العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

وبالإيمان ولا يقر بشيء من شرائع الإيمان فمات أهو مؤمن؟ قال : نعم (١) قلت له : ولو لم يعلم شيئا ولم يعمل به إلا أنه مقر بالإيمان فمات. قال : هو مؤمن. قلت لأبي حنيفة : أخبرني عن الإيمان. قال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتشهد بملائكته وكتبه ورسله وجنته وناره وقيامته وخيره وشره وتشهد أنه لم يفوض الأعمال إلى أحد.

والناس صائرون إلى ما خلقوا له ، وإلى ما جرت به المقادير فقلت له : أرأيت إن أقر بهذا كله لكنه قال : المشيئة إلى أن شئت آمنت وإن شئت لم أومن لقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩]. فقال : كذب في زعمه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [المدّثّر : ٥٤ ـ ٥٦]. وقال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] (٢) وقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] هذا وعيد ، وبهذا لم يكفر ، لأنه لم يرد الآية ، وإنما أخطأ في تأويلها ولم يرد به تنزيلها قلت له إن قال إن أصابتني مصيبة (فسئلت) أي مما ابتلاني الله بها أو هي مما اكتسبت (أجبت قائلا) ليست هي مما ابتلاني الله بها أيكفر؟ قال : لا ، قلت : ولم؟ قال : لأن الله تعالى قال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النّساء : ٧٩]. أي بذنبك وأنا قدرته عليك. وقال : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشّورى : ٣٠] ـ أي بذنوبكم ـ وقال تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النّحل : ٩٣] ، قال : إلا أنه أخطأ في التأويل ، ومعنى قوله : (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال : ٢٤] أي بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإيمان.

__________________

(١) يعني حيث لم يبلغه الشرع في دار الشرك ، وأما الإيمان بالله فدليل العقل كاف في وجوبه عنده قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النّساء : ٤٨] ولم يقيد ذلك بزمان ولا مكان ، وأما الأحكام فلا يعذب بها إلا بعد تبليغها (ز).

(٢) ومن مقتضى حكمة الحكيم الخبير خلق العبد شائيا مختارا في أفعاله التكليفية ، وشمول المشيئة الأزلية لتلك الأفعال لا يخرجها عن كونها اختيارية لتعذر انقلاب الحقائق وقد دلت النصوص على اختيار العبد وشمول المشيئة الأزلية. قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] وقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] وهذا هو الجمع بين النصوص ، وقد سأل أبو حنيفة زيد بن علي الشهيد أقدر الله المعاصي؟ فقال : أفيعصى قهرا؟! والتقدير والمشيئة والعلم متواردة عليها ، والتقدير والمشيئة على وفق العلم (ز).

٦٠١

قال أبو حنيفة رحمه‌الله : إن الاستطاعة التي يعمل بها العبد المعصية هي بعينها تصلح لأن يعمل بها الطاعة وهو معاقب في صرف (١) الاستطاعة التي أحدثها الله تعالى فيه وأمره أن يستعملها في الطاعة دون المعصية.

قلت : فإن قال : الله تعالى لم يجبر عباده على ذنب ثم يعذبهم عليه فما ذا نقول له؟ قال : قل له : هل يطيق العبد لنفسه ضرا ونفعا؟ فإن قال : لا لأنهم مجبورون في الضر والنفع ما خلا الطاعة والمعصية. فقل له : هل خلق الله الشر؟ فإن قال : نعم. خرج من قوله وإن قال : لا ، كفر لقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢)) [الفلق : ١ ، ٢]. أخبر أن الله تعالى خلق الشر. قلت : فإن قال : ألستم تقولون إن الله شاء الكفر وشاء الإيمان. فإن قلنا نعم ، يقول : أليس الله تعالى يقول : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) [المدّثّر : ٥٦] نقول : نعم ، فيقول : أهو أهل الكفر؟ فما نقول له؟ قال : نقول : هو أهل لمن يشاء الطاعة وليس بأهل لمن يشاء المعصية. فإن قال : إن الله تعالى لم يشأ أن يقال عليه الكذب. فقل له : الفرية على الله من الكلام والمنطق أم لا؟ فإن قال : نعم ، فقل : من علّم آدم الأسماء كلها؟ فإن قال : الله ، فقل : الكفر من الكلام أم لا؟ فإن قال : نعم ، فقل : من أنطق الكافر؟ فإن قال : الله. خصموا أنفسهم ، لأن الشرك من النطق ، ولو شاء الله لما أنطقهم به. قلت : فإن قال : إن الرجل إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، وإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل ، وإن شاء شرب وإن شاء لم يشرب. قال : فقل له : هل حكم الله على بني إسرائيل أن يعبروا البحر وقدّر على فرعون الغرق؟ فإن قال : نعم ، قل له : فهل يقع من فرعون أن لا يسير في طلب موسى وأن لا يغرق هو وأصحابه؟ فإن قال : نعم فقد كفر ، وإن قال : لا ، نقض قوله السابق.

__________________

(١) وصرف الاستطاعة هو منار التكليف وقد جعله الله بيد العبد المكلف فلا جبر عنده (ز).

٦٠٢

باب في القدر

قال : حدثنا علي (١) بن أحمد عن نصير بن يحيى قال : سمعت أبا مطيع يقول : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : حدثنا حماد عن إبراهيم ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم علقة مثل ذلك ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا يكتب عليه رزقه وأجله وشقي أم سعيد ، والذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل عمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجن فيموت فيدخلها ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل النار فيموت فيدخلها».

قلت : فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك ناس فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك؟ قال : لا. قلت : ولم وقد أمر الله تعالى ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا فريضة واجبة؟ فقال : هو كذلك لكن ما يفسدون من ذلك يكون أكثر مما يصلحون ، من سفك الدماء واستحلال المحارم وانتهاك الأموال. وقد قال الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] قلت : فنقاتل الفئة الباغية بالسيف؟ قال : نعم. تأمر وتنهى فإن قبل وإلا قاتلته ، فتكون مع الفئة العادلة وإن كان الإمام جائرا.

