو الإجماع مما يوهن أمر أحدهما لأن الاختلاف في شيء لا يوجب عدم الجزم بشيء فيه ، والاختلاف بعقل وبدون عقل شأن البشر ، وقد اختلف الناس في الله وفي رسوله وفي كل شيء ، ولم يمنع ذلك من الجزم بالحقائق بعد تمحيص الأقوال.

فالاستناد في توهين أمر الإجماع أو التواتر ، على الاختلاف في شرط قبول كلّ منهما ، لا يكون إلا من ضيق العطن وجمود القرحية ، وقد استقرّ عند أهل العلم بأدلة ناهضة ملموسة ، أنّ التواتر ليس في حاجة إلى عدد خاص من خمسة فما فوقها ، بل إلى مجرّد ورود الخبر عن أناس تحيل العادة تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات ، وهذا النوع من الخبر في غاية الكثرة لكثرة طرقه في دواوين الحديث.

وما نصّ أهل الشأن على تواتره يكون كثير الطرق في كتب الصحاح والسنن والجوامع والمسانيد والمصنفات والأجزاء والتواريخ ، ويكون كيان أسانيده من صحاح وحسان وضعاف من جهة قلة الضبط منجبر ضعفها بأدلة تدلّ على ضبط من رمي بقلة الضبط ، بموافقة الثقات الأثبات له في الرواية ، فتكون الضّعاف مغمورة بين تلك

٧٠

الأخبار الكثيرة التي معظمها صحاح وحسان ، وأما كثرة الطّرق من أسانيد تالفة فقط ، فلا تفيد الحسن ولا الصحة فضلا عن التواتر.

وأمّا ما نصّوا على أنه متواتر ، فيبدأ تخريجه من الصحيحين وباقي السنن إلى سائر الصحاح والمسانيد والمصنفات ، فمن لا يطمئنّ قلبه إلى مثله في الدين ، لا يطمئنّ إلى شيء ولو تليت عليه الكتب المنزلة كلّها.

وليست كثرة وجود المتواتر تواترا معنويا موضع نزاع القوم ، ولا هذا مقابل قول ابن الصلاح ، بل مجرّد وجود الحديث في الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقا وغربا ، بطرق كثيرة تحيل العادة تواطؤ رجالها على الكذب : يؤذن بتواتر الخبر قطعا عند كل حاظ بعقله ، تواترا لفظيا إذا اتّفقت ألفاظهم ، وتواترا معنويا إذا اختلفت ألفاظهم ، مع اتفاقها في معنى يكون قدرا مشتركا بين الجميع.

وهذا القسم هو الكثير جدّ الكثرة كما يظهر من كتب أهل الشأن ، ومعنى اجتماع تلك الكتب على تخرجي الحديث ـ في لفظ بعضهم ـ اجتماع عدد منها يحتوي تلك الطرق الكثيرة ، التي هي مدار الحكم بالتواتر ، لظهور بطلان حمل الكلام على الاستغراق الحقيقي ، لأنّ جمع كتب الحديث كلّها غير ميسور لأحد في دور من الأدوار ، فكفى جمع عدد من الكتب المشهورة المتداولة ، يحتوي تلك الطرق ، لظهور أنّ التعليق بالمحال ليس من عادة العلماء.

وكم من حديث لا يوجد في الموطأ أو المنتقى لابن الجارود مثلا ، ويكون موجودا في باقي الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع ، بسبب أنّ الموطأ والمنتقى يقتصران على أحاديث الأحكام ، مع كون باقي الكتب أشمل في الرواية ، والحديث المذكور لا يكون من باب الأحكام مثلا.

وتخطئة ابن الصلاح في دعوى ندرة التواتر مشروحة في «النّكت» و «شرح الألفية» للعراقي و «التدريب» للسيوطي وغيرها من الكتب المعروفة ، بحجج ملموسة. وعدّ الكاتب هذا القول أوسع المذاهب في المتواتر غلط بل هو الذي حقّقته الدلائل الناهضة ، ومذهب لا يشترط في عدد الرواة أكثر من خمسة يكون هو أوسع المذاهب في التواتر.

والظاهر أنه غاب عن كاتب المقال اختلاف الأقوال في الأعداد التي يجب تحقّقها في التواتر ، فيكون ما عليه الجماعة هو أعدل الأقوال ، فلا تقوم حجّة لسواه ،

٧١

فمحاولة الكاتب التمسّك باجتماع الكتب على تخريج الحديث ، وعدّه لذلك أوسع المذاهب للتخلّص من التواتر : مما يذهب هكذا أدراج الرياح عند من تدبّر ما ذكرناه.

ثم دعواه الإسراف في الحكم بالتواتر قديما وحديثا ، إبعاد في النّجعة ، وليس مثل هذه الدعوى المجردة مما يسمع من مثله ، بعد أن ساق أهل الشأن الطرق التي بها يحكمون على الحديث بالتواتر من كتب الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع والمصنفات وغيرها.

والمزاعم المجرّدة عن الدليل لا يهزم بها حق ، ولا ينصر بها باطل ، بل ترتدّ إلى زاعمها هزيما كما صدر ، ويقال لقائلها : «ما هكذا تورد الإبل يا بطل!».

وإن دلّت هذه الظاهرة منه على شيء ، إنما دلّت على أنه يريد التشكيك في السنة ودلالتها ، كما فعل مثل ذلك في دلالة الكتاب الكريم ، فنوصيه أن يقلع عن هذا ، ويحذر من المخاطرة بنفسه فيما لا قبل له به ، لأن الحقّ ظاهر لا يستره التمويه عن الأبصار ، والباطل مفضوح كائنا من كان ناصره ، وأوّل فخر لمن يقوم بالتدليل على تواتر خبر أن يسرد أسماء الصحابة الذين قاموا بروايته ، ثم التابعين ، ثم وثم طبقة فطبقة ، والاستياء من مثل هذا الجيش العرمرم ، شأن من يكون في صفّ الباطل وانهزم.

ولا أدري ما هو الداعي له إلى ذكر التعصّب المذهبي في خلع لقب التواتر على خبر الآحاد في نظره ، ونزول عيسى ليس اعتقاد أهل مذهب فقط ، بل المسألة إجماعية لا يوجد مذهب ينفيها ، فدونك «الفقه الأكبر» رواية حماد ، و «الفقه الأبسط» رواية أبي مطيع ، و «الوصية» رواية أبي يوسف ، و «عقيدة الطحاوي» ، يظهر منها أنّ اعتقاد نزول عيسى مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأتباعهم ، وهم شطر الأمة المحمدية.

وكذا مالك وأصحابه وأتباعه ، والشافعيّ وأصحابه وأتباعه ، وليس أحد منهم ينكر نزول عيسى ، ولأحمد بن حنبل كتابات بعث بها إلى أصحابه في بيان معتقد أهل السنة ، وفي جميعها هذه المسألة ، وتلك الرسائل مروية بأسانيدها عند أهل العلم ، مدوّنة في «مناقب أحمد» لابن الجوزي ، وفي «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى وغيرهما ، وكذا الظاهرية.

وتصريح ابن حزم بنزوله عليه‌السلام موجود في ٣ : ٢٤٩ من «الفصل» ، وفي ١ : ٩ وفي ٧ : ٣٩١ من «المحلى» ، بل المعتزلة كذلك كما يظهر من كلام الزمخشري ،

٧٢

وكذلك الإماميّة كما يظهر من كلامهم في الدفاع عن خروج المنتظر ، فأين يكون التعصّب المذهبي في مثل هذه المسألة ، المخرج دليلها في الصحاح كلّها والسّنن كلّها والمسانيد كلّها ، ودان بها جميع الفرق؟

نعم هنا قوّة تمسك للأمّة بحكم قطعيّ ، لا يبغون عنه حولا إلى شبه اليهود والنصارى في المسألة. ولا حجّة في كلام بعض العصريين الذين تعوّدوا التساهل في كل شيء ، لأنهم صحفيّون قبل كل شيء ، لا خبر عندهم بأدلة المسألة ، ولا ورع يحجزهم عن الإفتاء فيما غاب عنهم دليله.