لقول النبي عليه الصلاة والسلام : «لا يضركم جور من جار ولا عدل من عدل ، لكم أجركم وعليه وزره» (٢). قلت له : ما تقول في الخوارج المحكمة؟ قال : هم أخبث الخوارج ، قلت له : أنكفرهم؟ قال : لا. ولكن نقاتلهم على ما قاتلهم الأئمة من أهل الخير : علي وعمر بن عبد العزيز. قلت : فإن الخوارج يكبّرون ويصلّون ويتلون القرآن أما تذكر حديث أبي أمامة رضي الله عنه حين دخل مسجد دمشق فإذا

__________________

(١) هو الفارسي شيخ شيخ الختلي في السند (ز).

(٢) وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة لكن هذا اللفظ لم أجده فلعله رواية بالمعنى (ز).

٦٠٣

فيه رءوس ناس من الخوارج فقال لأبي غالب الحمصي : يا أبا غالب هؤلاء ناس من أهل أرضك فأحببت أن أعرفك من هؤلاء ، هؤلاء كلاب أهل النار هؤلاء كلاب أهل النار وهم شر قتلى تحت أديم السماء ـ وأبو أمامة في ذلك يبكي ـ فقال أبو غالب : يا أبا أمامة ما يبكيك؟ إنهم كانوا مسلمين وأنت تقول لهم ما أسمع قال : أولاء ، يقول الله تعالى فيهم : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)) [آل عمران : ١٠٦ ، ١٠٧] قال له : أشيء تقوله برأيك أم سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : إني لو لم أسمعه منه إلا مرة أو مرتين أو ثلاث مرات إلى سبع مرات لما حدثتكموه. فكفر الخوارج كفر انعم ، كفر بما أنعم الله تعالى عليهم. قلت : الخوارج إذا خرجوا وحاربوا وأغاروا ثم صالحوا هل يتبعون بما فعلوا؟ قال : لا غرامة عليهم بعد سكون الحرب ، ولا حد عليهم ، والدم كذلك لا قصاص فيه. قلت : ولم ذلك؟ قال : للحديث الذي جاء أنه لما وقعت الفتنة بين الناس في قتل عثمان رضي الله عنه فاجتمعت الصحابة رضي الله عنهم على أن من أصاب دما بتأويل فلا قود عليه.

ومن أصاب فرجا حراما بتأويل فلا حد عليه. ومن أصاب مالا بتأويل فلا تبعة عليه إلا أن يوجد المال بعينه فيرد إلى صاحبه. قلت : قال قائل : لا أعرف الكافر كافرا. قال : هو مثله. قلت : فإن قال : لا أدري أين مصير الكافر؟ قال : هو جاحد لكتاب الله تعالى وهو كافر. قلت له : فما تقول لو أن رجلا قيل له : أمؤمن أنت؟ قال : الله أعلم ، قال : هو شاك في إيمانه ، قلت : فهل بين الكفر والإيمان منزلة إلا النفاق وهو أحد الثلاثة ، إما مؤمن أو كافر أو منافق ، قال : لا ، ليس بمنافق من يشك في إيمانه ، قلت : لم؟ قال : لحديث صاحب لمعاذ بن جبل وابن مسعود : حدثني حماد عن حارث بن مالك ـ وكان من أصحاب معاذ بن جبل الأنصاري ـ فلما حضره الموت بكى. قال معاذ : ما يبكيك يا حارث؟ قال : ما يبكيني موتك ، قد علمت أن الآخرة خير لك من الأولى ، لكن من المعلم بعدك؟ ويروى من العالم بعدك؟ قال : مهلا وعليك بعبد الله بن مسعود فقال له : أوصني ، فأوصاه مما شاء الله ثم قال : احذر زلّة العالم ، قال : فمات معاذ وقدم الحارث الكوفة إلى أصحاب عبد الله بن مسعود فنودي بالصلاة فقال الحارث : قوموا إلى هذه الدعوة ، حق لكل مؤمن من سمعه أن يجيبه فنظروا إليه وقالوا : إنك لمؤمن ، قال : نعم إني لمؤمن ، فتغامزوا به ، فلما خرج عبد الله قيل له ذلك ، فقال للحارث مثل قولهم فنكس الحارث رأسه وبكى

٦٠٤

وقال : رحم الله معاذا فأخبر به ابن مسعود ، فقال له : إنك لمؤمن ، قال : نعم ، قال : فتقول إنك من أهل الجنة ، قال : رحم الله معاذا فإنه أوصاني أن أحذر زلّة العالم والأخذ بحكم المنافق ، قال : فهل من زلة رأيت؟ قال : نشدتك بالله أليس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان والناس يومئذ على ثلاث فرق مؤمن في السر والعلانية ، وكافر في السر والعلانية ومنافق في السر ومؤمن في العلانية فمن أي الثلاث أنت؟ قال : أما أنا فإذا ناشدتني بالله فإني مؤمن في السر والعلانية. قال : فلم لمتني حيث قلت : إني لمؤمن؟ قال : أجل هذه زلتي فادفنوها علي فرحم الله معاذا. قلت لأبي حنيفة رحمه‌الله : فمن قال إني من أهل الجنة؟ قال : كذب. لا علم له به. قال : والمؤمن من يدخل الجنة بالإيمان فيعذّب في النار بالأحداث. قلت فإنه قال : إنه من أهل النار؟ قال : كذب لا علم له به قد أيس من رحمة الله تعالى ، قال أبو حنيفة رحمه‌الله : ينبغي أن يقول : أنا مؤمن حقا ، لأنه لا يشك في إيمانه قلت : أيكون إيمانه كإيمان الملائكة؟ قال : نعم (١) قلت وإن قصر عمله فإنه مؤمن حقا قال : فحدثني حديث حارثة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «كيف أصبحت؟» قال : أصبحت مؤمنا حقا ، قال : «انظر ما تقول فإن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟» فقال : عزفت نفسي عن الدنيا حتى أظمأت نهاري وأسهرت ليلي. فكأني أنظر إلى عرش ربي ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار حين يتضاغون فيها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصبت فالزم ، أصبت فالزم» ثم قال : «من سرّه أن ينظر إلى رجل نوّر الله تعالى قلبه فلينظر إلى حارثة» ثم قال : يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة فدعا له بها فاستشهد قلت : فما بال أقوام يقولون لا يدخل المؤمن النار؟ قال : «لا يدخل النار إلا كل مؤمن» قلت : والكافر؟ قال : «هم يؤمنون يومئذ» قلت : وكيف ذلك؟ قال : «لقوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٤ ، ٨٥]».

قال أبو حنيفة رحمه‌الله : من قتل نفسا بغير حق أو سرق أو قطع الطريق أو فجر أو فسق أو زنى أو شرب الخمر أو سكر فهو مؤمن فاسق ، وليس بكافر ، وإنما يعذبهم بالأحداث في النار ويخرجهم منها بالإيمان ، قال أبو حنيفة رحمه‌الله : من آمن

__________________

(١) مهما كان الإيمان هو العقد الجازم لا يمكن فيه احتمال للنقيض أصلا فيكون إيمان المؤمنين على حد سواء فالتفاضل بينهم بالأعمال التي هي من كمال الإيمان وأما جعل العمل ركنا من الإيمان فلا يمكنه التملص مما وقع فيه الخوارج أو المعتزلة نعوذ بالله من سوء المنقلب (ز).

٦٠٥

بجميع ما يؤمن به إلا أنه قال : لا أعرف موسى وعيسى أمرسلان هما أم غير مرسلين فهو كافر ، ومن قال لا أدري الكافر أهو في الجنة أو في النار فهو كافر ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر : ٣٦] وقال : (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) [البروج : ١٠] وقال الله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [الشّورى : ١٦]. قال أبو حنيفة رحمه‌الله : بلغني عن سعيد بن المسيب أنه قال : من لم ينزل الكفار منزلهم من النار فهو مثلهم. قلت : فأخبرني عمن يؤمن ولا يصلي ولا يصوم ولا يعمل شيئا من هذه الأعمال هل يغني إيمانه شيئا؟ قال : هو في مشيئة الله تعالى إن شاء عذّبه وإن شاء رحمه. وقال : من لم يجحد شيئا من كتابه فهو مؤمن. قال أبو حنيفة : حدثني بعض أهل العلم أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما قدم مدينة حمص اجتمعوا إليه وسأله شاب فقال : ما تقول فيمن يصلي ويصوم ويحج البيت ويجاهد في سبيل الله تعالى ويعتق ويؤدي زكاته غير أنه يشك في الله ورسوله؟ قال : هذا له النار ، قال : فما تقول فيمن لا يصلي ولا يصوم ولا يحج البيت ولا يؤدي زكاته غير أنه مؤمن بالله ورسوله؟ قال : أرجو له وأخاف عليه. فقال الفتى : يا أبا عبد الرّحمن كما أنه لا ينفع (١) مع الشك عمل. فكذلك لا يضر (٢) مع الإيمان شيء. ثم مضى الفتى ، فقال معاذ : ليس في هذا الوادي أحد أفقه من هذا الفتى (٣).

قال أبو حنيفة : فقاتل أهل البغي بالبغي لا بالكفر. وكن مع الفئة العادلة والسلطان الجائر. ولا تكن مع أهل البغي. فإن كان في أهل الجماعة فاسدون

__________________

(١) والمنفي النفع الخاص هنا وهو النفع الذي ينقذ من الخلود في النار بدليل السياق فلا ينتفع الشاك في الله ورسوله بعمل من الأعمال في إنقاذه من الخلود في النار. ولذابت في الشاك أنه في النار. والشك اللاحق يهدم الطاعة السابقة (ز).

(٢) وكذا المراد من الضرر المنفي هنا هو الضرر الخاص. وهو الضرر المزيل للرجاء بدليل السياق أيضا فلا يكون المؤمن فاقد الرجاء يائسا من العفو بما اقترف من ذنب ما دام مؤمنا وهو المراد بقول معاذ : (أرجو له وأخاف عليه) حيث لم يبت بدخوله في النار مرجئا أمره إلى الله ولو لم يكن مراد الفتى هذا لما أثنى عليه معاذ رضي الله عنه ، وإلا كان كلامه متناقضا فحاشاه من ذلك ، وتقييد المطلق بقرائن السياق والسباق في غاية الكثرة في اللسان العربي المبين وأما الإيمان اللاحق فيجب العصيان السابق (ز).

(٣) وفي هذا المعنى ما أخرجه الحارثي عن أبي حنيفة عن الحارث بن عبد الرّحمن عن أبي مسلم الخولاني ، عن معاذ رضي الله عنه ، راجع مسند الحارثي في مكتبة الأزهر في الحديث (رقم ١٩٣٠) في أواخر الكتاب في مرويات أبي حنيفة عن الحارث بن عبد الرّحمن عن شيوخه ومثله في أوائل مختصر مسند الحصكفي لمحمد عابد السندي وهو مطبوع (ز).

٦٠٦

ظالمون. فإن فيهم أيضا صالحين يعينونك عليهم ، وإن كانت الجماعة باغية فاعتزلهم واخرج إلى غيرهم. قال الله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النّساء : ٩٧] وقال أيضا : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت : ٥٦].

قال أبو حنيفة رحمه‌الله : حدثنا حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا ظهرت المعاصي في أرض فلم تطق أن تغيرها فتحول عنها إلى غيرها فاعبد بها ربك». وقال : حدثني بعض أهل العلم (١) عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تحول من أرض يخاف الفتنة فيها إلى أرض لا يخافها فيها كتب الله له أجر سبعين صدّيقا».