أفدني بربك ما هو الداعي هنا إلى ذكر الوضّاعين ، أو الأخبار الجارية على الألسن؟ وقد ألفت في القبيلين كتب خالدة ، يستفيد منها كلّ من يرغب في علوم السنة ، وليس خبر النزول من هذا الوادي ولا من ذاك الوادي كما سبق.

وطرق بحث المعجزات الحسية هنا تطوّع من الكاتب في صف نفاتها بدون أيّ مناسبة له هنا ، غير توسيع دائرة البحث ، ليبقى وهو يتكلّم ، نفع كلامه أم لم ينفع ، فيا نفاة المعجزات الحسية ، اعملوا (معروفا) لا تضنّوا على فخر الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ـ بمعجزات أثبتها القرآن لسائر الأنبياء.

وقد أجاد ابن كثير في «تاريخه» سرد المعجزات الثابتة لفخر المرسلين ، مما ثبت مثله للأنبياء قبله ، وتبيين أنه ما أوتي نبيّ قبله معجزة إلا وأعطي مثلها المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، وقد نصّ أهل العلم على ما تواتر منها مباشرة ، وما تواتر القدر المشترك فيه فقط.

وإن كان كاتب المقال تسرّب إلى فكره شيء من تشكيكات البرنس قيتانو الإيطالي ، في تاريخه الكبير عن الإسلام ، فدواء ذلك كتاب الشيخ شبل النعماني وزميله الشيخ سليمان النّدوي في السّير ، وهما أجادا وأفادا.

والمعجزات الحسيّة يجدها الباحث في كتب الصحاح والسنن والسّير مع تبيين مراتبها ، كما يجدها في «الشفا» وشروحه ، و «المواهب» وشرحها إن كان يقتصد في البحث.

وأما تواتر أحاديث المهديّ والدجّال والمسيح ، فليس بموضع ريبة عند أهل العلم بالحديث ، وتشكّك بعض المتكلمين في تواتر بعضها ، مع اعترافهم بوجوب اعتقاد أنّ أشراط الساعة كلّها حقّ ، فمن قلّة خبرتهم بالحديث ، وهم معذورون في ذلك ، ما لم يعاندوا بعد إقامة الحجة عليهم في المسائل.

٧٣

وكتاب «التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدّجّال والمسيح» للشوكاني ، مطبوع في الهند ، وقد نقل منه صديق خان جملة صالحة في كتابه «الإذاعة لما كان وما يكون من أشراط الساعة» ، وهو أيضا مطبوع في الهند ، وهما ممن أقرّ لهم كاتب المقال بالإمامة والقدوة ، بل هما من أئمة هذا الشّاذّ.

وليس إلى مثل الكاتب المتهجم التحدّث عن مراتب الحديث ، وله رجال وللتشغيب رجال. ورمي من أجاد جمع الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه‌السلام ، ونفع الأمة بعلمه ، بالتمويه والرّكض وراء الارتزاق ، مما لا يصدر من حرّ سلم قلبه من الدّغل.

ومما يقضى منه العجب أن يرمى ممّن خرق الإجماع وفارق الجماعة في المسألة : من ناصر معتقد جماعة المسلمين بالمكابرة والعناد والإصرار على التضليل!! ، ولا شك أنّ من عنده شيء من الوازع الدّيني أو الزاجر الخلقي ، يربأ بنفسه أن يقف في مثل هذا الموقف.

ثم لما رأى الكاتب انهزامه من كل جانب ، وتضييق الأدلة الخانقة لخناقه أراد أن يسلك في المسألة ما سلكه في تأويل الشيطان فيما سبق! فقال : «إنّ حديث النزول ليس بمحكم ، لا يحتمل التأويل حتى يكون قطعيّ الدلالة». والمحكم لا يمتاز عن أخواته من أقسام الوضوح إلا بعدم احتماله للنسخ ، وأما الخبر فلا يحتمل النسخ ، فيكون الظاهر والنصّ في هذا الموضوع في حكم المحكم.

وأما احتمال التأويل فاحتمال خياليّ لم ينشأ من دليل ، فلا يخلّ بكون الدليل قطعيّ الدلالة كما سبق بيانه مرات ، قال الغزالي في «المستصفى» ١ : ٣٥٧ «أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل ، فلا يخرج اللفظ عن كونه نصّا» ، ومثله في «التلويح» و «مرآة الأصول» وغيرها.