قال أبو حنيفة : من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر (٢) وكذا من قال إنه على العرش. ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض (٣)

__________________

(١) فهو مجهول كما أن الصحابي مجهول فليحرر (ز).

(٢) ولم يذكر في المتن وجه كفره فبيّنه الشارح أبو الليث السمرقندي بقوله : (لأنه بهذا القول يوهم أن يكون له تعالى مكان فكان مشركا). ويدل على ذلك ما سيجيء في المتن : (قلت : أرأيت لو قيل أين الله تعالى ؛ يقال له : كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق ، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شيء ، وهو خالق كل شيء يعني فلا يتصور الأينية إلا في الحادث. ومما يدل على ذلك أيضا قول الطحاوي في كتابه : (بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم‌الله) : (ومن لم يتوق النفي والتشبيه ، زلّ ولم يصب التنزيه. فإن ربنا جلّ وعلا موصوف بصفات الوحدانية. منعوت بنعوت الفردانية. وليس في معناه أحد من البرية ، تعالى عن الحدود والغايات ، والأركان والأعضاء والأدوات ، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات اه) وهذا جلي واضح مستغن عن الإيضاح وبسط القول في ذلك في كتاب (إشارات المرام من عبارات الإمام) للعلامة كمال الدين البياضي المطبوع حديثا. وهو من أحسن ما نشر إلى الآن في اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أئمتنا رضي الله عنهم (ز).

(٣) وهذا لفظ نسخة العلامة البياضي. وأما لفظ نسخة أبي الليث فهو (قال الله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] فإن قال أقول بهذه الآية ولكن لا أدري أين العرش في السماء أم في الأرض فقد كفر أيضا). ولم يذكر في المتن هنا أيضا وجه كفر هذا القائل في النسختين فبيّنه البياضي في (ص ٢٠٠) من إشارات المرام ، وبيّنه أبو الليث بقوله : (وهذا يرجع إلى المعنى الأول في الحقيقة لأنه إذا قال لا أدري أن العرش في السماء أم في الأرض فكأنه قال لا أدري أن الله في السماء أم في الأرض) فلا يكون منزها لله عن المكان مع وجوب تنزيهه عنه. ثم أفاض أبو الليث في الرد على الكرامية وسائر المشبهة القائلين بإثبات المكان له تعالى ، وأبو الليث هذا تخرج على أبي جعفر الهنداوي عن أبي القاسم الصفار عن نصير بن يحيى البلخي راوية هذا الكتاب بسنده المعروف بين أهل العلم سلفا وخلفا. وأبو الليث هذا توفي

٦٠٧

__________________

ـ سنة ٣٧٣ ه‍. وبعد مائة سنة من هذا التاريخ ترى ينجم بين الحشوية شخص جريء يلقبه شركاؤه في الضلال بشيخ الإسلام. ويؤلف لهم كتابا سماه «الفاروق» وكتابا سماه «ذم الكلام» وغيرهما. يضمنهما روايات طامة. وآراء سخيفة للغاية يفتن بها كثيرا من الجهال. وهو الذي لا يتحاشى أن يروي عن كعب (أن الله سبحانه قال للجبال إني واطئ على جبل فتطاولت الجبال فتواضع الطور فهبط عليه). وكذا «أطيط العرش من ثقل الذات عليه» والحد ونحو ذلك ومما يقول في ذم الكلام : «أن الأشعرية لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم لأنهم ليسوا بمسلمين ولا أهل كتاب» باعتبار أنهم لا يقولون إن الله يسكن السماء. وهذا الأفّاك تناول في «الفاروق» لفظ أبي حنيفة السابق. وتزيد فيه ما شاء تزيد شائنا منافيا لنفي الأينية المنصوص عليه في المتن الأصلي السابق ذكره المتداول بين أصحابنا على توالي الطبقات فذاع بعض النسخ من الفقه الأكبر على هذا التزيد والإفك المبين فانخدع به بعض الأغرار ممن لم يؤتوا بصيرة فنسأل الله الصون. وفي نسخة في رجال سندها الكوراني المذكور حاله في أواخر حسن التقاضي ما عبارته : (قال أبو حنيفة : من قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر لأن الله تعالى قال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] فإن قال : إنه تعالى على العرش استوى. ولكنه يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض. قال هو كافر لأنه أنكر كون العرش في السماء لأن العرش في أعلى عليين) ولا وجود لهذين التعليلين في رواية أبي الليث وغيرهما من أصحابنا كما سبق ، على أنه ليس فيهما إثبات مكان له تعالى وإنما فيهما إثبات استوائه تعالى على العرش استواء يليق بجلاله كما هو معتقد أهل الحق ، وأنى ذلك من إثبات الاستقرار المكاني له تعالى على العرش؟ وذلك القائل جوّز إثبات المكان له تعالى فأخذ يتحرى مكانا له في السماء والأرض. وهذا جهل بالله وكفر به عند أبي حنيفة ، لأن التجويز في حكم التنجيز في باب المعتقد ، ومن أثبت له مكانا حسيا فما زال عابدا للصنم تعالى الله عن جهالات الجاهلين ـ راجع الجزء الثاني من العواصم عن القواصم لأبي بكر بن العربي ، وهنا بسط القول في العرش والاستواء عليه عند أهل الحق ، وهذا هو الموافق لنفي الأين والمكان عنه ـ تعالى كما سيأتي في متن هذا الكتاب وللنص المسوق في الوصية لأبي حنيفة ونجد ذلك كله مجموعا في صعيد واحد في (إشارات المرام) ، ولفظ الذهبي في العلو في التعليل الأول (وعرشه فوق سماواته) وفي التعليل الثاني (إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر) نقلا عن فاروق الهروي بإقامة الضمير مقام الظاهر تمهيدا لصرفه إلى معتقد الحشوية. ولفظ ابن القيم في اجتماع الجيوش في التعليل الثاني : (لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين) نقلا عن الهروي بواسطة شيخه فانظر إلى هذا التصرف المعيب والبهت الغريب ، فرأس المصيبة هو الهروي وزاده الشيخان ما شاء من غير ورع ، وأين في الكتاب والسنة تعيين مكان له تعالى في أعلى عليين (*) (ز)

__________________

(*) (يناقض نفسه في التزيد مرة يكفر من لا يقول : إنه على العرش فوق السماوات ومرة يكفر من لا يقول إنه في السماء. وأحدهما يناقض الآخر وأبو حنيفة براء من الاثنين (ز).

٦٠٨

الله تعالى من أعلى لا من أسفل (١) لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء. وعليه ما روي في الحديث أن رجلا أتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمة سوداء فقال : وجب علي عتق رقبة مؤمنة ، أفتجزئ هذه؟ فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمؤمنة أنت؟» فقالت : نعم.

فقال : «أين الله» (٢) فأشارت إلى السماء ، فقال : «اعتقها فإنها مؤمنة». قال أبو حنيفة : من قال لا أعرف عذاب القبر فهو من الجهمية الهالكة لأنه أنكر قوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) [التّوبة : ١٠١] ـ يعني عذاب القبر ـ وقوله تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) [الطّور : ٤٧] ـ يعني في القبر ـ فإن قال : أؤمن بالآية ولا أؤمن بتأويلها وتفسيرها ، قال : هو كافر لأن من القرآن ما هو تنزيله تأويله. فإن جحد بها فقد كفر ، قال أبو حنيفة رحمه‌الله : حدثني رجل عن المنهال بن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرار أمتي يقولون إنا في الجنة دون النار».

وحدثت عن أبي ظبيان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويل للمتألين (٣) من أمتي» قيل : يا رسول الله وما المتألون؟ قال : «الذين يقولون فلان في الجنة وفلان في النار». وحدثت عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقولوا أمتي في الجنة ولا في النار دعوهم حتى يكون الله يحكم بينهم يوم القيامة». قال : وحدثني أبان عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : لا تنزلوا عبادي جنة ولا نارا حتى أكون أنا الذي أحكم فيهم يوم القيامة وأنزلهم منازلهم». قلت : فأخبرني عن القاتل والصلاة خلفه؟ فقال : «الصلاة خلف كل بر وفاجر جائزة ، فلك أجرك

__________________

(١) يشير إلى أن السماء قبلة الدعاء لا أنها مسكن رب العالمين تعالى شأنه فكيف وسمعت الرأس مما يتبدل كل آن ، وقد بسطنا ذلك فيما علقناه على السيف الصقيل والأسماء والصفات (ز).

(٢) سؤال استكشاف فلا يفيد إثبات المكان له تعالى كما في شرح المواقف ، واستعمال أين للسؤال عن المكانة معروفة كقول عمرو بن العاص

فأين الثريا وأين الثرير أين معاوية من علي.

والاعتلاء على السماء قد يراد به مجرد علو الشأن بدون ملاحظة أي مكان. قال الشاعر :

علونا السماء مجدنا وجدودنا

وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا

وبسط القول في حديث الجارية فيما علقته على الأسماء والصفات للبيهقي. راجع «ص ٤٢٢» منه (ز).

(٣) أخرجه البخاري في تاريخه. والتألي على الله هو الحالف المتحكم في أنه يدخل فلانا الجنة وفلانا النار (ز).

٦٠٩

وعليه وزره» قلت : أخبرني عن هؤلاء الذين يخرجون على الناس بسيوفهم فيقاتلون وينالون منهم. قال : هم أصناف شتى وكلهم في النار.

قال : روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «افترقت بنو إسرائيل اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلهم في النار إلا السواد الأعظم» قال : وحدثني حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحدث حدثا في الإسلام فقد هلك ومن ابتدع بدعة فقد ضلّ ومن ضلّ ففي النار». حدثنا ميمون عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله علّمني ، قال : «فاذهب فتعلّم القرآن» ثلاثا. ثم قال له في الرابعة : «اقبل الحق ممن جاءك به حبيبا كان أو بغيضا وتعلّم القرآن ومل معه حيث مال».

قال : وحدثنا حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول : إن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وقال الله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨)) [الشّمس : ٨] وقال الله تعالى لموسى على سيدنا ونبينا عليه الصلاة والسلام : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) [طه : ٨٥].

* * *

باب المشيئة

قلت : هل أمر الله تعالى بشيء ولم يشأ خلقه وشاء شيئا ولم يأمر به وخلقه؟ قال : نعم. قلت : فما ذاك؟ قال : أمر الكافر بالإسلام ولم يشأ خلقه ، وشاء الكفر للكافر ولم يأمر به وخلقه. قلت : هل رضي الله شيئا ولم يأمر به؟ قال : نعم. كالعبادات النافلة. قلت : هل أمر الله تعالى بشيء ولم يرض به؟ قال : لا. قلت : لم؟ قال : لأن كل شيء أمر به فقد رضيه. قلت : يعذب الله العباد على ما يرضى أو على ما لا يرضى؟ قال : يعذبهم الله على ما لا يرضى لأنه يعذبهم على الكفر والمعاصي ولا يرضى بها. قلت : فيعذبهم على ما يشاء أو على ما لا يشاء؟ قال : بل يعذبهم على ما يشاء لهم ، لأنه يعذبهم على الكفر والمعاصي وشاء للكافر وللمعاصي المعصية. قلت : هل أمرهم بالإسلام ثم شاء لهم الكفر؟ قال : نعم. قلت : سبقت مشيئته أمره أو سبق أمره مشيئته؟ قال : سبقت مشيئته أمره ، قلت : فمشيئة الله رضا له أم لا؟ قال : هو لله رضا ممن عمل بمشيئته وبرضاه وطاعته فيما أمر به ومن عمل خلاف ما أمر به فقد عمل بمشيئته ولم يعمل برضاه لكن عمل معصيته ، ومعصيته غير