ثم قال الكاتب : «فقد تناولتها أفهام العلماء قديما وحديثا ، ولم يجدوا مانعا من تأويلها».

لكن لا يوجد بين علماء أهل الحق من يؤوّل النصوص ما لم تستحل معانيها الظاهرة ، ولذا تجد في كتب أهل الحق النصّ على أنّ «النصوص تحمل على ظواهرها ، والعدول عنها إلى معان يدّعيها أهل الباطن إلحاد وكفر ، وردّ النصوص كفر».

٧٤

ثم نقل الكاتب عن «شرح المقاصد» نقلا مبتورا ما يظنّ به أنه يكون حجّة له في تأويل ما ورد في أشراط الساعة ، ولا سيما نزول عيسى عليه‌السلام ، مع إغفال ما يحقّق المسألة من كلام السعد في مواضع من «شرح المقاصد» ، فأنقل كلام السعد هنا مع إثبات ما أهمله الكاتب ، ليظهر ما إذا كان قول السعد في صالحه أم لا.

قال السعد في «شرح المقاصد» ٢ : ٢٢٦ «وبالجملة فالأحاديث في هذا الباب كثيرة ، رواها العدول الثقات ، وصحّحها المحدّثون الأثبات ، ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة ، لأنّ المعاني المذكورة أمور ممكنة عقلا.

وزعمت الفلاسفة أنّ طلوع الشمس من مغربها مما يجب تأويله : بانعكاس الأمور وجريانها على غير ما ينبغي ، وأوّل بعض العلماء النّار الخارجة من الحجاز : بالعلم والهداية سيّما الفقه الحجازيّ ، والنّار الحاشرة للناس : بفتنة الأتراك ، وخروج الدجّال : بظهور الشرّ والفساد ، ونزول عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : باندفاع ذلك وبدو الخير والصلاح ...».

فصدر كلامه على القاعدة المتّبعة عند أهل الحق ، من حمل النصوص على ظواهرها ما دامت معانيها أمورا ممكنة ، ومؤوّل طلوع الشمس كما سبق لا يكون من أهل الشريعة ، وكذلك مؤوّل الأشراط على ما سبق ، لأنّ تلك التأويلات بعيدة كلّ البعد عن لغة التخاطب ، فتكون من قبيل التأويلات للباطنيّة ، وقد عرفت حكمها ، وليس شيء منها على قواعد التأويل المعروفة عند أهل العلم ، راجع «قانون التأويل» للغزالي.

فكأنّ الكاتب لم يدرس شيئا من كتب التوحيد عند أهله ، ليفهم مغزى كلام المتكلمين في السّمعيّات : هذه أمور ممكنة في العقل. يعنون أنه دلّ السمع على ثبوتها ، فوجب حملها عليها. ومنهم من يعبّر عن ذلك بقوله : لا يمتنع حملها على ظواهرها يعني عقلا ، فتعيّن حملها عليها شرعا ، لا بمعنى أنه لا مانع من حملها على ظاهرها شرعا ولا من عدم حملها.

وليس المقام يتسع لشرح الوجوب والامتناع والإمكان ووجه كون سلب الضرورة عن جانب العدم أعمّ من الوجوب في جانب الوجود ، وهذا من مبادئ المعارف لمن يشتغل بعلم أصول الدين ، ففهم الكاتب هنا يجلب إلى نفسه ضحك الضاحكين من صغار المتعلّمين.

٧٥

ومما يحقّق عند القارئ مبلغ بعد الكاتب عن علم الكلام قوله تفريعا على كلام السعد المذكور : «ومن ذلك نرى أنّ السعد لا يقرّر وجوب حملها على ظواهرها ، حتى تكون من قطعيّ الدلالة الذي يمتنع تأويله ، وإنما يقرّر بصريح العبارة أنه لا مانع من حملها على ظواهرها. فيعطي بذلك حقّ التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل».