٦١٠

رضاه. قلت : يعذب العباد على ما يرضى؟ قال : يعذبهم على ما لا يرضى من الكفر ولكن يرضى أن يعذبهم وينتقم منهم بتركهم الطاعة وأخذهم بالمعصية. قلت : شاء الله للمؤمنين الكفر؟ قال : لا. ولكن شاء للمؤمنين الإيمان ، كما شاء للكافرين الكفر وكما شاء لأصحاب الزنى الزنى وكما شاء لأصحاب السرقة السرقة وكما شاء لأصحاب العلم العلم وكما شاء لأصحاب الخير الخير ، لأن الله تعالى شاء للكفّار قبل أن يخلقهم أن يكونوا كفارا ضلالا (١). قلت : يعذب الله الكفار على ما يرضى أن يخلق أم على ما لا يرضى أن يخلق؟ قال : بل يعذبهم على ما يرضى أن يخلق. قلت : لم؟ قال : لأنه يعذبهم على الكفر ورضي أن يخلق الكفر ، ولم يرض الكفر بعينه. قلت : قال الله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : ٧] فكيف يرضى أن يخلق الكفر؟ قال : يشاء لهم ولا يرضى به. قلت : لم؟ قال : لأنه خلق إبليس فرضي أن يخلق إبليس ولم يرض نفس إبليس ، وكذلك الخمر والخنازير فرضي أن يخلقهن ولم يرض أنفسهن. قلت : لم؟ قال : لأنه لو رضي الخمر بعينها لكان من شربها فقد شرب ما رضي الله ، ولكنه لا يرضى الخمر ولا الكفر ولا إبليس ولا أفعاله ولكنه رضي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلت : أرأيت اليهود حيث قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : ٦٤] أرضي الله لهم أن يقولوا ذلك؟ قال : لا.

* * *

باب آخر في المشيئة

إذا قيل له : أرأيت لو شاء الله أن يخلق الخلق كلهم مطيعين مثل الملائكة هل كان قادرا؟ فإن قال لا فقد وصف الله تعالى بغير ما وصف به نفسه ، لقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] وقوله تعالى : (هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) [الأنعام : ٦٥]. فإن قال : هو قادر ، فقل أرأيت لو شاء الله أن يكون إبليس مثل جبريل في الطاعة أما كان قادرا؟ فإن قال : لا ، فقد ترك قوله ووصف الله تعالى بغير صفته ، فإن قال : لو أنه زنى أو شرب أو قذف أليس هو بمشيئة الله؟ قيل : نعم. فإن قال : فلم تجري عليه الحدود؟ قيل : لا يترك ما أمر الله به لأنه لو قطع غلامه كان بمشيئة الله وذمه الناس ، ولو أعتقه حمدوه عليه ، وكلاهما وجدا

__________________

(١) ومشيئة الله في الأزل خلق الكفر والضلال لهم في المستقبل إنما هي من جهة أن العبد يختار ذلك فيخلقه الخالق على جاري عادته الحكيمة ، فليس في الأمر شمة الجبر. (ز).

٦١١

بمشيئة الله تعالى ، وقد عمل بمشيئة الله تعالى لكن من عمل بمشيئة المعصية فإنه ليس بها رضا ولا عدل في فعله (١) ، وقوله : فلم تجري عليه الحدود؟ سؤال فاسد على أصلهم ، لأنهم لا يثبتون مشيئة الله تعالى في كثير من المعاصي فلا تلزمه الحدود إلا على فعله مثل شرب الخمر ، وقد فعلها جميعا بمشيئة الله تعالى.

* * *

باب الرد على من يكفر بالذنب

قلت : أرأيت لو أن رجلا قال : من أذنب ذنبا فهو كافر. ما النقض عليه؟ فقال : يقال له : قال الله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)) [الأنبياء : ٨٧] ، فهو ظالم مؤمن وليس بكافر ولا منافق. وإخوة يوسف قالوا : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) [يوسف : ٩٧] وكانوا مذنبين لا كافرين وقال الله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ولم يقل من كفرك. وموسى حين قتل الرجل كان في قتله مذنبا لا كافرا. قال : وإذا قال : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى يقال له : قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)) [الأحزاب : ٥٦] فإن كنت مؤمنا فصلّ عليه وإن كنت غير مؤمن فلا تصلّ عليه. وقال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة : ٩] الآية. قال معاذ رضي الله عنه : من شكّ في الله فإن ذلك يبطل جميع حسناته ومن آمن وتعاطى المعاصي يرجى له المغفرة ويخاف عليه العقوبة. قال السائل لمعاذ رضي الله عنه : إذا كان الشك يهدم الحسنات فإن الإيمان أهدم وأهدم للسيئات (٢).

قال معاذ رضي الله عنه : والله ما رأيت رجلا أعجب من هذا الرجل يسأل أمسلم أنت؟ فيقول : لا أدري. فيقال له : قولك لا أدري أعدل أم جور؟ فإن قال

__________________

(١) لأن تعلق مشيئة الخالق بخلق معصية العبد عند إرادة العبد فعلها باختياره ، فلا يبرئ ذلك التعلق العبد من المسئولية ، وقد جرت حكمة الحكيم الخبير على خلق ما اختاره العبد من الأفعال التي تحت استطاعته تحقيقا لمسئوليته فمن أراد الهداية واستهداه يهديه ، وفي الحديث القدسي : «كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم». (ز).

(٢) يعني ما سبق من السيئات لأن الإسلام يجب ما قبله ، راجع حديث معاذ السابق (ز).