وعادة المتكلمين أن يفرّعوا وجوب الاعتقاد بمعنى الدليل الشرعيّ على عدم استحالة معناه المؤدية إلى التأويل ، وكم ترى السّعد نفسه يقول في السمعيات : «إنها أمور ممكنة نطق بها الكتاب والسنة ، وانعقد عليها إجماع الأمة ، فيكون القول بها حقا ، والتصديق بها واجبا» ، ومثله يتكرّر في «شرح النسفية» ، وفي «التجريد» للنصير الطوسي ، و «المواقف» للقاضي عضد الدين.

والذين ذكرهم السعد هنا بعد قوله : «عند أهل الشريعة» ، ليسوا من أهل الشريعة في نظره ، كما هو ظاهر ، والسعد هو الذي يقول في آخر «شرح المقاصد» : «ذهب العظماء من العلماء إلى أنّ أربعة من الأنبياء في زمرة الأحياء الخضر وإلياس في الأرض ، وعيسى وإدريس في السماء ، عليهم الصلاة والسلام».

كما يقول في ٢ : ١٩٨ : «وأما استحلال المعصية بمعنى اعتقاد حلّها فكفر ، صغيرة كانت أو كبيرة ، وكذا الاستهانة بها بمعنى عدّها هيّنة ترتكب من غير مبالاة ، وتجري مجرى المباحات ، ولا خفاء في أنّ المراد ما ثبت بقطعيّ ، وحكم المبتدع ـ وهو من خالف في العقيدة طريقة السنة والجماعة ـ ينبغي أن يكون حكم الفاسق ، لأنّ الإخلال بالعقائد ليس بأدون من الإخلال بالأعمال» ، يعني فيما هو غير مكفّر.

ثم قال : «وحكم المبتدع البغض والعداوة والإعراض عنه ، والإهانة والطّعن واللّعن وكراهية الصلاة خلفه».

ثم قال : «وطريقة أهل السّنّة أنّ العالم حادث ، والصانع قديم متصف بصفات قديمة ... لا شبيه له ، ولا ضدّ ، ولا ندّ ، ولا نهاية له ، ولا صورة ، ولا حدّ ، ولا يحلّ في شيء ، ولا يقوم به حادث ، ولا يصحّ عليه الحركة والانتقال ... وأنّه ليس في حيّز ولا جهة ... وأنّ أشراط الساعة من خروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج دابّة الأرض : حقّ ...» إلى آخر معتقد أهل السنة والجماعة المبسوطة هناك.

٧٦

وبعد أن علمت نصوص كلام السعد ، في شتى المواضع من كتابه المذكور ، تعلم علما باتا أنّ مراده بقوله : «ولا يمتنع حملها على ظواهرها» بعد تقريره لثبوت الأحاديث ، لا يكون إلا بمعنى أنها أمور ممكنة عقلا دلّ السمع على ثبوتها ، فيجب التصديق بها.

ولم يكتف الكاتب بما سبق منه من التحريف الشائن ، حتى خيّر الناس في الإيمان بأحد طرفي النّفي والإثبات ، وهذا هو الجهل بعينه في باب الاعتقاد ـ وإن كان له سابقة في تقرير لزملائه ـ وختم كلامه بأنه تبيّن جليّا مما تقدّم «أنه ليس في الأحاديث التي أوردوها في شأن نزول عيسى آخر الزمان قطعيّة ما ، لا من ناحية ورودها ، ولا من ناحية دلالتها».

هكذا يظنّ بنفسه أنه تمكّن من إبطال كتب السنة من صحاح وسنن ومسانيد وغيرها ، بشطبة قلم ، كما تمكّن في حسبانه أيضا من إلغاء كتب الكلام والتوحيد وما حوته في المسألة من أول عهد إلى اليوم ، وكتب السنة لا تزال بخير ، وكذا كتب التوحيد ما دام للإسلام عرق ينبض ، وإنما الضائع من أضاع نفسه بمناهضة الأمّة ، حتى أصبح مثلا في الآخرين. ولعل فيما ذكرناه في هذا الفصل كفاية في نقض ما في المقال المذكور ، والله سبحانه هو ولي الهداية.