٦١٢

عدل فقل : أرأيت ما كان في الدنيا عدلا أليس في الآخرة عدلا؟ فإن قال : نعم ، فقل : أتؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير وبالقدر خيره وشره من الله تعالى؟ فإن قال : نعم ، فقل له : أمؤمن أنت؟ فإن قال : لا أدري. فقل له : لا دريت ولا فهمت ولا أفلحت. قلت : ومن قال : إن الجنة والنار ليستا بمخلوقتين. فقل له : هما شيء أو ليستا بشيء وقد قال الله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] وقال الله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)) [القمر : ٤٩] وقال الله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦]. فإن قال : إنهما تفنيان. فقل له : وصف الله نعيمها بقوله : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣)) [الواقعة : ٣٣] ومن قال : هما تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما فقد كفر بالله تعالى لأنه أنكر الخلود فيهما.

قال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى : لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف وهو قول أهل السنة والجماعة ، وهو يغضب ويرضى ولا يقال غضبه عقوبته ورضاه ثوابه ، ونصفه كما وصف نفسه ، أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد حي قيوم قادر سميع بصير عالم. يد الله فوق أيديهم ليست كأيدي خلقه وليست بجارحة ، وهو خالق الأيدي ، ووجهه ليس كوجوه خلقه. وهو خالق كل الوجوه ، ونفسه ليس كنفس خلقه ، وهو خالق النفوس (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] قلت : أرأيت لو قيل : أين الله تعالى؟ فقال : يقال له كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق ، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شيء ، وهو خالق كل شيء. فإن قيل : بأي شيء شاء الشائي المشيء؟ فقل بالصفة ، وهو قادر يقدر بالقدرة وعالم يعلم بالعلم ومالك يملك بالملك. فإن قيل : أشاء بالمشيئة ، وقدر بالمشيئة وشاء بالعلم؟ فقل : نعم (١).

* * *

باب في الإيمان

فإن قيل : أين مستقر الإيمان؟ يقال معدنه ومستقره القلب ، وفرعه في الجسد ، فإن قيل : هو في إصبعك؟ فقيل : نعم. فإن قيل : فإن قطعت أين يذهب الإيمان

__________________

(١) فتكون المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع للمعلوم فلا يكون العبد مجبورا في فعله الاختياري (ز).

٦١٣

منها؟ قال : فقل إلى القلب ، فإن قال : هل يطلب الله من العباد شيئا؟ فقل : لا. إنما هم يطلبون منه ، فإن قال : ما حق الله تعالى عليهم؟ فقل : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، فإذا فعلوا ذلك فحقهم عليه (١) أن يغفر لهم ويثيبهم عليه ، فإن الله تعالى يرضى عن المؤمنين لقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨] ويسخط عن إبليس ، ومعنى قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصّلت : ٤٠] فهو وعيد منه ، وقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصّلت : ١٧] أي بصّرناهم وبيّنّا لهم. وقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] فهو وعيد ، وقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذّاريات : ٥٦] أي ليوحدوني ، ولكن كلها بتقدير الله تعالى خيرها وشرها وحلوها ومرها وضرها ونفعها.

وقال الله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)) [يونس : ٩٩] ، وقال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] ، وقال تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] ، وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود : ١١٨ ، ١١٩] ـ أي بمشيئته ـ (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٩] ، وقال تعالى : (اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النّحل : ٣٦] ، وقال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] ـ أي بقدر (٢) الله سبحانه ـ وقال شعيب صلوات الله على نبينا وعليه : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)) [الأعراف : ٨٩] ، وقال نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)) [هود : ٣٤] وقال تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)) [يوسف : ٢٤].

__________________

(١) أي وجوبا منه على مقتضى وعده الكريم لا وجوبا عليه وإنما تابع في العبارة الآثار (ز).

(٢) يعني كون العبد شائيا مختارا بقدر الله السابق وهو الحكيم الخبير (ز).

٦١٤

وقال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)) [ص : ٣٤] والله أعلم (١).