٧٧

الإجماع وثبوت العقيدة

وبهذا العنوان كلمة أيضا في العدد (٥١٩) ، تناول فيها الكاتب ثالث حجج الشرع عند أئمة الدين ، بالتشكيك بكل ما استطاع ، وبه يكون أتمّ رسالته في تهوين دلالة حجج الله من الكتاب والسنة والإجماع ، في نفوس المصغين إليه من العامّة وشبه العامّة.

ولست أدري ما هو الداعي له إلى هذا اللف والدوران ، وتقعيد القواعد في النيل من الأدلة المجمع عليها بين أهل الحق ، وكان يستطيع بدون ذلك أن يقول : إنّ في وفاة عيسى عليه‌السلام ونفي نزوله في آخر الزمان النّصّ الفلانيّ من الكتاب يدلّ على وفاته ونفي نزوله ، أو الدليل الفلانيّ من السنة أخرجه فلان وفلان ، يخالف ما اعتقده الجماعة في ذلك ، أو الرواية الفلانية عن فلان من أئمة الدين ، بالسند الفلاني تفيد وفاته ونفي نزوله ، لو كان شيء من ذلك موجودا في دواوين العلم.

لكن لو أجلب الكاتب بخيله ورجله ما استطاع سبيلا إلى رواية في وفاته ونفي نزوله عن أحد لم ينخدع بروايات أهل الكتاب ، فضلا عن أن يجد شبه دليل في الكتاب أو السنة ، إزاء نصوص كتاب الله وسنة رسوله المتواترة وإجماع علماء المسلمين ، الدالة على معتقد الجماعة في ذلك.

وكم قلنا : إنّ رواية ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، غير ثابتة ، للانقطاع وللكلام في رجال سندها ، بل صحّ واستفاض خلاف ذلك عنه ، فيجب حمل تلك الرواية على التقديم والتأخير ، لئلا تخالف ما صحّ واستفاض عنه ، إذا جعلنا لها شيئا من القيمة كما هو رأي قتادة والفرّاء.

وقول وهب بن منبّه بموته : لم يسنده إلى المعصوم ، وإنما نقله من أهل الكتاب ، ورواية محمد بن إسحاق تنصّ على أنّ القول بموته قول النصارى ، والجبّائي منخدع برواية أهل الكتاب ، وابن حزم على غلطه بعدم الفرق بين التوفّي والوفاة مصرّح باعتقاده نزوله في آخر الزمان ، حيث قال في «المحلّى» في ١ : ٩ : «إنّ عيسى

٧٨

ابن مريم سينزل» ، وساق بسنده حديث النزول هناك ، وهكذا يقول أيضا في ٧ : ٣٩١ فيهون أمر خلافه ، وإن كان واهن المدرك.

وإنما الخلاف الخطر هو نفي نزوله عليه‌السلام ، وقد سبق منا بيان وجوه دلالة الكتاب على الرفع والنزول ، مع نقل نصوص الحفاظ على تواتر حديث النزول ، والإجماع على الاعتقاد بنزوله.

وممن قال ذلك الحافظ عبد الحق بن عطية الأندلسيّ وأبو حيّان الحافظ في تفسيريهما ، وفي «البحر المحيط» ٢ : ٤٧٣ : «قال ابن عطية وأجمعت الأمّة على ما تضمّنه الحديث المتواتر ، من أنّ عيسى في السماء حيّ ، وأنه ينزل في آخر الزمان» ، وفي «النهر المادّ من البحر» ٢ : ٤٧٣ بالهامش : «وأجمعت الأمّة على أنّ عيسى عليه‌السلام حيّ في السماء ، وسينزل إلى الأرض ، إلى آخر الحديث الذي صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك» ، وفي «البحر» أيضا ٣ : ٣٩١ «(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] هذا إبطال لما ادّعوه من قتله وصلبه وهو حيّ في السماء الثانية ، على ما صحّ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث المعراج ، وهو هنالك مقيم حتى ينزله الله إلى الأرض».

ومن خلقه الله من غير أب إذا عاش في السماء عيشة الملائكة بدون حاجة إلى الأغذية بإذن الله سبحانه إلى اليوم الموعود ، ما استبعد ذلك مؤمن لا يكون في قلبه دغل.

وقد ذكر الذهبي في «تجريد أسماء الصحابة» عيسى عليه‌السلام في عداد الصحابة ، حيث رآه ليلة المعراج وهو حيّ ، وهكذا فعل ابن حجر أيضا في «الإصابة» ولا يخدش في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها في أنّ الإسراء كان مناما ، فإنه إنما رواه محمد بن إسحاق عن بعض آل أبي بكر رضي الله عنه بدون سند ، وبالرواية عن مجهول بدون سند ، لا يثبت شيء عن عائشة ولا غيرها.

ومن لغط بأنّ الإسراء كان نوما لهذا الخبر بنى على غير أساس ، وإطباق كتب العقائد من الصدر الأول إلى اليوم على الرفع والنزول ، مما لا يدع مجالا للتشكيك في الإجماع على ذلك ، إلا عند من لا يبالي بالإجماع ولا بالمجمعين.

وليس الإجماع بالموضع الذي يراه فيه كاتب المقال ، بل يقول فيه ابن حزم في «مراتب الإجماع» : «إنّ الإجماع قاعدة من قواعد الملّة الحنيفيّة ، يرجع إليه ، ويفزع نحوه ، ويكفّر من خالفه» ، مع كونه من أشدّ الناس كلاما فيه ، والخلاف في شيء

٧٩

ليس مما يزيل حقيقة ذلك الشيء من الوجود ، بل أهل البصيرة النافذة يمحصونه بين ضوضاء الأخذ والرد ، فيظهر الحقّ واضحا جليّا بعد التمحيص ، لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ولعلّ الحقّ في ذلك لا يعدو ما قلته في «الإشفاق على أحكام الطلاق» ، في صدد الردّ على من يقول من أبناء اليوم : إنّ الإجماع الذي يدّعيه الأصوليون ما هو إلا خيال ... ولا استقرّ رأي العلماء على قول مقبول في معنى الإجماع ـ في نفسه! ـ وكيف يحتجّ به ومتى؟».

ولا بأس أن أسوق هنا بعض ذلك ، دفعا لما عسى أن يعلق ببعض الخواطر من تشكيك ذلك المشكّك.

ومما قلت هناك : «هذا كلام لا يصدر ممن يعقل ما يقول ، وإن دلّ هذا الكلام على شيء ، فإنما دلّ على أنّ قائله ما درس شيئا من أصول الفقه ، ولو نحو «مرآة الأصول» ، أو «التحرير» ، على واحد من المبرّزين في العلم ، فضلا عن كتاب البزدوي ، وشروحه ، ولا اطلع على «بحر» البدر الزركشي ، ولا «شامل» الإتقاني ، فضلا عن «تقويم» الدّبوسي ، و «ميزان السمرقندي» ، و «فصول» أبي بكر الرازي.

ولم يطّلع أيضا على «فصول» الباجي ، و «محصول» أبي بكر بن العربي ... ، ولا «برهان» ابن الجويني ، ولا «قواطع» السمعاني ... ولا على «تمهيد» أبي الخطّاب ، و «روضة» الموفّق و «مختصرها» للطّوفي ، ولا «عمد» القاضي عبد الجبار ، و «معتمد» أبي الحسين البصري ، ولا «محصول» الرازي ، بل «تنقيحه» للقرافي ، بل اكتفى في هذا العلم الخطير بتقليب صفحات كتيّب للشوكاني أو القنّوجي ، شيخي التخبّطات في المسائل في الدّور الأخير ...

أو لم يعلم هذا المتقول أنّ حجيّة الإجماع مما اتّفق عليه فقهاء الأمّة جميعا ، وعدّوه ثالث الأدلة ، حتى إنّ الظاهرية على بعدهم عن الفقه ، يعترفون بحجّيّة إجماع الصحابة ، ولهذا لم يتمكّن ابن حزم من إنكار وقوع الطلاق الثلاث مجموعة ، بل تابع الجمهور في ذلك.

بل قد أطلق كثير من العلماء القول بأنّ مخالف الإجماع كافر ، حتى شرط للمفتي أن لا يفتي بقول يخالف أقوال جماعة العلماء المتقدّمين ، ولهذا كان لأهل العلم عناية خاصّة بمثل «مصنّف» ابن أبي شيبة ، و «إجماع» ابن المنذر ، ونحوهما من

٨٠