تمّ الفقه الأبسط لأبي حنيفة رحمه‌الله

__________________

(١) هنا انتهى الكتاب في الأصول التي اطلعنا عليها ، وشذّت النسخة السعيدية بالهند على ما نقله مولانا العلامة المحقق أبو الوفاء رئيس جمعية إحياء المعارف النعمانية في حيدرآباد الدكن ، وفيها زيادة : (قال أبو مطيع رحمه‌الله : سألت أبا حنيفة رحمة الله عليه أليس الله تعالى عدلا حكيما في أفعاله بخلقه؟ فقال : بلى ، قلت : قد خلق واحدا أعمى ، وآخر مقعدا ، وآخر غنيا ، وآخر فقيرا ، وآخر أحمق ، وآخر عاقلا ، وآخر أخرس. قال : هذا بفضل منه لبعضهم دون بعض. لأنه لم يجب عليه ذلك ، فأعطى بعضا ، ومنع بعضا ، فهو كمن له عبيد ، فأعطى واحدا ومنع آخر) ، ولا نطمئن إلى هذه الزيادة لعلها مما وجد لأبي مطيع في كتاب له آخر فزادها هنا من زاد ، على أن ذلك خوض في سر القدر. وهذا ما لا يباح لأحد من البشر. وبعد ذلك زيادة أخرى وهي : (حدثنا علي بن أحمد قال : حدثنا إبراهيم بن حمدويه. قال : حدثنا يوسف بن أبان عن ليث بن خزيمة عن قتادة عن عمر رضي الله عنه قال : أيما رجل لا يبتلى في جسده أربعين يوما فليس فيه لله حاجة. وقال مقاتل بن سليمان من أصل الإيمان الذي جاء في القرآن قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] أي صدّق بتوحيده (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة : ١٧٧] أي ذلك كله حق. وهي مما زاد مالك النسخة على الأصل كفائدة من عنده ، والسند لأصله له أصلا لا بأبي مطيع ولا بأبي حنيفة ، وفيه رجال مجاهيل ، وقتادة لم يدرك أحدا من الراشدين ، ومقاتل ممن لا يروي عنه في مثل هذا الكتاب ، فالمزيد ينادي أنه مدرج لا صلة له بالكتاب والاعتماد على سائر الأصول. وسند شيخ الإسلام مصطفى عاشر المتوفى سنة ١٢١٩ ه‍ في الفقه الأبسط عن الحسين بن محمد بن الحسن المبيمي البصري عن أبي طاهر محمد بن إبراهيم الكوراني عن أبيه عن خير الدين الرملي عن محمد بن السراج عمر الحانوتي عن أبيه عن المحب محمد بن جرباش عن أبي الخير محمد بن محمد الرومي عن أبي الفتح محمد بن محمد الحريري عن أبيه القوام الأتقاني عن الحسين السنغاقي عن محمد بن محمد بن نصر البخاري عن شمس الأئمة الكردي عن صاحب الهداية عن الضياء اليرسوخي عن العلاء السمرقندي عن أبي المعين النسفي عن الحسين بن علي الكاشغري عن نصران بن نصر الختلي عن علي بن الحسن بن محمد الغزال عن علي بن أحمد الفارسي عن نصير بن يحيى عن أبي مطيع عن أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين. والاعتماد على رواية أصحابنا كما سبق. وسند شيخ الإسلام المذكور في العالم والمتعلم إلى أبي المعين بن محمد النسفي بهذا السند عن أبيه عن عبد الكريم بن موسى البزدوي عن أبي منصور الماتريدي عن أحمد بن إسحاق الجوزجاني عن أبي سليمان الجرجاني وعن محمد بن مقاتل الرازي كلاهما عن أبي مطيع وعصام بن يوسف كلاهما عن أبي مقاتل عن أبي حنيفة رضي الله عنهم. وسنده في الفقه الأكبر رواية حماد بن أبي حنيفة بالسند إلى نصير بن يحيى عن محمد بن مقاتل عن عصام بن يوسف عن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه رضي الله عنهم.

ـ راجع (٢٢٦) من مكتبة شيخ الإسلام في المدينة المنورة زادها الله تشريفا (ز).

٦١٥
٦١٦

٦١٧
٦١٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه : يجب أن يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ، والقدر خيره وشره من الله تعالى ، والحساب والميزان والجنة والنار حق كله.

والله تعالى واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ١ ـ ٤].

لا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه ، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية. أما الذاتية : فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة. وأما الفعلية : فالتخليق والترزيق والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل.

لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته لم يحدث له اسم ولا صفة ، لم يزل عالما بعلمه والعلم صفة في الأزل ، وقادرا بقدرته ، والقدرة صفة في الأزل ، ومتكلما بكلامه ، والكلام صفة في الأزل ، وخالق بتخليقه ، والتخليق صفة في الأزل ، وفاعلا بفعله. والفعل صفة في الأزل ، والفاعل هو الله تعالى ، والفعل صفة في الأزل ، والمفعول مخلوق ، وفعل الله تعالى غير مخلوق. وصفاته في الأزل غير محدثة ولا مخلوقة ، فمن قال إنها مخلوقة أو محدثة ، أو وقف أو شكّ فيها فهو كافر بالله تعالى.

والقرآن كلام الله تعالى ، في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الألسن مقروء ، وعلى النبي عليه الصلاة والسلام منزل ، ولفظنا بالقرآن مخلوق ، وكتابتنا له مخلوقة ، وقراءتنا له مخلوقة ، والقرآن غير مخلوق.

وما ذكر الله تعالى في القرآن حكاية عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى ، إخبارا عنهم ، وكلام الله تعالى غير مخلوق ، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله تعالى فهو قديم لا كلامهم.

٦١٩

وسمع موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النّساء : ١٦٤]. وقد كان الله تعالى متكلما ولم يكن كلّم موسى عليه‌السلام ، وقد كان الله تعالى خالقا في الأزل ولم يخلق الخلق ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

فلما كلّم الله موسى كلّمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل ، وصفاته كلها بخلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا ، ويسمع لا كسمعنا ، ويتكلم لا ككلامنا.

ونحن نتكلم بالآلات والحروف ، والله تعالى يتكلم بلا آلة ولا حروف ، والحروف مخلوقة وكلام الله تعالى غير مخلوق.

وهو شيء لا كالأشياء ، ومعنى الشيء إثباته بلا جسم ولا جوهر ولا عرض ، ولا حد له ولا ضد له ولا ند له ولا مثل له.

ولا يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن ، فما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف.

ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته ، لأن فيه إبطال الصفة ، وهو قول أهل القدر والاعتزال ولكن يده صفته بلا كيف ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف.

خلق الله تعالى الأشياء لا من شيء ، وكان الله تعالى عالما في الأزل بالأشياء قبل كونها ، وهو الذي قدّر الأشياء وقضاها ، ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتبه في اللوح المحفوظ ، ولكن كتبه بالوصف لا بالحكم.

والقضاء والقدر والمشيئة صفاته في الأزل بلا كيف ، يعلم الله تعالى المعدوم في حال عدمه معدوما ، ويعلم أنه كيف يكون إذا أوجده ، ويعلم الله تعالى الموجود في حال وجوده موجودا ، ويعلم أنه كيف يكون فناؤه ، ويعلم الله تعالى القائم في حال قيامه قائما وإذا قعد علمه قاعدا في حال قعوده من غير أن يتغير علمه أو يحدث له علم ، ولكن التغير والاختلاف يحدث في المخلوقين.

خلق الله تعالى الخلق سليما من الكفر والإيمان ، ثم خاطبهم وأمرهم ونهاهم ، فكفر من كفر بفعله وإنكاره وجحوده الحق بخذلان الله تعالى إياه ، وآمن من آمن بفعله وإقراره وتصديقه بتوفيق الله تعالى إياه ونصرته له.

٦٢٠